كم مر من الوقت حتى الآن! عشرون دقيقة! ثلاثون! خمس وأربعون! كيف فقدت الإحساس بالزمن هكذا! بل كيف لا تفقده وهي في هذا الوضع! فقاتل أبوها يحتجز صديقه كرهينة ويطلبها فدية له، وحبيبها يقيدها بالأصفاد ويودعها بقوله أحبكِ وكأنه يتوقع موته في هذه المناورة، وهي تجلس هنا بعيدا عن قلب الحدث. لا! لن تبقى هنا للحظة أخرى.
رفعت مايا يدها اليمنى تنظر إلى الأصفاد، هنالك احتمالين للتحرر منها، الاحتمال الأول، فتح الأصفاد أو كسرها، وهذا احتمال فاشل حيث أنها لا تملك أي شيء حولها لاستخدامه لفكها أو كسرها. الاحتمال الثاني، نزع القضيب الحديدي للنافذة والتي أحاطت إحدى أطراف الأصفاد به، وهذا أيضا احتمال فاشل، فقد حاولت بكل قوتها زحزحة القضيب لكنها لم تنجح.
ماذا الآن؟ هل تستسلم؟ آه لو استطاعت الاحتفاظ بالسكين, لكانت تحررت الآن, ولكن ماذا كانت تستطيع أن تفعل! لقد كاد أليكس أن يكسر ذراعاها لو لم تترك السكـ ... توقفت عن التفكير فجأة، ثم أخذت تنظر إلى يدها المقيدة، فلمعت عيناها بفكرة، نعم، هذه هي، الكسر! كسرُ يدها اليمنى، أو بمعنى أدق كسرُ أحد عظام رسغها والواقعة أسفل إبهامها، حينها ستخرج يدها من الأصفاد بكل سهولة، إنها طريقة ناجحة، فهي تذكر أن أحد المجرمين قام بالتخلص من أصفاده بهذه الطريقة عندما كانت في وحدة جرائم القتل، لكن هذه مجازفة كبيرة، فبالإضافة إلى الألم الفظيع التي ستشعر به، هنالك احتمال كبير أن يتضاعف الكسر، ولا يلتأم أبدا حتى لو تم تجبيره. لا! لا يجب عليها أن تفكر فيما بعد في حين أن أصدقائها يموتون في هذه اللحظة، لا مشكلة حتى لو لم يلتأم الكسر مستقبلا،
فبماذا ستفيدها يد سلمية بدون أليكساندر!
قبضت يسراها على يمناها، وثبتت إبهام يدها اليسرى على العظمة التي تريد كسرها في رسغها و... توقفت لحظة! أغمضت عينيها بقوة، ليس بسبب خوفها من الألم أو من احتمالية عدم شفائها، بل لأنها تعرف أنها ستفقد امتياز يدها اليمنى في المعركة، صحيح أنها تجيد التصويب بيدها اليسرى، ولكن ليست بدقة ومهارة يمناها، لتأمل ألا تكون هذه نقطة حرجة في الميدان. تنهدت ببطء، ثم وبحركة سريعة ضغطت بإبهامها بكل قوتها، فدوت صرخة ألم عالية من بين شفتيها.
وقفت في بداية السلالم المظلمة للمبنى الذي يستخدمه مادوف، تمسك بسلاحها بيدها اليسرى، وتلف حزام معطفها حول يدها اليمنى في محاولة منها لتثبيت العظمة المكسورة ولتخفيف الألم الذي يطغى عليها. أين تذهب الآن؟ هل تبحث في الدور الأرضي؟ أم تصعد إلى الأعلى؟ أين يمكن أن يكونوا؟ ولماذا الأجواء هادئة هكذا؟ هل قضى عليهم مادوف؟ لا! لا يجب أن تفكر هكذا. ستبدأ من الدور الأرضي، فعلى أية حال، قد تحاصَر في الأعلى فلا تستطيع الخروج.
مشت ببطء في رواق طويل، رأت رجلين على الأرض، بدا أنهما ميتين، رائع هذه علامة مبشرة، استمرت في المشي بحذر، حتى لاحظت من بعيد أقدام رجل ممدة عند باب غرفة مفتوحة، توقفت، فهي لا تعرف إن كان هنالك أحد في تلك الغرفة، كما أنها لا تعرف إن كان ذلك الرجل صاحب الأقدام ميت أو لا. سيكون ذهابها إلى الغرفة مجازفة قوية، ولكن للمرة الثانية تتذكر مقولة والدها، لا طعم للحياة دون مجازفة. التصقت بالحائط، وبدأت تسير بهدوء حتى وصلت إلى جوار الباب، ثم وبكل خفة، التفتت داخل الغرفة، رافعة مسدسها.
لم تجد أحدا في الغرفة، كانت خالية تماما، صوبت سلاحها للأسفل نحو الرجل صاحب الأقدام الممدودة، لتفاجئ أنه ليس أحد إلا برنارد. تأوهت وهي تنحني إليه بسرعة، كان يأن بضعف وهو شبه فاقد للوعي، نظرت إلى موضع يده الحمراء التي كانت تغطي جرح، أبعدت يده ببطء، ورفعت قميصه لترى الدماء تملأ جسده، لم تستطع أن تحدد موضع الإصابة، فتحسست بيدها حتى وصلت إلى ثقب رصاصة عند أسفل قفصه الصدري، تأوهت ولكن بارتياح هذه المرة، فموقع الرصاصة يدل أنها لم تصب أيا من أعضائه الحيوية. رفعت يدها المضجَّرة بدمائه إلى وجهه، وأخذت تربت على وجنته بخفة، وهي تهمس "برنارد! أفق! هيا! أنت بخير، إياك أن تستسلم وتنام، هيا! انظر إلي" لم يشعر بها، الأمر الذي جعل الربتات الخفيفة ليدها تتحول إلى صفعات قوية مرتجفة، هي لن تفقده أبدا.
أنّ برنارد بقوة، وبدأ يفتح عينيه ببطء، ليرى صورة مشوشة لمايا بعينيها الخضراء الدامعتين، بدأ يتمتم بكلام يصعب فهمه "عرفتُ أنكِ قادمة، أخبرته أنكِ متمردة"
ابتسمت له وهي تبتلع غصة ألم ، وقالت بصوت متحشرج "أنت أيضا ستكون متمرد على إصابتك، ستكون بخير، فقط ابقَ معي"
قال بضعف شديد "اذهبي إليه! اتركيني! لقد قال أنه سيأتي إلي قريبا، لكن يبدو أن مادوف قبض عليه"
برنارد محق، قد يكون أليكساندر في خطر، لكنها لا تستطيع ترك برنارد وحده، فهو يحتاج لإيقاف النزيف، ولإبقائه في حالة وعي، كما أنها لا تـ ... سمعت حركة خلفها، وضعت يدها على المسدس وقفزت ملتفتة مصوبة سلاحها على رجل ضخم، أراد أن ينتزع مسدسه، لكن مايا صرخت "توقف! ارفع يديك عاليا! واركع على ركبتيك" فنظر إليها الرجل ورفع يديه فوق رأسه ثم خر على ركبتيه.
"توقفِ" هتف صوت من جهة الباب.
نظرت إلى الباب لتجد رجلا آخر يقف هناك، مصوبا مسدسه إلى رأس فريدريك الذي كان يقف بجواره مقيدا. قال الرجل "ألقِ سلاحك وإلا قتلتُ فريدريك" ثم خاطب الضخم "قف وتعال إلى هنا يا آدم"
أراد الضخم أن يقف إلا أن مايا قالت بنبرة آمرة "لا تتحرك" ثم التفتت إلى الرجل بجوار فريدريك قائلة بعجرفة "وأنت يا سيد، هنالك معلومة سأكون أكثر من سعيدة بإيضاحها لك، وهو أن فريدريك هذا الذي تهددني به هو الذي قتل أبي ، لذا أنا لا أمانع أبدا بأن تقتله، والآن إن كنت تهتم بحياة هذا الضخم آدم فألقِ سلاحك فورا"
اضطرب الرجل، وأخذ ينظر إلى رفيقه بقلق. عرفت مايا أنها تمكنت منه، فهتفت بحدة "ألقِ سلاحك الآن"
ترك الرجل فريدريك، وانحنى واضعا سلاحه على الأرض، إلا أنه لم يستطع أن يعتدل من انحنائه، ذلك أن مايا اخترقت رأسه برصاصة، اتبعتها برصاصة أخرى استقرت في قلب صديقه آدم، وهي تقول بحزم "لا مكان لحثالة مادوف في هذه الحياة"
سمعت فريدريك يقول بلا مبالاة "لو نظر إلى عينيكِ لأدرك أنكِ ستقتلينهما"
نظرت إليه قائلة "سعيدة برؤيتك بخير، مع أني لا أعتقد أنك كذلك، صدقني أحب أن طمئن عليك، لكني مشغولة بإنقاذ ابن أختك الأحمق. المهم انزع قميص أحدهما واضغط به على جرح برنارد وحاول إبقاءه مسـ ..."
قاطعها فريدريك باستياء "أنتِ حقا لا تقصدين أن تعلميني كيف أعتني برجل مصاب"
لاحت على شفتيها شبه ابتسامه وهي تقول "حسنا، ابحث عن هاتف معهما، واتصل بالشرطة والإسعاف، وكن حذرا و..."
صرخ فريدريك "توقفي عن تعليمي، واذهبِ لأليكس"
ابتسمت له وهي تغادر مسرعة.
في الدور العلوي، حيث يعم الظلام، على بعد مترين من غرفة واسعة، رأت أليكساندر يقف بجمود، بينما يواجهه مادوف، عرفت من رؤية ملامحهما، أن أليكس وقع في قبضة مادوف. فجأة وبدون أن تدرك، خرج رجل من الغرفة، ونظر باتجاهها، أراد أن يصوب باتجاهها، أن يفتح فمه، لكن مايا لم تمهله، إذا أطلقت رصاصة في جبينه.
صوت إطلاق النار جذب انتباه أصحاب الغرفة، إذ صرخ مادوف "من هناك؟ جاك ما الذي حدث؟"
لم ترد عليه, الأمر الذي دفعه لأن يقول بصوت حاد "اخرج أيا كنت وإلا قتلت أليكساندر، جاك تكلم!"
زفرت مايا بضيق، لطالما كان مادوف ذكيا، ثم قالت بصوت عالي "أخشى أن جاك لا يستطيع إجابتك" ثم بكل بطء تقدمت حتى دخلت الغرفة، مكملة بسخرية "لقد زينتُ جبينه برصاصة، تماما كما فعلتُ مع سام، أرجو ألا تمانع بذلك"
كز مادوف على أسنانه، ثم ابتسم قائلا "يا للمفاجأة السارة، فبدلا من قتل ثلاثة، سيُقتل أربعة، حسنا لقد قتُل صديقكم بالفعل" ثم أضاف " أنتِ وأليكساندر وفريدريك في يوم واحد، هذا أكثر من المتوقع، فلننتظر حتى يحضر رجالي فريدريك أولا"
نظرت مايا في الأنحاء، كان هنالك أربعة رجال صرعى على الأرض، يبدو أن أليكس قد تخلص منهم، عمل رائع، كما رأت رجلا في أقصى الغرفة مصوبا بندقيته باتجاه أليكس الذي لم يلتفت إليها أبدا. أعادت نظرها إلى مادوف قائلة بتعجب مصطنع "رجالك! هل يعقل أنك لا تعرف أنني قتلتهم، وأنني حررت فريدريك، وبالنسبة لصديقنا الرابع فاسمه برنارد، وأحب أن أخبرك أنه بخير تماما، للأسف لن يموت، أمر أخير لقد اتصل فريدريك بالشرطة"
انعقد لسان مادوف، وجحظت عيناه، ثم تقدم منها وهوى بيده صافعا إياها بقوة. رفعت مايا رأسها إليه، وقالت ببرود "يا للعار! أتعلم أن صفعة أمي كانت أقوى من صفعتك"
أراد أن يضربها ثانية، لكنه توقف عندما سمع أليكس يضحك بخفة. انتفخت أوداجه من الغضب، وهو يقول بصوت كالفحيح "أنتما تستمعان بإغاظتي إذن أيها العاشقان، إذن لنزد جرعة المتعة. الآن أيتها الحقيرة ستقومين بقتل حبيبك، أو سيقتله رجلي، أنا أفضل أن تقتليه أنتِ، فموته على يد أعدائه هي إهانة له ما بعدها إهانة"
أخذت مايا تنظر إليه، فهتف "صوبي سلاحكِ نحوه الآن"
لم تتحرك مايا، فقال مخاطبا رجله "اقتله إذن"
"لحظة" قالت مايا، ثم رفعت مسدسها باتجاه رأس أليكس.
قال مادوف ضاحكا "هذا أفضل, والآن قومي بقتله, وانتبهي فأيا ما تخططين له لن ينجح، ذلك أن رجلي سيطلق على رأس أليكساندر بعد أن تطلقِ رصاصتك، أيا أنكِ لو حاولت قتلي، فسيموت أليكساندر فوار"
تنفست مايا بعمق، حسنا، هذه هي الأزمة فعلا، فمحاولة قتل مادوف أمر غير وارد، لأنه كما قال سيقوم هذا الأبله بقتل أليكساندر، أيضا لن تستطيع إطلاق النار على الرجل، فهي تحتاج إلى السرعة لتحويل مسدسها من أليكساندر إلى الرجل ومن ثم التصويب مباشرة، ويدها اليسرى ليس باستطاعتها فعل ذلك، وحتى لو فعلت ذلك، هي ليست متأكدة من قدرة يدها على قتله بطلقة واحدة في كل تلك السرعة... سمعت مادوف يصرخ "هيا اطرحيه أرضا"
أجل! طرحه أرضا، هذا ما يجب عليها فعله، أن تجعله يسقط فيتفادى رصاصة الرجل ذلك أن البندقية مصوبة على رأسه، حينها تضرب ضربتها. قالت بجمود "سأقتله" ثم في لمح البصر أخفضت مسدسها إلى ساقه، وأطلقت رصاصة، فصرخ أليكس متهاويا على الأرض. انطلقت بعد ذلك رصاصة الرجل، لكنها أخطأت أليكس الذي كان ساقطا على الأرض، أصابت مايا حينها الرجل قبل أن يتمكن من إطلاق رصاصته الثانية، فخر صريعا.
انتهى الأمر الآن، لكن ماذا عن مادوف! التفتت خلفها، لكنها لم تره، فقط سمعت صوت خطواته الراكضة، استدارت إلى أليكس المتألم قائلة باستمتاع "انهض واتبعنا، لا تدع التشويق يفوتك" ثم ركضت لاحقة مادوف.
"مادوف!"
صرخة مايا أجبرته على التوقف، التفت إليها بحذر، وقال بيأس "تبا، أنتِ سريعة جدا"
أجابت مايا وهي تصوب مسدسها باتجاهه "مطاردة الحمقى أمثالك جعلتني سريعة، ولكن لدي سؤال ماذا كنت تفكر بصعودك هنا إلى سطح البناية، هل ستطير الآن؟"
قال بقوة "هيا! اقتليني!"
ردت ساخرة "أوه صدقني هذا ما سأفعله، أفضل أن تغمض عينك حينها سيكون الألم أقل"
مرت لحظة، تبعتها لحظة، ثم لحظات، لكن مايا لم تطلق أبدا، بل ظلت تنظر دون أن ترمش أبدا أو تحيد عنه، أخيرا رفعت مسدسها إلى الأعلى، كما رفعت يدها اليمنى الملفوفة علامة على الاستسلام، وقالت بنبرة غريبة "غيرتُ رأي، أنا لن أقتلك"
حملق مادوف فيها بذهول، فأكملت بشبه ابتسامة "قتلك يعني خسارتي للأسف، وانتصار الانتقام الذي استولى علي، وأنا لا أريد ذلك. أتعرف كم أحال الانتقام حياتي إلى جحيم! أتعرف كم شخصا أحبه آذيته أو تأذى بسبب سعيي للانتقام! أتعرف كم خسرت نتيجة للانتقام!" ثم أضافت بتصميم "الآن سأقتل هذا الانتقام، وسأسلمك إلى القانون لتحاكم على ما اقترفت يداك"
تكلم مادوف قائلا "تعرفين أنني سأهرب من السجن"
فأجابت مايا ببساطة "حينها سأقبض عليك مرة ثانية"
قال مادوف بعد صمت "في الحقيقة أنتِ لن تستطيعِ فعل ذلك، أنا مجرد رجل أعمال بريء في نظر القانون، لطالما كنت رجلا حذرا"
سمعت مايا صوت أليكس البارد يقول من ورائه "للأسف لم تعد كذلك"
فرد عليه مادوف "إن كنت تقصد اختطاف فريدريك، فمحامٍ لامع يستطيع تخليصي من ذلك، وفي أسوأ الأحوال أخرج بكفالة"
ابتسم أليكس قائلا بهدوء "أنا لا أقصد اختطاف فريدريك، بل أقصد شحنة المخدرات التي استلمتها البارحة"
شهق مادوف بصدمة، في حين أكمل أليكس "نعم، لقد كنتُ هناك، ولقد استطعت بمساعدة مصور بارع أخذ صور لك وتسجيل مقاطع وأنت تستلم البضاعة، كنت متأكدا أنك ستكون موجودا، فالعادات القديمة لا تموت، أنت مازلت تحب أن تكون حاضرا وقت استلام البضاعة"
زمجر مادوف قائلا "كيف استطعت معرفة ذلك؟"
أجابه أليكس بصراحة "في اليوم ذاته التي قتلتْ مايا فيه سام العزيز، لقد كانوا رجالك غير حذرين وهم يتحدثون عن البضاعة في الشارع، أنصحك أن تعلمهم الحذر في المرة القادمة" ثم أضاف بسخرية "أوه نسيت أنه لم يعد لديك رجال، فقد قتلناهم جمعا"
هتف مادوف "سأقتلك حتما"
فقال أليكس ببراءة "آسف إن أغضبتك ولكني لم أكن لأجعل تضحية فآن تزول هباء"
لم تستطع مايا منع نفسها من الالتفات إلى أليكس، كان يجلس متكأ على الباب، والتعب بادٍ على وجهه، ابتسمت له برقة، ثم استدارت لمادوف لتجده يخرج مسدسا من سترته ويرفعه باتجاه أليكس وهو يغمغم "ستموت أيها السافل"
دون أن تأمره بالتوقف، دون أن تحذر أليكس، بل دون أن تتأخر للحظة، رفعت مسدسها نحو مادوف، وبالتتابع أطلقت الرصاصة الأولى الثانية الثالثة الرابعة وأخيرا الخامسة. رأته وهو يخر ساقطا على وجهه، فاقدا حياته، متحولا إلى جثة هامدة، وقالت ببرود وهي تنظر إلى الجسد الممد "عذرا ولكني لا أرضَ أن يُنعتَ بالسافل"
أخرجها من تأملها لجثة مادوف صوت أليكس القائل بمرح "خمس رصاصات ها! أتعلمين أن أول شيء سأقوم به فور عودتي للعمل، هو رفع تقرير أطالب فيه بسحب سلاحك منكِ، فالحقيقة هي أن حملك للمسدس خطر على المجتمع"
اقتربت منه مايا قائلة بنعومة "مازلت لدي رصاصة واحدة، لذا اخرس قبل أن أفجر رأسك"
في هذه اللحظة، سمعا أصوات صفارات الشرطة والإسعاف، ضحك أليكس قائلا "كالعادة لا يصلون إلا عند انتهاء المعركة" ثم رفع يده لها هامسا "ساعديني على الوقوف" فمدت مايا يدها متناولة يده بكل حب.
فتحت مايا باب الغرفة بعنف، فتأكدت شكوكها، نينا صغيرتها كانت هناك تضحك مع أليكس المستلقي على سرير أبيض في إحدى غرف المستشفى، فقالت مايا بغضب "أنا بالفعل لا أصدق، أيتها الجاحدة الصغيرة، أبدلا من البحث عني ورؤيتي، تذهبين فورا لزيارته هو بالذات فور عودتك من المطار"
قال أليكس عاقدا حاجبيه "ماذا تقصدين بهو بالذات؟"
ضحكت نينا وهي تقترب من مايا قائلة "آسفة، لقد كنت بالفعل في طريقي إليكِ" ثم وقفت على أطراف أصابعها مطوقة عنق مايا بذراعيها.
حضنتها مايا بقوة وهي تنحني عليها, وتهمس لها "اشتقت إليك أيتها الحمراء، اشتقت إليك بشدة"
ردت نينا "أوه ماذا أقول أنا إذن، صحيح أني كنت مستمتعة، لكني افتقدتك ماما، أتعلمين قررت أنني لا أستطيع العيش بدونك، لذا سأنتقل للعيش معك إذا تزوجتِ"
ابتعدت عنها مايا قائلة بدهشة "من أين أتيتِ بفكرة الزواج هذه؟"
فأجابت نينا ضاحكة وهي تخرج من الغرفة "أنا فقط أقول ذلك"
راقبها أليكس نينا حتى خرجت، ثم نظر إلى مايا متأملا يدها اليمنى التي كانت تغطيها جبيرة طبية امتدت من كفها إلى منتصف ذراعها. قال ببطء "كيف هي يدك؟"
أجابت بنبرة لاذعة وهي ترفعها أمامه "سأظل هكذا لثلاثة أشهر، والشكر لك طبعا"
قال بمكر "يمكنني أن أقول نفس الشيء عن ساقي"
قالت بغضب "اخرس! لقد أنقذتُ حياتك"
رد عليها "هذا ما كنت أحاول فعله أيضا، إنقاذ حياتكِ"
هتفت بحنق "لم أكن بحاجة إليك"
أجابها بجدية "لكنني بحاجة إليكِ، لذا كان يجب علي أن أحافظ عليك" t
صمتت مضطربة، فأكمل باسما "واو لقد احمر وجهك"
حملقت فيه قائلة بشك "أنت تستمتع بذلك، صحيح؟"
رد بمرح "إلى أبعد درجة" ثم تناول علبة زرقاء صغيرة بجواره، وقال ببساطة "لو تذكرين في مشهد يشبه هذا المشهد قدمتِ لي علبة كهذه والآن أنا أعيدها لكِ" ثم رماها باتجاهها.
أمسكتها بيدها اليسرى, ها هي! العلبة التي وضعت فيها رصاصة فريدريك وقدمتها إليه، بالفعل الآن لم يعد أحد بحاجة إليها، التفتت سائرة باتجاه سلة المهملات الصغيرة بجوار الباب، وقبل أن ترمي العلبة فيها، فتحتها لتلقي نظرة أخيرة عليها، لكنها تجمدت في مكانها وهي ترى خاتم زواج ماسي تبرز في وسطه زمردة خضراء.
ازدرت ريقها عدة مرات، وأخذت تضغط على شفيتها التي بدأت ترتجف بشدة، ظلت تنظر إلى الخاتم حتى اغرورقت أجفانها، وأصبحت لا ترى شيئا، ثم كتمت صوت شهقاتها التي بدأت تزداد، وأخيرا رفعت رأسها في محاولة لابتلاع عبرة خنقتها.
تنهد بهدوء وهو يراقب ظهرها، ارتسمت على شفتيه ابتسامة ناعمة وهو يرآها تمسح عينيها وترفع رأسها للأعلى. أخفض بصره قليلا، ثم رفعه وهو يقول بصوت أجش "أنا أنتظر"
مسحت عينيها للمرة الثالثة، ثم جاهدت لكي تصفِ حنجرتها قبل أن تقول ببحة بكاء دون أن تستدير إليه "ألا يفترض أن تنزل على ركبتيك أولا؟"
أجاب بنبرة محايدة "كنت لأفعل لولا أن امرأة ما أطلقت رصاصة علي"
ملأت رئتيها بالهواء، ثم زفرته ببطء، شعرت أنها متماسكة قليلا، فالتفتت إليه سائلة بعجرفة "لماذا عليّ أن أتزوجك؟"
لاحت على شفتيه شبه ابتسامة، ها قد عادت مايا خاصته، ثم قال رافعا يده "أخبريني أولا هل أعجبك الخاتم؟"
ألقت نظره سريعة على الخاتم قبل أن تجيب بصدق "إنه رائع"
قال مؤيدا "أنا أيضا أعجبتُ به قبل قليل"
رفعت حاجبيها مرددة "قبل قليل!"
رد أليكس موضحا "لستُ أنا من اشتراه، حسنا أنا من دفع قيمته بالطبع، لكن نينا هي من اختارته لك"
تمتمت "نينا!"
أكمل ببساطة "قبل يومين أرسلت لها بطاقتي الائتمانية، وطلبت منها أن تختار خاتم زواج لك، عرفت أن أحدا لن يعرف ما يلائمك كما تعرف نينا"
أمالت مايا رأسها قليلا، ثم قالت مستنتجة " سأنتقل للعيش معك إذا تزوجتِ! إذا هذا ما كانت تقصده"
قال أليكس بحسرة "أجل للأسف اكتشفت أن هذه الفتاة لا يمكنها الاحتفاظ بالأسرار. أيضا أتعلمين أنها اشترت لنفسها عقد لؤلؤ بأموالي, ندمت لأنني لم أعطِ بطاقتي لكريك"
ضحكت مايا، ثم قالت بإصرار "نعود للسؤال، لماذا عليّ أن أتزوجك؟"
رد بغموض "أنتِ تقصدين لماذا عليّ أنا أن أتزوجكِ أنت؟"
قالت ساخرة "حقا؟"
فأجاب ببراءة "أجل. فأنا الضحية الوحيدة في هذا الزواج، هل تعرفين بماذا سأورط نفسي حين أتزوج منكِ؟ أولا أنت لا تملكين عقلا، ثانيا صحيح أن أولادي سيرثون عقلي لكنهم مؤكد سيرثون عنادكِ وتمردكِ، ثالثا سأضطر لتحمل ابنة انتهازية لأبعد درجة، لا وتريد أيضا أن تعيش معنا، رابعا سأضطر لتوظيف حارس شخصي يلازمني طوال اليوم بسبب خوفي من نزعتك القوية للعنف، خامسا سأنام وأنا مرتدي سترة واقية من الرصاص لأنكِ تتعاملين مع المسدس كما تتعاملين مع القهوة، والقائمة تطول لكنني سأكتفي بهذا القدر"
مطت شفتيها قائلة باستهزاء "طالما أنني أملك هذه المواصفات الرائعة، ما الذي يجعلك راغبا في الزواج مني؟"
أجاب متصنعا الضعف "تضحية من أجل إخوتي من جنس الرجال، إن لم أتزوجك أنا فسيتزوجك رجل آخر، وأنا لا أريد أن يعاني..." قطع كلامه عندما سمع الباب يطرق، ثم يُفتح ليدخل فريدريك من خلفه.
قالت مايا بسرور وهي تسير إلى فريدريك "هذا هو الرجل الوحيد الذي أحبه، لكنه للأسف سيتزوج من غيري" ثم عانقته.
أحاطها فريدريك بذراعيه وهو يقول مازحا "سأترك سونيا ونهرب معا إذا أردتِ"
ابتعدت عنه مايا مجيبة "تبدو فكرة مغرية لكنني أعرف أن سونيا ستحولين إلى جثة قبل أن نصعد إلى الطائرة" ثم أضافت "لقد قدمتُ إليك قبل قليل لكنك كنت نائم"
قال باسما "لو سجنتِ لمدة ثلاثة أيام عند مادوف لعرفتِ أنني محتاج لكل دقيقة راحة" ثم التفت إلى أليكس قائلا "كيف حالك يا بطل؟"
أجاب أليكس "مع اعتبار أن مادوف مقتول! بالتأكيد لن أكون في يوم أفضل حالا من الآن"
قال فريدريك متذكرا "أوه صحيح يا عزيزتي، أخبروني أنكِ نقشتِ جسد مادوف بخمس رصاصات، لماذا؟ رصاصة واحدة كانت كفيلة بنزع حياته"
أجابت مايا ضاحكة "أعرف، لكني كنت مدينة له بخمس رصاصات. رصاصة عن قتلة أبي، ورصاصة عن قتله كال، ورصاصة ثالثة عن إصابته لبرنارد، والرابعة عن ضربه لبوب، أما الأخيرة فعن إصابته لأليكساندر قبل ثلاث سنوات"
هتف فريدريك "واو... ذكريني ألا أدوس لكِ على طرف يا عزيزتي. والآن عن إذنكم أريد زيارة برنارد" و مشى حتى وصل للباب، فتحه ثم التفت إلى مايا قائلا بابتسامة ماكرة "عزيزتي، فقط في حال لو حدث أمر ما، فاعلمي أن أحدا لن يقدمك إلى العريس سواي أنا" ثم خرج مسرعا.
حملقت مايا في الباب بذهول، ثم استدارت لأليكس قائلة باستهزاء "هل كل العالم يعرف بأمر طلبك للزواج مني؟"
قال مدافعا "أنا لم أنبس ببنت شفة، لكني أعتقد أن كريك ونينا قاما بالمهمة. والآن أعيدي على السؤال"
سألت "أي سؤال؟"
"آخر سؤال سألتني إياه قبل دخول فريدريك"
"تقصد لماذا ترغب بالزواج مني!"
"نعم، اسأليني!"
"لماذا؟"
"سايريني فقط واسألي"
"لماذا ترغب بالزواج مني؟"
نظر إليها مطولا، ثم ابتسم مجيبا بصوت يفيض حبا "لأنني أحبكِ، لأنني أحبك يا مايا فآن، لأنني أحب كل ما فيك، جنونكِ يثيرني ، قوتك تجذبني، رقتك تفتك بي، جمالك يفتنني، خضرة عينيكِ تطيح بي، لأنني أذوب عشقا فيكِ، لأنـ..." خنقت مايا كلماته الباقية بإحاطة وجهه بيدها وتقبيلها لشفتيه بكل رقة ونعومة، ثم رفعت وجهها عنه، ولفت ذراعيها حول عنقه معانقة إياه بكل قوة وهي تجلس على طرف سريره. أحاط كتفيها بذراعيه، وقربها إليه، أغمض عينيه وهو يدفن وجهه في شعرها البني ذي الخصلات الشقراء، مستنشقا عطرها بكل حب.
ابتعدت عنه قليلا، نظرت إلى عينيه الزرقاء المسودة التي كانت تفيض بالحب، ثم قالت بصوت يمتلأ عاطفة "سؤال أخير، ماذا كنت تقصد بقولك لطالما أحببتكِ؟"
تأوه ضاحكا، ثم قال "عرفتُ أنكِ لن تنسِ، حسنا ربما أحببتكِ منذ ذلك اليوم الذي استدعاني فيك كريك لاستجواب امرأة كانوا قد قبضوا عليها"
اتسعت عيناها غير مصدقة ما تسمعه، ثم همست "أنت تكذب"
رد بنعومة "انظري إلى عيني وستعرفين أنني صادق تماما"
قالت بذهول "عاملتني بكل ذلك البرود! وجعلتني أعترف لك بحبي! وأشعرتني بالإهانة! وأنت كنت تحبني طوال ذلك الوقت"
أجاب باسما "لم أرد الاستعجال"
تكلمت بحنق "يا له من عذر" ثم دفعت صدره بيدها هاتفة "أيها المتعجرف" لتنهض واقفة وترمي عليه علبته الزرقاء قائلة "لتبحث عن فتاة أخرى تحتمل غرورك وعجرفتك" ثم سارت خارجة
صُدم لثواني، ثم رفع العلبة هاما بمناداتها، غير أنه توقف وهو يعقد حاجبيه، أنزل العلبة فاتحا إياها، ليجدها فارغة تماما.