ترتجف، كلها يرتجف، حتى قلبها المتقافز بين أضلعها؛ ما يحدث اللحظة يشعرها بالرهبة، الخوف والهلع، تدعو ان لا يتكرر المشهد مرة أخرى، فقد تعبت ولن تستطيع التحمل.
تراقب الأطباء الذين يتناقشون فيما بينهم بأعين جزعة، لكن رغم هذا لا تستطيع إلا أن تراقب بدقة تبادل الأطباء الحديث فيما بينهم وأياديهم التي تعمل بسرعة تزامنا مع قراراتهم على الأجهزة المتعددة من حوله .
منذ أن اقتحموا الغرفة بعد أن تحركت يده تحت يدها وطنين الجهاز الذي زاد رعبها، تقف متسمرة كالتمثال ولكن بجسد مهتز؛ لم تستطع التحرك بعد أن حاول احد الأطباء أن يقوم بإخراجها من الغرفة، ليكون الرأي الحاسم لطبيبه الذي يعاملها بعطف منذ رأته أول مرة بأن تبقى بعد أن اعترضت صارخة معلنة رفضها تركه بشكل مطلق أو أن تخطو خطوة واحدة إلى خارج الغرفة.
تسمعهم يتبادلون الحديث الطبي بالانجليزية، فتفهم جيداً الحديث وكلماته لكن عقلها المتوقف حاليا يخادعها عاجزا عن استيعاب وبرمجة ما تسمع؛ العجز والخوف ففهم معانيه قد يعني نهايتها الحتمية.
سمعت الطبيب المباشر لحالته، وأكبرهم سنًا يخاطب أحد الأطباء قائلاً: "معدلاته طبيعية وجهاز قراءة القلب وضغط الدم يعمل بشكل جيد، ويفترض أن ما يشير له يعني أن المريض بدأ في طور الإفاقة".
رجفة قوية هزت جسدها كله فسيطرت عليها، ضمت فمها تغطيه كلتا يديها حتى لا تصرخ، لا تريد الآن إلا أن تصرخ؛ سيفيق، سيعود لها، لقد نجا، عندما هبطت دموعها هذه المرة لم تكن حزنا ولا قهر كما كل مرة، لكن ببساطة لا تستطيع تحديد ما تشعر به، ترقب وانتظار فحبيبها سيفتح عينيه أخيرا وستحظى بمرأى نفسها في نظراته، ستراه، نعم ستراه.
راقبت أحد الأطباء يجهز إبرة طبية، يحقنها له مباشرة في إحدى أوردته، ليس كما عاينت سابقا، عندما كانوا يحقنون أدويته وكل شيء أخر عبر المحاليل الموصولة بجسده.
مرت دقائق عدة ويدها مازالت على فمها، عينيها فقط تسترقان النظرات له.
عندما تحرك أحد الأطباء الذي بدا يحاول جاهدا أن يخاطبه دون أن يبدي أي ردة فعل على ذلك بعد.
كتمت أنفاسها بينما الطبيب يعاود إلحاحه، لا تستطيع حتى الشهيق أو الزفير فتراقب باهتزاز مختنق وقلق.
قلبها يناجيه أن يبدي أي ردة فعل، مثلما فعل معها قبل ذلك. أغمضت عينيها وهي تزيح يدها المرتجفة كسائر جسدها، تبتهل لله بصوت عال ونفسها المكتوم يخرج بزفرة مرتعشة...
ربــــــــــــــــاه، أعطه القوة ليعود إلي.
ربــــــــــــــــاه، أحفظه لي ولا تجزع قلبي عليه.
دقائق أخرى تمر، سكون جسده مازال على حاله والأطباء مازالوا في محاولتهم المستميتة، واليأس الذي بدأ يتسلل لها تحاول برباطة جأش أن تنحيه عنها ولكن الوقت يمر بطيئا مريرا، وإن كانت بضع دقائق ربما تريد فقط أن ترتاح من القلق.
: "مرحباً بعودتك"
سمعت الطبيب يقولها أخيرا، عينيها المراقبة لثوان جحظت غير مصدقة وهي ترى استجابة دعواتها وابتهالها إلى الله.
يفتح عينيه ببطء ليعاود إغماضهم مرة أخرى، ثم بعد ثوان يعود ليقوم بفتحهم بثقل. هكذا خلال عدة ثوان كان يفتح ويغمض عينيه فقط عدة مرات دون أن تسمع منه أي كلمة.
ليستطيع أخيراً أن يسيطر على ردة فعله وهو يفتح عينيه، يقلبهم فمن حوله مشوشا، لا يستطيع أن يحدد من هم أو أين هو، عدة وجوه متشابهة، عيناه تجول بينهم بدون تركيز، لم يستطع بعد أن يتدارك ماذا يحدث؟، أين هو ومن هم؟، يجاهد بنظره المشوش أن يجد أي وجه مألوف.
إلى صادفت نظراته الظل الرقيق الذي انضم للجمع، يقف ملتصقًا بطرف السرير عند قدميه، لم يستطع تبين ملامحه لكن القلب استطاع أن يتعرف على صاحبته، فهمس بصوت واهن، ضعيف النبرات وحلقه الجاف لا يساعده إلا بنطق كلمة واحدة (مريم).
هذه المرة كانت تبكي سعادة، تحمد الله حمدً لا يستكين ولن ينتهي، كانت تهز رأسها برفض وكأنها لا تصدق أن محنتها انتهت!، لقد عاد إليها أبوها، أخوها، زوجها وحبيبها الوحيد ، عاد !.
هل لو صرخت الآن لتخرج ما في قلبها من وجع ليحل عنها ويغادرها، هل سيلومها احد !؟، بدل أن تقترب منه تجيب ندائه ابتعدت بظهرها للخلف، تلتصق بالحائط الأبيض الذي ورآها وتنزل ببطء إلى أن جلست على أرضية الغرفة، تدفن وجهها بين أيديها ومازالت تهز رأسها نفيا ولسانها يردد الحمد لله.
نظر إليها الطبيب نظرة خاطفة، لم يفهم رد فعلها، توقع أن تجري إليه، تصارعهم للاقتراب منه ولكنها على العكس من ذلك ابتعدت ما إن فتح عينيه وناداها؟؟
عاد بعينيه لمريضه، الذي بدأ في تحريك يده يشير إلى طرف السرير، مكان وقوفها السابق ويحاول إخراج السؤال ولا يستطيع.
مال إليه الطبيب يخبره بهدوء: "إيهاب هل تسمعني؟، هل تستطيع أن تشعر بيدي التي تضغط علي يدك الأخرى؟، حرك رأسك فقط إن كنت تفهمني"
بعينين مازالتا على تشويشهما، حرك نظره إلى الطبيب لينفذ ما أخبره إياه.
عاد الطبيب لاختبار شعوره الحسي؛ حتى يستطيع التأكد من سلامة جسده، ليعود مرة أخرى وهو يخاطبه: "الآن سوف أعطيك بعضا من محلول الجلكوز من أجل جفاف حلقك، إلى أن أتأكد من سلامة جسدك الكاملة؛ عندها تستطيع أن ترتشف بعض جرعات الماء" فور أن نفذ الطبيب ما أخبره إياه، شعر بحلقه يتخلص من الجفاف قليلاً ليجلي حلقه ويعود بنفس الصوت يردد اسمها: "مريم ..أين .هي؟؟، أريدها !"
ابتسم الطبيب وهو يخبره بهدوء: "هذا جيد، إذ هذا دليل على عدم تعرض ذاكرتك لضرر"
كرر طلبه بإلحاح ضعيف: "أريدها !"
نظر الطبيب إليها ليجدها ترفع رأسها تناظرهم وكأنها لم تستوعب بعد ما يجري أو ربما لا تصدقه.
: "يريدك مريم، هل تستطيعين الاستجابة لطلبه قبل أن ندخله غرفة الأشعة"
بدون تردد وقلبها يسبقها إليه قامت من جلستها ببطء لتتحرك ناحيته برهبة، تراقب وجهه الحبيب بغير تصديق بعد !.
اقتربت تقف مكان الطبيب الذي أفسح لها المجال بعد أن أمر فريقه بالانصراف لتجهيز غرفة الأشعة.
وقفت بجانب سريره تتفحصه بلهفة ولكنها لم تستطع رفع عينيها إلى عينيه، سمعت صوته يأتيها، أمراً بخفوت: "اغمريني "
"أحتاج أن تضميني أنت إلى أن أستطيع فعلها بنفسي"
وكأن طلبه هو من فجر كل شيء بداخلها، لم تعلم كيف أو متى أصبحت في أحضانه وعلى صدره يدها تحيط جسده.
يده السليمة ارتفعت بوهن تحيطها، تضغط عليها وقد كان جسده يرتجف بضعف مثلها.
لقد عادت دنياها، لقد عاد الوطن، عاد قلبها الموجوع المطعون للحياة، تنفست بعمق وصوت مسموع، دموعها تهبط تخترق جروحه ليزيد من ضمها كلما شعر أن بعض من قوة جسده تعود إليه. يغمرها كما طالبها أن تفعل معه، بينما تأن وشهقاتها تعلو فيشعر مع كل أنين خارج منها طعنة مباشرة لقلبه هو.
لم تنطق هي وهو كلما استطاع ضمها أكثر طالبها أمراً بإلحاح أشد، يردد فقط كلمة واحدة (اغمريني )
***************
كانت تراقب انفعالات الحاضرين، حديثهم وكأن كل ما يحدث أمامها لا يخصها ولا تفهمه، كل إحساسها معه، الجميع يتحدث معها فتنقل نظراتها بينهم بدون ردة فعل لتبدو لهم فاقدة الإدراك والوعي السليم، ولم يعلم أيهم ما تصارعه وتعيشه من فوضى منذ أن تركها بصعوبة تفلت من قبضته الضعيفة المتشددة حولها وقبضتها المستميتة بالمثل، عند إلحاح الطبيب بأنه حان وقت فحصه للتأكد من سلامة كل أعضائه الحيوية.
خرجت معه وهو متمسك بيدها يضغط عليها بتشدد وكأنه لا يريد تركها إلى أن أخذوه مره أخرى للمكان المقصود.
جلست بعدها تجاور إسراء، هناء ومي على أحد المقاعد القريبة بينما اكتفى أصدقائه بالوقوف علي مقربة، نفس وقفتهم التي كانت دائماً تراهم ينتظرونه، فقط اختلف المكان !
سعداء، يحمدون الله تارة ويهللون تارة أخرى، الارتياح تسلل لكل المتواجدين ليبدو على وجوههم ظاهرا، النساء تتبادلن احتضانها بينهن ودموع الفرحة تتسابق على أوجههن.
إذاً ما الذي يحدث معها، لما تشعر أنها عاجزة حتى عن الحديث أو مشاركتهم تعبيرهم المنطلق، لما تشعر بالقلق والخوف مازال يتحكم بردود أفعالها.
لن تنكر الشعور المريح الذي بدأ يتسلل إليها، الدفء الذي أحاطها بعد افتقاده كثيراً،
لقد عاد إيهاب إليها فكرها وتركيزها يتمحور حول فكرة واحدة آمرا إياها أن تغمره.
فلمَ لحظة اللقاء تكون قصيرة ليعقبها القلق، تريده أن يخرج إليها ليغمرها من جديد وهو طلب منها ضمه ولكن ما حدث أنها من أشبعت ولو قليلاً احتياجها إلى حضنه واستنشاق راحته وهو يتفاعل معها.
عندما فتح بابا الغرفة، بعد مرور ساعتين أخيراً، خرج الطبيب ليحدثهم بصوته الهادئ: "كل شيء إلى هذه اللحظة يبدو جيداً، سوف يُتم نقله إلى غرفة عادية مع استمرار مراقبته"
تركهم منصرفا، بعد شكرهم له.
بعد قليل من الوقت، كان الجميع يتجمهر داخل غرة عادية، بينما هي عينيها معلقه به كما حال عينيه تحيطها مع كل حركة منها، لم تجرأ على الاقتراب منه مرة أخرى، اكتفت بالجلوس بعيداً، جاسر ومراد وهناء يتحدثون معه بعض الكلمات القليلة بينما رفضت إسراء أن تنتظر خروجه وانسحبت مباشرة بعد أن أطمئنت على سلامته، لتغادر على الفور تتحجج بطفلتيها وأنها سوف تعود غداً، لكن مريم لم تهتم كثيراً أو حتى تنتبه.
فقط كل انتباهها معه هو، كان مازال لم يسترد قوته بعد أو حتى تركيزه الكامل ولكن الجميع لاحظ نظراتهما المتبادلة.
سمعت صوت مراد يقترب منه يسأله بغموض وكأنه يعرف إجابة سؤاله: "إيهاب ماذا حدث يوم الحادثة؟، لقد توصلوا أن العطل كان بفعل فاعل، وأظهرت نتيجة فحص السيارة بالأمس ذلك، فهل تشك بأحد ما؟، أم استطيع القول أنك تعرف جيداً من هو؟، لأن التحقيق المشترك للسفارة مع الشرطة هنا توصل لكشف هويته، فهل تعرفه أنت؟"
تشنجت ملامحه بغتة وهو يزيح نظره من عليها، ليعود لمراد فيقول بتهكم: "بل أعرفه حق المعرفة"
عاد مراد يردف بجمود وهو يقول: "لقد تأكدوا بشكل قاطع، بعد أن فحصوا هاتفك الذي لم يصبه ضرر كبير، فاستطاعوا أن يعرفوا أخر رقم حدثك حينها ليكشفوا هويته، لكن مع الأسف لقد عاد لأمريكا في نفس يوم الحادث، حتى أنه كان يحدثك من الطائرة وقتها ربما لينفي عن نفسه أي شكوك"
ارجع رأسه للوراء يغمض عينيه حتى يحجب عن الجميع الألم الساكن فيها والشعور بالغدر والطعن ممن هو لحمه ودمه؛ يفترض أن يكون في مكان والده، مهما توقع أي شيء يحدث بينهما لم يتخيل قط أن يصل الحال بعمه لمحاولة قتله.
عاد للغمغمة بهدوء بصوت مازال الإرهاق والتعب يحتله: "لا يهم مراد، سوف يستطيعون أن يصلوا له في أى مكان يتواجد به"
ليردف بصوت قاطع يملئه الإصرار والغضب: "وأنا لن اتركه يفلت بفعلته، سوف يأخذ جزاء ما فعله بنا جميعا،ً حسين يجب أن يدفع الثمن"
أطرق مراد برأسه، يزن كلامه، ربما كانوا يشكون به هو الأخر، فقد كان الأمر أشبه بتحقيق استطاعوا بوساطة من والد مريم أن يروا التحقيقات من جانب شرطة البلاد وصدمة معرفة اسم الفاعل، لم يستطع أن يخبر إسراء؛ يخشى عليها من انهيار وصدمات أخرى، رغم كرهها لوالدها لكن ربما الأمر قد يزيد التعقيدات في حالتها أكثر.
رفع رأسه مرة أخرى وهو يحدث إيهاب بهدوء: "إيهاب اسمح لي أن أقف إلى جانبك وأساندك فيما تنتوي، لا أريد أن أطيل الحديث معك في الموضوع، لكن أريد منك طلبا واحدا"
صمت لبرهة ليضيف بصوت مهتم، رجل يحرص على من هي في رعايته، زوجته وحبيبته: "إسراء إيهاب لا أريدها أن تعلم عن الأمر الآن، ربما فيما بعد وسوف أخبرها الأمر بنفسي بهدوء..أنت تعلم أن الأمر سيكون حساسا جدا من ناحيتها"
هز رأسه بموافقة إذ لم يستطع أن يستعيد أيا من قوته ويده التي مازالت موصولة ببعض الأجهزة تزعجه بشدة.
وكل ما يسيطر على عقله حاليا عدا أي رغبة أخرى هو أن يستطيع الإنفراد بها، ربما لن يستطيع أي حديث معها الآن؛ لكنه يريد فقط ضمها إلى صدره ليمحي ذلك التعبير الغير مقروء من على وجهها فهو لم يسمع صوتها حتى هذه اللحظة.
بعد لحظات كان مراد أول المنسحبين من الغرفة، ليتبعه جاسر الصامت، فقط اكتفى أن بادله عناقا أخويا قوي الدعم، عند مساعدته على التنقل من فراش لأخر.
عبس إيهاب قنوط، رد فعل جاسر ومريم يصدمه.
لقد رأى بعينيه دموعا يقاومها جاسر بكبرياء، كأنه غير مصدق لنجاته.
قاطع انسحابهم عندما رأى جاسر هو الأخر ينسحب بعدما تمتم له بأنه سيبقى خارج الغرفة
ليوقفه إيهاب بصوت مرهق قليلاً: "جاسر أريد المأذون الآن لن أؤجل الأمر أكثر"
نظر له كل واحد من المتواجدين بصدمة، لينطق جاسر قائلاً وهو يعقد حاجبيه بتعجب: "ماذا مأذون ماذا وأي زواج في حالتك هذه والآن؟ !، هل الطبيب أخطأ والحادث أثر على رأسك وهو لا يعلم !"
رد عليه إيهاب بحسم، ينظر للتي استطاع أخيراً أن يجذب نظراتها إليه بتركيز لعينيه وبوجه مصدوم.
ليقول يخاطب عينيها هي أولاً: "لا رأسي لا يعاني من أي خطب، لذا نعم والآن وكلما عجلت بالأمر كان أفضل؛ لقد رأيتم بأنفسكم جميعا نتيجة التأجيل إلى حين وصول الوقت المناسب !، كدت أن اقتل، تاركا ابني لمصير مجهول؟"
قاطعه جاسر يحاول إقناعه: "لكن الوقت غير مناسب، انتظر لتسترد قوتك قليلاً"
: "وبماذا سوف أحتاج قوتي !، فقط نفذ ما أخبرك إياه"
: "هل تدرك كم الوقت الآن، لقد قارب على منتصف الليل، فقط انتظر حتى صباح، نحن انشغلنا معك ولم نخبر أحدا أنك أفقت أخيراً، دعني اتصل بياسر ونجهز للأمر مرة أخرى، أعدك غداً سوف يحدث كل ما تريد"
وافقه على الفور، إذ لا قدره له على الجدال وعينيه مازلت لم تفارق عينيها التي أغرقت بالدموع؛ متى يستطيع أن يمحى هذا الحزن فيهما؟، كيف يستطيع أن يعيد البسمة لمحياها؟، غادره الجميع بعد هذا، ليراها تتحرك خلفهم مغادرة هي الأخرى.
هتف بغضب فلم يستطع أن يسيطر عليه: " توقفي إلى أين تهربين مرة أخرى؟"
ثبتت مكانها وهى ترى هناء تبتسم لها بتشجيع كعادتها، وتغلق الباب خلفها. أما هي فكانت تريد الهروب، فقط الهروب كما وصف !، لتختلي بنفسها؛ هناك صرخة تكتمها منذ ساعات مضت، تطبق على صدرها، تريدها الخروج لتبكي حالها مع نفسها من أجل عودته.
عاد صوته يحتله بعض الهدوء، ليطلب برفق: "اقتربي مريم، لا قوه لي على الجدال"
عندما لم تبدِ ردة فعل على طلبه، تنهد بعمق وهو يمد ذراعه السليم يطالبها برفق: "تعالِي !، ألا استحق منك احتضانا أخر ولو صغير"
عندما كرر طلبه، التفتت إليه ببطء تواجهه مع ارتعاش شفتيها، علامة على أنها ستبكي مرة أخرى، نطقت أخيراً بصوت خافت، مرير لتذكره بخطئه الدائم في حقها: " لقد قلت أنه لم يعد من حقي"
أخرج تنهيدة محترقة مرة أخرى وهو يحاول رفع يده الموصولة بالأجهزة بصعوبة بالغة ورغبة عارمة داخله تريد حمايتها ومحو الألم الذي تسبب به، قائلاً: "بل هو مكانكِ الدائم وأنا من أحتاجه الآن يا ناعمتي"
لقد نداها (ناعمتي) لقبها الذي يشعرها بامتلاكه لكل ذرة فيها وامتلاكها له، اقتربت بخطى سريعة تريد دفن نفسها هناك، في حضن افتقدته وصلت إليه، لتدس نفسها فيه تدفن جسدها بين أضلعه كما الماضي قبل أن تنقلب حياتهما.
فور أن احتواها، كلتا ذراعيه تكتنفانها، براحته حنانه ودفء افتقدته، رفعت نفسها قليلاً تسند رأسها في عنقه، لتشعر بالسكينة.
أطلق هو الأخر نفسا ممتنا، يرتاح بضمها إليه ويطلق تأوها خافتا، لم تعلم هل بسبب جرحه وذراعه المصاب الذي يضمها أم سببه ما تحدثت به؟، بصوت هامس خرج مرتعش أكدت: "أنا أتسبب لك في الألم، هل تريد مني الابتعاد قليلاً ؟"
ضمها بتشدد مرة أخرى، وهو يخبرها: "بل الألم بعدك وفراقك عني، أنا لم أشعر أني أفضل حالاً منذ شهور أكثر من الآن؟"
صمتت تضم نفسها إليه، يدها ارتفعت إلى خصره تلف ذراعها حوله، مثلما يضمها،
يرى كل ما تعانيه من اختلاجات، وجهها ككتاب مفتوح مهما كان يحيطها الآخرين، لم يستمع أحد مثله للمرارة والألم المحتشدين داخل صدرها؛ يراها بعين الخيال منذ أن ضمها عندما آفاق كيف تنزوي حول نفسها كأنها مازالت مسجونة، لا تستطيع أن تصدق أن خلاصهما، اقترب نظراتها المتعجبة التي توجهها نحوه تعلن عن عدم فهمها، سكونها وعدم اقترابها نحوه وربما هي أيضاً لا تعلم لكنه يشعر ما تشعر.
سمعت تنهيدته وهو يخبرها برفق: " إن كان مازال لديك دموع باقية أفرغيها الآن في صدري، بثيني كل آلامك لأني لن أسمح لك فور أن أفلت جسدك بأي حزن أخر"
هطلت دموعها الحبيسة بامتنان، ترفع وجهها إليه لتنظر إلى عينيه تخبره: "لقد ضعت من دونك إيهاب، كنت أظن أني قادرة على مواجهة العالم وحدي، ظننت أني أستطيع البعد عنك لأجد أني أموت من غيرك" شهقت متوجعة وهي تكمل: "لا تتركني مرة أخرى، اغفر لي" بصوت متقطع بغصة بكاء مريرة أكملت: "يوم أن زدت في حقارتي معك، كنت أتألم إيهاب، لم أقصد ...."
قاطعها وهو يميل برأسه يقبل عينيها، يريد أن ينسى الذكرى؛ كل ما يفكر فيه هو محو ألمها هي الندم والقهر الذي عاشه وهو يعتقد أنه سيتركها قبل أن يفهمها قبل أن يعتذر وقبل أن يحقق لها رجائها بضمها إليه، الوجع الذي شعر به وقتها في قلبه لا يضاهيه حتى الألم الذي كان يشعر به من قطع الحديد التي كانت مغروسة في صدره، فقط كان يريد فرصة ليعود إليها ويكفر عن حقه فيأخذ كل مرارتها ويتلقفها قلبه ليمتص كل خيبة منها ويأخذها لنفسه كي لا يترك لها إلا كل سعادة وأمل مثلما منحته هي وفعلت معه.
رد بصوت خافت، يهمس لها بنبرات تحمل حنانه ورأفته نحوها قبل أن يطالبها: "لا عتاب الآن طفلتي، الخطأ كان من كلينا وأنا أتحمل الجزء الأكبر منه"
ليردف بهدوء وهو يحيطها بحنان: "لا أريد وعود منحك وعود كاذبة مرة أخرى، أن أعدك وأخلف؛ ولكن وعدي الأخير يا صغيرتي، سوف أمحي عنك كل حزن أشعرتك به
واستمع لك كما تحبين"
قاطعته مرتجفة وهي تحاول حقاً أن تمنع الانهيار الذي على حافة أن تقع به مرة أخرى: "أنا أحبك لم أكرهك أبداً، لم أقصد أن أتمنى لك......."
وضعت رأسها تدفنه بشدة في صدره، تخبره بوجع لم يتركها، يسكنها ويطعنها: "ااااااااه لقد كنت حقيرة "
وضع أنامله على شفتيها، يوقف اتهاماتها لنفسها يخبرها: "أنت لست حقيرة، أنت فقط طفلة غبية أخطأت"
همست مرتجفة وهى ترفع عينيها وحدقتيها تهتز وحنوه يشتتها، فيبعد عنها أي انهيار؛ تريد النسيان مثله و كل ما كانت تفكر فيه، فقط أنه هنا يحتضنها لم يدفعها عنه كما كانت تتوقع.
: "نعم أنا طفلتك أنت، الغبية بدونك كنت أشعر بالضياع"
شعر أنه لم يستطع أن يستمر معها بالحديث وألم جسده يجبره أن يتوقف.
بدا الإرهاق جلياً في صوته وهو يهدئها ويؤكد لها: "نعم يا صغيرة ولكن مهما ارتكب الابن من أثم سيغفر له والده"
مدت يدها تلامس جرحه الغائر من فوق ضمادته التي تحتل جزءً كبيرًا مِن صدره الصلب، قلبها يخفق تأثراً بكلماته الرءوفة بحالتها، حنانه الفائض الذي يحاول أن يحيطها به رغم الإرهاق المتمكن منه والتعب الواضح في صوته ويظهر جليا على وجهه.
سألته بصوت متأثر ينبض بشعورها بألمه: "يؤلمك؟"
وضع كفه يحتوى يدها التي تتحرك على جرحه ليخبرها: "لم يؤلمني يوماً إلا فراقك وبعدك عني، اشتقت لصغيرتي"
اعتدلت قليلاً على يدها الحرة، تقترب من وجهه بتردد وبعينيها تلمع بآلاف الكلمات، الاشتياق والافتقاد الذي لا تستطيع إخباره عنه، أغمضت عينيها وشفتيها تبعد عن فمه بإنش واحد.
أنفاسه ارتفعت قليلا تعبر عن تأثرهً، ليرفع نفسه بجهد يقطع هذه المسافة التي لا تكاد تذكر ليأخذ شفتيها بين شفتيه برقة حانية لا يريد خذلانها أو رفضها وكل ما يفكر به لن يخذلها مرة أخرى.
ترك شفتيها في قبلة لم تطل، ليقبل جبهتها بحنان وهو يريح رأسه على الوسادة مرة أخرى يهمس لها: "ما يثير جنوني بك أنني لم أعرفك جيداً كما ادعي، بل ما اكتشفه فيك يوماً بعد يوم حبيبتي يذهلني، ولهذا اعتذر منك على هدري السابق بمعرفتك سوف أعالج كل خطأ ارتكبته في حقك ولكن امنحيني الفرصة"
بصوت خافت ووصاله البسيط معها يلف عقلها، تريد أن تخبره بمعجزتهم الصغيرة تغرقه بفرحتها التي تسلل إليها عند كل تحرك من طفليها: "إيهاب أنا أريد إخبارك بالكثير"
قاطعها بحنو وهو يعيد رأسها على صدره يخبرها بإرهاق: "ليس وقته، ارأفي بحالتي حبيبتي، لن أستطيع مجادلتك، دعيني فقط أضمك واشبع روحي منك وبعدها سوف اسمع كل ما تريدين قوله وأنتِ أيضا سوف تستمعين لي، فقط الليلة أعطينا هدنة"
شعرت بالشفقة عليه لتستسلم لطلبه، فيكرر هو طلبه بالإلحاح وهو يعبئ رئتيه من عبيرها: "فقط اغمريني يا مريم، كما أخبرتك أنا من يحتاجك"
ضمته بقوة وهي تنقل يدها من على خصره، لتتعلق بعنقه فتعود إلى ضمه بتخبط وكأنها تبحث عن طريقة لمدة بما يطالبه به.
لتسأله كطفلة تائهة لا تعلم الطريقة: "كيف؟، أخبرني كيف؟"
ضمها هو يلصقها به يطالبها : "فقط امنحيني السكينة، أنك هنا واغمريني، أروي عطشي وأزهري صحرائي القاحلة بدونك، كما فعلتِ في الماضي "
*مراد
صوتها المرهق أوقفه قبل أن يصعد إلى سيارته في الساحة المظلمة المخصصة للسيارات أسفل المشفى
نظر إليها بتعجب ألم تعلن عن مغادرتها منذ ساعات مضت رافضة أي محاولة للبقاء وهي تهرب من رؤية من أعلنت في السابق خوفها عليه
عقد ما بين حاجبيه وصوته يخرج مستنكرا وهو يرى وقفتها كتلميذ مذنب أمامه
*اسراء ما زلت هنا
لم تستطع كبح شهقاتها وهى تعلن ضعفها تعترف بما تشعر
*لم استطع المغادرة وحدي كنت انتظرك
لم يرد عليها وهو يقترب بصمت يأخذ بيدها ببرود ليفتح باب سيارته في اعلان صامت لها بأن تصعد بردوه وصمته أرسل وخذا في قلبها , يرفض حتى مبادرتها رغم خطئه في حقها , تحتاجه فهل تخبره صراحة.. ربما يشعر بها
بخفوت سألته
*سيارتي
رد ببرود جليدي لقلبها بعينين لا تعبير فيها
*غداً تعالي معي وعودي بها , حالتك لن تسمح لك بالقيادة الآن كما أن الوقت متأخر
هزت رأسها بصمت ولم ترد وصراعها يزداد داخلها , بروده يزيد تخبطها
وصلوا إلى المنزل ليجدوه في هدوء تام تمتم بإرهاق لها
*سوف اطمئن على الفتاتين , لن تستطيع أنت سحر تنام برفقتهم
التزم الصمت وهو يومئ لها بموافقة ويتوجه إلى الممر الطويل الذي يفصل غرفتهم بعيدا عن غرفه الصغيرتين
تسللت بهدوء إلى داخل الغرفة لتجد المشهد الذي يتكرر منذ أسبوع نومهم بصحبة سحر التي تثق بها الشيء الوحيد والجيد الذي حصلت عليه من بقائها عام في بيت إيهاب حب سحر لطفلتيها ومعاملتها الجيدة لهم , قبلت طفلتيها بهدوء حتى لا تزعجهم وخرجت كلها عزيمة أن تحاول مهما صدها أو جرحها لن تعود للجليد الذي يخلف حياتها تريد أن تشعر بالسكينة هذا أبسط حقوقها تعبت من التخبط إحدى وثلاثون عاما من عمرها ستواجهه مثلما واجهها وتعلن مسامحتها بعدها هذا أبسط حق عليها له وما تطالب به من احتوائها أقل مما يقدمه له
دخلت الغرفة تقتحمها تهتف به بغضب :
*إلى متى سوف يستمر هذا الحال بيننا أنا لن أستمر في إعلان ضعفي بك وأنت تقابلني ببرود
صرخت بقهر وهى تقترب من جلوسه على طرف السرير يتخلص من ملابسه بهدوء وكأن صراخها لا يعنيه ينظر لها بلا تعبير
*لا تعاملني هكذا مراد تعرف أن هذا يقتلني أخبرني فقط لما لم تفهمني اللعنة عليك مراد إلى متى أخبرك بحبى لك ولا تثق بي
ببرود تام وهو يتخلص من قميصه يلقيه على الأرض بإهمال وكأنه يريد أن يثير جنونها لعلمه بكرهها للفوضى , يردف بتهكم :
*ماذا اسراء هل إفاقته أخيراً من غيبوبته وتشبثه الذي رأيناه بالصغيرة أعاد إليك القهر ولا تستطيعين السيطرة على غضبك
بعيون جاحظة ذاهلة هتفت به بوجع
*ماذا الذي تقوله بحق الله إني أطالبك باحتياجي إليك , لا أحد يقهرني الا أنت
أطبق فمه بقوة قبل ان يقول :
*لا تكذبي على نفسك اسراء أنت لا ترغبين بوصالي لأجلى ولم ترغبيه يوماً فقط دائماً تحتاجين قربى لأجلك ولأجل أن أمحي آلامك الخاصة
بساقين مرتعشتين تحركت لتجلس أمامه على إحدى المقاعد بوجه ذاهل وهو يراقبها بوجع منها وإليها لا يستطيع أن يتفهم إلى هذه اللحظة انهيارها عليه , لا يستطيع أن يغفر لها ما دفعته لفعله , ليهين نفسه مجدداً ويهينها وهى تبكيه وتنحني عليه على صدره هو و في احضانه تبكي طليقها بعد أن منحته دمائها ..
تمتمت بصوت خافت
*انت ما زلت لا تثق بي بحبي لك
همست وكأنها تأبى ان تصدق ما سمعته منه الآن
*لقد قلت أنك تحبني وتثق بي , أنك سوف تساعدني .. لقد صدقتك مراد واعتقدت أن كل الماضي انتهى وأنت صدقتني
رد بجمود
*لأني اعتقدت أنك نسيت الماضي ووثقت بك إلى أن رأيت انهيارك
ليضيف بمراره ساخرة
*المحن هي ما تظهر ما يبطنه القلب والعقل يا أم البنات
انتفضت من جلستها للتوجه الى جلسته الباردة بكلتا يديها المفرودة ضربته على صدره بقوة ربما يتخلص من بردوه ويبادلها الاحتراق تصرخ بغضب
*متى أصبت بالغباء لم أعهدك غبي أخبرتك أنه عائلتي المتبقية خفت لأن ضميري الذي فاق اخيراً يؤلمني على طفلة أعلم أنه كل دنياها , طفلة ظلمتها بل وكدت بسبب العقربة الهام أن أضيعها وهى زوجته تحمل طفليه وتأتي الآن لتحاسبني
أمسك يديها بقوه يشدها إليه ينظر لها بتصميم يردف بغضب
*بلى ارتعبت عليه هو
بفقدان سيطرة صرخت به
*نعم نعم خوفت عليه هل تعرف لماذا ؟؟
لأنه أخي ابن عمي كما أخبرتك , شخص حماني من نفسي بالماضي لما لا تفهم أنني أحبك أنت ولم أحب الا سواك
يراقب جنونها وقلبه رغماً عنه يشفق عليها يريد تصديقها , غيرته العمياء عليها لا تسعفه ما فعله ليلتها يقتله جذبها من يديها يضمها رغماً عنها يمنحها بعض الهدوء الذي تريده ليقول بصوت خافت آمر:
*إهدأي
ردت بسخط :
*إهدأي هل هذا كل ما لديك , لما لا تمنحني ثقتك .. هل ما عدت تريديني مراد ؟؟
أغمض عينيه بقوة قبل أن يقول :
*ليت باستطاعتي وكأن الأمر بيدي أنا مربوط بك منذ وقعت عيني عليك أول مرة أنا أسيرك اسراء ولن ابعدك عنى مهما حدث
ابتعدت عنه بلهفه تأخذ وجهه بين يديها تخبره بحرقه نابعة من نار تعتمر بأحشائها
*اذاً لما تبتعد عني لم تعاملني ببرود لما لا تثق بي مثلما أحاول أنا أن أثق بك
أردفت تخبره بقوة وتأكيد
*إن كان ما يمنعك عني ما أبديته من خوف عليه فاقسم لك بكل شيء , ببناتي يا مراد إنه لم يكن الا شعورا بالشفقة بمكانه حقيقة كأخ يا مراد ولم ولن يتعد هذا قط
هل تعتقد محاوله إذلالي لنفسي الآن ومطالبتك بوصالي فقط لأني أريد شيء منك او امتنان أبديه لك , في قاموسي ومعرفتي إن هذا حب لك جنون بك حاجه إليك
بدأت دموعها في الهبوط رغماً عنها عندما رأت اهتزازه الذي أفلت منه لتخبره بخفوت
*إن كان ما يمنعك عني ما حدث ليلتها أنا أسامحك ولا أتذكره
دوى صوته بخشونة وجسده يتصلب برفض والذنب يجلده قائلاً :
*وأنا لن أسامح نفسي ولن أسامحك , أنا لا أعلم كيف أنك تسعين لي , لا أفهم كيف تستطيعين نسيان أنني أجبرتك بل إن صح القول اني أخذتك عنوه
تراجعت للوراء ذاهلة و عنف حديثه يصفعها تزلزل كيانها لتهز رأسها برفض :
*أنت جننت بالتأكيد لأني لا أذكر أن هذا ما حدث
صرخ بقهر :
*بل هذا ما حدث كنت ترفضين وتقاومين وأنا أجبرتك , أهنتني أمام نفسي مرة أخرى وانا أهنت رجولتي بسببك والآن تعلنين أنك تريدين وصالي وحبي
تراجعت للوراء خطوات تتمتم بالقول :
*أنا لا أذكر أن هذا ما حدث ربما أنك لم تتفهم حاجتي وقتها وأجبرتني في أول الأمر لكن ما أذكره لاحقاً أني استسلمت بل وقابلت كل عنف منك وترددك لأني ملكك وانت تدمغني بك بترحاب من جهتي , اعقل كلامك يا حضرة المهندس وادرس ما جرى جيداً قبل اتهامي ورفضك لي , أحتاجك مراد ولن أكررها مرة أخرى وإن ابتعدت عني ألف عام
اندفعت تغادر الغرفة عاجزة عن البقاء معه اذ كان ألم رفضه لها وتصميمه على ما يقول أكبر من أن تكبحه
جذبها من يدها من أمام الباب ليدفعها لداخل الغرفة مرة أخرى يلصقها بالحائط المجاور يلصق جسدها بجسده ويده تمتد لغلق الباب مرة أخرى هاجمها بغتة بدون تفكير يلتقط شفتيها بشغف حرقه وغيرته لم تنضب من داخله هي ملكه حقه له وحده
لم ترغب هي حتى بأن تقاومه تتذكر هجومه لها واتهامه لنفسه وهو يعلم جيداً بأن اتهامه كاذب ولم يحدث ولكن كبريائه من يجبره أن يرى الأمر بهذه الصورة لأنه رفض الاستماع الى رفضها في بادئ الامر يومها
سطعت نصيحة طبيبها داخل عقلها
*اعطيه ما يحتاجه منك
ومراد يحتاج أن تثبت له أنها ملك له يحتاج أن يمحي ما حدث من عقله تثبت له ثقتها به واحتياجها المتلهف إليه
حرر شفتيها وهو يحدق بها لاهثاً نيران الرغبة في وصالها ليمحي آثار لقائهم الأخير تشتعل عينيه وجسده الضخم يرتجف إثارة وهو يستشعر بأنوثتها واستسلامها بين يديه يتذكر حاجتها الدائمة إليه كما يحتاجها نظر إلى عينيها ببنيتها الداكنة تطالب به ترغبه كما يرغبها فأخرست أي جنون داخله قد اخبرها به
همست له
*أنا ملكك أنت مراد تذكر لم يجبرني شيء على استسلامي السابق ولا يجبرني أحد الآن على مطالبتي بك أنا أثق بك حبيبي
عاد يلتق شفتيها مرة أخرى بجشع ولهفة يخبرها بشكل متقطع
*أنت ملكي أنا
فترد هامسه وهى تطوق عنقك تبادله جشعه وعاطفته
*أنا ملكك
ليعود مزمجراً بغضب
*دمائك اختلطت بدمه
قاطعته وهى تلتقط شفتيه بنفسها لتتركه وهى تضمه إليها :
*ربما هو أخذ بضع دماء لا تعني شيء , لكن لا أحد يختلط بروحي وقلبي إلا انت
لا احد يملك كل ذره بي بأنوثتي وروحي الا أنت مراد
أنّ مقابل شفتيها متألما من همساتها الناعمة كيف تؤثر به تنسيه كل ما يلوم نفسه عليه
لا يفكر الا أنه يرغبها .. يدمغها به كل لحظة .. متى ينتهى ألم حبها .. متى يتحرر من دقاته التي كانت تحرم عليه ويرتاح من ناحيتها
بنعومة تحسسته
*مراد تعلم أنني أتقبل أي عاطفه منك لأن.....
وقبل أن تكمل حديثها عاد يهاجمها بعنف ورقة بحنو وقوة وكأنه بتناقضه معها يحاول محو الذكرى السيئة من عقله من رفضها له وإجباره لها
..................
أزعجها قليلاً حركه طبيبه وممرضة من خلفه يتبادلون الحديث الهامس في تتبع حالته حاولت ان تحرر نفسها خجلاً فلم تستطع من تشدد يده حولها فستسلم له تخبئ وجهها من الطبيب بعد مغادرتهم
استطاعت ان تحرر نفسها ببطء .. تعدلت من نومتها على سرير مرضه لم تحصل على هذا القسط الجيد من النوم منذ وقت طويل لقد طالبها بالسكينة ولكن هي من حصلت عليها منه .. تأملت وجهه الشاحب من إثر المرض والذي يظهر بوضوح فقدانه لبعض الوزن .. رفعت يديها تتلمسه بأطراف أناملها برقة تتبع الخطوط التي ارتسمت على وجهه وكأنها تريد محيها وسؤالها يتردد بعقلها هل كانت هي السبب فيما حدث له .. بغضب وقهر وضيق شعرته بصدرها وقد سمعت وفهمت جيداً حديثه الخافت مع مراد هل عمه فعل فعلته بإيعاز من أمها انتقاماً لما حدث من مواجهة بينهم .. أي في كل الحالات هي السبب في أنها كانت على وشك فقده
رمش بعينيه ليفتحمها وهو يبتسم لها يتمتم لها بصوت هادئ :
*صباح الخير هل تكتشفيني من جديد ؟؟؟
تلعثمت وهى تعيد يدها تنزلها لتسندها على صدره لتخبره بهمس :
*لا , ربما فقط أريد أن أشبع قلبي منك
ضمها من خصرها ليجبرها ان تتمدد بجواره مرة أخرى
*بل المشتاق انا يا صغيرة
لم ترد عليه وهى تدمدم بشرود
*هل سوف يتم الزواج اليوم كما تصر ؟؟؟
بقرار قاطع أخبرها
*نعم ولن أتردد أو أؤجل الأمر مرة أخرى .. يجب أن تحصلي على باقي حقك بدون تأخير وبعدها نرى كل ما تريدين ..
ابتعدت عنه مره أخرى لتنهض من نومتها تجلس تواجهه وهى تنكس رأسها تخبره بألم ربما يستمع إليها
*تعرف أنك عالمي ولن أستطيع أن أبتعد عنك إيهاب لكن
بنفس نبراته الهادئ سألها :
* لكن ماذا حبيبتي ؟؟
قلبها نبض بعنف وما تخبره إياه ترفضه من داخلها
*لكن عشقنا نار إيهاب .. تحرقنا .. لم ننل منه إلا الوجع .. الجميع يستنكره وكدت أن افقدك.. حسين فعل ما فعل بالتأكيد بسببي وفريال هي بالتأكيد من خططت انتقام منك
قاطعها باعتراض :
*مريم ... اصمتي .. أنت لا تعلمين شيئا ؟؟
قاطعته برجاء وهى تحاول رسم القوة التي لا تستشعرها :
*اسمعني ما توشك على فعله ربما يزيدهم جنون ويحاولون لأذيتك مرة أخرى وإيذاء أطفالي
صمتت للحظه تحاول أن تقنعه بالتراجع .. وهو يدرس جيداً ما تخبره به .. حرقتها ووجعها البادي لتقول :
*ربما تجبرنا الظروف للمحافظة على هذا الحب أن نبتعد .. أنا احبك ولكني لو بقيت معك ووافقتك سوف أكره نفسي ان أصاب أحدكم ضرر .. عندما أتذكر كل أنانيتك معي وأنانيتي معك غير مدركين العواقب ... الابتعاد هو الحل لكلينا ليبقي قلبينا مترابطين كما كانا دائما دعنا نترك الأيام تطيب جروحنا وتجعلهم ينسوننا , الحل الأمثل لجميع العلاقات المتشابكة مثلنا هو الابتعاد ... طلقني إيهاب
لينظر لها يتأمل جلستها المرتعشة , عينيها التي تواجهه بقوة .. طفلته كبرت .. عصفورته تعلمت أن تفتح الباب وتطالب بالابتعاد عنه .. ناعمته تطالب بالبعد .. لم تظن انه سيحافظ عليه مازالت صغيرته لا تفهم الشرور المحيطة من حولهم
اقترب منها وهو يحاول رفع نفسه للجلوس يواجهها بلهفه اقتربت تساعده تناقض طلبها الذي أخبرته به .. لم يمهلها الفرصة وهو يلتقطها ليحاوطها بين أحضانه .. حاولت الابتعاد والتحرر منه تهرب من الضعف الذي يحتل كيانها في قربه يخيفها .. لا لن تنهزم لن تتراجع .. قرارها نافذ ولن تتراجع فيه ستفعل المستحيل من أجله إن كان بعدهم الحل فلتختار موتها هي قبل أن يصيبه ضرر آخر بسببها
ليأمرها بحزم وهو يرفع وجهها بيد واحد وذراعه الآخر يحاوطها بقوة ليخاطبها قائلا :
اسمعينى جيداً
*أوافق مريم بعض العلاقات الابتعاد هو الحل الوحيد ولكن هذا عندما يكونان حبيبين التقوا صدفة ووقعوا في سهام العشق او حتى عندما تكون علاقتهم طبيعية محددة زوج وزوجة حبيب وحبيبه
: "لكن أنا وأنت، تظنين بأن كلمة طلاق هي من ستحررك مني أو تستطيعين الابتعاد عني بها، ما يربط بيني وبينك ليس عقدا تم شفهياً وبدون حقوق، أو حتى هذا العقد الذي أسعى أن يتم وأحاول الآن اقناعك به، ليصبح أمام الجميع؛ ما يربطنا يا صغيرتي تعدى كل أنواع العلاقات البشرية، أنت مني وأنا كلك، لا مفر لك مني أبدا"، ليحرر وجهها المرتفع إليه، عيناه تخترق روحها، لا عينيها.
ليمرر يده على طول وجهها، لترتعش بين يديه غير قادرة على التحرر من عينيه ودفء أحضانه، يشتتها قسوة صدره الذي يلتصق بطراوة بقوامها، فيضعفها. ليكمل بصوت أجش وهو مستمر فيما يفعل: "انت ابنتي أنا قبل أن تكوني زوجة أو حبيبة، أنا من علمتك كيف تنطقين حروف اسمك، أنا من قمت بتحفيظك خطواتك، أنا لا غيري، من كنت تمسكين يديه في أول محاولتك للوقوف على قدميك، أول خطواتك انتهت في أحضاني أنا وأنت تضحكين بجذل وانتصار طفولي منك، فيما حققت غير مدركة ليدي التي كانت تحاوطك دائما خشية من وقعوك أنا من رسمت خطوط حياتك، علمتك كيف تكون المبادئ وكيف تضعين القوانين لنفسك ولا تتخطينها أنا من كنت اروض ثورتك واحتوي ضعفك، قوتك، جنونك وشقاوتك. أنا لا غيري من علمك أبجديات العشق بتمهل وصبر ..سقيتها لك قطرة، قطرة لتكوني لي أنا لا لغيري، لن تتحرري مني يا مريم حتى لو وافقت أنا على جنونك وهذيانك أنا مع كل نفس تذرفينه أتسلل تحت مسام جلدك، أنا مع كل نبضة تنبض في صدرك صادرة من قلبك هذا لن تري غيري يوما ولا أنا استطيع رؤية امرأة غيرك، كما أنت مني جزء من روحي فأنا كل روحك يا حبيبتي، أنت لي يا مريم منذ أن كتب وجودك أشعر أحيانا أن سبب وجودك الوحيد أن تبقي لي، أنا وأنت مكافئتي وجائزتي سامحيني حبيبتي، أنا أرفض قرارك، أنا رجل متملك لك لدرجة الجنون إلى كل ذرة فيك"
لتحاول الاعتراض بشكل واه تنكر كل كلمة اخترقت عقلها، لتخبره بصوت مرتعش مثل جسدها من أثر كلماته واحتضانه القوي لجسدها: "لن يتركونا أبدا"
ليرد قائلاً : "وهل تعتقدين أنهم سيتركونناً إن أبعدتك عني، مريم ما حدث لم يحدث بسببك هناك حقد من نوع آخر يضمره حسين لي وأنت بالتأكيد لست أحد أسبابه"
ليسيطر على محاولات تحررها الواهية يقربها اكثر ... يدفن وجهه في طيات شعرها يستنشق راحته بعمق ليتوقف لحظات يعتدل من دفن وجهه في طيات شعرها يمسك وجهها بين يديه ينظر إلى عينيها يخبرها بصوت حازم وقاطع
* ستتزوجينني من أجل طفلنا ومن أجلي أنا حبيبك أنسيت كيف كنت تخبريني عن عشقك؟؟؟
حاولت الاعتراض ان تفهمه قلقها ليضع يده وهو يكمل برقه
*لن اترك فرصتي معك مهما حاولت كذباً ادعاء أنك قادرة على تحمل نتيجة ما تطلبين
لن اترك فرصتي التي منحت لي أن أعوضك عن كل شيء فقط لا أريد إلا أن تمنحيني ثقتك مره أخرى .. امنحيني فرصة واحدة فقط لأعوضك عن كل ما كان
اهتزت حدقتها بطرب .. لا تعلم ما تخبره او حتي تجد الرد على كلامه لا تريد الضعف أمامه .. حبه يضعفها منذ أن تعلمت ماذا يعني عشق .. يحركها كما يريد ببضع كلمات ولكنها تعلم وتعرف ان كل كلمة خرجت منه صادقة .. هو يريد أن يعوضها ويعوّض طفليها .. تعلم أنها تهمه قبل الطفل ..
ابتسمت ابتسامه باهتة وهي تتخيل رد فعله إن أخبرته أن هناك طفلين هزت رأسها بموافقة :
*كما تحب ولكن أنا أريد وعدا بعدم تركى ... أن تفعل كل ما تستطيع حتى لا يؤذوكم مرة أخرى بسبب
ليرد عليها بهدوء :
*لم يؤذوني بسببك فلا تشعري بالذنب
حرك يده يمسد على بطنها يريد ان يتخلص من أي حديث يتطرقون به إلى الماضي ليسألها بشوق ولهفه لم يستطع مدراته :
*كيف حال صغيري معك .. بالطبع أتعبته كما تسببين المتاعب لوالده
ترددت وتلعثمت سوف تخبره الآن .. ماذا ستكون ردة فعله ؟؟
فتحت فمها وكأنها تجاهد لتقول :
*ألم تلاحظ أني دائماً أخبرك أنهم طفلين ؟؟؟
ارتعش فكه وعلامات عدم الفهم تبدو على وجهه .. ليقول ينكر لنفسه :
*نعم لاحظت ذلك ربما خطأ منك أو منيت نفسك بِه
وضعت يدها تفرك جبهتها بقوة تردف بحنق :
*يا الهي لم تجعل الأمر أصعب .. ظننتك أذكى من هذا ؟؟
ليرد بتأكيد يحاول تصنع المرح :
*ربما ولكن معك أصبح أعتى الاغبياء
لم ينتقل إليها المرح بل زاد من ترددها لتقول بسخط :
*لما تجعل الأمر صعب .. أنا لم أخطأ ولم أمني نفسي به
رفع حاجبه ويده تمسد على بطنها والجنين بدأوا في التحرك تحت يديه ليلفت انتباهه وهو يتبع تحركهم بسعادة تنسى اى الم جسدى وكأنه نسى حديثها ليخبرها :
*إنه يتحرك بداخلك يتواصل معي
عقدت حاجبيها بغيظ هل فعلاً يصيبه الغباء معها :
صرخت به معترضة تصحح وهى تضغط بغيظ على كل حرف :
*يتحركان ... يتفاعلان ... إيهاب ليسوا طفلا إنهم توأم
توقفت يده عن حركتها وفكه يتدلى ببلاهة لم ترها من قبل فيه
ضحكت رغماً عنها وما تراه نفض عنها كل همها السابق تؤكد لنفسها ربما الحادث في النهاية أثر على عقله
وهناك في قارة أخرى وعلى بعد ملايين الأميال جلس على كرسي متحرك في غرفة مظلمة، كما عقله وقلبه. وجهه الذي لم يبرئ بعد من جراحه وتشوهه يراقب بشماتة عناوين الصحف ومواقع التواصل الاجتماعية.
خبر إصابته في حادث مشابه، يشعره بالنصر لنفسه، لقد نال ما ناله وأيضاً دخل في غيبوبة مثله، لا يريد له الموت كما تؤكد الصحف وتناقله بعض الأشخاص على موقع التواصل، بل يريده أن يستفيق مشوها وعاجزا ليس مثله ولكنه يريده عاجزا تماماً، يريد كما يسمع عنهم ليس أن يفقد حركة ساقيه فقط، بل يتمنى أن تشل جميع أطرافه وأن يرى العالم يدور من حوله دون أن يستطع أن يتواصل معه.
بغل رمى حاسوبه على أرض الغرفة الباردة يصرخ بجنون، عندما وقعت عينيه على خبر أخر ما حصل عليه. طفل.. ينتظر طفلا، العاهرة مثل أمها مازالت تحتفظ بالطفل.
كم يتمنى لو باستطاعته العودة إليها الآن ليزهق روحها قبل أن تزيد من نسل فريال وتربط دماءهم بدمائه، لقد عجزت فريال أن تربط حسين بطفل منه لتأتي ابنة الحرام وتفعلها.
زمجر كأسد جريح عاجز عن إبداء حركة وهو ينظر لساقيه، حتى وهو يموت يحقق أخر نصر له ليحصل على كل شيء.