كان فريدريك يجلس على كرسي مكتبه الجلدي براحة, ويتحدث إلى سونيا التي كانت تجلس على حافة المكتب, عندما طرق الباب.
تكلم فريدريك "ادخل"
ففتح أليكس الباب قائلا بابتسامة "أنستطيع الدخول!"
ابتسمت له سونيا في حين قال فريدريك "ادخل ... لحظة من تقصد بقولك نـ ..." غير أنه قطع كلامه عندما شاهد مايا تقف عند مدخل الباب. اعتذارها المفاجئ الذي وصله عن طريق أليكس, والخجل الذي يظهر على وجهها الآن, جعلا فريدريك يهب واقفا, ويسرع نحوها آخذ إياها بين ذراعيه بقوة.
ثانيتين فقط, هي المدة التي أجفلت فيها مايا قبل أن تبتسم برقة, وتلف ذراعيها حول عنقه, هامسة "آسفة". بعد حوالي نصف دقيقة, رفعت نظرها لتصطك عيناها بعيني سونيا, النظرة التي كانت تنبثق من عيني سونيا جعلت مايا تشيح بنظرها وتبعد فريدريك عنها.
هتف فريدريك بوجه مشرق "تفضلا"
حينها اعتدلت سونيا واقفة, وحيتهما بينما جلسا على مقعدين متقابلين أمام مكتب فريدريك, ثم قالت "أنا أستأذن الآن, لا تنسى العشاء فريدريك" ثم قبلت وجنته وغادرت.
جلس فريدريك على كرسيه, وقال ببشاشة "لمن أدين بشرف هذه الزيارة؟"
فرد أليكس "أنا أكاد أموت مللا من البقاء في المنزل, وبسبب الإجازة الإجبارية, فلا خيار لدي سوى الذهاب إليك, ولأني لا أملك سيارة, فقد اقترحت مايا بكل رحابة صدر أن توصلني"
قالت مايا معترضة "دعنا لا نخلط الأمور ببعض, لقد أوصلتك فقط لأنك على طريقي, فلدي مهمة استطلاع قريبة من هنا. أنا حقا لا أبالي إن مت مللا"
ضحك فريدريك, ثم قال "حسنا ماذا تشربان؟"
وقفت مايا, وقالت معتذرة "في وقت آخر, فأنا حقا تأخرت" ثم همت بالخروج غير أنها توقفت سائلة فريدريك "أتعرف سام؟"
قطب فريدريك حاجيه, مرددا "سام!"
فوضحت مايا "الرجل الذي أعطى ابن أختك الهيروين"
قال فريدريك متذكرا "آه ... أعرفه من أليكس فقط, ولكني لم أقابله أبدا في حياتي"
سأل بحيرة "لما السؤال؟"
أدخلت مايا يديها في جيبي سترتها, وابتسمت في اضطراب قائلة لفريدريك "قد يبدو سؤالي غريب نوعا ما, لكن هل هنالك أي شيء مهما كان صغيرا يربطني بأليكساندر؟"
"لست أفهم ما تحاولين قوله"
"حسنا أنا أيضا لا أفهم. كل ما في الأمر أن سام هذا أخبرني أن هنالك ما يربطني بأليكساندر, علاقة سببيه على حد تعبيريه, وأنك أنت تعرف هذا الأمر"
هنا تدخل أليكس قائلا باستهزاء "ألهذه الدرجة تثقين بكلام سام؟ ألم يخطر ببالك أنه رجل مجنون؟"
أجابت بحرج "أنا أعرف ذلك, ولم أصدقه, ولكن الفضول هو من دفعني للسؤال. أمر أخير يا فريدريك, هل سيتغير الأمر إن أخبرتك أن سام هذا هو الرجل الأعور"
قال أليكس "سام ليس أعور"
ردت "أعرف, هو من قال هذا"
فقال أليكس بغضب " يا إلهي! إلى متى ستصدقين هذا الهراء؟"
أجابت "ولماذا أنت غاضب؟"
المجادلة أشغلت مايا و أليكس عن رؤية الشحوب الشديد الذي أصاب فريدريك, ورؤية عيناه التي أصبحت بعيدة جدا, لقد أصبح كمن رأى شبحا. سام ذاك هو نفسه الرجل الأعور! الآن أدرك ما المقصود بالعلاقة السببية. لماذا! لماذا الآن من بين كل الأوقات يظهر الأعور! بعد أن بدأ ينسى الأمر, بعد أن بدأت المياه تعود لمجاريها, يظهر الحقير الأعور ليثير المشاكل. لم يشعر فريدريك بما يجري من حوله سوى عندما سمع مايا تقول وهي تسير خارجة "لقد قال أنه سيخبرني بالحقيقة في حال لم يخبرني فريدريك. كم أنا متشوقة لمعرفة الأكاذيب التي سيخبرني بها" هنا صرخ فريدريك برعب "مايا! انتظري"
التفت إليه مايا بدهشة, وحملق أليكس فيه, ففريدريك ليس بالرجل الذي يصرخ, قالت مايا "ما الأمر؟"
أمرها بصوت خرج بصعوبة "اجلسي!"
جلست مايا, بينما سأل أليكس ملاحظا التغير الذي طرأ على خاله "هل أنت بخير؟ ما الذي يحدث؟"
حاول أن يغمض عينيه, أن يتنفس بهدوء, أن يسند رأسه على كرسيه, غير أنه فشل, لذا قال متلعثما دون أن يهدّأ نفسه "أنا ... أنا أعلم أن ما سأقوله ... أمــ ... أمر ليس باليسير, ولكني مضطر لإخباركِ لأني... لأني أعتقد أن فكرة أن يخبرك الحقير سام بذلك ... ستكون فكرة أسوء"
أراد أليكس أن يشعر فريدريك بالراحة, فقال "يمكنني الخروج قليلا, بينما تتحدثان, أنا لا أمانع إطلاقا"
فقال فريدريك محاولا أن يتماسك وقد شعر بضعفه "لا. أنت ستبقى, فمن حقك أيضا أن تعرف الحقيقة"
قالت مايا بنفاذ صبر "تكلم, لم أعد أستطيع الانتظار"
رد فريدريك وقد استعاد شيئا من ثقته "ليس قبل أن تعديني أن تكوني هادئة"
"حسنا لك كلمتي"
لم يعرف فريدريك من أي نقطة يبدأ, فقال لما نظر لأليكس "لقد أصيب أليكس برصاصة في أسفل كتفه الأيمن قبل ثلاثة سنوات وستة أشهر"
تمتمت مايا ببرود "أعرف ذلك, فقد رأيتُ الندبة"
نظر أليكس لمايا رافعا حاجبيه دهشة, فمتى رأت الندبة! إلا أن مايا اكتفت بالرد عليه بابتسامة مستفزة.
أكمل فريدريك بألم "لقد كتب في التحقيق أن الرصاصة كانت نتيجة لحرب شوارع حدثت في ذلك الحي القديم الذي صادف وجود أليكس فيه, وبالتالي إصابته برصاصة بالخطأ. لكن الحقيقة التي لا تعلمينها, ولا يعلمها أليكس, هي أن الرصاصة كانت مدبرة لتصيب أليكس بالضبط."
ضاقت عينا أليكس وهو يسمع هذا الكلام, هل هذا صحيح؟ كيف أخفى خاله هذه الحقيقة عنه! بل كيف عرف خاله بذلك! أما مايا فلم يبد عليها أي انفعال خصوصا أنها لم تكن تعلم ما قصة هذه الرصاصة من الأساس.
صمتهما دل فريدريك على أنهما يرغبان بسماع المزيد, لذا اضطر أن يكمل دون أن ينظر إلى أي واحد منهما "في ذلك اليوم الذي مات فيه فآن, وقبل أن يقتل, أحاط بي رجال مادوف بينما كنت أراقب الطريق لفآن, كانوا بقيادة الرجل الأعور, الذي هو سام كما يبدو, المهم, إنهم لم يؤذني, لم يفعلوا لي شيء, فقط أخبروني أن مادوف يريد قتل فآن, وأنه على سطح إحدى البنايات, ثم طلبوا مني أن أصمت وألا أبلغ فآن بشيء عن طريق السماعات, رفضت ذلك, وأخبرتهم أن الحالة الوحيدة التي سيقتلون فآن فيها, هي أن يقتلوني قبل أن يقتلوه " ثم أكمل بعد أن ابتلع ريقه "ليتهم قتلوني, ولكنهم لم يفعلوا, وبدلا من ذلك عرضوا علي تسجيل بكاميرا, ظهرت فيه بندقية وصوت رجل يقول أنه يريد قتل الشاب, فيرد عليه رجل آخر, أن مادوف طلب فقط أن يصاب الشاب وألا يُقتل لأنه سيكون مفيدا في المستقبل, حينها يقول الرجل حسنا, ويبدأ بتعبئة البندقية بالرصاص, وبعدها ...
يظهر في الكاميرا أليكس واقفا في ذلك الحي, ثم صوت إطلاق الرصاصة, فيخر أليكس وقد أصابته الرصاصة في أسفل كتفه الأيمن. نعم لم تكن إصابة أليكس من حرب شوارع, بل كانت من تخطيط مادوف." صمت فريدريك وقد خنقته العبرة, ثم قال "لقد أخبروني أنهم كما استطاعوا أن يصيبوا أليكس ذلك اليوم, فباستطاعتهم أن يقتلوه اليوم إذا لم أنفذ طلبهم. ثم أحضروا لي كاميرا أخرى تبث بثا مباشر, وقد ظهر فيها أليكس في أحد النوادي الرياضية يتدرب مع أصدقائه. لقد قالوا لي أن نفس القناص الذي أصاب أليكس ذلك اليوم, موجود في النادي, وهو الذي يصور الآن, كما أن لديه أوامر أن يقوم بقتل أليكس أن قاموا بإجراء اتصال له, ثم ظهرت بندقيته في الكاميرا" حاول أن يصفي صوته, وقد أصبح أجش, لكنه لم يستطع فأكمل بصوت ثقيل "لم يكن بيدي ما أفعله, لقد فكرت بكل الطرق, ولكن لم أهتدي لشيء, كان علي أن أختار بين موت فآن, وبين موت أليكس, إن حذرت فآن بوجود مادوف ورجاله قتلوا أليكس, وإن لم أحذره قتلوا فآن.
فآن صديقي وأخي, ولكني لم أستطع أن أضحي بأليكس, الذي اعتبره ابني, لذا فقد ... لذا لم ... لم أحـــ ... لم أحذر فآن, الأمر الذي أدى لوفاته"
خيم على الغرفة صمت ثقيل لعدة دقائق, فريدريك أخفض رأسه, فقد كان ملهيا بحاله, كما بدا أنه يعاني الأمرّين بعد أن حكى القصة.
أما أليكس, فقد أظهر صبره وتجلده, فهو لم يعطي لنفسه مجالا ليفكر أو يحلل أو يستنتج من الكلام العجيب الذي قاله فريدريك, فهذا ليس الوقت المناسب للصدمة أو الدهشة. هذا الوقت هو وقت التصرف, لذا بكل خفة, وبكل سرعة, قفز أليكس جاثيا أمام مايا, وأدخل يده تحت سترتها, تماما عند حزامها, وقام بسحب مسدسها من جرابه. لقد أطلقت عليه مرة وكادت تقتله بسبب أمر تافه, لذا فقد كان خائفا من أن تنتزع سلاحها وتردي خاله. ولكن الأمر الذي لم يدركه أليكس, هو أن مايا قد جمدتها الصدمة وشلت حركتها, فهي حتى لم تبدي أي التفاته عندما أخذ المسدس منها.
هب أليكس ليقف, لكن رؤية عينيها جعلته يعود جاثيا على ركبتيه وقد استبد به الفزع. عينا ميت, هذا هو الوصف الدقيق لعينيها, لم تكن فيهما أي علامة على الروح, خاويتين تماما, عيناها التي لم يكن يراهما سوى خضراء غامقة لامعة حادة, أصبحت فجأة فاتحه شفافة بشكل مخيف. ثبّت سلاحها في حزامه, ثم أراح يديه فوق ركبتيها, وناداها هامسا "مايا! مايا!"
لم ترد, لم تتحرك, فترك ركبتيها, ومد يديه إلى جانبي وجهها, غير أن يديه الدافئة ارتعشتا قليلا عندما لمستا أذنيها ووجنتيها الباردتين, ضغط على خديها, محاولا بث حرارة يديه إليها, ثم حرك رأسها إلى الأسفل باتجاهه, حتى تلاقت عيناها بعينيه, ثم همس مجددا "مايا! ردي علي"
لم ترد, لكنها استجابت له, فقد ضاقت عيناها وهي تنظر إليه, ثم ابتسمت له ابتسامة لم يستطع أليكس أن يفهمها, وتمتمت "أنا بخير".
سحب أليكس يديه, ووقف بجوارها. فالتفتت مايا إلى فريدريك, قائلة بصوت لا يحمل أي انفعال "ماذا أيضا؟ ما الذي أخفيته عني أيضا؟"
رفع فريدريك رأسه بعنف, رغم الألم الذي كان يشعر به, فقد كان مستعد لأي رد فعل يصدر منها, إلا أنه لم يكن مستعد أبدا لهذه اللامبالاة, لذا لم يستطع أن يمنع نفسه من سؤالها قائلا "لماذا أنتِ هادئة؟"
ابتسمت قائلة "ألست من طلب مني أن أعده بأن أكون هادئة, أنا أفي بوعدي دائما"
اشتدت قبضتا أليكس, أغمض عينيه بقوة, وأشاح بوجهه عنها, تبا! إنه قطعا لم ينجح في إفاقتها, فكلامها وتصرفاتها تدل على أنها مازالت في حالة صدمة.
زاد ألم فريدريك لمرآها, ولكنه مع ذلك سيقول كل شيء, فهو يعرف أن هذه هي المرة الأخيرة التي ستستمع له مايا فيها بهدوء. قال بصوت هادئ "لم يكن إخفاء الأمر عنكِ قراري وحدي, أمكِ أيضا رأت أنه من الأفضل لكِ ألا تعلمي"
أليكس لا يفهم ماذا يقصد فريدريك بقوله هذا, إلا أنه أدرك أنه كلام سيزيد المسألة تعقيدا, وسيؤلم مايا أكثر, لذا صرخ غاضبا "كفى يا فريدريك!"
لكن قالت مايا ببرود, وابتسامة تلوح على وجهها "لما لا يا أليكساندر؟ لقد بدأت الأمور تصبح أكثر إثارة" ثم خاطبت فريدريك قائلة "تكلم"
فتكلم فريدريك بنبرة أسى "لقد أخبرتك يا أليكس سابقا أني قابلت مادلين – والدتها – بعد الجنازة, وأنها أخبرتني أنها تثق بي, وأنها لا تتصور حتى في خيالها أن لي يدا في موت زوجها. كلامها هذا كان كسكين مغروس في قلبي, لقد منعني من النوم. لذا قابلتها بعد يومين, وأخبرتها الحقيقة, لقد تركتني حينها وذهبت, أعرف أنها صدمت وتألمت, لقد رأيت ذلك في عينيها. لكنها في اليوم التالي, قدِمت إلي, وأخبرتني أنها تسامحني, وأنها تتفهم الموقف الذي وُضعت به. ثم طلبت مني أن أقطع لها وعدا بألا أخبركِ أبدا بالحقيقة, فمعرفتكِ للحقيقة لن تفيدك بشيء"
مطت مايا شفتيها, وغمغمت "هل انتهينا؟ أم لديك المزيد من الأسرار؟"
امتلأ فريدريك غيظا من عدم مبالاتها, إلا أنه لم يستطع سوى أن يقول "انتهينا"
وقفت مايا بجمود, وسارت خارجة تحت نظرات أليكس, الذي أدرك أن حياته وحياتها قد دخلتا إلى منعطف خطير, منعطف متأكد أن أحدا منهما لن يتمكن من الخروج منه سالما.