لقد ظنت أنه يمزح عندما قال أنه اختارها, ولكن اتضح أن كان جادا, وقد أخبر مادوف بذلك, فهاهو الآن يقف أمامها مع برنارد في شقته, يشرح خطته للإيقاع بمادوف, وطبعا هي من ستكون الطعم طالما أنها هي المختارة. لم تغضب أبدا لأنه اختار سلامة خاله على سلامتها, ذلك أنها تذكرت كلام آن لها, فأدركت أن أليكس محق, فريدريك لا ذنب في الأحداث الجارية, لذا لا ينبغي توريطه أبد. مع ذلك هي لا تنفي أنها صدمت من قراره, لا تعلم لماذا, ولكنها كانت تتوقع أن يقول لها شيء من قبيل (لا يمكن الاختيار بينكما) أو (كلاكما مهم عندي), صحيح أنه بحسب خطته يجب أن تكون مايا بخير, لكن لا أحد يستطيع التنبؤ بعقل مادوف, فدخولها إلى وكره لا يعني خروجها منه وهي حية ...
قطع تفكيرها صوت أليكس القائل "مايا هل أنتِ منصته معنا؟ لماذا أشعر أنكِ في عالم آخر؟"
تمتمت "أنا معكما"
فقال مخاطبا مايا وبرنارد " حسنا, أريدكم مجتمعين في الشقة في تمام الساعة الثالثة صباحا أي بعد ثلاث ساعات من الآن, لأن اجتماعنا مع مادوف في الرابعة"
تكلمت مايا مستفسرة "لحظة, بالنسبة للشقة..."
قاطعها أليكس قائلا "أخبرتكِ, إنها الشقة التي أخذناكِ إليها بعد أن قبضنا عليكِ"
قالت باستفزاز "تقصد الشقة التي طعنتكَ فيها" ابتسم برنارد فيما أكملت "أعرف ذلك, أنا أريد أن أقول أني لا أعرف مكانه, لقد كنت معصوبة العينين"
رفع أليكس حاجبيه سائلا "من الذي عصب عينيكِ منهم"
أشارت بإصبعها مجيبة "السيد برنارد"
فقال أليكس "إذن برنارد سيخبركِ بموقعها. أراكم بعد ثلاث ساعات. نالوا قسطا من الراحة. وداعا"
فتحت باب غرفة أمها بكل رقة, فهي لا تعلم إذا كانت مستيقظة أو نائمة, بالرغم من أن الغرفة قابعة في الظلام, إلا أنها همست "أمي!"
لم تلقى ردا, لذا همت بالخروج لولا أنها سمعت صوت أمها يقول "تعالي"
ابتسمت مايا وسارت إليها دون أن تضيء الغرفة, فالظلام سيساعدها قليلا. قالت بخفوت " إذا كنتٍ راغبة في النوم, سأعود في ما بعد"
تمتمت مادلين "لا بأس"
ظلت مايا صامتة لفترة قبل تجلس على طرف سرير أمها حيث كانت مستلقية, ثم قالت مباشرة دون أي مقدمات "لم أكن في مهمة, لقد كنتُ في السجن"
اعتدلت مادلين جالسة, وهي تردد بدهشة "السجن!"
قالت مايا باعتراف "لقد قتلت رجلا, ولكن لا تقلقِ لقد كان رجلا سيئا. أنا آسفة لأني لم أخبركِ"
فعلقت مادلين بنبرة صريحة "لقد كنت أشك أن هنالك أمرا ما يجري معكِ. لكن الحقيقة أن السجن لم يخطر ببالي أبدا" ثم أضافت "أتعنين السجن حقا! أقصد هل أنتِ متأكدة أنكِ كنتِ في ذلك المكان الذي يزج فيه المجرمين!"
ردت مايا بضيق "إن كانت هذه طريقتكِ لتخبريني أنني خيبتُ ظنكِ, فقد نجحتِ في ذلك"
سألتها مادلين بحيرة "كيف خرجتِ إذن منه؟"
غمغمت مايا "بمساعدة من فريدريك, مفاجأة ثانية, صحيح!"
فأجابت مادلين بجدية "لا، ليست مفاجأة، أنا أعرف مسبقا أنه يحبك ويهتم بك"
قالت مايا مغيرة مجرى الحديث "بمناسبة الحديث عن فريدريك، لقد اختُطف من قبل عصابة" حتما هي لن تخبر أمها أن خاطفه هو قاتل والدها.
هتفت مادلين بدهشة " هذه هي الصدمة الحقيقة. متى حدث ذلك؟ ولماذا اختطفوه؟"
ردت مايا ببساطة "اختطف قبل يومين. وبعد ثلاث ساعات سأذهب لتحريره مع أليكساندر"
همست مادلين باستفسار "لماذا؟"
ردت مايا متصنعة عدم الفهم "لماذا ماذا؟"
"لماذا ستذهبين لتحريره؟ اعتقدت أن أكبر أحلامكِ أن يموت فريدريك"
"اممم ... لست متأكدة بعد. أعتقد أني أنقذه من أجل أبي، أو من أجلكِ..."
قاطعتها مادلين "وقد يكون من أجلكِ أنت"
فهمست مايا دون إنكار "ربما"
مرت دقيقة صمت، قبل أن تقول مادلين برقة "لستُ معتادة على ذلك"
أصدرت مايا صوت يشير للتساؤل، فأكملت مادلين "أن تأتي إلي وتخبريني بما حدث لكِ، أو بما تنوين أن تفعلِ، لم أعتد على ذلك منكِ"
الظلام المحيط بالغرفة أخفى الانفعالات التي ارتسمت على وجه مايا، لكنها استطاعت أن تقول بصوت مثقل بالعاطفة "أعرف، أعرف أن فكرة الانتقام أبعدتني عنكِ، أعرف أنني خذلتكِ منذ موت والدي, أنا حتى تركتِك وحدكِ بعد الجنازة. وأنا آسفة على ذلك، أعدكِ أن تتغير الأوضاع"
غطت مادلين بيدها يد مايا التي كانت مستندة على السرير بجوارها, وهمست بنعومة "كفاكِ لوما لنفسكِ في غير محله, كلتانا تعلم أني من رفضتُ بقاءكِ معي وعارضتُ فكرتكِ بأن تستقروا هنا, في الحقيقة أردتُ أن أبقى لوحدي. أتعلمين! أنتِ من كان سندي خصوصا بعد موت أبوكِ, كان يفترض أن تتحمل الزوجة المسئولية بعد وفاة زوجها, لكنني انسحبت مجبرة إياكِ على أخذ دوري. كيف يعقل أنكِ خذلتني وأنتِ من تحمل ليس مسئوليتي فقط بل مسئولية أبي وأختي أيضا"
رفعت مايا يد أمها – الممسكة بيدها – إلى شفتيها لتطبع عليها قبلة رقيقة وهي تقول بخفوت "أحبكِ"
ملأت ابتسامة شقية وجهها وهي تنظر إلى سبابتها الضاغطة على زر جرس المنزل الضخم منذ دقيقة كاملة, فعلا لا يوجد شيء يسعدها أكثر من إغاظة شخص يكرهها, تعرف أن الوقت غير مناسب, خصوصا أن لديها مواجهة مع الموت بعد ساعة, لكنها مع كل هذا التوتر تجد لديها رغبة عجيبة للتسلية.
انفتح باب المنزل بعنف, وظهرت من خلفه سونيا التي حملقت فيها من هول المفاجأة, لكن ملامح الدهشة لم تلبث إلا أن تحولت إلى غضب. هتفت من بين أسنانها "أنتِ امرأة مجنونة"
لم يفت مايا انتفاخ وجه سونيا واحمرار عينيها, لكنها تجاهلت ذلك, واكتفت بأن تقول لها مبتسمة بمكر "هل يعقل أني أزعجتك؟"
صرخت سونيا "أتعلمين كم هذا الجرس مؤذي للأذن! أتعلمين أن رأسي سينفجر بعد قليل من الإزعاج!"
فردت مايا متصنعة الاعتذار "حسنا, آسفة, لقد ظننتُ أنكِ نائمة"
رددت سونيا دون أن تستوعب شيئا "ظننتِ أنني ...! أتعلمين الآن فهمت معنى عذر أقبح من ذنب"
أشارت مايا بإصبعها إلى الداخل قائلة برقة "أأستطيع الدخول!"
تأملتها سونيا قليلا, قبل أن تبتعد عن الباب متمتمة "ادخلي" لتدخل مايا وخلفها سونيا بعد أن أغلقت الباب.
قالت مايا فور جلوسها "إذن لم تكوني نائمة!"
فردت سونيا بحدة "وهل أستطيع أن أنام في هذا الوقت؟"
أجابت مايا باستفزاز "غريب! متى ينام البشر إذا لم يناموا في الساعة الثانية فجرا!"
على ما يبدو لم تكن سونيا في مزاج لمجاراتها, إذ قالت بيأس "أتعلمين أن فريدريك قد يكون ميتا بعد بضع ساعات! هل تتوقعين أني سأكون نائمة!"
أمالت مايا رأسها قائلة "آسفة لتخييب ظنك, لكن فريدريك لن يموت, لن يسمح أحد بذلك"
سألت سونيا وبريق أمل يلمع بعينيها "ماذا ستفعلون؟"
فردت مايا بسرعة "في الحقيقة سنذهب بعد قرابة ساعة"
الفرح الذي لاح على وجه سونيا لم يلبث أن يشوبه بعض الارتباك وهي تسأل "لحظة! أيعني ذلك أن أليكس سيبادلكِ بفريدريك!"
تمتمت مايا بتصلب "شيء من هذا القبيل، لكني سأكون بخير حتما"
اقتربت سونيا منها، وجلست بجوارها وهي تقول بصراحة "هل تقولين هذا الكلام لي أم لك!"
لم ترد مايا عليها, فأكملت سونيا استنتاجها "هل يعقل أنكِ خائفة! لحظة ... ألهذا... ألهذا أنتِ هنا"
فتحت مايا فمها لتعترض, لكنها توقفت لثواني, ثم ابتسمت ابتسامة تؤيد كلام سونيا, وقالت ببساطة "عرفت أن فريدريك لا يختار سوى امرأة ذكية. ولكني لستُ خائفة أنا فقط أشعر ببعض التوتر"
"لماذا أتيتِ إليّ أنا بالذات؟"
"حسنا, لم أرد أن أبقى وحيدة, احتجتُ إلى الحديث مع أحد, لقد تذكرتُ أن طبيبتي السابقة كانت تقول أن التحدث مع شخص غريب يشعر المرء بالراحة. وفي الحقيقة لم أجد شخصا غريبا سيفتح لي بابه قبيل الفجر سوى أنتِ, كنتُ أعرف أنكِ لن تنامِ"
"وهل طلبتِ منكِ أن تقومِ باستفزاز هؤلاء الغرباء كما فعلتِ معي؟"
ضحكت مايا قائلة "لا. لكني عندما وقفتُ أمام بابك تذكرت الصفعتين المؤلمتين, كان لا بد أن أرد لكِ الدين"
قالت سونيا بنبرة عطوفة "آسفة, لم أكن أعرف قصة والدكِ"
غير أن الكلام عن والدها كان آخر شيء تريد التحدث عنه في هذا الوقت, لذا قالت بهدوء "بالحديث عن ذلك, أنا أعطيكما مباركتي على الزواج"
نظرت سونيا إليها قبل أن تقول بخفوت "أنت تمزحين, صحيح!"
ردت باقتضاب "لا"
فقالت سونيا وقد ثارت ثائرتها "من تعتقدين نفسكِ, أظننتِ حقا أني لن أتزوج إلا برضاكِ!"
فتكلمت مايا بوضح "أنتِ لا! ولكن بالنسبة لفريدريك أعتقد أن الإجابة هي نعم"
ضيقت سونيا عينيها مفكرة, ثم سألت ببطء "هل ... هل أفهم أنكِ سامحتِ فريدريك؟"
حملقت مايا في الأرض, ثم رفعت بصرها إلى سونيا قائلة بقوة "لا" أرادت سونيا أن تقول شيئا غير أن مايا منعتها من الكلام مكملة بصوت مضطرب "لقد اكتشفت أن فريدريك لم يرتكب أي خطأ لأسامحه عليه, الحقيقة أنني أنا من يحتاج المسامحة منه، لقد صعبت الأمر عليه بدلا من مساعدته على تجاوزه، لقد اتهمته وظلمته، لم يكن موت أبي خطأه هو، آن من كشفت لي هذه الحقيقة, لكن مادوف جعلني أؤمن بها عندما وضعني في نفس موضع أبي" لمعت عيناها وهي تهمس لسونيا "سأكون ممتنة لو أوصلتِ اعتذاري لفريدريك"
"أنتِ من سينقذه، لذا أوصليه له أنتِ"
"أوه بالتأكيد" ثم نظرت إلى ساعة معصمها قائلة "يجب أن أغادر الآن"
لكن سونيا أحست أن هنالك شيء غريب إذ قالت قبل أن تخرج مايا "أريدكِ أن تقطعي لي وعدا"
التفتت لها مايا قائلة "أنا أسمعك"
قالت سونيا بعينين تمتلئين ثقة "عيدينِ أن تكوني وصيفتي في الزفاف!"
تمتمت مايا "لكِ كلمتي" ثم خرجت وهي تفكر أن نينا ستكون أكثر من سعيدة بأخذ هذا الدور.
جالسة في سيارتها في تمام الساعة الثالثة. شهيق ثم زفير, شهيق ثم زفير, شهيق ثم زفير, ومع ذلك لم تستطيع أن تتخلص من ارتجاف يديها أو القلق الذي يملأها. ما القصة! هذه ليست أول مهمة تذهب إليها, لقد ذهبت خلال الثلاثة السنوات الأخيرة في مهمات عددها قد يصل ضعف عدد سنوات عمرها, إذن فلماذا تشعر بانقباض في قلبها! هل السبب أن هذه أول مهمة لها مع أليكس! هل السبب أن خصمهم هذه المرة هو مادوف! هل السبب أنها ستكون الطعم في هذه المهمة! على الأرجح أن السبب الأخير هو ما يقلقها, فهي أولا ستكون في مرمى هدف مادوف, وستكون مكشوفة له, صحيح أن برنارد سيحمي ظهرها, كما أن أليكس سيكون قريبا منها, لكن! حسنا أليكس قال أن مادوف لن يقتلها مباشرة, فغروره سيجعله يتباهى أمامهم أولا,
وفي تلك الفترة سيحرص برنارد على الإطاحة به وبمن معه بمساعدة أليكس, وهكذا يموت مادوف ويخرجون سالمين. مع ذلك تشعر بشيء ناقص في الخطة, فماذا لو أن مادوف قرر أن يقتنص فرصته مباشرة و قتلها, حينا سيبدأ أليكس وبرنارد بإطلاق النار عشوائيا من الغضب, وسيكون من السهل لمادوف الإطاحة بهما, وهكذا يموت الجميع,
وينتصر مادوف, هذا سيناريو واحد فقط من السيناريوهات الكثيرة التي تخليت حدوثها في هذه الساعات الأخيرة, وقد كانت كلها ذات نتيجة واحدة, ستموت وسيموت من معها, لذا وطالما أنها ستموت لا محالة فقد وجدت طريقة تجعل مادوف يموت معها وتنقذ أصدقائها. التفتت إلى المقعد المجاور لها, ثم ازدرت ريقها بصعوبة وهي تنظر إلى القنبلة اليدوية الصغيرة القابعة على المقعد بجوار مسدسها, لم تتخيل حتى في أحلامها أن تكون نهايتها بتفجير قنبلة في نفسها.
تموت! ولم لا! لقد تصالحت مع أمها, وطلبت من سونيا إيصال اعتذارها لفريدريك, بالتأكيد لم تستطع أن تودع صغيرتها نينا, ولكن هذا أفضل, فلن تسامحها نينا إن علمت أنها كانت تنوي قتل نفسها. إنها مستعدة الآن لإنهاء انتقامها ولإنهاء مادوف, مدت يدها لتتناول مسدسها وقنبلتها الصغيرة, ثم تراجعت قليلا, لا ستتركهما هنا, فهي تخشى أن يلاحظ أليكس القنبلة, حسنا ستعود لأخذهما عند الذهاب للقاء مادوف. فتحت باب السيارة, وخرجت مغلقة الباب, ثم اتجهت إلى البناية, حيث الشقة التي ستلاقي برنارد وأليكس فيها.
لم يتغير فيها شيء, تماما كما تركتها أول مرة, ابتسمت عندما أدركت كيف تغيرت حياتها منذ دخولها هذه الشقة, مازلت تذكر تهديدات كريك لها بأنها لن تخرج من هنا حية، وأن موتها سيكون على يديه، لقد اشتاقت له, في حين أنه كما يبدو لم يتعب نفسه بتذكر أحد في إجازته الممتعة مع نينا. مشت بهدوء حتى وقفت أمام الغرفة التي قيدوها فيها, لتجده هنالك, موليا إياها ظهره, منحني على طاولة صغيرة امتلأت بالأسلحة, أليكساندر! الرجل الذي تحبه, والرجل الذي لم ولن يلتفت لها لسوء الحظ.
يبدو أنه أحس بها, إذ هتف دون أن يلتفت "تقدمي"
أطاعته ألا أنها لم تذهب باتجاهه بل باتجاه نافذة منخفضة نسبيا تقع عن يمينه, وقفت أمامها تطالع الحي الهادئ المهجور عبر القضبان الحديدية التي أحاطت بالنافذة.
سألته ببرود "أين برنارد؟"
تمتم "أرسلته في مهمة صغيرة"
"ما هي؟"
"التخلص من رجلين أرسلهما مادوف لمراقبتي"
التفتت إليه رافعة حاجبيها بحيرة وسألت "ولماذا يتخلص منهما الآن؟ لماذا لم تفعل ذلك سابقا؟"
فرد أليكس بموضوعية "لأني اعتقدتُ أنهما كان يعطيان مادوف تقريرا بعد كل ساعات معينة, لذا كان مادوف سيعرف أنني تخلصت منها عندما ينقطع تقريرهما فجأة, لذا تركتهما يراقباني, فأنا لم أرد أن أدخل في مناوشة جديدة مع مادوف"
استدارت مرة ثانية إلى النافذة, عادت تنظر من خلالها, كانت السماء حالكة الظلمة, لم يكن فيها أي نجمة ساطعة وبالتأكيد لا أثر للقمر, تساءلت إذا كانت هذه علامة سيئة, و... . توقفت عن التفكير عندما شعرت به يقف خلفها تماما, ما الذي يريده الآن؟ إنه صامت بشكل غريب, هل يريد أن يراقب شيئا ما من خلال النافذة؟ همت بالابتعاد عنه لتتيح له مجالا أفضل للرؤية, إلا أنها لم تستطع أن تتحرك, فقد كانت حرفيا عالقة بينه وبين قضبان النافذة. شعرت بأنه أحس برغبتها بالابتعاد, إذ تراجع خطوة واحدة فقط, بالطبع لم تمكنها الخطوة من الانسحاب, لكنها مكنتها من الالتفات ومواجهته على الأقل.
حسنا, ليتها لم تلتفت, فالرجل الذي يقف أمامها مختلف عن أليكساندر الذي اعتادت عليه, كان مسترخي في وقفته لأبعد درجة, عيناه – التي تنظر لعينيها – ذات بريق لم تره من قبل, فمه تلوح عليه ابتسامة كسولة. ما الأمر؟ هذا هو السؤال الذي تريد أن تطرحه عليه, لكنها لن تفعل, فهي تريد أن ترى ما نهاية هذه المسرحية الصامتة التي يؤديها. أخيرا عاد وخطى الخطوة التي ابتعدها سابقا, لتجد نفسها أمام عنقه, لتكون أكثر دقة, لتجد نفسها بين ذراعيه.
تصلبت مجفلة في البداية, كانت تعتقد أن اعترف فريدريك لها بمشاركته في قتل والدها صدمة, كانت تعتقد أن قتلها لسام صدمة, كانت تعتقد أن خطف مادوف لفريدريك صدمة, لكنها تدرك الآن أن الصدمة الحقيقة هي معانقة هذا الرجل لها. ارتجفت متنهدة لتسترخي بعد ذلك بين يده, غير أنها لم تكد تغمض عينيها حتى شعرت بشيء بارد يحيط بمعصمها وسمعت صوت اصطكاك معدن الحديد. فتحت عينيها غير مصدقة, ثم أرخت نظرها إلى يدها اليمنى لتجد أنها مقيدة بطرف من الأصفاد, في حين أن الطرف الآخر يحيط بأحد قضبان النافذة, رفعت بصرها إلى أليكس وهي مازالت بين ذراعيه, وسألته بعينين زائغتين من الشك "ما الذي يحدث؟"
أمال رأسه مسندا جبينه على جبينها, وهمس لها "لقد أخبرتني يوما أنكِ فضلتني على والدكِ, وها أنا الآن أقول لكِ أنني فضلتكِ على خالي"
اكتسحها جمود غريب وهي تستمع إليه قبل أن تدرك معنى كلامه, اتسعت عيناها فدفعته بيدها الحرة بقوة, وهي تصرخ "لا"
تراجع أثر دفعها له, لكنه لم يرد, إذ أنها عادت تصرخ بانفعال "حررني! هذا غير صحيح، ما كنتُ أبدا لأفضلك على أبي"
محاولتها هذه أجبرته على الابتسام, فقال لها باستمتاع "حسنا, في هذه الحالة أنا أيضا لن أفضلكِ على أبي, لكن إليكِ المفاجأة, فريدريك ليس أبي"
صرخت للمرة الثالثة قائلة "أليكساندر! هذا ليس ممتعا, فك قيدي حالا, ليس من حقك أن تختار"
فرد بسرعة "بلى من حقي, لقد أعطاني مادوف ذلك الحق"
صمتت تنظر إليه بتشويش, هل هو جاد حقا! ثم تمتمت بحرقة "هذا خطأ, أنت تخذل فريدريك بهذه الطريقة"
أجاب بجدية "لا تقلقِ, فريدريك سيكون ممتنا لي تماما, فأنا أعرف أنه يعتبركِ أغلى ما في هذه الدنيا" ثم أضاف "حسنا, أنتِ و سونيا بالطبع"
سونيا! أيعقل أنها السبب! هل اتصلت به وأخبرته أنها خائفة! ألذلك قرر استبعادها. سألت بخفوت "هل تحدثت مع سونيا اليوم؟"
طالعها بدهشة وهو يجيب مغمغما "نعم، ظهيرة هذا اليوم اتصلت بها, لماذا؟"
إذن ليست سونيا السبب, لذا سألته بفتور "لماذا إذن؟ ما الذي حدث في الساعتين السابقتين حتى تقرر عدم ذهابي معكم؟"
أجاب بنبرة صادقة "لم يحدث شيء. يبدو أنكِ فهمت الأمر خطأ, قراري بعدم ذهابك لم يصدر قبل قليل, بل صدر في اللحظة التي كلمني بها مادوف وأخبرني بالاختيار بينك وبين فريدريك, حينها قررت أنكِ لن تكوني جزءا من هذه اللعبة القذرة حتى لو مشى مادوف على رأسه. كنت مطمئنا أنكِ في السجن, وأنكِ لن تعلمي حتى بما يجري, لكن للأسف جون أحبط مخططي عندما أخرجكِ وأخبركِ بذلك. عندما جئتِ إلي ونظرة التصميم تلك في عينيكِ, عرفتُ أني مهما فعلتْ لن أستطع إبعادك, بل حتى لو أبعدتكِ, كنتِ ستتصرفين من تلقاء نفسكِ كالعادة, لذا كان الحل الوحيد للأسف هو خداعكِ, إيهامكِ أنكِ ستكونين معنا حتى اللحظة الأخيرة"
هتفت من بين أسنانها "أيها النذل!"
قال ماطا شفتيه "ربما" ثم أضاف مبتسما "لكن إن كنتُ نذلا, فأنتِ كنتِ... ماذا أقول!... دعينا نقل ساذجة ومغفلة, كيف بالله عليكِ اقتنعتِ بخطة سخيفة كالتي أخبرتكم بها! توقعتُ أنكِ ستعترضين عليها, وتقولين أنها خطة فاشلة, لقد خيبتِ أملي فيكِ"
ردت بغضب ممزوج بسخرية مريرة "ظننتُ أن حبك لخالك جعلك غافلا عن غباء خطتك, لم تكن لدي أدنى فكرة بأنك جاحد للرجل الذي أنقذ حياتك"
أجابها معترضا "أنا مازلت أحب خالي ..."
فقاطعته بصياح "سيقتله مادوف أيها الأحمق إذا لم أحضر"
فقال بصرامة "لا لن يفعل. فهنالك شيء آخر لم أقله لك, وهو أن الاجتماع المقرر مع مادوف في تمام السادسة صباحا, وليس الرابعة فجرا, أي أن مادوف لن يكون متوقعا لمباغتتنا إياه"
فقالت تستجديه "إذن لن يكون هنالك أي خطر عليّ, حرر يدي"
تقدم منها وهو يقول بصوت خشن "كفى إزعاجا, لقد حسم الأمر" ثم باعد بيديه طرفي معطفها الأسود, فاحصا خصرها بنظراته.
همست بذهول "ماذا تفعل؟"
رفع بصره إليها, وأجاب بابتسامة مستفزة "ماذا تعتقدين أنني أفعل؟" ثم بدأ بإدخال يديه في جيوب الخارجية والداخلية لمعطفها.
فهمتْ, إنه يبحث عن مسدسها, لكن فعله هذا, جعل فكرة تصرخ في رأسها, مسدسه المثبت في حزامه! بكل سرعة مدت يدها اليسرى الحرة باتجاه مسدسها, وقد أفلحت في وضع قبضتها عليه, غير أن يده القوية غطت يدها قبل أن تنتزعه.
هتف وهو يبعد يدها عن مسدسه "لم أعد ذلك الأبله الذي غرستِ سكينه في فخذه" ثم جثم على ركبتيه, مفتشا عن أي سلاح قد تكون ثبتته في أسفل ساقيها, ولكنه لم يجد شيئا. نهض قائلا وقد عقد حاجبيه "أنا لا أصدق أنكِ كنت ذاهبة لمادوف دون أي سلاح! أين مسدسك؟"
أجابت "في السيارة"
فسأل متذكرا فجأة "أوه... صحيح أين هي؟"
ردت ببرود "السيارة! لقدر قمتُ بركنها في المطبخ"
قال باستهزاء "واو ... أحب روح الفكاهة"
أمالت رأسها, أحب روح الفكاهة! ألم تكن هذه هي العبارة التي قالتها له في أول لقاء لهما عندما قبضت عليه, إن ظروف اللقاء الأول وهذا اللقاء – الذي يبدو أنه الأخير – متشابهة تماما, طبعا هنالك فرق واحد, كانت هي المسيطر في الماضي, لكن الآن هو المسيطر. سمعته يسألها ثانية "أعطني إياها"
تنهدت بضيق "ماذا؟"
فرد موضحا "مفاتيحك, تعلمين مفتاح السيارة مفتاح المنزل وغيرها"
تأملته ببطء محاولة البحث عن أي شيء يساعدها, حتى وصلت إلى السكين المتدلية من حزامه, والمثبتة فيه بحلقة معدنية. قالت ببطء "في جيب الداخلي للمعطف, تعال لأخذها"
أمرها "أعطني إياها"
فردت بثقة "لا, إذا كنت تريدها, فخذها بنفسك"
زفر بملل, ثم قال وهو يقترب باحثا عن المفاتيح "أعلم أن من الصعب محاولة فتح الأصفاد بشيء كبير كالمفاتيح, لكنني في الحقيقة لا أثق بـ ... " قطع كلامه عندما باغتته مايا خاطفة السكين من حزامه. لم يستطع أخذ السكين منه, لكنه قبض بأصابعه على معصمها, ثم قال بنعومة "مايا! متى ستدركين أنكِ لستِ ندا لي. ارميها الآن"
لم تستجب له, وظلت قابضة على السكين, فقال بضجر "ستضطرينني إلى حذف قاعدتي التي تقول لا تؤذي امرأة"
هتفت "اذهب وقواعدك إلى الجحيم"
فهز رأسه متمتا "أمركِ" ثم حركك يديها ليلويها خلف ظهرها, أجفلت من الألم, لكنها رفضت تركها, الأمر الذي جعله يزيد الضغط على ذراعها بقوة, حتى دوى صوت ارتطام السكين بالأرض. همس أليكس "فتاة جيدة" و عاد ليلعب دور المفتش مرة أخرى, فأخرج المفاتيح, بعد ذلك رفع يديه محررا شعرها من رباطه, ثم خلل أصابعه داخل خصلات شعرها, حتى أحست ببرودة أنامله, لتخرج أصابعه حاملة مشبكين من مشابك الشعر الرقيقة.
فور أن حرر يديه من شعرها, أحنت رأسها, فتساقط الشعر ليغطي جانبي وجهها. لقد انتهت الآن، لقد كانت مشابك الشعر هي آخر أمل لها, كانت مسيطرة على الوضع بسبب معرفتها أنها ستستطيع التخلص من هذه الأصفاد بواسطة المشابك, لكن هذا الأمل تحول لسراب. لن تستطيع الآن التحرك من مكانها, لن تستطيع تخليص فريدريك, لن تستطيع الانتقام من مادوف وقتله, ولكن لماذا! هي لن تجد فرصة أفضل للقضاء عليه من هذا اليوم, لماذا ستظل هنا! كيف حدث هذا! ما السبب! ... بالطبع هي تعرف السبب, إنها تنظر الآن إلى حذائه البني اللامع, أليكساندر! هل يعرف ماذا يفعل لها! هل يدرك مقدار الألم الذي بثه في قلبها! هل يعي حجم الإهانة والمذلة التي جعلها تتذوقها! لماذا يكون عذابها في الرجل الذي تحبه! جرت في هذه اللحظة دموعها القهر على وجنتيها, مدت يديها لتمساحها, غير أن هنالك إبهامين وصلا قبل أصابعها.
انزعج من هدوئها, وقف قليلا, ثم تقدم منها, وأحاط وجهها المنكس بيديه, ومسح بإبهاميه وجنتيها, إصبعيه تبللا فلماذا إذن يشعر بأنهما تحترقان! زفر باستياء وهو يرفع وجهها إليه, لتقابل عيناها عينيه. نظرت إلى عينيه, أرادته أن يبتعد عنها, أن يخرج ويتركها, لا تريد رؤيته أو سماع صوته, لقد طفح الكيل, لم تعد تستطيع الاحتمال. للأسف رأى كل ما جالت به نفسها وهو ينظر إليها, ابتسم ابتسامة ألم مرير, وقال بصوت أجش "ليحدث ما يحدث, لكني لن أفرط بكِ أبدا" ثم اقترب منها وقبل وجنتها بكل نعومة وهو يهمس "أحبكِ" ثم أضاف باعتراف "لطالما أحببتكِ يا مايا" لينسحب بعد ذلك من الغرفة بهدوء.