الفصل العشرون: غضب وألم

ابتسم مستفزا وهو يراها تدخل بكل ثقة إلى غرفة الزيارة وتجلس أمامه واضعة ملف على الطاولة, سألها "لماذا هذا الغياب الطويل, وأنا الذي اعتقدتُ أننا أصبحنا أصدقاء؟"
ردت مايا ببرود "أكان هذا قبل أم بعد أن تحول حياتي إلى جحيم؟"
فقال سام بنبرة أسى مصطنعة "لماذا؟ لأنني جعلتكِ تكتشفين حقيقة فريدريك وابن أخته! ..."
قاطعته بنفاذ صبر "حسنا, لندع الحديث عني الآن, فهنالك ما هو أهم"
تكلم "أنا أستمع لكِ"


قالت بعينين واثقتين "أنت مازلت على صلة بمادوف, صحيح؟"
ضاقت عينا سام, وقال "ماذا تريدين؟"
أجابت بتصميم "أريد مادوف نفسه, وأريدك أن تساعدني بالحصول عليه"
عقد ذراعيه على صدره قائلا "ألا تلاحظين أن اللعب في النار راق لكِ, ألا يكفيك ما يحصل لكِ الآن"
صمتت محدقة فيه بنفور, ثم تمتمت "للأسف أنا امرأة تحب اللعب في النار" بعدها فتحت الملف وأخرجت منه صورة, وقامت برميها أمامه على الطاولة.
بيديه المصفدتين, التقط الصورة, ثم نظر إليها ليتحول الاستهزاء والسخرية التي كانت على محياه إلى غضب جارف, زمجر بعينين محمرتين "أيتها الحقيرة"
رفعت مايا حاجبيها, وسألت ساخرة "ماذا هل تعرف هذه الفتاة؟"
قال بوحشية "من أخبركِ بذلك؟ كيف عرفتِ؟ كيف وصلتِ إليها؟"
ابتسمت "ألن نتفق قبل قليل أنني أحب اللعب بالنار؟"
صاح "لقد تعدى الأمر ذلك, سأحرقكِ بهذه النار يوما, لستِ أنتِ من يجرؤ على تهديد سام"
قالت بعد ثواني صامته "هل انتهيت؟ إذن اسمعني جيدا, بما أنك ذراع مادوف, فإني أريد أن أعرف أقرب بضاعة مخدرات سيستلمها, أريد الزمان والمكان تحديدا, هل فهمتني؟"
"ما رأيك أن أحضر لكِ مادوف نفسه في طبق من ذهب ومرصع بالألماس"
"تبدو فكرة مغرية, ولكن للأسف, نحن نسير وفق خطتي أنا, لا خطتك أنت, لذا نفذ ما قلته لك"
"وكيف سأعرف هذه المعلومات وأنا في السجن؟"
"ستعرف هذه المعلومات بالطريقة التي علمتَ بها أنني ابنة فآن"
مط شفتيه قائلا "وإن لم أفعل"
قالت ببساطة "نعود إذن للصورة, ابنتك هذه ذو الثلاثة عشر عاما, والتي تحبها, وتبذل جهدك محاولا إخفاءه عن أعدائك. بكل بساطة سأقوم بقتلها, وأنت ترى أنني استطعتُ العثور عليها"
قال متعجبا "تريدين قتل طفل لا ذنب لها!"
ردت "لم يكن لأبي أي ذب, ومع ذلك فقد قتلتموه بدم بارد, لذا ليس لدي أي اعتراض على قتل أي أحد كان, سأضحي بكل ما يلزم من أجل الانتقام لأبي, وابنتك للأسف ليست استثناءا"
هتف حانقا "كاذبة, لا تستطيعين قتل طفلة"
فقالت بملل "لما؟ في الحقيقة هنالك دافع قوي يجعلني أرغب بقتلها, وهو أنها طفلة بريئة, وأخاف إن تركتها تكبر فستكون أما خيارين فقط, إما أن تتابع أعمال والدها القذرة, وإما أن تعذب نتيجة أعمال والدها القذرة, وبما أن الخيارين بائسين, فلا مانع أن أخلصها من الدنيا وعذابها"
رأت قبضتاه تشتدان من القهر, فقالت بمكر "لم أنت غاضب! أترى أنني لستُ عادلة! غريب! أذكر أنكم وضعتم رجلا يدعى فريدريك في نفس هذا الموقف تماما, أن يختار بين صديقه وابن أخته, وبما أنه ضحى بصديقه واختار ابن أخته, فأنا أتمنى أن تكون حكيما مثله, فتختار ابنتك وتضحي بصديقك"
قال ذاهلا وهو يحملق في صورة ابنته "كيف خطر على بالك الابتزاز بنفس الطريقة؟"
أجابت بسلاسة "رجل أحبه أخبرني ذات يوم أن الحديد لا يفله سوى الحديد, ولسوء الحظ كان محقا" ثم نهضت مغادرة.


توقفت وهي تسير باتجاه مبنى مركز وحدات الأمن الخاصة, إذ سمعت شخصا يهتف باسمها, التفتت لترى بوب يسرع إليها.
قال وهو ما يزال يشهق "أخيرا وجدتكِ"
ردت مايا عاقدة حاجبيها "ماذا؟ هل كنتُ مختفية؟"
فأجاب بنبرة أكثر هدوء من سابقتها "تقريبا, فكلما ذهبتُ إليك لم أجدكِ"
تمتمت "كنت تستطيع الاتصال بي"
قال مرتبكا "اعتقدتُ أنكِ تفضلين البقاء وحدك"
ابتسمت بمرارة قائلة "بالتأكيد سأفضلك أنت, لا أحد يحب الوحدة يا عزيزي"
فقال بوب مباشرة "مازال عرضك قائما, صحيح؟"
أمالت رأسها قائلة بحيرة "أي أعرض؟"
"أننا أصدقائك, وسنظل كذلك حتى نقرر العكس"
"لم يكن عرضا يا صغيري, لقد كان حقيقة مقررة, أنتم أصدقائي, وستبقون كذلك"
قال بتردد وهو يحك رقبته "إذا كان ما تقولينه صحيحا, فلماذا لا تدعينا نساعدك؟"
همست مايا بشك "في ماذا تساعدونني؟"


رد بسرعة مضطربة "لا أعلم, أيا ما كان الأمر الذي أنتِ مقدمة عليه, وتخططين لفعله, فأنا أريد مساعدتكِ"
أغمضت عينها, فعلا هذا ما كان ينقص المعركة, دخول أصدقائها الثلاثة, أي حظ هذا الذي تملكه, والذي هو مصر على إدخال جميع من تهتم لأمرهم في حربها هي, قالت وهي تستدير إلى المركز "هذا أمر يخصني أنا فقط"
فهتف بوب من ورائها "أكره أن يدّعي أحد أنه يثق بي وهو لا يبالي بي مطلقا"
فالتفتت بحدة قائلة "لا تقل ذلك. كل الموضوع أنني لا أريد أن أورطك في أمور لا علاقة لك بها"
قال ببأس "أنا مستعد لذلك"
تمتمت محركة رأسها "لن تكون النتائج سهلة يا بوب"
رد "طالما أنكِ لن تؤذي أليكس, فلا يهمني أحد"
نظرة إليه نظرة استياء, لم تلبث إلا أن تتحول لنظرة رقة, وهي تقول مبتسمة "كيف أصبحت بهذا العناد؟" ثم تجاوزته متجهة إلى سيارتها البيضاء, فتحتها وسحبت الملف الذي كان قابعا على المقعد المجاور, ثم أغلقت السيارة.
عادت إلى بوب الذي كان واقفا يراقبها, أمسكت بيده ووضعت الملف فيها, وقالت "ساعدني إذن"
فتح بوب الملف, فوجد في أول صفحة صورة, نظر إلى الصورة التي التقطت لفتاة في الثانية عشرة تقريبا, كانت سمراء نحيلة, ذات شعر أشقر قصير. سأل "من هذه؟"
ردت مايا "إنها فتاة في الثلاثة عشرة, كل ما أريدك أن تقوم به هو أن تراقبها فقط, ستجد موقع مدرستها ومنزلها في الملف"
"هل أستطيع أن أسأل من هي؟"
"لا. ليس الآن, فقط قم بمراقبتها, وأخبرني إذا لاحظت أي شيء غريب. أراك قريبا" ثم دخلت إلى المركز, وتركته ورائها يطالع الملف, متسائلا من تكون الفتاة!


"ماذا تنتظرين؟ انزلي!"
قالت نينا بغضب طفولي "ليس قبل أن تخبريني متى ستعودين للمنزل؟"
ردت مايا بملل "إلى متى سنتحدث في هذا الموضوع!"
فكررت نينا بعناد "إلى أن تخبريني متى ستعودين للمنزل"
قالت بنفاذ صبر" قريبا, فقط مازلتُ بحاجة إلى بعض الوقت"
سألت بحزن "بعض الوقت لماذا؟"
"بعض الوقت لأهدأ وأفكر بروية"
قالت نينا برجاء "حددي مدة! لم أعتد فراقكِ"
ضحكت مايا قائلة بمرح "فراقي! آخذكِ إلى المدرسة, وأجلبكِ منها, وتأتين إلى في المساء يوميا, كما آتي إلى المنزل أحيانا, أهذا ما يسمى فراق بنظركِ"


زمت نينا شفتيها قائلة "لا تسخري مني! ألا يكفي أني رضيتُ بهذه السيارة"
" تخرجي من الثانوية وسأشتري لكِ أجمل سيارة. والآن كفاكِ تأخير عن المدرسة, انزلي بسرعة!"
مالت نينا عليها, وطبعت قبلة سريعة على وجنتها, ثم تمتمت "اهتمي بنفسك"
ربتت مايا على خد ابنتها, هامسة بابتسامة "المفترض أني أنا من يقول هذا الكلام لك, ولكن لا بأس بلعب دور ابنة الأخت أحيانا, لذا سأهتم بنفسي. إلى اللقاء حبي"
ثم فتحت نينا الباب وخرجت مسرعة إلى المدرسة.
أسندت مايا رأسها إلى المقعد, وبدأت تفكر بأن سام لم يرد عليها إلى الآن, لقد مر ثلاثة أيام على زيارتها له, وتهديده باستخدام ابنته, ترى ما الذي سيفعله, إنها لا تستطيع أن تتنبأ بفعل رجل كسام.
أدارت وجهها إلى اليسار, فرأت عن طريق المرآة الجانبية سيارة فضية اللون تقف بعيدة عنها, إلا أنها استطاعت أن تميز الرجل الجالس فيها. هذا الرجل, إنها تراه يوميا عندما تحضر نينا إلى المدرسة وتعيدها إلى المنزل, لقد ظنته في البداية والد إحدى الفتيات في مدرسة نينا, ولكن هذا غير صحيح, فلا أحد في السيارة سواه, كما أنها لم ترى أي أحد يخرج منها. إذا ما أمعنت التفكير, وكانت تتمتع بالشك, فالأمر يبدو وكأن الرجل يتتبعها. لحظة! لقد رأته في مكان ما غير المدرسة, وقد تفاجأت من وجوده وقتها, لكنها نسيت الأمر, أين كان ذلك المكان! آه نعم, عندما ذهبت إلى منزلها البارحة لرؤية والدتها, رأته يقف على بعد عدة أمتار من منزلها, وقد كان ينظر باتجاه الأعلى, في الحقيقة كان ينظر إلى غرفة نينا. اشتدت يداها على المقود, أجل هذا الرجل لا يراقبها, وإنما يراقب نينا.
استبد بها الغضب, فخرجت من السيارة صافقة الباب بقوة, وبدأت تسير باتجاهه, مصممة على انتزاع روحه, بعد أن تتأكد من هوية مرسله, لكن يبدو أن فطن إلى أنها كشفته, فأدار محرك السيارة بكل سرعة, وفر هاربا.
لم تحاول مايا حتى اللحاق به, فهي تعرف من أرسله, وستوقفه عند حده الآن.


من فرط سرعتها, لم تنتبه لبرنارد الذي كان يقف في الرواق المؤدي لغرفة فرقته, مما أدى إلى اصطدامها به, أمسك ذراعها لتتوازن, ثم أفلتها سائلا بدهشة "ما الداعي لهذه العجلة؟"
هتفت بغضب "أليكساندر في مكتبه, صحيح؟"
رد عليها "نعم"


فتركته, مكملة طريقها إلى مكتب أليكس, إلا أن برنارد أوقفها قائلا "مايا! أرجوكِ, كوني مراعية لأليكس قليلا, لقد عدنا للتو من مهمة صعبة, ولقد ضُرب أليكس في صدره بقوة أثناء المناورات, حتى أنني أشك أن بعضا من أضلاع صدره قد كُسرت"
اكتفت مايا بإعطائه ابتسامة مطمئنة قبل أن تدخل لأليكس.
عندما دخلت إليه, رأته واقفا بجوار مكتبه, منحنيا على بضعة أوراق, سارت بخفة حتى وصلت بجواره, ثم نادته "أليكساندر!"
رفع رأسه مندهشا من رؤيتها, ومديرا جسده باتجاهها, ففاجأته حينها بدفعة قوية على صدره باستخدام كلتا يديها المبسوطتين.
تراجع أليكس إلى الوراء قليلا, وقد شحب لونه, كما جحظت عيناه, كز على أسنانه مانعا صرخة ألم حاد من الخروج, كيف علمت بالله أن صدره ممزق من الألم! بل الأمر الأهم هو ما الذي يدفعها لفعل ذلك!


هتف صوت غاضب من ورائها "ماذا تفعلين؟"
التفتت فوجدته برنارد وقد كان يقف عند الباب, لقد عرفت أن ابتسامتها الخادعة لم تنطلي عليه, لذلك هو هنا لحماية أليكس منها, رائع! لقد أصبح برنارد الملاك الحارس, فتارة يحمياها, وتارة يحميه.
تجاهلته قائلة لأليكس بهدوء مخيف "اسمع يا هذا, عندما قلت أنك ستوظف من يراقبني, لم أبالي أبدا. ولكن أن تقوم بإرسال من يراقب نينا, فهذه مسألة أخرى"
رفع أليكس رأسه ببطء شديد, وحاول الكلام لكن مايا سبقته وقد ارتفع صوتها "لحظة! لماذا تدخل نينا في القصة؟ لماذا ترسل من يراقبها منذ أيام؟ ما الذي تنوي فعله أيها الجبان. أحد الأسباب التي دعتني لترك منزلي هو أني لم أرد أن أورط أي أحد من عائلتي في الجحيم الذي أعايشه يوميا, أأفعل ذلك لتأتي أنت بكل بساطة وترسل من يراقبها محاولا إقحامها فيه وأذيتها!"


قال أليكس بصعوبة, ويده على صدره "لم يكن ليؤذيها, لم يكن ليمسها أصلا. كل ما هنالك أنه أخبرني أن مراقبتكِ صعبة, وأنه لا يستطيع العثور عليكِ لأيام لأنكِ تختفين لوقت طويل, لذا طلبتُ منه أن يقوم بمراقبة نينا, فأنتِ لو اختفيتِ عن الجميع لن تختفي عن نينا, لن تستطيعي البعد عنها لنصف يوم, لذلك كان من السهل مراقبة نينا للوصل إليكِ من خلالها. وقد نجح الأمر"


علا صوت زفراتها الغاضبة, فقالت صائحة "يوما بعد يوم أكتشف أكثر أنك لست سوى وغد حقير, صورة طبق الأصل عن خالك النذل, أصبحتُ أرى الدماء الفاسدة تسير في عروقك بوضوح, فمرة أسمعك صدفة تقول أنك ستستغلني حتى تجعلني أقلع عن الانتقام من خالك, وأخرى يخبرني أحدهم أنه رآك تخرج من مكتبي خلسة, والآن ترمي بفتاة صغيرة - والتي هي أحب إنسان إلى قلبي - للعذاب من أجل حماية رجل قاتل, لقد كانت صفاتك السابقة مجرد قناع فقط, وللأسف فتنتُ بها وخُدعت, تماما كما خُدعت من قبل خالك"
رد أليكس بقوة, وقد تغلب الغضب على الألم "لم أكن لأسمح لأحد أن يؤذي نينا, لقد كانت وسيلة مؤقتة فقط لمراقبتكِ"


فقالت والشرر يتطاير من عينها "ابتعد عنها يا أليكساندر! ابتعد عنها, وإلا أقسم أنه لن يرضيني سوى قطع رأسك" ثم أمسكت مسدسها الذي لاحظت أنه كان موضوعا على مكتبه, وضربت بحافته مستخدمه كل قوتها صدر أليكس ليخر على ركبتيه متأوها من الألم.
التفتت إلى الباب خارجة, ثم طالعت برنارد الذي كان مذهولا مما حدث أمامه, وقالت له "لقد أصبح شكك يقنا الآن, لقد كسرتُ أضلاعه بلا ريب. لا تشعر بتأنيب الضمير, فإني أقسم أنه من أجلك فقط لم أقم بما كنتُ أود فعله له, وإنما راعيته كما طلبت مني" ثم خرجت دون أن تلتفت أبدا.



إعدادات القراءة


لون الخلفية