الجزء 17

ظل أحمد يراقب سارة لأكثر من خمس أربع ساعات متواصلة ، يجلس على كرسى خلف ستائر الشرفة المقابلة لغرفتها الخاصة ، لم يتجرأ على الخروج حتى لا تعلم أنه يستطيع رؤيتها داخل غرفتها فتأخذ حذرها منه . ظل يراقب كل ما تفعل ، فتارة تجلس فى شرفتها ناظرة للسماء شاردة فى أشياء يتمنى أن يعرفها ، وتارة تجلس على سريرها تحاول أن تنام فلا تستطيع ، وتارة أخرى تخرج من غرفتها وتعود بعد فترة ، فتوقع هو أنها تذهب لتطمئن على شقيقاتها ، ظل يتابع بهدوء ولا يشاركه فى مراقبتها إلا سيجاره الخاص وأفكاره الدائرة حولها ، لماذا لم يرها تبكى حتى الآن ؟، وكأن ما تمر به أكبر بكثير من مجرد دموع تسيل على وجهها .
اما هى فتائهة فى ملكوت لا يدركه إلا هى ، عن احداث ماضيها وحاضرها ومستقبلها الغامض الذى ينتظرها ، ومن بين كل هذه الأفكار تغزو عقلها شيئا لا يمت بصلة لكل ذلك ،
وهو ، لماذا لم ترى أى إشارة تدل على وجوده فى هذا المنزل كما قال ، لقد قال إنه سيبقى بجانبها ؟ 
وكأنه قرأ أفكارها ، فوجدت نغمة الرسائل تصدع من تيليفونها ، ففتحتها، وجدت رسالة منه تقول ...حاولى تنامى ارجوكى ...
ردت برسالة هى الأخرى ....عرفت ازاى أنى لسة صاحية ...
فرد هو الأخر برسالة ...كنتى لسة فى البلكونة من 10 دقايق....
ظلت تحدثه بالرسائل لوقت وكأنها وجدت ما يخرجها مما هى فيه ، أو على الأقل يخرجها بأفكارها بعيدا ولو مؤقتا 
....مش عارفة انام ، حاولت كتير بس للأسف مقدرتش....
... أنا عارف ان فراقها صعب ، بس متأكد انك قوية جدا وهتقدرى ...
....المرة دى بالذات ، أشك ....
....تراهنينى. ...
...أنت واثق منى اوى كدة ...


....اوى ، اوى ، اوى ....
....بتفكرنى بيها بثقتك دى ، كانت برده بتثق فيا بنفس الشكل ...
....كانت صح ...
...بس سابتنى وراحت وواضح أن غيابها عنى هيعملى مشاكل كتير ...
...هتقدرى تحليها ، و هكون معاكى ، مش هسيبك ...
لم ترسل الرد على هذه الرسالة مباشرة ، استمرت فى قرائتها مرات ومرات ، ثم ردت بكلمة واحدة .....متأكد ....
.... جدا ، واضح ان انتى اللى عندك شك ...
...أنا بقيت أشك فى كل حاجة ، حتى فى نفسى ...
...كفاية شك لحد كدة ، إللى وصلك للمرحلة دى من غير ما حد قدر يكسرك ، هتكملى ، هتكملى ياسارة وبقوة ...
.وظل يحدثها بنفس الطريقة حتى سقطت نائمة ومازالت تتمسك بالتيليفون فى يدها وكأنه هو من تلمسه فعلا ، وعندما تأكد من نومها ، تمنى لو كان معها الآن ليغلق الشرفة المفتوحة ويغطيها ليقيها من هذا الجو وظل لدقائق يفكر فى ذلك ، ولكن ما قطع أفكاره دخول مها التى وجدتها على هذا الحال ، فغطتها وأغلقت الشرفة وخرجت مرة أخرى ،
ابتسم هو لذلك ، وأغلق شرفته هو الأخر ، ودخل لينام ، فقد بدأ نور السماء يرسل اشعته على الأرض ليبدد ظلامها الذى استمر طوال الليل .

استمر الحال كما هو لمدة ثلاث أيام الخاصة بالحداد ، عاد نور للمنزل تانى يوم ، حاولت سارة التخفيف عن شقيقاتها بقدر ما استطاعت ، وقضاء معظم وقتها مهم ومع نور ، لم تغادر مها منزل سارة إلا بعد يومين بعد اصرار سارة لعودتها لمنزلها من أجل زوجها ، 
وظلت تقضى ليلها فى محادثة أحمد شات على الواتس ، 
لاحظت سارة تغيير كامل فى معاملة هشام لها ، فقد توقعت منه اهتمام اكثر فى مثل هذه الظروف ، فلم يزرها مرة أخرى بعد العزاء ، ولم يتصل بها إلا مرة واحدة وكانت مختصرة جدا ، ولكنها لم تعلق على ذلك لانشغالها بما هو أهم . 
عادت لعملها فى اليوم الرابع مباشرة ، واصرت أن تذهب شقيقاتها لجامعتهم فى محاولة منها لالهائهم فى الدراسة . وقررت هى أن يتم افتتاح المركز السادس لها فى أقرب وقت ممكن ، لتشغل عقلها أكثر فى أشياء مختلفة . وأصدرت اوامرها لكل القائمين على الافتتاح لتجهيز أنفسهم على بداية الشهر الجديد . 

لكن للأسف يبدو أن الأيام تحمل لها الكثير من الأحداث ، ولن تكتفى بهذا القدر من الحزن الذى أصابها . 
عادت مبكرا فى هذا اليوم ومرت على نور لتأخذه من حضانته ، ساعدته لتغيير ملابسه ثم نام بعد ذلك كما عودته جدته ، وبدأت تفكر فى أنها تحتاج لمربية جيدة لمساعدتها مع نور خاصة فى أوقات غيابها . 
لم تكن قد بدلت ملابسها بعد حتى اتتها سناء لتخبرها أن هناك ضيوف ينتظرونها فى صالون المنزل الخارجى ، ( وهو عبارة عن قاعة كبيرة وملحق بها مطبخ بسيط لتجهيز المشروبات وحمام صغير راقى ، جهزتها سارة لإستقبال الضيوف الغرباء خاصة الرجال ، لأنه بالطبع معروف انهم يعيشون بدون رجل ففضلت عدم دخول الرجال للمنزل ، غير أنها وشقيقاتها محجبات ، فحاولت الحفاظ على استقلاليتهم وحريتهم فى المنزل )

ارتدت حجابها مرة أخرى ، واتجهت لترى من القادم ، فقد توقعت بعض المعزيين ، ولكن المفاجأة كانت من نصيبها حين وجدتهم نفس الأشخاص الذين حضروا العزاء وكان معظمهم يرتدى الجلباب الصعيدى ،من أمامها الآن هو خمس رجال منهم، اثنان يلبسون الجلباب الصعيدى ، أحدهما كبير فى السن ولم ترتاح سارة لنظراته والآخر شاب ، أما الثلاثة الآخرين ، أحدهما يرتدى بدلة انيقة ويبدوا عليه الوقار والاحترام وهو الوحيد الذى احست من نظراته بالحنان ، أمل الاثنان الآخرين فيرتدى كل منهم قميص وبنطلون ، 
تمالكت نفسها ورسمت قناع من السيطرة والقوة الذائفة رغم تصاعد ضربات قلبها التى تنبئ بانهيار هذا القناع . 
....أهلا وسهلا ..
بدأ بالكلام الرجل الذى يرتدى البدلة وتحدث بالهجة الصعيدية
...أهلا بيكى يابنيتى ، إحنا اسفين أن جينا من غير ميعاد ، كان لازم نبلغك قبل ما نيجى ، وجلنا بالمرة نعزيكى، مااحنا ماجبلناكيش يوم العزا ...
...تشرفوا فى أى وقت ، اتفضلوا ، واقفين ليه ، تحبوا تشربوا ايه ؟
...دايما عامر يابتى..؟
... أتعرف بحضراتكم الأول ...
... حجك برديك أنى ياستى ابجى عمك حمدى ، وحضرته ييجى عمك سعيد ، ودول ولده محسن وولده نصيف ، وده بجى ياستى يبجى ابنى محمد ، انى مسميه على اسم ابوكى الله يرحمه. ..

...تشرفنا ياجماعة ، متزعلوش منى ، اصلى اول مرة اشوفكم ...
...عازرينك يابتى ، ماهو انتى متعرفيناش ، والحج على ابوكى وأمك ...
...الله يرحمهم ، اما حكاية معرفكوش دى ، فاأنا عندى فكرة كويسة اوى عنكم ....

عند هذه الجملة بدأ كل منهم ينظر للأخر ، فأكملت سارة كلامها بعدما لاحظت رد فعلهم

...احنا يمكن متقابلناش قبل كدة ، بس المعلومات اللى عندى كفاية ...
رد سعيد ب غطرسة ...تقصدى ايه يابنت أمك ...
...إيه بنت أمك دى ، انا أسمى الدكتورة سارة ، الدكتورة سارة محمد عبد الهادى ...
...مهو عشان اكدة احنا جايين ...
...يعنى إيه مش فاهمة ..
..يعنى عشان انتى بت محمد عبد الهادى ، يعنى بتنا ، جايين نخدك معانا ، انتى وخواتك ...
....أفندم ، تاخدنا معاك فين ياحضرت. ..
...البلد ، إحنا معندناش حريم تجعد وحدياتها اكدة من غير راجل ...

كل هذا وسارة تحتفظ بهدوئها حتى لا تعطيهم انطباع الضعف عنها ، فردت بمنتهى البرود 
...لا والله ، دلوقتى بس افتكرتوا أن احنا حريم لوحدنا ..
...مكانش نعرف مكانكم بابت اخوى ، ولما عرفنا ، جلنا الخير والبركة فى أمك ، لكن دلوقتى هى ماتت ، يبجى مفيش لزوم تفضلى اهنا لوحدك انتى وخواتك ...
...ااه ، تمام اوى ، اسمعونى بقى كويس لأنى مش هكرر كلامى ده مرة تانية ، انا شغلى هنا وبيتى هنا وحياتى كلها انا واخواتى هنا ، وجامعاتهم ومستقبلهم ، ومش هتحرك من هنا ، لو مش عاجبكم ، تقدروا تعتبرونا مش موجودين ، من الاخر مش من حريمكم ، وده آخر كلام عندى ...
....أنتى اتجنيتى يابت ، ازاى تتكلمى معانا بالطريجة ديى ...
....خد بالك من كلامك ، واعرف انت بتكلم مين ، واللى هيفكر يقربلى انا ولا اخواتى ، هنفيه من على وش الدنيا ...
 


عندما وجد حمدى الصراع بين سارة وعمها سعيد وصل لهذه الدرجة تدخل قائلا 
....اهدى يابتى، احنا مش جايين وجاصدين الشر ، بالعكس احنا خايفين عليكم من وجودكم وحدياتكم اهنا ...
وجهت سارة كلامها له بطريقة جادة ...من كلام والدتى عنك قلت أنك مستحيل تشارك فى اللى هم بيقولوه ده ، بس واضح أنها متفرقش ، ومن الآخر ، احنا طول عمرنا عايشين من غير أهل وناويين نكمل على كدة ،، انا خلصت كلامى ، كملوا قهوتكم وتتفضلوا بألف سلامة ، وياريت الزيارة متتكررش ، عن اذنكم .... 

تركتهم سارة وخرجت ، توجه سعيد بكلامه لحمدى ...هى دى اللى انا كنت عايزنا نكلمها براحة والعجل، اهى طردتنا ، طردت عمامها ، والله ليكون آخر يوم فى عمرها ، لا عاش ولا كان اللى يهينا اكدة ...
...اهدى ياحج سعيد ، مش بالطريقة دى ، انا لسة عند كلامى ، العافية والتهديد مهيعملوش معاها حاجة ، خلينا نمشى دلوقيتى، ولينا كلام تانى ....
 


خرج الجميع بعدها بدقائق ويبدوا على وجوههم الغضب الشديد ، هذا ما كان ينقصها ، ازدياد الطماعين من حولها ، هى ليست جاهزة لاحتمالات التعدى من هؤلاء ، 
فكيف ستتعامل مع هؤلاء ؟ 



إعدادات القراءة


لون الخلفية