الفصل الثاني والعشرون: هدنة

رفع رأسه الذي كان قد أسنده إلى مقود السيارة عندما سمع هاتفه يرن, أخرجه من جيبه وفتح الاتصال, دون أن يبالي بالنظر إلى رقم المتصل, تمتم "أليكساندر"
فأجابه صوت لم يمضي على فراقه سوى ساعة "أهلا يا عزيزي"
فقال أليكس من بين أسنانه "ماذا الآن؟"
رد مادوف "اهدأ. لقد اتصلت لكي أشكرك لأنك لم تحاول لعب دور الفارس الشجاع وتقف في طريقي"
"ماذا تقصد؟"
"أقصد أنك لم تقم بالحيلولة دون وصول المظروف إلى مايا. لقد أخبرني أحد رجالي قبل قليل أنه وصلها"
صمت أليكس قليلا, ثم قال "مادوف"
رد عليه "نعم"
فتكلم أليكس بنبرة جادة "أريد أن أعقد معك اتفاق"
أجاب مادوف "أنا أسمعك"


قال أليكس بقوة "سأوقف مايا, سأدعها تتوقف عن النبش عنكم, سأدعها تنساكم وتنسى اللحاق بكم, وذلك في مقابل أن تعدني بأن تتركوها وشأنها, وألا تمسوها بأي شيء, وأن تتوقف عن إرسال صورك"
فقال مادوف ببساطة "سألتزم بجانبي إن التزمت بجانبك, تم الاتفاق" ثم أغلق الاتصال دون أن يضيف كلمة.
أنزل أليكس الهاتف من على أذنه, ثم نظر إلى ساعته, فوجدها تشير إلى السادسة مساءا, لن يذهب إليها الآن, فهو يريدها أن تتجرع الصدمة والألم لوحدها, وأن تدرك فداحة ما فعلته, علها تهتدي إلى الصواب.
ثم فتح هاتفه, وضغط بضعة أزره, ورفعه إلى أذنه قائلا "أهلا"
رد عليه كريك "مرحبا يا زعيم"
"أين أنت؟"
"في المستشفى عند بوب"
"كيف حاله؟"
"إنه بخير, لكنه غاضب منك لأنك لم تأتِ لزيارته"
"سوف آتي بعد ساعات, لينتظر. هل أنت لوحدك؟"
رد كريك بحيرة "نعم, لقد ذهب برنارد قبل قليل, لماذا تسأل؟"
أجاب أليكس بجدية "لا أريد ترك بوب بمفرده, لذا ابقَ عنده حتى يأتي برنارد أو آتي أنا. إني خائف أن يأتوا مرة ثانية"
هتف كريك "أوه لا تقلق, لن أتركه"
فقال أليكس "أخبرني أمازلت تملك رقم صديقك الذي يقوم بتأجير حراس شخصيين؟"
أجاب كريك بشك "نعم, لماذا؟"
"ليس هنالك سبب, فقط أريد أن أكلمه لأطلب منه أن يضع بعض من رجاله على أهبة الاستعداد, ضرب بوب أثار القلق في نفسي. لذا أرسل لي الرقم حالا"
"كما تريد"
أغلق أليكس الاتصال, وأمسك بهاتفه منتظرا إرسال الرقم, رغم اتفاقه مع مادوف, إلا أنه مازال خائف على نينا بالذات, لن يجعل أحدا يمسها أبدا, سيقوم بتعيين حارسين لحمايتها دون أن تشعر هي أو يشعر أي أحد بذلك.


مد يده هاما بطرق باب غرفتها, لكنه تفاجأ عندما لاحظ أن الباب لم يكن مغلق, دفعه ببطء, ثم دخل بكل هدوء, فوجد الغرفة مضاءة, ولكنه لم يجد مايا فيها, نظر إلى السرير الذي تناثرت فوقه صور كثيرة, إنها نفس الصور التي أرآه إياها مادوف, إذن لم تستطع مايا غلب فضولها ورأتها. اقترب من السرير ليجمع الصور, غير أنه انتفض عندما سمع صوتها البارد من خلفه يقول "اقتحام منازل الغير, هكذا أصبح مجموع صفاتك الرائعة أربعة"
التفت إليها, فطالعه وجهها شديد الحمرة, وعينيها الذابلتين من كثرة البكاء, فقال متجاهلا ما رآها "لم أكن أعلم أن الدخول من باب مفتوح يعد اقتحام. لماذا بابكِ مفتوح؟ ألم يكفيك ما حل بكال وبوب؟ أتريدين أن يأتي الدور عليكِ"
ردت عليه وهي عاقدة ذراعيها على صدرها "لن أخسر شيئا بموتي"
فقال بجمود "لكن غيركِ سيخسر"
لاحت على شفتيها شبه ابتسامة وهي تقول "هل بدأتَ بلعبة استغلالي؟"
"الألعاب لا تجدي نفعا معكِ, في الحقيقة أنا لا أعرف إلى الآن ما الذي يجدي نفعا معكِ"
قالت ساخرة "ربما الضرب ينفع"
فرد بجدية "لا أعتقد, فحسبما أعرف لقد ضُربتِ ثلاث مرات إلى الآن"
رفعت حاجبيها سائلة "ألك جواسيس في كل مكان؟ لماذا تعشق مراقبتي؟"
أجاب مفكرا باستهزاء "تعلمين أنه لابد أن أشغل نفسي بشيء حتى لا أعود للإدمان, وقد قررتُ أن تكوني أنتِ هذا الشيء, فالواقع أنكِ أكثر إثارة من الهيروين, إنكِ لا تنفكين عن مفاجأتي يوما بعد يوم"
أمالت رأسها قائلة "وأنت لست استثناءا, فلقد اكتشفتُ اليوم أنك أخذت إحدى المظاريف السوداء التي ترسل إليّ"
سأل بشك "وكيف عرفتِ؟"


سارت إلى السرير, ثم تناولت المظروف الأسود الفارغ, ورفعته أمامه قائلة "لقد كتب عليه أربعة, مع أنه من المفترض أن يكون الثالث, إلا إذا كان هنالك من أخذ أحدها, ولا يوجد مشتبه به سوى رجل دخل مكتبي خلسة قبل بضعة أيام"
نظر إليها بصمت طويل, فسألت بخفوت "على ماذا كان يحوي؟"
أجاب ببساطة "صور لي ولفريدريك تحرضكِ على قتلنا"
مطت شفتيها رامية المظروف على السرير بلا مبالاة, ثم اتجهت إلى أريكة وسط الغرفة وجلست عليها. سأل أليكس "هل آلمتكِ؟"
رفعت رأسها إليه بحيرة, فأشار بإصبعه إلى الصور على السرير, قالت دون أن تنظر إليه "أنت تعرف كل شيء, صحيح؟ تعرف أن كال قتل بسببي لأنه ساعدني بالعثور على ابنة سام, وتعرف أن بوب ضرب لأنني جعلته يراقبها"
سار أليكس, ووقف مستندا إلى الحائط المواجه الأريكة, ثم أجاب "نعم, جواسيسي أخبروني"
قالت بألم محملقة في الفراغ "لقد قتلتُ أبا وزوجا, وآذيتُ صديقا لي"
همس أليكس "مايا!"
غير أنها أكملت بحرقة "أرأيت كم هم صغار أطفاله! أرأيت كم هي شابة زوجته! لقد استطاع أن يخفف سنوات سجنه من عشرة إلى ست سنوات شوقا لزوجته وأطفاله, بالتأكيد كان يحلم باليوم الذي يخرج فيه ويجمع شمله بهم, لكنني ... لكنني ..." ثم توقفت شاهقة وقد اغرورقت أجفانها بالدموع, التي لم تلبث إلا أن تسيل بكل سرعة, ثم تابعت بصوت اختلط بالبكاء "لكنني سلبته هذا الحلم, لقد ضيعتُ آماله ..."
قاطعها أليكس وقد انقبض صدره برؤيتها بهذه الحالة "توقفي عن الكلام, أتعلمين لقد عنيتُ أن أترككِ لتسع ساعات وحدكِ حتى لا أرى دموعكِ, فتوقفي"
هتفت بحشرجة "تسع ساعات إذن هي ثمن إنهائي لحياة رجل"
فصاح بوجهها "لستِ من أنهى حياته, إنه سام من فعل ذلك"
مسحت وجهها بأصابع مرتجفة, ثم سألته بغموض "إذن هل يستحق سام القتل على ما فعله بكال؟"
رد أليكس بغضب "يستحق أن يقطع, وترمى قطعه للكلاب"
فوقفت قائلة وهي تنظر في عينه "افعلها إذن"
سأل "ماذا؟"
قالت بقوة "اقتل سام"
ظهرت ملامح المفاجأة على وجه أليكس, فقالت مايا مصممة "أجل اقتله, عاقبه على ما فعله, اجعله عبرة لغيرة"
حملق أليكس فيها, ثم عقد حاجبيه سائلا "كم ستدفعين؟"
"ادفع!"
"نعم. فلقد سمعتُ أنكِ كنتِ سخية لدرجة أنكِ رشوتِ كال مرتين, لذا بكم سترشينني لأقتل سام"
لم تنطق بكلمة, واكتفت بالنظر إلى الأرض, فقال أليكس مستنتجا "لذلك بعتِ سيارتكِ, لكي تدفعي له, لقد فهمت هذا الجزء, لكن من أين دفعتِ له في المرة الأولى؟"
ليس هنالك فائدة من التحايل عليه, لذا أجابت "دفعتُ الشيك الذي أعطيتني إياه"
أغمض عينيه آخذا شهيقا طويلا, ثم فتحهما سائلا بكل هدوء "ماذا عن عائلتك؟ من أين لكِ المال؟"
"أخذت قرضا"
"كيف أخذته؟"
أجابته مشيحة بوجهها "رهنتُ المنزل"
"مايا" لم تلتفت إليه, فكرر بحزم "مايا انظري إلى عيني!"
حينها أعادت رأسها ناظرة إلى عينيه ذات لون السماء, فقال بنبرة تنضح صدقا "أفعالكِ هذه تؤلم قلبي"
نظرت إليه, ثم سارت حتى وقفت أمامه لا يفصلهما سوى بضع سنتيمترات, ثم أراحت يدها على صدره, تماما على موضع قلبه, و سألت وهي تنظر إلى صدره مغيرة مجرى الحديث "كم ضلعا كسرتُ لك يا أليكساندر؟"
أجاب "ولا حتى ضلع واحد"
تمتمت "جميل, الأضلاع القوية تحمي قلبا قويا بالتأكيد" ثم أضافت برقة "إذن أأستطيع أن أسند رأسي على صدرك طالما أنك بخير"
لم يرد عليها, فقط أخذ ينظر إليها متأملا, دون أن ينبس ببنت شفة.
سحبت يدها ببطء, وهي تقول "لكني إن فعلتُ ذلك فهذا يعني أني أثق بك, فهل أستطيع أن أثق بك؟"
أجاب بخفوت "أنتِ تملكين إجابة مسبقا"
ردت باسمة بغموض "للأسف هذا صحيح, أنا لا أثق بك قيد أنملة" ثم استدارت قائلة مستعيدة نبرة صوتها العادية "والآن أخبرني هل ستطلق رصاصة في رأس سام؟"
رد وهو يراها تجلس على ألأريكة مرة أخرى "أنني أتسائل لما أطلق رصاصة على رأس سام مع العلم أن مشاكلي تنتهي بإطلاق رصاصة على رأسكِ أنتِ"
قالت بمرح "أخبرتك قبل قليل أني لا أثق بك, لذا لا أستبعد أن تفعل ذلك"
مشى بضع خطوات, ثم جلس أمامها على الطاولة المنخفضة المقابلة لأريكتها, وسأل بملل "هل انتهينا من الهزل؟"
قالت محتجة بسخرية "ستدفع ثمن الطاولة إن كسرتها"
هتف بنفاذ صبر "اخرسي واسمعيني"
تراجعت مستندة إلى الأريكة, وقد أدهشتها عصبيته, ثم سألت "ماذا تريد؟"
قال بعينين ضيقتين "هل تدركين ما ورطتي نفسك به؟ فمن الواضح أن سام رجل ليس سهلا, وأن نفوذه كبير, قتل رجل وكاد يقتل الآخر فقط لأنكِ راقبتِ ابنته. استيقظي الآن وشاهدي أن المعركة التي تريدين خوضها غير متكافئة أبدا, هذا بغض النظر عن مادوف الذي لا أحد يستطيع أن يعرف كيف يفكر وكيف يعمل, وهذه الصور من فعله بلا ريب"
قالت بنبرة مضطربة "أسألك مرة أخرى, ماذا تريد؟"
"توقفي عن ملاحقة سام ومادوف"


سألت باستفزاز "سام ومادوف فقط, أم يشمل ذلك العزيز فريدريك؟"
ضرب الطاولة بكفه صارخا "من ذكر أي إشارة عن فريدريك الآن! أنا لا أبالي بما تنوين فعله لفريدريك, أنه رجل قوي قادر على حماية نفسه منكِ, على الأقل فريدريك لن يقابل جنونكِ بأذية من حولكِ, واستخدام وسائل نفسية حقيرة لتحطيمكِ"
قالت محاولة تخفيف حدة الحديث "أنت مخيف"
أخذ نفسا عميقا, ثم قال "أتعلمين ما الورقة الوحيدة الرابحة التي يملكها سام ومادوف للقضاء عليكِ والتي لن يتوانوا عن استخدامها إذا ما واصلتِ إزعاجهم؟"
عضت مايا على شفتيها, وقد أحست بما سيقوله, فتكلم أليكس داعما إحساسها "نينا"
همست مايا بغير تصديق "لا, لن يصلوا إليها"


فرد أليكس بغضب "بلى سيصلون, ولن يتمكن أحد من منعهم. بحق الله لقد وصلوا إلى رجل محمي بواسطة زنزانته وبواسطة رجال الشرطة, كما قتلوه بين مئات من المساجين دون أن يرى أحد شيئا. إنهم يعرفون من تكون نينا بالنسبة إليكِ, يعرفون أنها وريدكِ الذي ستموتين إن قُطع. لن يلعبوا معكِ, لذا فإن أي حركة أخرى ستقومين بها, سيكون مصيرها زوال نينا من بين يديكِ, إنهم أوغاد ينهون اللعب متى شاءوا"
أرخت مايا رأسها, وشبكت أصابعها لتمنع ارتجافها, فقال أليكس برقة "أنا لا أقول لكِ تنازلي عن انتقامكِ, افعلي ما تشائين, لكني أطلبُ منكِ أن تتروي قليلا, أن تبحثي عن الطريقة الأنسب, أشعريهم الآن بالأمان, ثم انقضي عليهم متى ما ملكتِ القوة والأدلة اللازمة"
لم ترد مايا, فاستغل الفرصة مكملا "وبما أنكِ لم تقتلي فريدريك إلى الآن, فقد راودني شعور أنكِ تريدين القضاء على مادوف وفريدريك في يوم واحد"


رفعت مايا رأسها ناظرة إليه بصدمة, كيف استطاع أن يدرك ذلك. ابتسم أليكس قائلا "إذن إلى ذلك اليوم الذي تنوين فيه أن تقتلي فريدريك ومادوف, دعينا نعقد هدنة" ثم مد يده إليها.


صمتت مايا, لكنها لم تلبث إلا أن تمد يدها بدورها, مصافحة إياه. ضغط على يدها مطالعا فيها بعينين لامعتين بألم, ثم ازدرى ريقه بصعوبة, ليطلق بعد ذلك تنهيدة خافتة مخنوقة, أخيرا سحب يدها إليه فمه, طابعا عليها قبلة رقيقة, محاولا أن يمحو الصورة التي طرأت على ذهنه.
أرادت مايا أن تقول شيئا, لكنه لم يعطها مجالا, إذ قال تاركا يدها "غدا سنذهب إلى البنك, ونعيد القرض, ونفك الرهن عن منزلكِ"
فتحت فمها لا تعرض, غير أنه أكمل يقاطعها "لا تعترضي, وفكري أنه إذا قرر سام يوما قتلكِ ونجح في ذلك, فكل ما ستتركينه لأهلكِ هو مصيبة ومنزل مرهون"
برقت عيناها وهي تقول باسمة “نعم سأترك لهم مصيبة ومنزل مرهون ورجل شهم لا يخذل أحدا يدعى أليكساندر”



إعدادات القراءة


لون الخلفية