أما جاسر الذي كان يتبعه لاحظ بتعجب ترنح سيارته التي أخذت في التسارع وكما وضح له أن الآخر فقد سيطرته عليها، خلال دقائق بطيئة وهو يصرخ ويسب بعجز رأى السيارة تنحرف عن الطريق لتنقلب رأساً على عقب في الطريق الترابي الموازي.
أوقف سيارته سريعاً، مكان الحادث مع وقوف بعض السيارات الأخرى المارة، هبط وهو يهرول إليه ويقفز للطريق الترابي، تحرك بعض وصوله لمستوى السيارة بتخبط وهو يرى إطار السيارة المنقلبة ما زالت يتحرك، زئر بجنون وهو يهبط على ركبتيه يوازي نافذة السيارة يحاول فتح الباب أو كسر الشباك وهو يصرخ بِه: "إيهاب أفق، لا تستلم ليس الآن كن روحا تسارع للحياة، كما عهدتك ساعد نفسك"
استمر هدره بالترافق بطرقه زجاج السيارة بعنف، وسط فقده لأعصابه، الرعب الذي حل به والبرودة التي اجتاحته.
هلع، كل ما كان يمر به من هلع أفقده اتزانه، رفيق عمره من انتشله من الطريق السيئ الذي كان ينوي مجاراته، رغم أنه لا يكبره إلا بعام واحد، لكنه في غربته هنا هو الوحيد الذي قدم له العون ليهديه للطريق السليم وقدم له الصحبة، رفيق عمره، ستة عشر عاماً، كان الرفيق الجيد
يخسره وهو عاجز حتى عن إخراجه من سيارة.
عاد ليهدر ويصرخ وهو يطرق الباب مرة أخرى، ليجد بعدها بعض الرجال قد تجمعوا حول السيارة وأحدهم يمسك ما يسمى (عتلة) حديد ويأمره بتعجل: "ساعدني لن نستطيع إخراجه من النافذة، كما أن هذا قد يسبب له الأذى أكثر مما هو فيه بالفعل" بدون تردد ساعد الشاب وهو ينقاد له وعقله عاجزاً عن التفكير، ليجد اثنان آخرين ينضمون لهم، لم يعلم كم مر من الوقت حتى استطاعوا إخراجه ولكن مهما كان قصيرا فقد بدا له كالدهر.
انتشل جسده وقاوم لإخراجه بحرص، ليقوموا بفرد جسده على الأرض الترابية، جحظت عيناه برعب وهو يرى قطعة من حديد تخترق منتصف صدره، هز رأسه بذهول وهو يهبط إلى جانبه، لا لم يكن صدره، لقد كانت بقلبه مباشرة.
لم يدرك الدموع التي أغرقت عيناه وهو يرى جسد صديقه مسجى بعجز..
ربـــاه هل فارق الحياة؟.
وجاوره الشاب مرة أخرى وهو يضع يده بحرص بجانب السيخ الحديدي ليحاول طمأنته باضطراب من الموقف: "لا تقلق ما زال قلب أخيك ينبض، أعتقد أن هذا الشيء بجوار قلبه فقط ولكنه لم يخترقه، انظر أنفاسه ما زالت تخرج ببطء"
ليردف يوضح للمذهول أمامه: "لقد اتصلنا بالإسعاف بالفعل "
تمتم بذهول وهو ينفى: "لا أي اسعاف الذي انتظره يجب أن أتحرك به الآن"
لينهيه البعض ويوضح له خطورة أن يحركوه مرة أخرى بحالته تلك، انصاع بعجز وهو يدرك الحكمة مما يخبروه بت، ينظر له بغير تصديق، ليهز رأسه برفض وهو يقول بخفوت وكأنه يسمعه: "لما الآن إيهاب وفى هذا الوقت، الم يقدر لك أبداً أن تصل لنهاية الطريق، ألم يقدر لك أن تحصل على سعادة تطاردها من يوم معرفتي بك"
وجد من يربت على كتفه بعد وقت يخاطبه: "حاول أن تتحل بالقوة ليس وقت الانهيار الآن أجله فيما بعد، الموقف يحتاج لكل تجلد منك"
نظر للواقف بجانبه من علو يخبره: "ماذا سأخبر زوجته لن أستطيع أن أخبرها بفقدان والد طفلها الذي لم ير النور"
جلس الرجل بجانبه: "وحد الله بني، لا تتحدث هكذا وقدم الخير ما زال على قيد الحياة"
قاطع كلماته وهو يراقب رجال الإسعاف الذين أتوا مسرعين وسيارة شرطة تقف على الطريق السريع: "ها قد أتت الإسعاف حظه جيد وقت قياسي بالنسبة لهم تحلى بالقوة"
راقب رجال الإسعاف ينقلونه على الناقل ويحملونه للسيارة الخاصة وهو ورائهم بتعجل ليلحق به فيصعد إلى جواره.
ومازال على تحديقه به وهما يقومان بما يستطيعون لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لا يعلم كم مر من الوقت حتى وصلوا جميعا للمستشفى، تم نقله أولاً لحجرة الطوارئ في المستشفى الخاصة التي قام هو بترجيهم تقريباً لنقله إليها ونظراً لخطورة الوضع اخترقوا القوانين بعد تحدثه على هاتف سيارة الإسعاف بأحد الضباط المتواجدين وإخباره أن المريض يحمل الجنسية الأمريكية، التي تنقذ الموقف دائماً، بقي خارج الغرفة ينتظر أي خبر ولم تمر دقائق عدة حتى أتى له الطبيب ليخبره بقلق بخطورة الوضع الذي يدركه جيداً.
ليخبره الطبيب: "هل أنت قريب له" هز رأسه بنفي ليكمل الطبيب: "أريد أحد أقاربه وهذا لحاجتنا إلى الكثير من الدم من فصيلته، لأن نزع ذلك الشيء من صدره سيفقده الكثير من الدماء ولا يتواجد لدينا الكمية الكافية التي ادعمه بها، لذا تصرف بسرعة"، تركه وعاد للغرفة وجاسر عقله يدور بت، يحاول أن يفكر فمن يعرفهم، من يستطيع أن يمنحه أو يكون له نفس فصيلة الدماء.
مريم مستبعدة حملها وأيضاً تداركه لصلة القرابة البعيدة بينهما.
لمع من بين أفكاره مراد، فزوجة مراد بالتأكيد قد تكون فرصته وتحمل نفس الفصيلة، بدون تردد أخرج هاتفه وهو يقوم بالاتصال بت بسرعة.
أتاه الصوت بعد قليل من مراد وهو يتعجب اتصاله بت، عندما ذهب إليه منذ أسبوعين ربما كان اللقاء ثقيلا ورفض ضمنياً أي مبادرة لعودة صداقتهم: "مرحباً جاسر، كيف حالك؟ "
لم ينطق إلا بجملة واحدة: "مراد إيهاب يموت ويحتاج متبرعا بالدم ولا أعرف من يستطيع التبرع له"
لينطق مراد وكأنه لم يستوعب للحظات: "ما الذي تقوله جاسر؟، من هذا الذي يموت؟"
صرخ به الأخر بدون وعي، مصيبته أكبر من الشرح وتضييع الوقت الذي يحسب على حياة صديقه: "كما أخبرك مراد إيهاب يموت ولا يوجد أمامي إلا زوجتك أنا في مستشفى (....) يقع في وسط المدينة الجديدة"، ليكمل بحزم: "هل سوف تأتي، أم لا يهمك الأمر؟"
تجمدت أطرافه وقد هربت الدماء منه تاركا إياه أشبه باللوح عند استيعابه ما يحاول إخباره إياه، أخفض الهاتف بجانبه وهو ينظر لإسراء التي تعطى سحر بعض التعليمات لرعاية الطفلتين أثناء ذهابهم للاستشاري النفسي.
انتبه على وقفوها أمامه وهي تحاول أن تستفهم منه على سبب جموده لتسأله بقلق: "مراد ما بك، ما الذي حدث؟ من كان يتحدث بل من هذا الذي يموت؟"
تحدث اليها بجمود يخبرها: "إيهاب"
جمدت أطرافها هي الأخرى بجزع تردد اسمه: "إيهاب، ما الذي تقوله وما الذي حدث؟"
هز رأسه بنفي وهو يكمل: "لا أعرف إسراء، جاسر أخبرني فقط بأنه يموت ويحتاج على الفور لأحد من نفس فصيلة دمه"
وكانت هي الأوعى للموقف واستيعاب المقصود وهي تتوجه على الفور لباب المنزل: "أنا من نفس الفصيلة، هيا مراد، هل أخبرك بالعنوان؟"
للحظات ظل يحدق بها وهو يستوعب ما تقوله، ليعود لغيرته على الفور فيقول برفض قاطع: "لن يحدث هذا، سوف نحدث والدته أو نرى أي أحد أخر ليساعده"
تركت مقبض الباب بصدمة: "مراد صديقك وابن عمي يموت وأنت تقول أن نبحث عن أحد أخر فنضيع وقته وفرصة نجاته وأنا متوفرة بالفعل، هل تعي ما تقول أم ماذا؟ !"
صرخ بها بدون سيطرة وهو يرى جزعها وتعجلها: "لن يحدث إسراء، لن تجري دمائك في عروقه ولن يربطك به شيء أخر، لن يحدث هل تفهمين؟"
لم يتلق إجابة وأنفاسه تهدر بثورة وعينيه تتحدث بالكثير، هل عاد لاتهامها بدون أن ينطقها،
ردت بجمود تام وهي تخبره بصوت قاطع: "دمائه بالفعل تجري في دمي مراد، هناك رابط لن ينفصل بيننا مهما حاولت أن تنكره، تظل رابطة الدم أقوى من أي عوائق أخرى، فهل نسيت أنه ابن عمي ورغما عنك وعني وعنه يبقى نسبنا واحد"
قبل أن يصرخ مرة أخرى، أخبرته وهي تفتح الباب وتغادر: "اسمع مراد، أنا سوف اذهب وأجد العنوان وحدي، هذه فرصتي لأنقذه إن استطعت، ابن عمي الذي رعاني ولم أرد له رعايته إلا بالوجع والرفض يموت، هناك إنسان أخطا كلنا في حقه، يموت ولن أتردد في إنقاذه حدد أنت ما هي خياراتك"
بصوت بارد هددها: "إن حدث إسراء سوف أعلم أنك فضلته عني وهذا لن يكون رده الا نهاية كل ما بيننا"
جمدت مكانها وهي تستدير تنظر إليه ولا تبدي أي ردة فعل ليخرج صوتها بارد مثله تماماً: "كما تحب مراد لكن ضع في حسبانك أني لن أسامحك أيضاً ما حييت لان بهذه الحالة سأختارك أنت ولكن مرغمة واترك إنسانا يموت بسبب هواجس في رأسك فقط ليس لها أساس من الصحة، كما أخبرتك سابقاً أنا لم أحب إلا أنت فاختار الآن غرورك الرجولي أم حياة إنسان يفترض أنه صديقك"
**************
أمام غرفة الطوارئ خرجت ممرضة ممن يتواجدون في غرفة المستشفى إلى المنتظر خارجا، وهي تخبره بتعجل: "الحقنى من فضلك المريض استعاد وعيه الآن ويردد أنه يريد أحد ما، ربما يقصدك"
بخطوات متلهفة اقتحم الغرفة خلفها وهو يرى أكثر من طبيب حوله وعلى ملامحهم القلق وربما اليأس، يبذلون كل جهدهم وهم يعلمون جيدا ربما أنه سوف يذهب هباءً.
استفسر على الفور وهو يصرخ بهم: "أنا لا افهم، لمَ هو هنا؟، أليس من المفترض الذهاب لغرفة العمليات فوراً؟"
رد عليه طبيب، يبدو من ظهره أنه أكبرهم سَنَا، وهو يتابع تفحصه: "لا في هذه الحالات، لن نستطيع البدء في شيء إلا أن نتأكد بأن المريض لم يصب في رأسه بضرر ولم يدخل غيبوبة وهذا الشيء يجب نزعه وهو مدرك الوعي والاهم أن تكون لدي كل عبوات الدم التي أحتاجها"
ليقول بغضب: "ماذا تقول؟، هل أنت غبي، أن أرفض هذا؟، هل تريد تعريضه لكل هذا الألم"
لم يهتم الطبيب بنعته بالغباء وهو مدرك لحالته فمن مثله من أقارب المرضى يمرون به يومياً
ليرد بحسم: "أنا أعلم ماذا أفعل يا سيد، واستعجالك هو الذي قد يتسبب بخسارة المريض، اقترب منه الآن واعلم منه ما يريد يقوله حتى لا تندم"
اقترب منه جاسر ببطء متردد، يراه ممدا على السرير الطبي، جسده موصول بعدة أجهزة، كانوا قد خلصوه من ملابسه ولكن مازالت الدماء تغطيه.
وصل إليه لينخفض إلى مستوى وجهه، فيسمعه يتمتم بصوت متحشرج خافت: "أريدها، لا تجعلهم يفعلوا أي شيء إلا بعد أن تأتي لي بها"
هز رأسه على الفور، يدمدم بتأكيد على هويتها دون الحاجة إلى ذكر اسمها: "سوف تأتي لا تقلق"
ليكمل بصوته المتحشرج المرتعش: "إن لم أستطع أن أراها أخبرها بأن كل ما اتهمتني به كذب، أني أحببتها، أمانتك هي يا جاسر، إياك وتركها، مريم أضعف من أن تواجه العالم هي وطفلي وحيدة"
: "لا تقل هذا اصمت، سوف تراها ولن يهتم أحد بها ويكسر رأسها غيرك، كما لن يربى أحد طفلك إلا أنت، تذكره إيهاب وقاوم من أجلهما"
تركه بتردد وكأنه لم يعد يستطع أن يراه هكذا بعد، بينما يخبر نفسه بقوة..لا لن يبكي هو ليس بطفل ولم يحدث شيء، أزمة وسوف تمر، كابوس مرعب وسوف يستفيقوا منه جميعا.
ليخرج هاتفه من جيبه مرة أخرى ويقوم بأصعب اتصال في حياته وسؤال واحد يلح في عقله، ماذا سيخبرها؟
لم يستطع أن يخطو إلى داخل الغرفة مرة أخرى، جلس أمامها على أحد المقاعد واضعا رأسه بين يديه بينما ينظر إلى الأرض بتيه.
النذل مراد لم يأتِ وهو عاجز عن إيجاد أي أحد أخر، لقد اتصل بجميع من يعرفهم حتى ياسر الراوي أخبرهم وهو يقوم بالبحث معه.
يريد أن يصرخ إلى أن يخرج جميع القهر الذي بداخله، كم مر الآن نصف ساعة ربما، صرخ بوجع حقيقي وهو يرفع رأسه ويضرب المقاعد بيده: "نذل يا مراد، كما توقعت نذل حقير"
وجد من يقف أمامه وهو يهدر: " ليس نذل يا جاسر ولا حقير فكفوا عني"
لدقائق حدق به وهو لا يستوعب، ليكمل مراد: "إسراء من سوف تقوم بالتبرع، فإلى أين تتوجه؟"
استدار ثلاثتهم، ليرى الجمع الطبيب والمساعدين يفتحون الباب والطبيب يقوم بحثهم بما يشبه الصراخ والسرير الناقل الذي يحتويه يدفعونه أمامهم.
ليوجه الطبيب الحديث لجاسر: "لن انتظر أكثر من هذا، إن قلبه على وشك التوقف سوف أقوم بها الآن واكتفى بما هو موجود لدي، على أمل أن تستطيع أن توفر ما احتاجه خلال إجرائي للعملية"
أشار جاسر لإسراء على الفوار: "لقد وجدت المتبرعة، ابنة عمه، ها هي"
تحركت ممرضة ناحية إسراء وهي تخبرها: "تعالي معي لو سمحتِ، لا يوجد وقت كاف لدينا" انصرفت معها إسراء استجابة لأمرها بطواعية.
ليسمع الطبيب يكمل حديثه: "أسف لإخباركم بهذا ولكن احتمال نجاته ضعيفة جدا"
صوت صراخها الذي شق هدوء المستشفى أعلن عن وصولها وسماعها ما يتحدث عنه الطبيب، رآها جاسر تتعثر في خطواتها وثقل جسدها لا يسعفها الحركة.
صوتها المبحوح في صرخاته يعلن عن جزعها ورعبها مع صدمتها القوية.
لم تلتفت لأحد ولا لتحذير الطبيب، الذي حاول أن يبعدها عندما توجهت إليه على الفور، راقب جسدها الذي ارتمى عليه وسماع صوتها الجزع، تسأل إيهاب الشبه فاقد لوعيه، تحثه على الحديث: "إيهاب رد علي، أنا هنا، ما الذي حدث، كنت أشعر بهذا، قلبي أخبرني، إيهــــــاب"
فتح عينيه ببطء وهو يبتسم لها ابتسامة باهتة وضعيفة، ويحمد ربه أنه منحه الفرصة الأخيرة لرؤيتها، لضمها ولو كانت هي من ترتمي عليه، يحمد الله أنه منحه الفرصة ليفهمها، خرج صوته وهو يجاهد ليطمئنها: "لا تخافي ولا تجزعي، تذكري ما كنت أخبرك دائماً إياه عن عدم الاعتراض على مشيئة الله، الطفل مريم ابني حبيبتي كما اهتممت بك راعى طفلنا"
صرخت بصوت معذب ونبرات جريحة وجسدها ينتفض وهي تتفحص جسده وترى ذلك الشيء المغروس بجانب قلبه: "لا تقل هذا، أرجوك، أنا أحبك، لا تتركني، هل تذكر وعدك لي بعدم تركي"
ارتسمت المرارة على وجهه: "وهل تذكرين أنت وعودك لي"
تلمست رغم عنها دمائه التي أغرقته لتعود فتحيط وجه وتقبل جبهته: "آسفة، آسفة أنا غبية كما تخبرني دائما، طفلتك الغبية ولكن لا تتركني عدني فقط عدني أنك أقوى مما يحدث كعادتك عدني أنك سوف تعود لي، أطفالك يحتاجونك"
تحشرجت أنفاسه مرة أخرى وشعر باقتراب النهاية، ليقطع الحديث الدائر والذي لم يعد مجدي،
يتمتم بصوت خافت متألم وكأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة وهو يمسك بيديها يجذبها إليه بضعف ليقول بتقطع: "اسمعيني جيداً وافهمي كلامي، أتذكرين الملف الذي يحتوي على الصور التي تجمعنا"
لم تستوعب أيا مما يقول، والدموع تغرق وجهها وتشوش رؤيتها وفكرها.
ردت بصوت مرتجف يتوسل له بينما تميل لتدفن رأسها في عنقه: "سامحني، لا تتركني أنا آسفة إيهاب أرجوك"
ليقاطعها بصوت ضعيف يرفع ذراعه بوهن ويلف كتفيها ليضغط عليهما بضعف، هامسا لها ولسانه بدأ بالتثاقل بالتدريج في نطق الكلمة تلو الأخرى:"اهدئي واسمعيني، قد لا يكون هناك وقت آخر لنا.. الملف ذو الرموز الذي سألتني عن معناها يحتوي على اعتراف مني بزواجي منك وإتمام الزواج ويحتوي كل الأوراق التي تخصك أيضاً حتى البسيطة منها، ستجدينها هناك"
لتقاطعه بعذاب وشهقاتها تعلو في عنقه تغرقه بدموعها وقد بات جسدها على وشك الانهيار: "إيهاب لا تقل هذا أرجوك، أرجوك أنت لن تتركني"
ليتابع بصوت ضعيف والكلمات تخرج متقطعة: "أيضاً، لقد أضفت اعتراف مسجل بشهود ومحامي أن الطفل القادم ابني"
ليتوقف لحظات بين كلمة واخرى وهو يكمل وصوته يخفت بالتدريج، ليكمل يريد أن يطمئن أنها تفهمه وتبحث عن حقها بنفسها: "سوف تتمكنين هكذا من حفظ حقه، سيساعدك والدك وجاسر برفع قضية إثبات نسب الطفل وتسجيله باسمي والزواج مني أيضاً بهويتك الجديدة والأوراق كاملة لدى جاسر والحاسب المحمول الذي يحتوي على الملف الذي يخص كل اعترافاتي سوف تجدينه في مكتبي، اذهبي بدون تأخير ليكون لديك"
ليكمل بتقطع وقد بات الألم لا يحتمل ويطبق على صدره وهو يشعر بقلبه على وشك التوقف
ليقول بصوت متقطع برجاء: "ان..ظ..ري ..إ..ل..ي"
رفعت وجهها عن عنقه لتنظر لوجه الشاحب الغارق بالدماء أدركت من عينيه التي يقاوم إغلاقهما وصوته الذي أصبح ثقيلا، أنها قد فقدته.
لتمسك وجهه تحيطه بيديها وهي تقبل كل إنش منه وتصرخ برجاء: "أريد أن انظر إليك لن استمع إلا لك، لا تتركني، لمَ تفعل ذلك بي"
ليكمل وهو غير قادر على أن يرد أكثر ولكن يجب أن تفهم ليقول: "أنا ..أحبب..تك.لم ..أست..غلك..بال..ط..ريقة.. الس..يئة..التي ذكر..تيها ..قط"
ليغمض عينيه اخيراً يستسلم لقدره وآخر كلمة على لسانه يخبرها بها: "أنت جزء مني فكيف لا أحبك"، لتخرج منه شهقة متوجعة وترتخي يداه عن الامساك بها ..
بفقدان سيطرة نظرت له بعيون متسعة مذهولة، لتمسك بكتفيه تهزه بدهشة وهي تصرخ بِه: "لم سكتت... أكمل كلامك، إبقى معي، لا تملك الحق بتركي، لا تملك الحق لتعذبني، لم دائماً أنت كاذب معي، لما لا تحافظ على وعودك، لقد وعدت بعدم تركي"
ليقترب منها الطبيب وأحد أفراد طاقم التمريض يحاول ابعادها والطبيب يصرخ بهم: " خذوه الآن إلى حجرة العمليات"
ويوجه كلامه لمريم وهو يحاول جذبها برفقة من معه لكنها استمرت في صراخها وهز ايهاب وكأنها سوف تجعله يستفيق وتعيده للحياة: "توقفي عما تفعلينه الآن"
ليقترب منهم جاسر صارخا بغضب: "ابتعدوا عنها، لن يجرؤ أحد على لمسها"
ليحاول جذبها بقوة بعيدا عن إيهاب، بعد أن أبعد الطبيب والممرض عنها وهو يحدثها بصوت مسيطر قوي يسيطر على ألمه وجزعه الخاص بصعوبة: "ابتعدي عنه، هل هكذا سوف يعود إليك، أعطهم الفرصة لإنقاذه، أنت هكذا تقتلينه حقاً"
استطاع بمعاناة أن يجذبها أخيرا ويبعدها عن السرير النقال الخاص بالعمليات ليركض الطاقم الطبي ركضاً وخلفهم الطبيب.
لتقاومه مريم وتصرخ به: "اتركني اذهب إليه، لن يعيدوه إلي، ايهاااااااب لا تتركني، أتوسل إليك، لا لن يبقي لي أحد، أنت تعلم هذا أجبني أرجوك "
ليجذبها جاسر إلى أحضانه وكأنه لم يجد طريقة أخرى ليسيطر على جسدها، الذي ينتفض بعنف وهو يهدر بها: "يكفي، اهدئي ما تفعلينه لن يعيده أو يمنع حدوث ما نحن فيه"
لتتمسك بقميصه وهي غير واعية لأي شيء غير احتراق قلبها الخاص وهي تصيح بصوت معذب من وسط شهقاتها: "أنت لا تفهم لقد كان يودعني سيتركني، يجب أن أمنعه، يجب أن أخبره لم أقصد أيا مما قلته، يجب أن يبقي معي، لا يوجد لي غيره أرجوك اجعله يسمعني، ا
أرجوك لا تدعه يتركني، سيستمع إليك"
تركها تهدر بكلماتها الغير مرتبة، يشعر بها وبألمها ولكن ماذا بيده ليفعل؟،
ربت عليها وهو يشعر بارتخاء جسدها وانهياره فحاول تهدئتها بأي كلمات مطمئنة وهو يعلم جيداً خطورة الوضع وربما كذب عليها قائلا: "اهدئي وتماسكي من أجله سيعود إليك، لن يحدث شيء"
لتنظر إلى وجهه وهي تبتعد عنه، تخبره بصوت متوسل مصدوم: "لن يجرؤ على تركي، مستحيل أن يفعلها"
ليرد مؤكدا لها، لعل كلماته تخفف عنها وعنه، فكان وكأنه يؤكد لنفسه: "لا لن يجرؤ على تركك"
ابتعدت بضعف وهي تبعد عنها ذراعيه لتمشي في الممر الذي اخذوه منه.
والجميع ينظر إليهما ما بين غير مصدق لما يحدث وبين مذهول والجميع لم يستطيعوا السيطرة على بكائهم بفعل الموقف المؤلم.
بل لم يستطع أحد الاقتراب منها أو حتى مواساتها، ماذا سيخبرونها وقد سمعوا حديث الطبيب لجاسر عن الاحتمال الضعيف لنجاته.
وصلت لحجرة العمليات، تنظر إليها بعجز والجميع يتبعها بصمت لتضع جبهتها على باب الحجرة لتهبط ببطء وتستسلم لانهيار جسدها أخيراً وقد تحجرت الدموع في عينيها.
تمتمت له وكأنه يسمع تردد رجائها: "لا تتركني، سوف ألحق بك، أنا أموت دونك إيهاب، أموت، الألم لا يحتمل، حبيبي امنعه عني"
بعد قليل من الوقت، خرجت إسراء من الغرفة التي كان يسحب فيها الدم منها، لإنقاذه وهي تترنح بضعف بعد أن رفضت أن تبقي قليلاً، اقترب منها مراد يسندها بوجه قاتم وملامح مبهمة ولكن لا يخلو منها القلق المخلوط بالجزع.
ليخاطبها: " هل أنت بخير؟"
أومأت له بصمت، ليحرك عينيه ينظر لمريم بجلستها ونحيبها الخافت الذي يمزق القلوب،
حركت إسراء رأسها لتجد ما ينظر إليه ومريم بمظهرها العاجز هذا ضربت قلبها بعنف، ليقول مراد بصوت خافت: "أعلم أنك لا تتقبلينها ولكن أتمي جميلك إسراء، لا أعرف لم ولكن هي تحتاجك أنت رغم كل ما بينكم"
تركته إسراء بدون رد لتتحرك إليها ببطء ومازال الدوار متمكنا منها.
ليقترب مراد يسندها لتوقفه بيديها: "لا مراد، سأفعلها بنفسي أنا وهي فقط "
تركها وتراجع للوراء، خطوات ينضم للجميع يتيح لهن الفرصة ويبعد أي أفكار تسيطر عليه الآن، يحاول أن يقنع نفسه أن لا أحد من الحاضرين يشعر بما تشعر به إسراء ومريم الآن إلا هما فقط.
لتصل لها إسراء، فتجلس بطريقة توازي جلستها، جذبتها من ذراعيها بقوة وبدون أي مقدمات إلى أحضانها تضمها إليها وفكرها المشوش لم يسعفها لتحدد طبيعة المشاعر التي تمكنت منها لحظة أن أخذتها بين ذراعيها.
في الماضي لم تقترب منها هكذا من قبل إلا لأذيتها ولكن الآن لا تريد إلا حمايتها من الألم والأذى
لتفاجئ الأخرى بها، للحظات لتستكين سريعاً وهي تحاوط خصرها تتشبث بقميصها من الخلف بقوة.
تخبرها وكأنها تشكي إليها ما يحدث: "إسراء أنت هنا، أخبريهم أنهم لا يفهمون من هو إيهاب بالنسبة لي، يأمرونني بالهدوء والتماسك، لا يعلمون من هو حقاً بالنسبة لي"
لتقول إسراء ودموعها تنزل أخيراً بدون تحفظ على خديها: "ولكني أعلم يا مريم"
لتعلو شهقاتها مرة أخرى ودموعها التي لم تتوقف تنهمر منها شلالات تغرق وجهها وقميص إسراء لتقول بترجي: "إذاً أخبريهم أن من بالداخل يموت هو أبي وأخي وصديقي وحبيبي هو كل شيء بالنسبة لي"
تمتمت إسراء وهي تعتصرها أكثر: "أنا أعرف"
لتكمل مريم: "هو يموت ويتركني كل شيء يموت.. وأنا سأموت لا أستطيع أن أعيش بدونه لن أحتمل هذا الألم"
ليبدأ صوتها في التراخي وهي تردد كلماتها الأخيرة وصوتها يخرج متأوها بعذاب: "اااااه نار تشتعل بصدري، إيهاب سيتركني، إيهاب يموت أنا.. يموت روحي تموت... كلي أموت"
حركتها من أحضانها قليلاً، لتمسك وجهها بيديها تحاول أن تعود لإسراء القوية الجامدة ربما بهذا تستطيع منحها بعض الثبات، التحكم في هلعها الخاص، خوفها عليه، اعترفت لنفسها نعم تخاف، لا تريد له الأذى عكس ما يعتقد مراد، ليس حبا أو حنين، لم لا يفهم أنه الأب الوحيد الذي عرفت، الشخص الذي منحها بعض الأمان الذي كانت تفتقده مع والدها، ليس حبه ولكنه أخوها إيهاب، أخ ولم تدرك قيمته هذا إلا بعد فوات الأوان، أغمضت عينيها وهى تكتم دموعها وشهقاتها المحترقة لتفتحها وهي ترسم ابتسامة مرتعشة لوجه مريم الباكي المرتعب ولم تستطع أن تسيطر على شهقاتها المتوجعة، بعد أن كانت تنتفض بين يديها وشهقة تسابق الأخرى للخروج من صدرها.
لتخاطبها إسراء برفق: "اسمعني مريم، هل راعيت مشاعرك من قبل، هل كنت حريصة عليك أو كذبت لحمايتك؟"
هزت مريم رأسها بالنفي وهى لا تستوعب حقيقة كلامها، لتكمل إسراء بشهقة متألمة رغما عنها ودموعها مستمرة في الهبوط ولا تشعر بها، لتقول: "لن يتركك، لن يفعلها وإن أراد حتى لن يستطيع، فعل المستحيل لأجلك في السابق والآن أنا أخبرك بكل ثقة أنه سيفعلها هذه المرة من أجلك مرة أخرى ولن تكون الأخيرة"
لتحرك يديها تضعها على انتفاخ بطن مريم: "ومن أجله يا مريم، لن يترك ابنه الذي حارب الجميع من أجله والذي صرخ وهو يعلن عن وجوده ورغم كل ما كنا فيه وقتها لم استشعر إلا سعادته ولهفته عليه"
كانت تحدق بها بعيون فارغة فقط شهقاته من تعلن عن أنها مازالت تتنفس، مازالت واعية ولكن عقلها أبعد عن أي وعب حقيقي، ضمتها إسراء إلى أحضانها مرة أخرى باستسلام لن تستوعب ولن تفهم مهما أخبروها.
أحاطتها باستسلام وهي تمتم بشرود وتنظر لمراد بوقفته الجامدة لتقول: " لن يملك الشجاعة بتركنا بعد ما خاطرت برجلي وسعادتي التي وجدتها أخيراً"
لم تعلم بالتحديد كم مر من الوقت، فقد كان مروره بشكل بطيء، رتيب، موجع، مؤلم، مرعب ومظلم نعم مظلم رغم الضوء الذي يملأ المكان ولكنه مظلم وقاتل.
تحرك باب غرفة العمليات ليخرج الطبيب.
وهو يتحرك ناحية جاسر وعلامات الأسى تكتسي وجهه، انتفضت الأخرى على الفور من أحضان إسراء وهي تحدق بالطبيب الذي نطق بثقل: "أنا آسف"
لتشق صرخة مقهورة عنان السماء تعلن عن وجع الفقدان.