الجزء 31

اعتقدت خطأ أن أيام الألم والحزن التى عاشتها قد انتهت ، وأن السحابة السوداء التى حجبت عن قلبها النور بدأت تنقشع ، وأنها سترى الدنيا من نافذة الحب والحياة مرة أخرى . 

حبه ، اهتمامه، حمايته لها من قريب أو بعيد جعلتها تبدأ فى إعطاء الدنيا الأمان من جديد ، 

فقدانها للأمل فى حياة خاصة بها قد تعودت عليه ، قررت الإمضاء فى حياتها من أجل ابنها واخواتها الاتى لم يعرفن سندا فى حياتهما غيرها ،
أما هى كأنثى قد ماتت فيها كل المشاعر التى قد تعيشها مع رجل تعشقه ، مات فيها كل إحساس قد يثيره رجل بكلمة أو لمسة أو حتى مجرد نظرة منه لها ، احتضر القلب بعد فقدانه كل مقومات الحياة .

لكنه عاد لها ، عاد من أجلها ، بحث عنها ووجدها ، وتمسك بها ، عاد بعد غياب طويل ليحيى ما قد مات فيها ، عاد ليقولها ويجهر بها أمام الجميع ،،،

..انتى حبيبتى ، قلبك ملكى ولن يكون لاحد غيرى ..

عاد بعد ست سنوات ، زاقت فيهم كل أنواع الحرمان العاطفى ، شاهدت الموت البطئ لمشاعرها على يد زوج سادى عنيف وذكراه السيئة من بعده ، 

عاشت تقطات على ذكريات جميلة عاشتها معه بعيدا عن عالمها وضغطه عليها ، وعندما قررت الاقتران برجل آخر ، هاجمتها ذكرياتها معه بكل قوة ، ليلا ونهارا وفى كل دقيقة ومع كل موقف ، وكأن عقلها وقلبها يحاولون أخبارها بأنه لا يوجد مكان لغيره داخلهما.

وقف للجميع من أجلها ، ظلها بحمايته ورعايته ، ولم ولن يترك مخلوق يقترب منه ، 
فقط شعرت بالأمان فى وجوده وان كان بعيدا ، فقط عاشت معه العشق الذى لم تجده من أحد غيره ، 

لكن الآن ، الآن قررت الحياة أن تجعله يغيب ، أن تغيب شمس سطعت لتنير طريقها الذى أظلم منذ سنين ، الأن هو ممدد على فراش الموت كما يطلقون عليه ، متصل به أسلاك من جميع الاجهزة التى عرفتها طوال حياتها الطبية ، مغمض العينين ، فاقد لكل معنى من معانى الحياة ، 

تقف هى خلف الحاجز الزجاجى ومازالت بفسانها الذى يغطى بدمائه وقت إصابته ، تقف مذهولة من رؤيته هكذا بعدما كانت بين يديه يرقصان أمام الجميع بعد عقد قرانهما ، 
هو الآن بين يدى الله ، ولن ينقذه ويعيده اليها غيره ،
رفعت رأسها للسماء وعينيها تمتلئ بالدموع، 
وقلبها يصرخ بالنداء .....يارب ، يارب ....

**************************

أما عن الجد ،، سليم نورالدين ،، فقد فقد قواه تماما وانهار واقعا على الأرض بعد رؤية حفيده الأهم غارقا فى دمه ، حفيده وريث حكم مملكة نور الدين ، الذى اختاره من بين أربعة أبناء وسبعة أحفاد ذكور ليحظى بمكانه من بعده ،

ارتفع ضغط دمه وسقط مغشيا عليه بعدما كان كالجبل الشامخ، لم يصبه مرض طوال حياته ، تم وضعه فى العناية المتوسطة منذ أمس لحين استعادة وعيه ومراقبة ضغطه ، 

بيده قتل حفيده ، بمساعدته تم الدخول ، بماله تم الصرف على التخطيط والتنفيذ ، كانت هى الهدف ، خيب الله هدفه وأصاب آخر 
ما أراده لها ، أصابه هو ، أصاب امتداده ، واصابه فى مقتل . 

***************************

....سارة ، ردى عليا ارجوكى ، تعالى غيرى هدومك دى ، انا جبتلك هدوم تانية ، مينفعش كدة ياسارة ، انتى على نفس الوقفة دى من امبارح ...

لم ترد سارة على مها واستمرت على وقفتها أمام الحاجز الزجاجى ، تراقبه من بعيد .

ألقت نظرة لطارق زوجها وهى تهز كتفها بقلة حيلة ، فلم تقابل كل محاولاتها مع سارة بأى نتيجة ، 
ونظرة أخرى من طارق لجاسر ابن عم سارة والصاحب الأقرب لأحمد ، الذى بدوره تقدم من سارة ،وقال :

...سارة ، أحمد نفسه مستحيل يكون سعيد بوقفتك دى ولا بشكلك ده ، روحى مع مها ، غيرى هدومك وارجعيله تانى ، انتى مش هتبعدى ، الحمام أهو ،
يلا ياسارة ...

رفعت عينيها له بشئ من الاستسلام والضعف ، وضع يديه على كتفيها وحركها بشئ من الاجبار وهو يومئ برأسه ليشجعها على الحركة ،

تقدمت منها مها وسندتها ، واتجها للحمام تحت أنظار عائلة نورالدين بالكامل ، بالإضافة إلى كل المساهمين فى الحدث والمجاملين وبعض رجال الأعمال .

فقد امتلئت المستشفى منذ ليلة أمس بكل هؤلاء ، لا يرحل جزء منهم إلا ويحضر آخرون ، 

أما عن هشام الذى لم يتحدث منذ وقتها ، هو يحب أحمد ، هو بالنسبة له صاحبه وابن عمه وسنده الذى واجه معه الجميع خاصة جده ، 
لكن بعد مواقفه مع سارة التى لم يكن يعلم بها إلا مؤخرا ، بدأ يتغير تجاهه خاصة عندما أعتقد أن أحمد هو من غير سارة عليه ليقرب منها ، 
حتى بعدما اتضحت له بعض الأمور ليلة أمس بعد حديث أحمد وقصه حكايته مع سارة أمام الجميع إلا أن موقفه لم يتغير من ناحية أحمد ، خاصة بعد إعلان جده للجميع تولي أحمد إدارة المجموعة معه ، وتمتعه بكافة الصلاحيات التى يتمتع بها جده ،

والغريب انه من داخله لا يعلم أن كان حزينا أو سعيد بما حدث لأحمد ، 


أما عن هيا ، الزوجة المتروكة من أجل سارة ، فهى ليست حزينة مطلقا لما حدث لأحمد ، وشماتتها فى سارة ، وغير مهتمة على الإطلاق إلا غضبها بسبب طلاقها قبل أيام لما حدث الآن ، وبعدها زواجه من سارة ،
فبهذا ترث سارة أكثر من نصف تركته ، فى الوقت الذى حرمت فيه من أى ايرث منه ،

غافلة عن أن سارة لا تشعر بوجودها مطلقا ولا ما تفكر فيه ، فهى الآن مغلفة بكبسولة حزنها على ضياعه منها . 



خرجت سارة ، مرتدية ما احضرته لها مها وهو بنطلون جينز اسود وفست زهرى غامق وضيق وطوله حتى الركبة وفوقه جاكت اسود مع حجاب وجزمة بلون الفست ، 
دخلت بها مها إحدى الاستراحات القريبة ، ساعدتها على الجلوس ، 

...ثانية واحدة ، هجبلك عصير واجى حالا ... 

...تعالى يامها ، مش عايزة حاجة ، مليش نفس ، انا هقوم اروح للدكتور أطمن على أحمد ...

...استنى بس ، تروحى فين ، انا مردتش اقولك أكل ، عشان عارفة انك هترفضى ، قلت عصير وخلاص ، ثانية واحدة وهاجى على طول ....

جلست سارة ثوانى وحدها ،قل إن تفاجئ بمن جلس أمامها دون دعوة ،

...سارة ، عاملة ايه دلوقتى ؟

...الحمد لله ، اخبار جدك ايه ؟

...الحمد لله ، بيقولو لو استمر الحال على كدة ، هيخرجوه اوضة عادية انهارضة. ..

...الحمد لله ...

ساد الصمت بينهما لثوانى ، ثم قال ليقطع صمتهما 

...ليه مقولتليش انك كنتى متجوزة أحمد قبل كدة ...

رفعت رأسها مندهشة من عدم مناسبة الوقت والموقف لهذا الحديث ، لكنها غير قادرة على عتاب أو ملامة أحد ، خاصة بعدما تذكرت تهربه منها فى وقت كانت فيه فى أشد حاجتها إليه .
ردت عليه باقتطاب ...ادعيله ، ادعيله يقوم بالسلامة ا الأول ....

غادرت المكان ، وتابعها بعينه حتى أبتعدت ، واستدار يلعن نفسه على تهوره بسؤاله هذا . 



انطلقت سارة متجهة لغرفة الطبيب لتسأل عن حالة أحمد ، لكن بالطبع زادت حزن على حزنها نتيجة لكلامه ، جراحة القلب المفتوح التى أجراها أحمد بسبب الرصاصة التى استقرت فى قلبه، لم تكن محمودة النتائج ، لكنها كانت الخيار الأمثل فى حالته.
أصبحت كالمغيبة عن الوعى لكنها تتحرك على قدميها، ، خرجت من المستشفى تحاول الوصول للهواء لتتنفس لصعوبة قدرتها على التنفس داخل المستشفى وكأنه لا يوجد بها هواء ، 

كانت تمشى بلا وجهة محددة ، فقط تمشى حتى أبتعدت قليلة ، دخلت منطقة تكسوها الخضرة ومملوئة بالأشجار ، يبدوا أنها حديقة يحوطون المستشفى بها ، 
غافلة عن زوجين من الأعين التى شاهدت دخولها هذه المنطقة ، أحدهما جاسر الذى تتبعها من لحظة خروجها من غرفة الطبيب لقلقه عليها ، والزوج الآخر كان لهيا التى كانت تستقل سيارتها وفى اتجاهها للمستشفى ولمحت جاسر أولا ، فهى تعرفه جيدا ، وللاسف حاولت اغوائه من قبل وفى عز تناغم علاقتها بأحمد ، 
انا سارة فهى لا تعرفها جيدا، فلم ترها من أيام الجامعة ، وبالطبع لن تتعرف عليها بسهولة بعد الحجاب ، لكن حين اقتربت تبينت ملامحها جيدا ، 
كان هدفها جاسر الذى رفضها من قبل ، فوجدت ما هو أكثر وأهم من ذلك بالنسبة لها ،

وقغت سارة أمام أحد أحواض الورد ، ومستندة بظهرها على جزع شجرة عالية ، تذكرت أحد مواقفها معه ، كانت فى المزرعة ، مكان ما إخفاء هى واسرتها عن المهددون بقتلها، 
كانا يمشيان فى الحديقة وحدهما بعد العشاء ، ووقفا أمام حوض زهور يشبه الذى تقف أمامه الآن ، 
جلس أحمد على أحد أطرافه ومد يده لها لتجلس وفعلت ،

...أنتى رافضة فكرة الموت ، بس دى الحقيقة الوحيدة في حياتنا واللى مفيش مخلوق هيهرب منها ...

...أنا مش رافضة الفكرة ، بس انا تعبت من كل الحزن اللى عدى عليا ، والموت بالنسبالى مصدر أساسى للحزن ...

...ولو أنا اللى مت ، هتعملى ...

انتفضت سارة وهى تلتفت إليه ، وضعت يدها على فمه لتمنعه أن يكمل ، تلئلئت الدموع فى عينيها، وهى تومئ رأسها له بالنفى ، تستجديه أن يبعد الفكرة اصلا ، فلن تتحمل ، 

مد يده وضعها فوق يدها التى تغطى فمه وقبل راحتها ، وبحركة تلقائية منها اقتربت ودخلت فى ااحضانه ومد يديه واحاطها ، فقد أراد هذا منذ زمن بعيد ، والآن يحدث ، هى بين يديه ، وكان هذه ثانى مرة تفعلها بعد اول لقاء بينهما فى الغردقة .
أبعد رأسها، وهم بتقبيلها ، لكنها أدارت رأسها للجانب وابعدت يديها عنه ، وقفت وتحركت بظهرها بعيدا وهى تومئ بالسلب، 

خيط بيده على حائط الحوض وهو يقول بصوت عالى 

...كدة صعب ، والله صعب ، طب يارب اموت ...

تجمدت مكانها ، وتحولت ابتسامتها لتكشيرة من دعائه ،

وقف واقترب منها ، وامسك بوجهها بين يديه ،وقال

...وافقى تتجوزينى أول ما نرجع وانا مقولش كدة تانى ...

فكت يديه ، وجرت من أمامه وصوت ضحكتها العالية يغطى المكان .

لم تعد تتحمل حتى الذكرى بينهما وهو غائب عن الدنيا هكذا ، انهارت ، وارتفع صوت بكائها ، وهى تنزل بجسدها مستندة للشجرة ، حتى جلست على الأرض وهى تبكى بهيستيريا. 

راقب جاسر كل هذا ، ولم يعد يتحمل انهيارها بهذه الطريقة ، اقترب منها نزل على ركبتيه أمامها ، أمسك رأسها وشدها تجاهه ، استندت على صدره وزاد نحيبها، ولكن اقترابها من صدره بهذه الطريقة ، ذكرها بحضن حبيبها ، فلفت يديها حول خسره وهى تقترب منه حتى التصقت بصدره ومازالت تبكى ، 
بملامستها له بهذه الطريقة ، فقد كل قدرته على السيطرة على نفسه ، احاطها بزراعيه وضمها بقوة وكأنه يزرعها بين ضلوعه حتى لا تبتعد مرة أخرى ، 

لم ينتبها للواقفة تشاهد وتستمتع بالاحداث أمامها ، وبالنسبة لها هذا مشهد حب رائع بين حبيبين ، 

انتفض كل منهما على صوتها وهى تقول 



إعدادات القراءة


لون الخلفية