كانت تفكر بعمق وتدون أرقام على ورقة وهي تنظر إلى شاشة الحاسوب عندما سُئلت "كم كان عمر أمكِ عندما خطبها أبوك ؟"
رفعت رأسها إلى كريك الذي كان يقف أمام مكتبها, لقد أتى هذا السؤال العجيب في وقته ليخرجها مما هي غارقة فيه, فهي كانت قد بدأت تشعر بالاكتئاب من كل تلك المعضلات التي تجهل كيف تتصرف إزاءها, قالت ببرود " للأسف لم أكن موجودة في ذلك الوقت, لذا أنا لا أعرف"
حك كريك رقبته باضطراب, ثم اقترح "لما لا تسألينها؟"
أجابت بعصبية "لما لا تخبرني سبب هذا السؤال حتى أقوله لها في حال ظنت أنني أسأل أسئلة سخيفة"
قال مترددا "لا ... لا شيء"
عاد إلى مكتبه زحفا, فعادت تنظر إلى الإشعار الذي تلقته عن طريق بريدها الإلكتروني من شركة البناء التي كان يعمل فيها جدها ريتشارد. إنها في مأزق فعلا, فالشركة تقول أنها بعد أن اطلعت على أحوال جدها والظروف التي تعرض فيها للحادث الذي أصاب قدميه بالشلل قبل سبع سنوات, قررت أن الحادث الذي أصابه كان نتيجة لإهماله وتقصيره, ولم يكن للشركة أي ذنب فيه, لذا فإن مجلس إدارة الشركة قرر أن يقطع عنه مرتبه الذي كان يستلمه شهريا. كانت مايا تعرف أن كل ما كتب مجرد هراء لا قيمة له, وأن الحقيقة هي أن الشركة تولاها رئيس مجلس إدارة جديد عُرف عنه الطمع. ماذا ستفعل الآن, فبدون مرتب جدها هي في ورطة, فجدها لديه جلسات علاج طبيعي في كل أسبوع والتي هي باهضة الثمن, ووهي إلى الآن لم تدفع ثمن فحوصات أمها التي وجب عليها أن تخضع لها بعد أن تعرضت للغيبوبة, بالإضافة إلى أن هنالك فحوصات جديدة في الأشهر القادمة, و فوق هذا كله هنالك نينا ومتطلباتها التي لا ولن تنتهي, هذا عدا المصروفات اليومية, وبالتأكيد مرتبها لن يكفي خصوصا بعد طيران جزء منه بفضل أليكس.
ناداها بوب, فنظرت إليه وقد عزمت أن تنسى همومها وتفكر بها فيما بعد, فإن كان هنالك أمر يجب أن يقضى أمره من الآن, فهو أنها لن تخبر أحدا من عائلتها أن مرتب جدها قد انقطع, وهم لن يعرفوا لأن جدها كان قد جعل مرتبه يحول إلى حسابها المصرفي.
تكلمت " ماذا بوب ؟"
أجاب " إذا دعت نينا أصدقائها في المدرسة, فلا داعي لحضورنا, أليس كذلك ؟"
قاطعه كريك بغضب " تكلم عن نفسك فقط "
فأطرق بوب خجلا ثم قال " أنا فقط أعتقد أن بقائنا بين أطفال الثانوية سيكون محرجا "
تكلمت مايا بمرح " اسمع أيها الكبير, أعتقد أنها دعت أصدقائها, فهذا عيد ميلادها, ومع ذلك فهي قد دعتكم أيضا, وبالمناسبة أنا أؤكد لك أنك أنت بالذات لن تكون محرجا بينهم" مشيرة بمكر إلى قصره, بيد أن بوب لم يدرك مقصدها حيث أن الارتياح ظهر على وجهه.
" توقفي عن الدهاء" أتاها صوت أليكس من عند الباب حيث كان واقفا.
ابتسمت بسرعة, ثم قالت "سأفعل إن توقفتَ عن التجسس"
تقدم إليها وهو يسأل " أخبريني عن آخر ما توصلتِ إليه بشأن الأشخاص الذين طلبت منك التحقق منهم في قضايا الهروين قبل أسبوعين "
اتكأت بظهرها على كرسيها الجلدي وقالت " ليس هنالك ما يدعو للاهتمام فيهم, فقط مجرد بائسين صغار كانوا يبيعون الهروين في الطرقات الفقيرة, غير أن هنالك أمرا واحد بدا مهما, فكما كتب في الملفات, أن جميعهم ذكروا أثناء التحقيق معهم اسم تاجر هيروين يدعى سام الذي ... " ثم توقفت لما رأت كريك وبوب يتبادلون نظرات ذات مغزى, فقالت بريبة "ما الأمر؟"
استعجلها أليكس الذي بدا غافلا عنهما "أكملي"
نظرت إليه وتابعت "شعرت أن سام هذا رجلا مهم, فأجريتُ تحقيقا ثاني مع كل واحد منهم, لكن اثنان مهم أخبروني أن سام بالنسبة لهم كان مجرد اسم فقط, ولم يلتقوا به مباشرة. أما الثالث فقد ادّعى أنه يعرف سام هذا وأنه مستعد لإخبارنا بمكانه شرط أن نعقد معه صفقة بخصوص عدد سنوات سجنه"
"من هو الثالث هذا؟"
بحثت بين الأوراق ثم أعطته صورة قائلة "اسمه كال" ثم أضافت " بالمناسبة ما الذي حدث في طلبي؟" وقد عنت نقلها إلى فرقة أخرى
أخذ الصورة وهو يجيب "لقد أرسلت طلبا صباح اليوم التالي, لكني لم أستلم ردا إلى الآن" ثم سار إلى مكتبه.
"انتظر أليكس"
التفت الجميع إلى برنارد الذي وصل لتوه إلى الغرفة والذي سأله مباشرة "هل تنوي الزواج؟"
علت الدهشة ملامح أليكس وأجابه "لو كان كريك من سأل هذا السؤال لما تعجبت, ولكن أن تكون أنت فهذا غريب, هل انتقلت إليك العدوى"
رد برنارد "تعرف أني لا أسأل أسئلة غبية"
هتفت مايا ضاحكة وخاطبت كريك "هاي, إنهم يسخرون منكم, وأنت تجلس و تتابعهم بحماس"
تكلم برنارد دون أن يتيح الفرصة لكريك المذهول ليتكلم "لقد قدم إلي مسئول التنظيف, وأخبرني أنه أثناء تنظيف غرفة الاجتماعات - التي اجتمعنا فيها صباح اليوم - وجد هذه العلبة ملقاة على الأرض" ورفع علبة مجوهرات صغيرة, ثم فتحها أمام أنظار الجميع ليظهر خاتم زواج فضي لامع
المفاجئة التي ظهرت على وجه أليكس جعلت برنارد يتمتم "إنه بالفعل ليس لك, صحيح؟"
أخفضت مايا رأسها, وأغمضت عينيها بقوة, ونقرت بإصبعها بضع نقرات بخفة على حافة المكتب, ثم رفعت رأسها مخاطبة برنارد "إنه لي"
بالرغم من الدهشة التي استولت على برنارد, إلا أنه رماه باتجاهها دون أن ينبس ببنت شفة. التقطه ثم قالت مصححة بعد أن التهمتها نظراتهم "حسنا إنه ليس ملكي, كل ما في الأمر أنه طـُلب مني الاحتفاظ به فترة من الزمن"
قال برنارد "تقصدين أن رجلا طلب يدك, لكنكِ لم تعطه ردا, لذا طلب منكِ أن تحتفظي به حتى تقررين"
أجابت مبتسمة "أنت الوحيد الذي تفهم في أمور النساء هنا"
رد عليها برنارد وهو يسير إلى مكتبه "حسنا بما أننا سوينا مسألة الخاتم, أود أن أخبرك أن الرئيس جون يطلب رؤيتك"
نهضت بهدوء وغادرت الغرفة دون أن تفطن إلى أليكس الذي كان يراقب خروجها مدركا بأي حال ستعود.
قالت بصدمة "أعد ما قلته"
تكلم جون محاولا التخفيف عنها "هاي, إنه قرار قابل للتعديل بعد مرور شهر, لذا لا داعي للغضب"
سألت بشرود "ما السبب الذي ذكره في طلب تخفيض رتبتي ؟"
أجاب "إطلاعك على ملفات قضايا بدون إذن. وأنت تعرفين أن هذا ممنوع وخصوصا عندما تكون قضية تتعلق بموت أحد ضباطنا"
هتفت غير مصدقة ما تسمع "ضابطكم هذا الذي مات هو والدي"
"وإن يكن"
"لقد جعلتني قبل ثلاث سنوات أقرأ ملف القضية, فما المشكلة الآن"
رد عليها "قبل ثلاث سنوات جعلتكِ تقرئين الملف باعتبارك ابنة الضابط المقتول, أما الآن فلا يحق لكِ قراءة الملف لأنك كنتِ وسط العمل وهذا يعني أنكِ مجرد ضابط فقط. ثم إنكِ تعرفين هذه القوانين جيدا فلا تدعي الجهل"
مررت يدها على شعرها بعصبية, وقالت "حسنا, ألن يكن الإنذار كافٍ؟ أليس تخفيض رتبتي أمر مبالغ فيه"
مط شفتيه يفكر ثم أجاب "ربما, وربما لا, فقد ذكر أليكس أنكِ متمردة على القيادة أحيانا, لذا فإن تخفيض رتبتك سيكون الحل الأمثل لضبطك"
يا لهذا الرجل, لقد أخبرها قبل قليل أنه رفع طلبها منذ أسبوعين, وقد فرحت ظنا منها أنه طلب نقلها, دون أن تدرك أنه طلب عقابها, تنهدت قائلة "إذن أصبحتُ ملازم أول الآن؟"
"نعم, ولكن كما أخبرتكِ يمكن التعديل بعد شهر"
"وبالطبع سيكون التعديل بيد أليكساندر"
"لا, سيكون بيدي أنا, ومع ذلك سيكون من الأفضل أن تعيدي المياه إلى مجاريها مع أليكس, فطالما أنه قائدكِ فهو يملك تأثيرا على مستقبلك"
وقفت قائلة "لا تقلق! أعدك بأنني سأعيد المياه إلى مجاريها لدرجة أني سأجعله يغرق بها" ثم انصرفت خارجة, باحثة عن أليكس.
كان يتحدث بالهاتف عندما دخلت عليه, رأى الشرر يتطاير من عينيها وهي تقف منتظرة انتهائه, إذن فقد كان ظنه في محله, لقد استدعاها جون ليبلغها بأمر تخفيض رتبتها, والآن بالتأكيد تريد صب جام صب غضبها عليه. تعمد أن يطيل المكالمة وهو ينظر إليها, فالحقيقة أن رؤيتها وهي غاصبة أمر أمتعه جدا, اخفض بصره لأن عينيه وفمه بدؤوا يفضحون استمتاعه, غير أنه اختار اللحظة الخاطئة لفعل ذلك, فبمجرد أن أزال عينيه عنها, سحبت مسدسها من حزامها, وأطلقت رصاصة باتجاهه دون أن يطرف لها رمش.
عصبية, مندفعة, متمردة, نارية, كل هذه الصفات كانت تعجبه, لكن أن تكون مجنونة, فالمسائلة حينها يجب تنحي إلى منحا آخر. نظر مطولا إلى الهاتف الذي تحول إلى أشلاء نتيجة الرصاصة, ثم غطى وجهه بكفيه, وبدأ يحاول أن يستعيد شيئا من توازنه غير إنه فشل. لم توقف الرصاصة تنفسه, فهي لم تصبه, ولكنها شلت تفكيره وكل ذرة تعقل امتاز بها, إذ بدأ يسير باتجاهه ولا نية له سوى محوها عن الوجود.
أسقطت المسدس من يدها برعب عندما شاهدته يسير نحوها, عينيه التي كانت تذكرانها بالسماء الصافية من شدة لونها الفاتح, أصبحت زرقاء قاتمة مسودة, شفتيه مبيضتان من كثرة الضغط عليها, وجهه شاحب لدرجة فظيعة, جسده مشدودة لأقصى درجة, هذه العلامات إن دلت على شيء, فهو أن أليكس الحليم ذهب مع الريح. بدأت تسير للخلف بصعوبة عاجزة عن التفكير فيما يجب عليها فعله, لن تستطيع الركض, لن تستطيع المقاومة, لن تستطيع أن تفعل شيء, إذ أن رؤيته بهذا الشكل جمدت الدماء في عروقها, عرفت أنها الخاسرة في هذه المعركة التي لم تبدأ بعد غير أن انفتاح الباب وظهور برنارد منه رفع أمالها لدرجة أنها لم تعد تستطع الوقوف, فخرت على ركبتيها.
عندما سمع صوت الرصاصة وهو يسير في الرواق متجها إلى المطعم للحاق ببوب وكريك لتناول الغداء أصابه الخوف, لكن عندما أدرك أن الصوت قادم من غرفتهم, ومن غرفة مكتب أليكس بالتحديد ظن أن الأمر مجرد إطلاق رصاصة بخطأ أثناء تنظيف المسدس, فأليكس وحده بالغرفة, كما قابله قبل ربع ساعة. ومع ذلك سار بهدوء إلى الغرفة, ووقف لثواني محاولا سماع أي ضجة, فالحذر واجب, وعندما لم يسمع شيء, فتح الباب ليجد مايا كأنها قطة مذعورة و أليكس كأنه وحش كاسر يسير إليها. قفز في اللحظة التي حاول أليكس الانقضاض عليها, فدفعه بقوة قبل أن يصل إليها, الأمر الذي أدى إلى سقوط أليكس, بيد أنه لم تمر ثانية, حتى وقف, محاولا الهجوم مرة أخرى. لكمه برنارد بقوة وهو لا يفقه شيئا مما يحدث, كل ما يعرفه أن عيني أليكس تقول أنه سيقتل مايا, وهو بالتأكيد لن يجعل هذا الأمر يحدث. رأى أليكس ينظر إليها بعد أن ترنح قليلا من لكمته, يا إلهي الرجل مصمم عليها, صرخ يحدثها بعد أن انبطح فوق أليكس الذي كان يقاومه بشدة "اخرجي بسرعة وأغلقي الباب خلفك, هيا. اخرجي! "
صراخ برنارد الذي تسمعه لأول مرة منذ أن قابلته أعادها من صدمتها, فنهضت بشكل لا إرادي واتجهت إلى الباب خارجة بأقصى ما تملك من سرعة.
فـُتح الباب بعد حوالي نصف ساعة, ثم ظهر أليكس, والبلل يعلوه من قمة رأسه حتى منتصف قميصه, وقد ظهرت بعض قطرات من دماء على كميه. بطريقه آلية ارتدى سترته, وخرج.
خرج من بعده برنارد, الذي كان يتنفس بصعوبة, وقد ظهرت بعض الكدمات والجروح على وجهه, بالإضافة إلى شفته السفلى التي كانت مشقوقة وتنزف. اندهش برنارد من عدم وجودها بالغرفة, لقد ظن أنها ستبقى هنا, لكن دهشته زالت بعد أن توقف أمام مكتبها, فقد كانت خلف المكتب, تجلس على الأرض, تستند على الجدار, تضم ركبتيها إلى جسدها, وتركز بصرها على كرسيها. ابتسم برقة وقال "أيتها الجبانة! لقد انتهى كل شيء الآن".
وقفت بصعوبة وهي تركز نظرها في برنارد الذي دلت هيئته أنه أخذ نصيب الأسد من ثورة أليكس, إنه منهك لأقصى درجة, وإن كان ظنها صحيحا, فهو بالكاد يقف. ما فعلته لأليكس! ما أراد أليكس أن يفعله بها! ما فعله برنارد من أجلها! كل هذه الأمور جعلتها ترتمي بين ذراعي برنارد, الذي استقبلها لكل حنان.
كانت تشاهد القطع المتناثرة من الهاتف عندما هتف صوت قائل " لنحمد الله على أن الأمور انتهت بقتل الهاتف لا غير"
التفت إلى برنارد الذي دخل لتوه حاملا كيس من الثلج يضعه على شفته. سألته بخفوت "كيف أنت؟"
"بخير" ثم جلس على الأريكة الجلدية يسار مكتب أليكس وسألها "أنتِ من أطلق على الهاتف, صحيح ؟"
نظرت بشك وقالت "ألم يخبرك أليكس ؟"
ضحك مجيبا "أليكس كان كثور لا يرى سوى اللون الأحمر, لم يكن لديه وقت للحديث"
سألت بارتباك "كيف أوقفته؟"
"أعطيته حماما باردا. سحبته ووضعته تحت الماء حتى أفاق نوعا ما, فغادر الغرفة دون أن يلتفت إلي"
جلست بجواره على الأريكة, وبدأت تعبث بأصابعها, قائلة " هل تريد أن تسمع القصة؟"
اسند ظهره على الأريكة, ورفع رأسه بعد أن أغمض عينيه, وغمغم "لا"
صمتت وقد زاد إعجابها به, ثم أردفت "لا بأس ولكن لا بد أن تدرك أمر, وهو أنني كنتُ واعية بما أفعله"
"بالتأكيد أنتِ واعية, فقد اخترتِ وقت علمتِ فيه أن كل من في المبنى سيكون في الخارج يتناول الغداء, وبالتالي لن يسمع أحدٌ الرصاص"
ابتسمت هامسة "حسنا أنا آسفة على ما حدث لك بسببي"
"لا داعي لذلك, فجروحي ستلتئم غدا, و أليكس سيعود غدا إلى طبيعته معي. والآن أخرجي واذهبي إلى منزلك, ودعيني أتصرف في ساحة المعركة هذه قبل أن يعود أحد"
لم ترد أن تتركه في هذه الفوضى لوحده, ولكن رغبتها في مغادرة هذا المكان جعلتها نفذت ما طلبه منها وتخرج. كانت في طريقها للمغادرة حين وجدت كريك واقفا عند باب الخروج يكلم أحد رجال الشرطة, أسرع إليها لما شاهدها, وبدأ يتمتم " مايا... بالنسبة للـ ... أنا..."
نظرت إليه بلا مبالاة, لسوء الحظ, كريك دائما ما يختار أوقات غير مناسبة. أدخلت يدها في حقيبتها, مخرجة منها علبة المجوهرات الصغيرة, دستها في يده بقوة قائلة " سيكون لنا حديث فيما بعد يا عزيزي" ثم تركته ورحلت.