"أريد أن أقتل رجلا"
رفع الطبيب النفسي نظره من الورقة إليها, وقال " تقصدين قتله مجازيا ؟"
ردت مايا وهي تبادله النظرات "بل حرفيا"
فسألها بهدوء "لماذا ؟"
"لأنه قتل والدي"
"كيف ؟"
"لقد خانه, واتفق مع أعداءه"
قال الطبيب وهو يأرجح قلمه بين إصبعيه "هل اعترف بذلك لك ؟"
مطت شفتيها "لا"
ضاقت عيناه وهو يسألها "من أخبرك إذن ؟"
فأجابت بنفاذ صبر "لم يخبرني أحد. أنا أعرف فحسب"
"لحظة! لما أنتِ غاضبة ؟"
"لأنك لا تصدقني"
اسند ظهره على كرسيه, وقال "ماذا عنكِ؟ هل تصدقين نفسكِ ؟"
حينها ابتسمت له ابتسامة مهزوزة قائلة "لستُ أعاني من انفصام يا سيدي"
فتكلم الطبيب بصدق "ليس بالضرورة أن يكون انفصام. لنرى الآن, منذ متى وأنتِ تفكرين في الانتقام ؟"
أجابت "منذ ثلاث سنوات, منذ أن قتل والدي"
"هل ذهبتِ إلى طبيب نفسي قبلي ؟"
"لا"
فسألها مستنتجا "لماذا الآن إذن؟ لماذا الآن تقررين الذهاب لطبيب لتتحدثين عن ذلك بالرغم من أن فكرة الانتقام في رأسكِ منذ ثلاث سنوات ؟"
ضحكت بخفة قائلة "تماما كما هو متوقع من طبيب نفسي" ثم حكت رأسها وهي تقول "لأنه الآن برزت مشكلة"
"وهي ؟"
"لهذا الرجل ابن أخت"
حثها "و ..."
ففتحت فمها لتتكلم, غير أنها لم تستطع, فابتسمت بحياء.
قال الطبيب بعد أن راقبها "لا داع للعجلة, خذي وقتك"
نظرت إلى السجاد الأبيض تحت قدميها لدقائق, ثم نظرت إليه قائله "أنا جاهزة"
"حسنا, الرجل الذي تريدين قتله لديه ابن أخت, وهذا الأمر وضعكِ في مشكلة, لماذا ؟"
رفعت رأسها, ونظرت إلى سقف الغرفة تستجمع قواها, لم تكن تعرف أن الاعتراف بأمر كهذا صعب, أخيرا أعادت نظرها إليه واعترفت "المشكلة هي أنني واقعة في حب ابن أخته"
سأل الطبيب بشك "كم عمره ؟"
هتفت بشبه ابتسامة "أوه إنه ليس طفل, إنه في مثل عمري"
"فهمت. هل يحبك؟"
"هذا ليس موضوعنا"
أعاد سؤاله متجاهلا إجابتها "هل يحبك؟"
صمتت قليلا وقد أغضبها السؤال, ثم أجابت باقتضاب "لا أعلم"
كرر الطبيب سؤاله مصمما على جعلها تعترف "نعم أم لا. هل يحبك؟"
حينها ردت بقوة "لا"
سأل "كيف عرفتِ؟"
فأجابت بخفوت "أنا أعرف فحسب"
ابتسم الطبيب, وقال باستهزاء "ألن تملي من هذه العبارة؟"
فأجابته بنفس طريقته قائلة "ألن تمل من طرح الأسئلة؟"
رد عليها بثقة "لا. فهذا عملي"
مدت يدها اليمنى, وتناولت كوب الماء القابع على الطاولة أمامها, شربت منه رشفة, ثم أعادته متمتمة "أين كنا ؟"
فشرع الطبيب قائلا بود "ابن أخته هذا ..."
قاطعته مايا "اسمه أليكساندر"
"حسنا, أليكساندر, كيف عرفتِ أنه لا يحبك؟"
قالت وبصرها مركز على أصابع يديها المضمومة "أليكساندر يعلم أني أريد قتل خاله فريدريك, أنا أخبرته بذلك, كما أنه أخبرني بأنه لن يسمح لي بذلك ..."
سألها الطبيب مقاطعا "ألهذا يكرهك؟"
فتكلمت بغضب "إن سألتني مرة أخرى سؤال قبل أن أنهي كلامي, فسأخرج"
قال وقد أدرك أن سبب غضبها هو قوله كلمة يكرهك وليس السؤال "آسف"
فأكملت كلامها "قبل أسبوع, تعرض أليكساندر لحادث, وأصبح على إثره مدمن هيروين بقوة. ولأن الطبيب قال أن العلاج المعتاد بتقليل جرعات الهيروين سيكون ضارا له, فقد قررت أن استخدم طريقة الدافع النفسي لعلاج إدمانه, أنت تعرف ما معنى ذلك, صحيح؟"
أجاب محركا رأسه بإشارة نعم "أجل, أي أن أقدم للمدمن أمورا يهتم بها ويقدسها, مثلا أن أري المدمن الأب أطفاله الصغار, وأخبره كيف سيكون حالهم بدونه. ولكن هذه الطريقة نادرا ما تنجح, لذا فإن الأطباء لا يستخدمونها"
"تماما, بالنسبة لي فأنا أخبرته أني لم أقتل خاله سابقا لأني كنت خائفة منه, ولكني الآن سأقوم بقتل خاله, ذلك أنه لن يستطيع منعي لأنه مدمن"
قال يحثها بعد أن صمتت وقتا طويلا "وماذا كانت النتيجة؟"
نظرت إليه وقد بدا عليها أنها نسيت أنه موجود في الغرفة, ثم ابتسمت له بألم وقالت "تصور! لقد نجحت. لقد صدقني وناضل في اليومين التاليين بضراوة, ورفض أن يعطى أي جرعة مهما كانت حجمها, وجاهد وصبر على كل الأعراض اللاحقة, خصوصا أن خاله – لحسن حظي – كان في رحلة عمل طارئة. وفي اليوم الثالث, وعندما زاره خاله فريدريك, أعتقد أنه أدرك أنني كنتُ أكذب, لكنه استمر في مقاومة الإدمان, لأنه كما أخبرني الطبيب كان قد استعاد بعضا من قواه العقلية, فأدرك خطورة إدمانه. والبارحة علمتُ أنه مازال في المستشفى, لكنه في تحسن مستمر"
وضع الطبيب قلمه على مكتبه, وشبك يديه قائلا بمرح "هذه أخبار سارة"
ردت بغضب "سارة! بالفعل هي كذلك, لكن ليست بالنسبة لي. دعني أوضح لك أكثر, في ذلك اليوم, عندما أخبرته بأني سأقتل خاله, أليكساندر كان عقله مغيبا بواسطة الهيروين, لذا فقد كنت أخاطب قلبه ومشاعره, فلو كان يحبني, لو كان يثق بي مثقال ذرة, لأدرك أنني أكذب, ولعلم أنني ما كنتُ لألعب بهذه الطريقة القذرة أبدا. ولكنه للأسف صدق ذلك, صدق أني حقيرة لدرجة أن استغل وضعه لأحقق انتقامي"
قال الطبيب محاولا مساعدتها على التخلص من ألمها "لقد جرحك هذا الأمر, صحيح! إن أكثر ما يؤلم قلوبنا, هو عندما نكتشف أن الشخص الذي نثق به لا يبادلنا هذه الثقة, بل على العكس هو ..."
قاطعته بعد أن عضت على شفتيها لتوقف ارتجافهما "توقف, أنا لم آتي إليك لتحلل مشاعري"
"لماذا أتيتِ إذن؟"
تكلمت بجدية "حسنا, من أجل أليكساندر بدأت أفكر في أن فريدريك قد يكون بريء, خصوصا أني لا أملك دليلا قاطعا على أنه خان والدي, ولكن الأمر الذي يحيرني والذي أريدك أن تساعدني لحله هو, إذا كان بريء, فلماذا منذ ثلاث سنوات وأنا أملك تلك الفكرة في رأسي والتي تقول, أنه الخائن وأنني يجب أن أنتقم منه؟"
نقر الطبيب على مكتبه بأصبعه لثواني, ثم قال بتردد "هل ... حقا كنتِ تريدين قتل رجل بلا أي دليل؟"
قالت مشير إلى قصة السماعة اللاسلكية "هنالك دليل, لكني في الحقيقة لم أعتمد عليه لأنه ليس قاطعا"
سألها "على ماذا اعتمدت إذن ؟"
ردت بحيرة صادقة "هل تعرف ذلك الشعور! عندما يشعر المرء أن المطر سيهطل قبل هطوله, عندما يشعر المرء أن الرياح ستهب قبل هبوبها, هذا هو الشعور الذي اعتمدت عليه. قد يبدو الأمر سخيفا, لكن حقا هنالك شيء ما يخبرني أن فريدريك خائن"
مط الطبيب شفتيه مفكرا, ثم سألها "هل كنت تحبين والدك؟"
دهشت من تغيير الموضوع, لكنها أكدت بحدة "نعم"
"هل كنت تتصورين حياتك بدونه؟"
غمغمت "إطلاقا"
"كيف شعرت في الأيام الأولى بعد موته؟"
قالت ساخرة "أني أتسائل بالفعل كيف كان شعوري"
حك الطبيب رقبته, ثم قال موضحا "لقد فهمتني بطريقة خاطئة, أنا أقصد كيف شعرت في الأيام الأولى من موته عندما لم تجديه معك يشارككِ حياتكِ اليومية, كوجبات الطعام, مشاهدة التلفاز, التنزه في الحدائق"
لمعت عيونها, وقالت معترفة " لم أشعر بشيء, ذلك أنني لم أكن أسكن معه في الست السنوات الأخيرة من حياته, لقد كنت أسكن مع جدي وخالتي في مدينة ثانية"
تفاجأ الطبيب لوهلة, ثم سألها "أخبريني كيف كانت ردة فعله على رحيلك إلى مدينة أخرى"
جمدت ملامحها وهي تتذكر تلك الأيام, حيث كانت تصم أذنيها عن محاولات والديها لإثنائها عن السفر, لم تكن تبالي بهما, كل ما كان يهما هو الذهاب مع نينا, لقد فكرت بأن هذا حقها كأم لها, دون أن تدرك أن بقائها معهم هو حق لهم كوالدين لها. نظرت إلى الطبيب مكتفية بقول "لقد حاول أن يثنيني عن المغادرة لكنه لم يمنعني, كما أنه لم يغضب مني عندما ذهبت"
اعتدل الطبيب في جلسته, وتحدث بوجه جاد "حسنا مايا اسمعيني جيدا, عندما قتل والدك, لابد أنكِ حزنتِ بقوة لأنكِ لم تريه قبل موته, هذا الحزن جعلك تفكرين بأفكار من قبيل, لو كنتُ عشتُ معه, لو كنتُ استمعتُ إليه وبقيت إلى جانبه, لكنتُ قضيت معه وقتا أكثر, لكنتُ جمعتُ عنه ذكريات أكثر, لكنتُ بررته أكثر و استفدتُ منه أكثر. كل هذه الأفكار جعلت ضميرك يؤنبكِ وبقوة"
صمت حتى يعطيها الفرصة لتستوعب, ثم أكمل "الأمر الآخر الذي حدث, هو أنكِ تحبين والدك وبقوة, وعندما مات, شعرتِ بالحزن, شعرت بالضياع, قلتِ أنك لم تتصوري حياتكِ بدونه, هذا يعني أن موته سبب لكِ صدمة قوية, صدمة جعلتكِ تكرهين العيش كما أعتقد"
شحب وجهها, فأدرك الطبيب أنه محق في كل ما قاله, تابع بعد رفعت نظرها إليه "لذا يا عزيزتي, وبسبب شعورك بتأنيب الضمير, وبسبب شعورك بالرغبة بالموت, فقد قام عقلك الباطني - بدافع لحمايتك – بتصوير فريدريك - الذي كان مع والدك والذي لم يستطع حمايته - كخائن, كما قام عقلك بتوليد فكرة الرغبة بالانتقام في نفسك, ذلك أن الرغبة بالانتقام ستنسيك الشعور بتأنيب الضمير, كما ستصبح هدفك في الحياة, وبالتالي يزول شعورك بالرغبة في الموت"
أغمضت مايا عينيها, وهي تدرك أن الطبيب قد يكون محقا في كل كلمة قالها, وأن هذا يعني أنها كانت تظلم فريدريك – أعز أصدقاء والدها – لمدة ثلاثة سنوات, وفي هذه الحالة, فإنها مدينة له باعتذار لا تعلم هل يقبله أم يرفضه!