ازدرى أليكس ريقه بصعوبة, وهو يقول "متى حدث هذا؟"
رد رئيس السجن "استنادا على أقوال الطبيب الشرعي, فقد حدث بعد منتصف الليل بالأمس, كما أن السجناء يدعمون ذلك, فهم يقولون أنهم وجدوه هكذا عندما استيقظوا فجر اليوم"
فسأل أليكس "هل من شهود؟"
"لا أحد"
"ألم يسمع أحد السجناء أصوات أو صياح أو أي شيء؟"
"لا"
"هل هنالك أي مشتبه به؟"
"لا"
همس أليكس ضاغطا على أسنانه "تبا, إنه عمل محترفين", ثم تناهى إلى سمعه صوت ضجة خلف باب السجن, الذي لم يلبث إلا أن فُتح بقوة لتظهر منه مايا مرتجفة تعلو وجهها الصدمة.
لم تبالي بوجود أليكس, لم تبالي بوجود رئيس السجن, فقط أسرعت إلى سرير يقبع في الزاوية, وقفت أمامه, ثم بيد مرتجفة رفعت الغطاء الأبيض. تأوهت متألمة وهي ترى كال ممدا فوقه, ينظر إلى الأعلى, وقد تلونت وسادته باللون الأحمر نتيجة للرصاصة التي كانت مستقرة في جبينه. ظلت جامدة لدقائق, ثم مدت إصبعيها, وأغمضت عينيه غير مبالية بأوامر رئيس السجن الذي يصيح عليها بألا تلمس الجثة, ثم ومن دون أن تنبس ببنت شفة غادرت الغرفة, تاركة أليكس في حيرة منها.
فتح باب سيارته, ودلف إليها, ولما أراد أن يقوم بتشغيل المحرك, رنّ هاتفه النقال, ترك المفتاح, ومد يده إلى داخل سترته مخرجا الهاتف, ثم أجاب قائلا "نعم!"
فسمع صوت برنارد عبر الهاتف يقول "أليكس أين أنت؟"
رد أليكس "لقد خرجت من مبنى السجن المركزي للتو"
فقال برنارد بصوت حاول أن يجعله هادئا "إذن تعال إلى المستشفى"
هتف أليكس بخوف "ما الأمر؟"
أجاب برنارد بنبرة خافتة "بوب مصاب"
صرخ أليكس "ماذا تقصد بمصاب!"
فأوضح برنارد باضطراب "لا تقلق! فقط تم الاعتداء عليه بالضرب, هنالك عدة جروح وكدمات على جسده, بالإضافة إلى كسر في يده اليمنى, لكن الطبيب قال أنه سيكون بخير, فهو سيقوم بخياطة بعض الجروح العميقة, وتجبير الكسر"
تنهد أليكس مشفقا على بوب, ثم سأل "ولماذا تم الاعتداء عليه؟"
قال برنارد "مما فهمته من بوب قبل أن يفقد وعيه, أن مايا طلبت منه مراقبة فتاة صغيرة في الثالثة عشرة من عمرها, واليوم في أثناء مراقبته لها, جاءه بضعة رجال أوسعوه ضربا, وهددوه من الاقتراب من هذه الفتاة"
صمت قليلا, ثم تكلم بشك "هل تعلم مايا عما أصاب بوب؟"
فقال برنارد "بالتأكيد, فقبل قليل جاءت إلى المستشفى, وأصرت على أن ترى بوب وتتأكد بنفسها من أنه على قيد الحياة, وبعد ذلك غادرت بنفس السرعة التي دخلت بها. ولكن هنالك شيء غريب بها يا أليكس, إنها ليست مايا التي نعرفها, لقد كانت كشبحا لها, ما الذي أصابها؟"
أجاب أليكس بصوت بارد "لقد قُتل اليوم كال"
ردد برنارد محاولا التذكر "كال!" ثم هتف "آه, تاجر المخدرات ذاك الذي أخبرنا بوكر سام, ولكن ما علاقته بمايا؟"
"لا أعلم, لكن لو رأيتها اليوم عندما حضرتْ لترى جثة كال, لأقسمتَ أن أمرا كان يحدث ينهما"
قال برنارد باستسلام "مايا لغز مقعد. حسنا, سأنتظرك في المستشفى, وداعا"
أعاد أليكس الهاتف إلى مكانه وهو يتمتم "أجل إنها لغز, وقد آن الأوان لحله" ثم اعتدل في جلسته حتى يبدأ بالقيادة, غير رؤية رجلين عبر مرآة السيارة يسيران باتجاهه لفت انتباهه, انتظرهما حتى وقفا أمامه, وطرق أحدهما نافذة سيارته.
سحب أليكس بكل بطء مسدسه من جرابه, ثم أنزل زجاج النافذة, فقال أحدهما "نرجو أن تتفضل معنا يا سيد, فالرئيس يرغب برؤيتك" ثم أشار باتجاه سيارة ليموزين سوداء طويلة تقف على بعد أمتار من سيارة أليكس.
سأل أليكس "من هو رئيسكم؟"
"ستعرف عندما تذهب"
"لن أذهب قبل أن تخبروني"
"إن لم تذهب معنا طواعية سنقوم بجرك, ومن الأفضل لك أن تترك سلاحك, فهناك رجال بالسيارة يحملون رشاشات يا سيدي"
نظر أليكس إليهما, ثم رمى مسدسه على المقعد المجاور, وخرج معهما باتجاه السيارة الطويلة. دخل إلى السيارة, ثم رفع رأسه لتجحظ عيناه بقوة, فأمامه بالضبط كان يجلس مادوف بشحمه ولحمه.
ابتسم له مادوف, و مد يده إليه وهو يقول "أهلا بالرائد أليكساندر, سعيد بمقابلتك"
قطب أليكس جبينه حيرة وقلقا, فمادوف الذي عُرف عنه بأنه التجار الخفي, والذي لا يقابل أحد, يأتي إليه ليتحدث معه! قال أليكس بجمود رافضا أن يصافحه "ماذا تريد مني؟"
سحب مادوف يده قائلا "لو رفض أن يصافحني أي شخص لقطعتُ يده, لكني لن أفعل ذلك لك لأنني أعرف أنك رجل صاحب مبادئ وقيم. في الحقيقة أنت تعجبني يا أليكس" ثم أردف "أنت لا تمانع مناداتي لك بأليكس, صحيح؟"
تمتم أليكس "ولماذا أمانع؟ إنه مجرد اسم"
لمعت عينا مادوف رادا عليه "أقسم إني أحبك, أنت رجل عاقل, أنت لا ترتجف مني, وبالمقابل لا تدعي أنك مسيطر على الوضع. أخبرني هل سمعت بمقتل كال؟"
"نعم"
"وماذا عن ضرب أحد ضباطك الذي يدعى بوب؟"
"نعم"
"حسنا, أتعرف ابنة من تلك التي كان يراقبها؟"
"لا"
"إنها ابنة سام"
رفع أليكس حاجبيه مرددا "ابنة سام! هل لسام ابنة؟"
رد عليه مادوف "أرأيت كم هي جريئة تلك المايا! لقد نقبت حتى عثرت على ابنته, بالتأكيد لقد ساعدها الخائن كال, ثم قامت بكل وقاحة باستخدامها لتهديد سام"
قال أليكس بصدمة "أنتم من فعلها إذن, قتلتم كال, لأنه ساعد مايا في العثور على ابنة سام, و ضربتم بوب, لأنه كان يراقبها"
أجاب مادوف "بالتأكيد, سام هو رجلي الأول, ومن يهدده يهددني أنا, لقد غضبت بالفعل عندما اتصل ليخبرني أن مايا عثرت على ابنته, واستخدمتها لتهديده"
صمت أليكس للحظات, ثم قال بحيرة "هذا لا يعلق, كال ليس رجلا متعاونا, لم يكن ليخبر مايا بمعلومات مهمة هكذا؟"
قال مادوف "ومن الذي أخبرك أنه قدمها هكذا, لقد كانت مايا ترشوه بالمال, في الحقيقة لقد رشته سابقا عندما أنقذتك من سام"
أغمض أليكس عينيه بمرارة, لماذا تكشف الحقائق الغير مرغوب بها بواسطة شخص يكرهه. فتح عينيه فجأة, وقد طرأ له استنتاج غريب, فقال بغضب "لم يكن هدفك مما فعلته لكال وبوب من أجل سام فقط"
مط مادوف شفتيه مبتسما ببطء, ثم قال "أنت محق, هدفي هو زلزلة مايا, أن تشعر بالذنب نتيجة ما حل بهما"
سأل أليكس وقد ضاقت عيناه "أنت من يرسل لها المظاريف السوداء؟"
رد مادوف "لأنني لا أحب الكذب, فسأجيبك بنعم"
همس أليكس بغصة "لماذا؟"
انحنى مادوف إلى الأمام, وأسند مرفقيه على ركبتيه, ثم قال ببطء "أتعلم كم خسرت بإلقائها القبض على ذراعي الأيمن سام! أتعلم كم اهتزت صورتي! أتعلم كم حجم الاضطراب الذي حدث بين رجالي! أتعلم هنالك الكثير من الضباط الذين يعلمون بتورط سام بالمخدرات, لكن أحدا منهم لم يجرؤ على الاقتراب منه خوفا مني, أما هي فقد ضربت بهذا الأمر عرض الحائط"
رد أليكس باستفزاز "أنا أيضا ضربت بك عرض الحائط, فلقد كنت ألاحق سام"
فأجاب مادوف "صحيح, لكن الفرق في أنها استطاعت القبض عليه في حين فشلت أنت, وهنا يكمن مربط الفرس"
قال أليكس, وقد بدا أن كلامه محاولة منه لإقناع نفسه "مايا قوية, لن تهتز بصورك وكلماتك"
فقال مادوف "أشك في ذلك, فأنا لا أرسل صورا هكذا, بل قمت بتعيين طبيب نفسي ليقوم باختيار الصور الكلمات التي يراها أكثر تأثيرا على حالة كحالتها. صدقني لقد أثارت الصور والكلمات البركان في داخلها, لكنها حبست البركان بقشرة والتي أنا متأكد أنها ستتمزق بعدما حدث اليوم, وبعدما تشاهد هذا" ثم أخذ مظروف أسود بحواره, ورماه ليستقر بين يدي أليكس.
فتح أليكس المظروف بسرعة, فهو لا يريد أي يعطني نفسه فرصة للتفكير بما يحويه, أخرج الصور وبدأ يطالعها بألم يرتسم في عينيه, لم تكن صورا له أو لخاله أو لفآن, بل كانت صورا تم التقاطها أثناء قتل كال, صورة تظهر كال مكمم الفم, تطل من عينيه نظرة رعب حارقة, وثانية تظهره والمسدس يلتصق بجبينه, وثالثة والرصاصة مخترقة رأسه. هنالك أيضا صور لبوب وهو يتلقى الضرب بالعصي والرفس بالأرجل. أما الصور التي أغضبت أليكس فهي تلك التي كانت تصور كال مع عائلته والتي بدا أنها التقطت قبل أن يدخل السجن, فبعضها يضحك فيها مع زوجته, والبعض الآخر يلاعب طفليه الذين قدًّر أليكس عمرهما في الخامسة والثالثة, وقد كتب عليها كلمات مثل (أنتِ السبب في موت والدنا) (لقد جعلتني أرملة) (أعيدي والدنا) (من سيتولى حالنا الآن).
رفع أليكس رأسه ونظر إلى مادوف بحدة, فقال مادوف "ما رأيك! ستقضي عليها الصور, من يستطيع تحمل ذنب تيتم طفلين وترمل زوجة! حتما ليست مايا, في الحقيقة أنا أعتقد أنها ستنتحر لتخلص نفسها مما هي فيه"
سأل أليكس غاضبا "هل أرسلته لها؟"
رد عليه "سأقوم بإرساله بعد قليل إلى الغرفة التي تستأجرها في الفندق, فقد علمت أنها هنالك. لدي نسخة ثانية لها, لذا لا تكلف نفسك عناء تمزيق الصور"
نقر أليكس بأصبع بضع نقرات على ركبته محاولا تهدئة نفس, ثم قال "نعود للبداية, ماذا تريد مني؟"
فقال مادوف "أريد منك شيء واحد فقط, أبعد مايا عن طريقي, لأني لو وضعتها داخل رأسي, لن أخرجها إلا ميتة, تماما كوالدها. أتعلم لماذا خالك حي يرزق إلا اليوم, فبالتأكيد كنتُ أستطيع فعل ذلك ببساطة في اليوم الذي قتلت فيه فآن, لكنني لم أرده أن يمت, وذلك لسببين, الثاني هو أنني أردته أن يتعذب لأنه صاحب قرار موت صديقه, أما الأول وهو المهم, هو أنه لم يكن يزعجني كما أزعجني فآن. أرأيت! إن عاقبة من يزعجني هي الموت, فانتبه لمايا جيدا, لأنني بدأتُ أشعر أنها تزعجني. والآن يمكنك الانصراف"
رد أليكس الوحيد عليه, كان فتح الباب هاما بالانصراف, لكنه توقف وهو يرى صورتين ملقاة عند قدمه وقد سقطت أثناء فتح للمظروف, مد يده ملتقطا إياها, ثم نظر إليها ليرى أن الأولى التقطت لنينا وهي تخرج من سيارة مايا, والثانية لنينا أيضا وهي تقف أمام منزلها .
جعد الصورتين بين يديه بقوة, وهو يقول من بين أسنانه "إذن أنت من أرسل ذلك الرجل ليراقب نينا!"
قال مادوف "يا إلهي! أنت أيضا تعرف بأمره, غريب! لقد أخبرني أن مايا هي من شاهدته, لكنه استطاع الفرار منها"
زفر أليكس بقوة "اترك نينا وشأنها"
"لا تغضب! لستُ أنوي أذيتها, فقد أردت تخويف مايا, ولكني لن أتوانى عن ذلك إن استمرت بإزعاجي"
قال أليكس بتجهم "لا ترسل هذا المظروف"
"سأرسله لا محالة وبعد أن تخرج من عندي الآن"
"لا تفعل!"
"أخبرتك أنني لا أكذب, ولكن حتى تتأكد سأقسم لك أني سأرسله إليها وسأتأكد من أن تطلع على محتوياته حتى لو أُجبرت على فتح عينيها بنفسي, لذا كن بعيدا, واجعل المظروف يمضي بسهولة, كما مضى إخوته"
صمت قليلا, ثم همس "لا بأس, فقط لا تضع صور نينا فيه"
قال مادوف "سأضعها"
فقال أليكس منفعلا "مادوف, سأفعل لك أي شيء مقابل عدم إرسال صور نينا"
تكلم مادوف مندهشا "واو ... يا له من عرض"
رد أليكس بعصبية "أنا جاد تماما"
فقال مادوف "دعنا نرى, أخبرني أولا لماذا رفضت أن تصافحني؟"
أجاب أليكس مستعيدا قوته "أنا لا أصافح يدا اعتادت على قتل الناس دون وجه حق, هذه مبادئي كما قلت"
فسأل "ماذا لو وضعتُ السلاح على رأسك؟"
رد ببساطة "المبادئ التي تزول تحت التهديد لا تستحق أن تسمى مبادئ يا مادوف"
فاتكأ مادوف على ظهر مقعده, وقال "حسنا إليك الصفقة, سأزيل صور نينا من المظروف الذي سأرسله لمايا مقابل أن تُقبل يدي التي ترفض أن تصافحها, أعدك بذلك"
ظل أليكس صامتا لدقيقة, منكسا رأسه للأسفل, مشبكا أصابعه, ثم رفع رأسه, ومد يده ناظرا إلى مادوف بعينين خاويتين. عقد مادوف حاجبيه غير مصدقا لما يحدث, لكمه وضع يده في يد أليكس, الذي مال باتجاهها, وأغمض عينيه مقبلا يد مادوف بكل طواعية, ليخرج بعدها من السيارة دون أن يقول حرفا.