لم تهدأ وتيرة الحرب بين الفرس والروم لسنوات طوال ، فقد تعددت بينهم الحروب ولكن الحرب الأخيرة كانت هي الأعنف والأضرى على وجه الإطلاق ، وقد بدأت الأحداث حينما قام كسرى الثاني عام (596-628) باستغلال النزاع الذي حدث على السلطة داخل الإمبراطورية البيزنطية ، وعمد مع جيوشه إلى احتلال الأراضي البيزنطية وفرض سيطرته عليها في معاداة واضحة لملك الروم فوكاس ، وذلك لإعادة حدود الإمبراطورية الأخمينية السابقة .
هجوم الفرس الساسانيون : وقد بدأت تلك الحرب بالتحديد عام 602م ، ثم في عام 608 استطاعت جيوش الفرس أن تصل إلى قلب الإمبراطورية البيزنطية في منطقة كريسبوليس المواجهة للقسطنطينية عاصمة بيزنطة ، كما استطاعت قبائل الأفار المتحالفة مع الفرس في البلقان بتطويق القسطنطينية من الجانب الأخر .
وفي عام 613م امتدت جيوش الفرس إلى دمشق واستطاعوا إحراز النصر على الروم البيزنطيين في عدة معارك حاسمة ، منها معركة عند سهل حوران وأخرى عند البحر الميت ، وفي العام التالي زحف قائد الجيش الفارسي شهرباراز إلى إيليا وهي القدس حاليًا ، وحاصرها حوالي عشرين يوم ، ثم دخلها وقواته عنوة وأشعلوا بها الحرائق .
وقتل بها اليهود حلفاء الفرس عددًا كبيرًا من النصارى ، قدره المؤرخون في كتاباتهم بنحو 57 ألف ، كما دمر الفرس كنيسة القيامة واستولوا على الصليب المقدس الموجود بها والذي كان يعتقد النصارى أن إلههم صلب عليه ، وقد كان لوقوع بيت المقدس في يد الفرس صدمة كبيرة لدى النصارى لأن تلك كانت أول مرة تقع بها القدس بأيدٍ غير مسيحية .
سيطرة الفرس على معظم الإمبراطورية البيزنطية : ظل الفرس يزحفون على كافة أرجاء الإمبراطورية البيزنطية حتى وصلوا إلى مصر ، وسقطت الإسكندرية في أيديهم عام 619م ، وترتب على هذا منع وصول القمح إلى القسطنطينية وتردي الأوضاع الاقتصادية هناك .
وبحلول عام 622م كانت الإمبراطورية البيزنطية قد قاربت على الزوال ، بعد أن احتلها الساسانيون من كل ناحية باستثناء أجزاء من الأناضول ، ولم يبق للروم إلا أثينا وقبرص وصقلية وشريط ساحلي في شمال إفريقيا يدعى قرطاجة ، الأمر الذي دمر معنويات الروم وساعد على تفاقم الصراعات الداخلية فيما بينهم ، وجعل الجميع يتوقع سقوطهم سريعًا لأن خيار المقاومة لم يكن يسيرًا .
انتصار الروم بقيادة هرقل : في عام 622م أي في السنة الأولى للهجرة حدث انقلاب عسكري في صفوف الروم ، جعل هرقل حاكم قرطاجة يتمكن من الاستيلاء على القسطنطينية ، ومن ثم قام بإعادة تنظيم الجيوش في مهارة كبيرة ، وأبدى هرقل شجاعة منقطعة النظير في مواجهة الخطر الفارسي .
فبدلًا من مواجهة القوات المتوغلة في بلاده التف عليهم وهاجمهم في عقر دارهم بالأراضي الفارسية بعد تحالفه مع الترك ، واستطاع الاستيلاء على أذربيجان عام 624م ، ودمر بها أكبر معبد ناري تمارس فيه الديانة المجوسية ردًا على ما حدث من تدمير وتخريب لكنيسة القيامة بالقدس .
ومما ساعد الروم على زعزعة انتصارات الفرس ببلادهم ، الشك الذي ظهر بين الملك كسرى الثاني وقائد جيشه شهرباراز ، فقد استغل بعض الوكلاء البيزنطيون الفرصة وسربوا رسائل مزيفة للجنرال عن رغبة الملك في إعدامه ، لذا قرر شهربازار عدم التدخل في الحرب والبقاء على الحياد إبان تلك الفترة الحرجة من تاريخ المعارك الساسانية البيزنطية ، فخسر كسرى بذلك أكبر قوة لديه 0 .
كما توفي فجأة قائد الجيش الساساني شاهين وسباهبود العظيم الذي كان يحكم قبضته على بلاد القوقاز والأناضول ، وبهذا ضعفت كفة الفرس ورحت كفة الروم بعد الضعف ، وانغمس الملك كسرى في حالة من الكآبة جعلته لا يحسن التدبير .
وبالطبع لم يترك هرقل العظيم فرصة مثل تلك تمر من تحت يده ، فمع غياب قادة الجيوش الساسانية صار الأمر أسهل وإحراز النصر أقرب ، فبعد خمسة عشر عامًا من حربهم للبيزنطيين انتصر الملك هرقل في معركة نينوي عام 627 م انتصارًا ساحقًا على الفرس الساسانيون ، وكانت تلك هي المعركة الحاسمة التي أنهت الصراع بين الطرفين .
نهاية كسرى : علم المسلمون بأمر تلك المعركة عام 628 م بعد عودتهم من عقد صلح الحديبية بمكة ، فقرر رسول الله صلّ الله عليه وسلم إرسال عبد الله بن حذافة السهمي لدعوة كسرى إلى الإسلام ، ولكن هاج وماج ومزق الرسالة دون أن يعلم ما فيها ، فلما عاد السهمي إلى رسول الله وحكى له ما حدث دعا على الفرس أن يمزقوا كل ممزق .
أما كسرى فأرسل إلى باذان نائبه على اليمن ، ليبعث له بالرجل الذي ظهر في الحجاز ، ويقصد به نبي الله صلّ الله عليه وسلم ، فلما ذهب رجاله برسالتهم إلى المصطفى عليه الصلاة والسلام قال لهم : أن الله قد سلط على كسرى ابنه شيرويه فقتله وحدد لهم الليلة والشهر والساعة التي قتل فيها ، فلما عادوا إلى باذان أخبروه بما قاله الرسول الكريم ، فقال : لئن كان ما قاله محمد حقًا فهو نبي من الله .
ولم يلبث إلا أن أتى إليه كتاب شيرويه ابن كسرى ، يخبره بأمر بقتله لأبيه واستيلاءه على العرش ، فعلى الفور أعلن باذان إسلامه هو وكل من معه من الفرس في بلاد اليمن ، كما أسلم العرب في البحرين وخرجت بعض قبائل العرب في العراق عن طاعة كسرى وأسلمت هي الأخرى .
عقد الصلح : أما عن هرقل فعند سماعه بنبأ اغتيال كسرى الثاني ، تحالف مع الأحباش عام 629م وانتصر على الفرس مرة ثانية واقترب كثيرًا من المدائن ، وهنا رأى شيرويه أن الصلح مع هرقل هو الحل الأسلم حتى لا تسقط بلاد الفرس في أيدي الروم ، وبمقتضى هذا الصلح استردت بيزنطة كل ما كان لها من أراضي الإمبراطورية التي سقطت في أيدي الفرس .
وبعدها استطاع هرقل إعادة الصليب المقدس إلى القدس عام 630م ، وهو يحمله حافي القدمين إلى وجهته ، وبعد عودته استقبله أهل القسطنطينية أفضل استقبال بأغصان من الزيتون تعلوها الهتافات الرنانة التي تترنم باسمه ، ولكن لم تدم فرحة هرقل طويلًا ، فسرعان ما واجه جيوش المسلمين وهزم على يدهم ، وحسمت معركة اليرموك مصير بلاد الشام وتبعتها مصر وشمال إفريقيا لينضم جميعهم إلى راية الإسلام تحت إمرة رسول الله صلّ الله عليه وسلم