الفصل السادس: العشاء

" اختياره لذلك المطعم يدل على أنه رجل غني أليس كذلك ؟" قالت مايا وهي تقود سيارتها بين طرقات المدينة .
" لا أعلم ولكنه بالفعل بدا كرجل غني "
" هل نحن حقا مضطرين لتناول العشاء معه ؟"
تنهدت نينا بملل " ما الأمر الآن ماما ؟"
" لا أعرف, ولكني مازلت أعتقد أنكِ لم تخبريني كل شيء "
هتفت نينا بنفاذ صبر " أقسم أنني لم أخفِ شيئا عنك, وسأعيد لك ما حدث من جديد, عندما كنت في المقهى كنت أقوم بالتعديلات على بعض رسومات أزياء كانت معي, وكان هنالك رجل في الطاولة المجاورة لي, فاقترب مني واستأذن أن يرى رسوماتي, فسمحت له, فأعجب بتصاميمي وأخبرني - في حال كنت مهتمة - أنه يعرف المصممة العالمية سونيا معرفة شخصية وأنه سيعرفني بها, وافقتُ بالطبع, ولكنه قال أنه يريد أفضل تصاميمي حتى يعطيها لسونيا, ولذا سيكون سعيدا لو قبلت دعوته اليوم على العشاء وأحضرت له التصاميم, ثم يبدو أنه لاحظ أنني صغيرة لأنه أضاف " بالتأكيد ستحضرين معك أحدا من عائلتك " فأجبته أني سأحضر ماما "
تنهدت مايا وهي تنعطف بالسيارة قائلة "أنا متأكدة أنه لم يكن ليعرض عليكِ ذلك لو كنتِ قبيحة "
"أوه مستحيل! إنه رجل كبير جدا علي "
" لقد أعجب بك كريك وهو كبير "


" كريك ليس كبير جدا, أما ذلك الرجل فهو بالفعل كبير علي, أنا متأكدة أنه في الأربعينيات"
" سوف نعرف الحقيقة الآن, فقد وصلنا " ثم أوقفت سيارتها في أحد مواقف المطعم, فتحت نينا الباب وهمت بالخروج لولا أن مايا وضعت يدها على ذراعها تمنعها من الخروج قائلة " نينا سوف تكونين مهذبة في الداخل "
ردت نينا بشك " هل سبق أن شعرتِ بالحرج مني ؟"
" لا تكوني سخيفة كل ما في الأمر أنني أريدكِ أن تكوني حذرة, على الأقل حتى أعرف نوايا الرجل"
خرجتا من السيارة واتجهتا إلى المطعم حيث استقبلهما نادل بدا أن الرجل أخبره عنهما, أخذ منهما معطفيهما ثم قادهما إلى الطاولة في طرف المطعم, حيث تلقت مايا أكبر صدمة في حياتها, فالرجل الذي قابلته نينا والذي دعاهما للعشاء هو فريدريك عدوها اللدود.
يبدو أن صدمة فريدريك من رؤيتها قد وازت صدمتها, فقد وقف مذهولا أمامها, إلا أنه تمالك نفسه وحيا نينا بكل احترام وأجلسها, ثم قال مخاطبا مايا محاولا أن يبدو صوته طبيعيا " مرحبا عزيزتي, لقد مر وقت طويل لدرجة أني لا أتذكر آخر مرة رأيتكِ فيها "
دهشت نينا من معرفة الرجل لمايا فسألت " هل تعرفينه ماما ؟"
أجابت مايا بجمود وهي مازلت تحدق فيه " للأسف نعم, وسأكون ممتنة لكِ لو غادرنا الآن "
صاحت نينا بحسرة " ولكنها سونيا "
" سوف نجد طرق أخرى لمقابلتها "
مايا تقف الآن أمامه, إنه لا يصدق ذلك, لقد عرف أنها في المدينة منذ شهر تقريبا, فأليكس أخبره بذلك, ولكنه لم يكن يتوقع أبدا أن تأتي إليه يوما وبملء إرادتها, حسنا بالتأكيد هي لم تكن تعرف من هو, ولكن هذا لا يهم, المهم أنها موجودة, ولذا عليه أن يستغل هذه الفرصة ويحاول أن يعيد المياه إلى مجاريها معها, وبالتأكيد سيكون أحمقا لو تركها تذهب دون أن يحاول على الأقل, وهذا ما سيفعله. جلس بهدوء وقال " أشك بأنك ستجدين طريقا آخر لمقابلتها, ذلك لأن اتصال واحد مني الآن إلى سونيا, أطلب فيه ألا تقابل هذه الفتاة, سيجعلها لا تقبلها أبدا حتى لو صعدت إلى القمر, أنا أقسم بذلك "
هتفت نينا برجاء " أرجوكِ ماما! أنا لا أعرف ما الأمر, ولكن مهما كان أعتقد أنه لا يستحق أن تحرميني من هذه الفرصة. أرجوك! سيكون هذا آخر طلب أطلبه منكِ "
فريدريك يحصل على ما يريد, الآن تذكرت هذه العبارة التي كانت دائما تسمع والدها يرددها. سحبت كرسيا وجلست صامته ففريدريك مازال يحصل على ما يريد.


دخل المطعم وهو يلهث, يعرف أنه تأخر, ولكن ما الذي كان يستطيع فعله, فوالده عاد اليوم من السفر وغدا صباحا لديه رحلة, لذا كان يجب أن يبقى معه قليلا فهو لم يره منذ أسبوع, يا لها من معضلة, إنه إلى الآن مازال يتساءل كيف وافقت أمه على الزواج من طيار. رأى خاله, ولكنه توقف قبل أن يتجه إلى طاولته لأنه صُدم من ضيوفه, لقد أخبره فريدريك أنه دعا فتاة - تحب الأزياء وتريد مقابلة سونيا – وأمها, فلماذا يرى الآن مايا وابنتها الصهباء المزعومة, تنفس بعمق, الطريقة الوحيدة لفهم ذلك هي الذهاب إليهم.
اقترب الطاولة محاولا ألا يلفت إليه الانتباه, ولكن نينا رأته فسألته بوقاحة " ماذا تفعل هنا ؟"
ابتسم ووصل إليهم وجلس, وقبل أن يتكلم, قال فريدريك ضاحكا " أنا من طلب منه الحضور, لأنني ظننتُ أنه يجب وجود شخص رابع معنا, فأنا لن أستطيع التحدث مع اثنتين في نفس الوقت, ولكني الآن أعتقد أن وجوده غير ضروري لأنه وكما هو واضح إحدى ضيفاتي لن تتحدث معي مطلقا "
أثناء حديث فريدريك, كان أليكس ينظر إلى مايا التي بدا أنها ليست معهم, فهي حتى لم تعطه أي نظرة, لاحظ أن عينيها فقدت بريقها الحاد, و أصبحت كبحر أخضر بعيد لا سواحل له.


ابتسم أليكس لما انتفضت مايا عندما سأل النادل الذي كان واقفا خلفها عن طلبهم, لقد أفزعها بالتأكيد.
قال فريدريك مبتهجا " والآن سيداتي سادتي اطلبوا ما تشاءون, ولنبدأ بمايا "
تمتمت مايا باحتقار " أنت لا تعتقد حقا أنني سأقبل عشاءا منك, صحيح ؟"
فرد أليكس بسرعة مانعا خاله من الكلام " بالتأكيد. ولذا ستنتقل دعوة العشاء من خالي إليّ أنا, ولأنني من سيدفع الحساب سأدع لنفسي حرية اختيار الطعام لكم" ثم خاطب النادل " سنطلب الطبق المقترح لهذه الليلة. شكرا "
انصرف النادل بهدوء وهو يتساءل إن كان أصحاب تلك الطاولة بكامل عقولهم.
أخذ أليكس يتأمل فستان نينا الأسود المخملي القصير الذي تناسق بروعة مع شعرها الأحمر المرفوع والذي أبرز لون عدساتها الفضية, إن كريك محق عندما فتن بها, انتقل بعده إلى مايا صاحبة الفستان الأبيض البسيط الناعم الذي زاده فتنه شعرها المنسدل إلى كتفيها, ثم قال " أنتما تبدوان رائعتين جدا, وقد زادكما الضدين الأسود والأبيض فتنة "
ردت نينا بفرح " شكرا لك, لقد كنت أعلم ... "
" يا لها من مصادفة, لقد كنتُ أتناول العشاء مع والديّ عندما شاهدتكم " قاطعهم بوب وقد سحب كرسيا من طاولة أخرى وجلس بجانب أليكس. ثم قال مخاطبا نينا "كيف حال الابنة الجميلة ؟"
فقال فريدريك بشك " هاي .. لا تقولا لي أنكما صدّقتُما أن نينا هي ابنة مايا "
أجاب أليكس بهدوء " لقد راهنتُ ظهيرة هذا اليوم بما أملك بأنها ليست ابنتها "
قال فريدريك مبتسما, بينما قدم النادل أطباق العشاء لهم " أنت ذكي كخالك, حسنا هل تعرفون من تكون ؟ "
رد بوب "غير أنها ابنتها, لا "
قضم فريدريك قطعة من اللحم, وقال " إنها أخت مادلين غير الشقيقة, بعبارة أخرى إنها أخت أم مايا, بعبارة ثالثة إنها ابنة جد مايا, بعبارة رابعة إنها خالة مايا "
دهشة أليكس وبوب لم تكن كدهشة نينا التي سألت بلهفة " كيف تعرف كل ذلك وأنا حتى لا أعرف اسمك ؟"
" حقا الآن تريدين معرفة اسمي, ألا تعتقدين أنك تأخرتِ قليلا "
"تأخرت! ماذا تقصد ؟"
نظرت مايا إلى فريدريك وقد علتها المفاجئة من أسلوبه الغاصب حين أكمل يخاطب نينا " تسمحين لرجل غريب أن يجلس معك ويشاهد ما تفعلين, تخبرينه باسمك, لا تسألينه من يكون أو على الأقل ما اسمه, والأدهى والأمر أنكِ لا تمانعين الخروج معه " ثم التفت إلى مايا قائلا " هل تعلمين أنها طلبت مني أن آخذها إلى سونيا في ذلك الوقت, لم تكن تمانع أن تركب سيارة رجل لا تعرف اسمه حتى ؟"
" فريدريك " همس أليكس طالبا منه التوقف عن الكلام, فبالرغم أن وجه مايا لم يظهر أي انفعال, إلا أن نينا قد شحب وجهها, وبدأت شفتاها ترتجفان.


لم يلتفت فريدريك لأليكس, بل أكمل " ماذا لو كنتُ كاذبا؟ إنها آية في الجمال فماذا لو كنت أكذب عليها لكي أختطفها وأؤذيها؟"
بوب لا يفهم شيئا مما يجري, كيف أصبح الجو هكذا, هو يعرف خال أليكس, إنه رجل رائع فما الذي حدث له؟ لماذا يوبخ الفتاة بهذه الطريقة القاسية؟ أراد أن يقول أي شيء ليغير مجرى الحديث لكنه لم يستطع لأن فريدريك مازال يخاطب نينا قائلا " أتعلمين لماذا طلبتُ منكِ أن تحضري معك أحد من عائلتك, لأنني أردت أن يعرفوا كم أنت فتاة أنانية ساذجة لا تفكر مرتين, بل لا تفكر أبدا عندما يتعلق الأمر بإشباع حاجة لها, أردت أن تعرف عائلتك حقيقتك"
أغمضت مايا عينيها عندما شعرت بأصابع نينا الباردة المرتجفة تطبق على يدها من تحت الطاولة, إذن فقد نجح فريدريك في تحطيم ابنتها دون أن يدرك أنها أكثر وترا حساس لديها, بالتأكيد لن تدعه يذهب دون أن يدفع ثمن ذلك. سمعت نينا تقول بصوت منخفض " لنذهب إلى البيت "
ردت مايا بابتسامة " أنا آسفة عزيزتي, لم يعد هذا الاقتراح متاحا الآن, خصوصا وأنا أشعر برغبة في الحديث, كما أن السهرة مازالت في أولها ", ثم خاطبت بوب " هل تعرف أبي يا بوب ؟"
" لا. ولكنني أعرف أنه كان ضابطا في وحدة المخدرات مع فريدريك "
" هل تعرف من قتله ؟"
أجاب بوب مترددا " تاجر المخدرات مادوف, ولكن لا يوجد دليل على ذلك "
قالت بثقة " بالتأكيد لن يكون هنالك دليل, فمادوف رجل أعمال ذكي لا يلطخ يديه في وضح النهار " صمتت قليلا ثم أضافت وهي تنظر لفريدريك " حسنا بوب أنا متأكدة أنك لا تعرف تفاصيل الليلة التي قتل في أبي, أليس كذلك ؟"
ضغط أليكس على جبهته بقوة, أنه يعرف ماذا ستقول, ولكن لماذا؟ عليه أن يعترف أنه لا يفهم كيف يفكر عقل هذه المرأة, سمع بوب يجيبها " لا, لا أعرف "
ابتسمت بمكر "لحسن حظك, هنالك شخص بيننا يعرف كل التفاصيل لأنه كان هنالك تلك الليلة, أليس كذلك يا فريدريك؟ إذن لماذا لا تحكي لنا ما حصل؟ ولتعلم أنني أريد الحقيقة وليس الكذب الذي ذكرته تقريرك في ملف القضية"
نهض فريدريك بقوة وقد اسود وجهه من الغضب, فخاطبته مايا " كن رجلا يا فريدريك واجلس مكانك, قبل قليل أسمعتَ فتاة أصغر منك بمرتين كلاما بشعا, ومع ذلك كانت قوية لتسمعك حتى النهاية, لذا ولأنني أعرف أنك لست رجلا فإنني سأطلب منك أن تكون فتاة مثلها وتجلس "
قال فريدريك بصوت أبح وهو يعاود الجلوس دون أن يبالي بإهانتها " لقد كان مقتل والدك خطأ تقني "
أحكمت مايا قبضتها تحت الطاولة, واحمرت عيناها, ثم قالت من بين أسنانها " كيف تواتيك الجرأة على أن تقول هذا الكذب أمامي "
شتم بوب نفسه في داخله على فضوله وقدومه إليهم, ثم وكز ألكس برفق وسأله بصوت منخفض " هاي ما الذي يحدث ؟"
فرد فريدريك وقد بدا أنه بحاجة إلى الكلام " لقد كانت المعلومات التي وصلتنا تفيد أن هنالك بضاعة ستصل إلى الميناء وأن مادوف وثلاثة رجال فقط سيستلمونها, لذا رأينا أنا و فآن – والدها – أنه لا داعي لإحضار دعم لأننا لم نرد أن يشعر مادوف بشيء خصوصا أنها المرة الأولى التي يستلم فيها بضاعة مخدرات بنفسه. المهم كانت مهمة فآن القبض على مادوف أو تصويره أو حتى إحضار أي دليل على أنه متورط بالمخدرات, وكانت مهمتي أنا حماية ظهره وتبليغه إن حصل أي شيء عن طريق سماعة التي كان يرتديها" ابتلع ريقه بصعوبة بالغة أثرت في أليكس ثم أكمل " للأسف الأمر الذي كنا نجهله هو أن كل شيء في ذلك اليوم كان من تخطيط مادوف, فهو من سرب إلينا تلك المعلومات حتى نقع في شركه, وبالفعل وقعنا. لقد رأيت مادوف على سطح أحد المباني يصوب بندقة قنص باتجاه فآن أثناء تفقده أحد المستودعات, فــ ... فحاولت تنبيهه عن طريق السماعة, ولكن يبدو أن السماعة قد كانت معطلة لأنه لم يسمعني, حاولت أن أناديه مرارا لكن دون فائدة, فبدأت أركض مسرعا إلى موقعه ولكني كنـ ... كنت متأخرا جدا ... لقد قتله مادوف "


قالت مايا بصوت بارد " لقد نسيت أهم جزء, وهو أنك كنت مشتركا في مخطط مادوف, لأن تقرير فحص السماعة يقول أنها سليمة مائة ... "
صرخ فريدريك واقفا " اخرسي ... أنا أعرف ذلك, وهذا هو ما يزيد ألمي, لماذا تتوقف سماعة عن العمل عند كان حيا ؟ ولماذا تعود للعمل عندما يموت ؟ "
ضحكت مايا بقهر وهي تقول بصوت عالي " هذا لأنك تكذب, هذا لأنك لم تحذره, هذا لأنك أردته أن يموت "
لأن فريدريك كان واقفا لم يكن يحتاج سوى أن يمد يده ليصفعها صفعة قوية, كان من حولهم في الطاولات الأخرى قد توقف عن الطعام منذ بدأت أصواتهم ترتفع, ولكن صوت الصفعة التي تردد صداها في الأرجاء جعل شهقاتهم تعلو والتي بدورها أربكت فريدريك فخرج بغضب دون أن يقول شيئا.



بعد أن مرت دقيقة صمت على الجميع قالت مايا بصوت أجش " ألديك قلم يا بوب ؟"
بشكل لا إرادي مد بوب يده إلى جيب سترته وأخرج قلما وناولها إياه. أخذت منديلا ورقيا من الطاولة وكتبت عليه قليلا, ثم أعطته المنديل والقلم وقالت " أريدك أن توصل نينا إلى المنزل, لقد كتبت لك العنوان "
أخذ بوب الورقة والقلم وهو يتمتم " بالتأكيد "
احتجت نينا وهي ترتجف من الداخل من أحداث هذا العشاء " سأبقى معكِ "
فابتسمت مايا لها ابتسامة باردة وقالت " لن أتأخر فقط أريد أن أبقى وحدي قليلا. اذهبا "
نهض بوب وساعد نينا على النهوض ثم سارا إلى الخارج, قامت مايا بعد رحيلهما وقالت لأليكس دون أن تنظر إليه " شكرا على العشاء ألكساندر " ثم خرجت.
راقبها ألكس إلى أن اختفت عن مجال رؤيته, ثم نظر إلى أطباق العشاء الأربعة التي بالكاد مُسّت, وقال " لا شكر على واجب ".



إعدادات القراءة


لون الخلفية