الفصل الثاني عشر: مدمن

كانت الممرضة تضع الضمادة فوق وجنتها عندما دخل الثلاثة إلى غرفة
الطوارئ، لاحظت مايا أن وجوههم شاحبة, لكنها عزت الأمر إلى الإرهاق، فالساعة الآن قرابة السادسة صباحا. سألت بوب "كيف حالك ؟"
"لقد أجريت تصويرا بالأشعة, أنا بخير تماما"
تابعت "رائع. وماذا عن أليكساندر؟ كيف حاله"
أجاب برنارد بصراحة, بعد أن خرجت الممرضة "إنه ليس بخير"
نظرت إليه بدهشة فأكمل موضحا "لقد كان سام يحقنه بالهيروين, لقد وجدنا آثار الحقن على ذراعه, بالإضافة إلى أنه هائج منذ أن استعاد وعيه, لقد أصبح مدمنا و بقوة"
هبت واقفة, وهتفت غير مصدقة "أنت تكذب"
فرد بحزن "أتمنى لو كنت كذلك"
نظرت إلى وجهي كريك وبوب, تبحث عن أي إشارة تبين لها أن كلام برنارد غير صحيح, لكن للأسف, كل ما رأته هو عيون كان الحزن يطل منها, والتي أثبتت صدق كلامه. قالت ذاهلة وهي تنظر إلى الأرض دون أن ترى شيئا "هذا غير صحيح, فثلاثة أيام من التعاطي لا يمكن أن تجعل الشخص مدمنا, مهما كانت كمية الجرعة"
"هذا لأن هذه المرة ليست المرة الأولى"
"أوه لا" صاحت متأوهة, فقد سمعت ما كانت تخشاه.


قال كريك داعما كلام برنارد "قبل سنة, قبض سام على أليكس, وبدلا من قتله قام بحقنة بالهيروين, واستمر على ذلك لمدة ثلاثة أسابيع, ثم رماه في الشارع لكي يعاني. عثرنا عليه, وبعد شهرين من المعاناة, تم علاجه من الإدمان. وهذا هو سبب كره أليكس له ورغبته في الانتقام منه"
أغمضت عينيها وهي تمط شفتيها باستياء, الآن فهمت كل شيء, رغبة أليكس الملحة في الوصول لسام, ارتباك الجميع عندما يذكر اسم سام, ارتجاف جسد أليكس عندما رأته في المستودع, برودة صوت برنارد عندنا سألته عنه. قالت مستنتجه "كان مدمنا سابقا إذن, لذلك كل ما كان يحتاجه سام, عندما قبض عليه هذه المرة, هو جرعة واحدة فقط حتى يتذكر جسده الهيروين"
قال بوب منفعلا "لكن الحقير لم يكتفي بإعطائه جرعة واحدة, فالطبيب قال أنه طبقا لآثار الحقن على ذراعه, فقد تعاطى ست مرات في هذه الأيام الثلاثة"
لا شعوريا, خرجت تاركة إياهم وراءها في غرفة الطوارئ, اتجهت إلى مخرج الطوارئ, وبدأت تصعد السلالم حتى وصلت للدور الثالث, فتحت الباب ودخلت, ثم اتجهت إلى الغرفة الذي أخبرها برنارد أن أليكس موجود بها. انتفضت عندما اصطدمت بها ممرضة, فتطلعت حولها مفكرة, ما الذي أتى بها هنا؟ لماذا تقف أمام غرفة أليكس؟ ما الذي يحدث لها؟ مسحت وجهها بيديها بقوة, ثم اتجهت إلى السلالم مغادرة, إلا أن صراخ إحدى الممرضات جعلها تلتفت حيث كانت, لتجد امرأة - كانت لتوها قد خرجت من غرفة أليكس - ساقطة على الأرض.


ضوء الشمس الساطع من إحدى النوافذ جعلها تفتح عينيها بهدوء, ثم رفعت جذعها واستندت على الوسائد خلف ظهرها, حينها انتبهت لامرأة جالسة على كرسي يمينها, كانت تضع ضمادة على وجنتها, وترتشف من كوب قهوة بيدها.
راقبت مايا المرأة وهي تستيقظ وتنظر إليها, فابتسمت لها قائلة "صباح الخير"
ردت عليها المرأة بريبة "أين أنا؟"
"في المستشفى"
"كم الساعة ؟"
"التاسعة صباحا"
"كم ساعة بقيتُ نائمة ؟"
"ثلاث ساعات"
"ماذا أفعل هنا ؟"
"لقد سقطتي مغشيا عليكِ"
تأوهت المرأة بحزن وقد بدا أنها تذكرت "أوه! ابني أليكس"
قالت لها مايا برقة "سيكون بخير"
فنظرت إليها بحيرة, وقالت "عذرا, ولكن من أنتِ ؟"
وضعت مايا كوب القهوة على طاولة صغيرة, ثم قالت متصنعة الغضب "حسنا, الآن أنا أشعر بالإهانة يا آن"
رفعت المرأة حاجبيها دهشة قائلة "تعرفين اسمي!"
"وأنتِ تعرفين اسمي أيضا, بالرغم من أننا لم نتقابل كثيرا, ربما مرتين أو ثلاث فقط"
قالت بحرج "آسفة, أنا لا أتذكرك"
فتكلمت مايا مفكرة "حسنا لنرى, هل تعرفين مادلين ؟"
صمتت آن قليلا, ثم قالت متذكرة "مادلين! مادلين زوجة فآن صديق فريدريك! أنتِ ... أنتِ" ثم رفعت صوتها "أنتِ مايا ابنة فآن ومادلين!"
أحنت مايا رأسها بحركة مسرحية "هي بشحمها ولحمها"


"أوه نعم, أذكر أني قابلتكِ مع والديكِ في إحدى الحفلات عندما كنتُ بصحبة فريدريك. كنتُ سأتذكرك فورا لو أخبرتني باسمكِ منذ البداية"
ردت بشبه ابتسامة "أعلم ولكني أردتُ أن أشغلكِ عن موضوع ابنكِ قليلا"
أطلت من عينيها نظرة ألم, ثم قالت "لقد أخبرني فريدريك أنكِ المسئولة عن قضية اختفاءه, هل هذا صحيح ؟"
أجابت باقتضاب "نعم"
فسألتها آن بحزن "لماذا لم تعيديه لي سالما إذن ؟"
أبعدت مايا نظرها عنها وقالت "آسفة"
حينها صرخت آن غاضبة "وبماذا سيفيدني أسفكِ هذا"
همست مايا "لا شيء"
"إذن اخرسي"
مرت بضع لحظات صامتة عليهما, بعدها قالت آن بهدوء "أعتذر يا عزيزتي, لقد فقدتُ أعصابي. في الحقيقة أنا شاكرة لكِ, لولا الله ثم أنتِ وأصدقائك لما كان أليكس هنا الآن"
ردت مايا باقتضاب "لا عليكِ"
فتكلمت آن بنبرة أسى "في حياتي كلها, لم تمر علي أيام كالأيام التي كان فيها أليكس مدمنا, لقد كانت أيام بكيت فيها حتى ظننتُ أن مآقيّ قد جفت. إن أكثر ما كان يؤلمني حينها هو أنه لم يكن يراني أمه, لم يكن يعرفني أبدا. عندما أدخل إليه, كان يركض نحوي, يقبل رأسي ويدي, يبكي وينتحب, يرجوني ويتوسل إليّ, كان يفعل ذلك لا لأنني أمه, ولكن لكي أحضر له جرعة هيروين" سكتت تستجمع قواها وقد بدأت دموعها تسيل, ثم أكملت "كان يذبل ويخفت, يتأوه ويصيح, يمرض و ترتفع درجة حرارته و يتقيأ, كانت كل هذه الأمور تحدث أمام ناظري, دون أن تكون لي أي قدرة على مساعدته. لقد تعذب بما فيه الكفاية حتى استطاع أخيرا أن يتغلب على إدمانه. والآن هاهو يعود مدمنا, يا إلهي كيف سأصبر على ذلك مرة ثانية, بل كيف سيصبر هو, إن الأمر ..."



قطعت كلامها عندما طرق الباب, فأذنت للطارق بالدخول, فانفتح الباب, ودخل منه رجل في الثلاثينيات من عمره, يرتدي معطف طبيب, عرف بنفسه قائلا "مرحبا! أنا سيزر الطبيب المشرف على حالة السيد أليكساندر"
مسحت آن خديها بأصابعها المرتجفة, وسألته بتلهف "كيف حاله ؟"
وضع الطبيب يديه في جيبي معطفه وأجاب "للأسف يا سيدة آن, أعتقد أني لا أملك أخبارا سارة. الهيروين مخدر سيء, وقوي على الجسم, وأليكساندر كان قد أدمنه من قبل قرابة شهر, وهذه مدة ليست بالقصيرة, كما أن إقلاعه عن الهيروين كان منذ أقل من سنة, وهذه مدة قصيرة جدا, بالإضافة إلى أنه الآن قد أخذ جرعات كبيرة في مدة ثلاثة أيام فقط. كل هذه الأمور كان لها التأثير الأسوأ عليه"
قالت مايا بوجه جامد "ما هو التأثير الأسوأ هذا ؟"
صمت الطبيب قليلا ناظرا إلى وجه آن الشاحب, ثم التفت إلى مايا مجيبا إياها "من الناحية العقلية, فإن وظائفه العقلية مثل التفكير التذكر التركيز الانتباه قد بدأت بالضعف, بل إنه قد يدخل في بدايات الهلوسة. أما من الناحية الجسدية, فإن لسانه أصبح ثقيلا جدا لدرجة أنه لن يستطيع الكلام مؤقتا, وهذا أمر ليس مستبعد على المدمنين, بالإضافة إلى أنه يعاني من اضطرابات شديدة كاضطرابات المعدة والأمعاء, ولكن ..."
قاطعته آن والشك يملأها "ولكن ماذا ؟"
"حسنا أليكساندر عاد إلى الهيروين وبقوة, لذا فإن طريقة علاجه الأولى ستكون بسحب الهيروين عنه تدريجيا, بمعنى أننا سنقوم بإعطائه الهيروين, ولكن بنسب معينة, تتناقص تدريجيا مع الوقت, حتى يعتاد جسمه على ذلك. والآن نأتي إلى المشكلة, وهي أن الهيروين قد أثر على كبده, واستخدام مزيدا منه سيؤدي إلى فشل في كبده, لذا فإن هذه الطريقة الآنفة ستؤدي إلى فشل في الكبد"
هتفت آن "لا تستخدموها إذن"
"إنها الطريقة الوحيدة لعلاجه, وقد استخدمناها في علاج إدمانه في المرة الأولى"
صاحت آن بيأس "ماذا تقصد بأنها الطريقة الوحيدة! إن أصاب ابني فشل في الكبد, فهذا سيدخله في دوامة أمراض ومعاناة وعجز أسوء مما سيحدث له من الإدمان, لن أسمح لكم بذلك"
ألقى عليها الطبيب نظرة رحيمة, ثم تكلم بجدية "سيدة آن, أعرف ما تشعرين به, ولكن أرجو أن تفكري جيدا قبل أن تصدري قرارك. إلى اللقاء" ثم خرج.


أغلقت مايا باب سيارة الأجرة بعد ركبت فيها آن, ثم صعدت على الرصيف لتشاهد السيارة تسير مبتعدة عن المستشفى, وبعد أن غابت عن ناظريها, اتجهت إلى سيارتها الواقفة أمام مدخل الطوارئ, ركبت في المقعد المجاور لمقعد السائق, أغمضت عينيها وأسندت رأسها على المقعد, بقيت لمدة عشر دقائق على هذه الوضعية, بعدها استقامت ومدت يدها تفتح درج السيارة, لتخرج منه مسدسها ورصاصة واحدة, ثم أغلقته وخرجت من السيارة تسير لمدخل طوارئ المستشفى.


دخلت بعد أن تأكدت من خلو غرفته من الممرضات, أغلقت الباب خلفها, مشت حتى وقفت عند رأسه, ثم رفعت بصرها تنظر إليه, كان مستيقظا, شعره أشعث, وجهه مسود شاحب, عينيه محمرتين باهتتين, شفتيه مزرقتين, ذقنه مرتخي يغطيه شعر أسود خفيف, وبالرغم من أن يديه وقدميه كانتا مقيدتين في السرير إلا أنه كان هادئا مستكينا, يركز بصره فيها.



ابتسمت مايا بعجز قائلة "إذن فقد رضخوا لك في النهاية وأعطوك جرعة, لذا أنت هادئ. ستقتلهم آن إن علمت بذلك" صمتت ثم تابعت "أمك تقول أنك لا تعرفها وأنت مدمن, ولكني مع ذلك أظن أنك تعرفني جيدا, أتدري لماذا؟ لأنني سأكون أهم من أمك"
ضاقت عينا أليكس, وقد بدا أنها جذبت انتباهه, منحته مايا ابتسامة صامته, ثم مدت يدها وأخرجت مسدسها من جرابه, فتحت مخزنه وأخرجت منه الرصاصة الوحيدة التي احتواها, ثم رفعتها أمام عيني أليكس قائلة "أتذكرك هذه الرصاصة بشيء ؟"
بعد أن تأملها أليكس لنصف دقيقة, رفع رأسه بعنف باتجاهها, ضاغطا على أسنانه بقوة, فقالت مايا "واو! أنت تعرفها إذن, وظائفك العقلية ما زالت جيدة" ثم أخذت تنظر إلى الرصاصة مكملة باستهزاء "لنرى ما يميز هذه الرصاصة, لا شيء في الحقيقة سوى حرف حُفر عليها, أظن أنني أعرف رجلا يبدأ اسمه بهذا الحرف, أو تذكرت, إنه خالك فريدريك"


بدأ أليكس يزفر بغضب, وقد اشتدت قبضتيه, فقالت مايا بجدية "اسمعني, في البداية كنتُ متوجسة قليلا عندما قلت أنك ابن أخت فريدريك, فقد شككت في أنك لن تسمح لي بمسه, وفي عيد ميلاد نينا وبعد أن أخبرتني بذلك صراحة, أصابني الضيق, لقد كنت متضايقة لأبعد درجة, فأنا أريد قتل فريدريك, لكني لن أستطع فعل ذلك طالما أنك موجود, وحتى لو استطعت قتله, فأنا أعلم أنك ستنتقم مني, كان ذلك يخيفني, لا تعجب فأنا بالفعل أخاف منك. المهم اليوم, وبالرغم من حزني عليك, إلا أن ضيقي قد اختفى, ذلك أنني سأنفذ انتقامي, وأقتل فريدريك, فأنت ولسوء الحظ لن تستطيع منعي بحالتك هذه"



انتفض أليكس بشدة, وحاول تخليص يديه ورجليه, فتابعت مايا متصنعة الدهشة "ماذا؟ ماذا حدث لك؟ تريد أن تشفى من إدمانك بسرعة حتى توقفني؟" ضحكت "احزر إذن ما الذي قاله الطبيب اليوم! لقد قال أن الطريقة الوحيدة لشفائك ستصيبك بفشل في الكبد, لذا حظا موقفا في إيقافي وأنت بكبد لا يعمل" ثم ضحكت بنصر للمرة الثانية.
لما عجز أليكس عن تخليص نفسه, بدأ يئن ويضرب السرير بيده, فختمت مايا كلامها قائلة "لا تغضب مني, فأنا بالفعل حزينة على ما أصابك, وسأظل بجوارك, ولكن كما تعلم, فكرة الانتقام لا تزول سوى بالانتقام" ورفعت الرصاصة عاليا ليراها, ثم خرجت من الغرفة , تاركة إياه يعاني أشد المعاناة.



إعدادات القراءة


لون الخلفية