الفصل الثاني

عند إنتصاف النهار ..
خطي " توفيق علام " بقدمه علي أرض حي ( الغورية ) العتيق ، ثم راح يسير ببطء و عيناه تجولان علي جدران المنازل ، يبحث عن رقم منزل صديقه القديم الذي إنقطعت صلته به منذ أكثر من خمسة عشر عاماً ، و لكن عبثاً ، فقد تآكلت معظم اللوائح النحاسية المُعلقة علي أبواب المنازل بفعل الصدأ أثر مرور السنين ..
تأفف " توفيق " في ضيق و لم يجد بديلاً عن ذلك سوي أن يذهب و يسأل أحد القاطنين بالحي عن صديقه ، و بالفعل إتجه صوب مقهي قديمة الطراز ، و بينما كان يمر بين الزبائن شاب في أواسط العشرينات ، مد " توفيق " يده و أمسك بذراعه في لطف يستوقفه ، فتطلع إليه الأخير بريبة و هو ينقل عينيه بين وجه السيد الغريب و ذراعه النحيل بقبضته ..
إبتسم " توفيق " بخفة ، ثم ترك ذراعه و سأله بنبرة هادئة :
- قولي يابني لو سمحت ، فين بيت رقم 9 ؟؟
- بيت رقم 9 !!
ردد الشاب في وجوم إستنكاري ، بينما أومأ " توفيق " رأسه قائلا :
- ايوه ، بيت رقم 9 اللي ساكن فيه الاستاذ رشدي هلباوي. 
عند ذلك ، صاح الشاب بحماسة عفوية :
- اااه ، قصدك عم رشدي مجالات ؟؟
عبس " توفيق " مستغرباً و عاد يقول :
- ايه !رشدي مجالات ايه بس يابني بقولك اسمه رشدي هلبا ..
قاطعه الشاب مسرعاً :
- هو عم رشدي مجالات ، مافيش هنا في المنطقة كلها الا رشدي واحد بس ، عم رشدي مجالات و اهو قاعد هناك اهو. 
أشار له نحو طاولة في الوسط داخل المقهي ، ثم صاح عالياً :
- عم رشدي !
- في ايه ياض يا شبورة ؟؟
صدر السؤال عن رجل جلس مولياً ظهره للشاب الذي تابع قائلا و هو يتفحص " توفيق " بعينيه من أعلي إلي أسفل :
- في واحد بيه بيسأل عليك.
ثم مضي يلبي طلبات الزبائن ، بينما نهض السيد "رشدي " متسائلا :
- يا تري مين البيه ده اللي جاي لحد الغورية مخصوص عشان يسأل عن رشدي مجالات ؟؟
ثم إلتفت إلي "توفيق " أخيراً ، كان رجلاً من الصعب تحديد عمره ، فبنيانه بنيان شاب نحيل ، و رشيق أكثر قوة مما تكشف عنه حركاته المتراخية ، شعره أسود متموج خطه الشيب فوق أذنيه ، كما كان وجهه دقيق أيضاً و لكن هناك خطوطاً ظهرت حول عينيه أكدت حقيقة عمره الذي تجاوز الثانية و الخمسين منذ أشهر مثل "توفيق " الذي كان لا يزال واقفاً بمكانه يتأمل الشخص الذي أقبل عليه ببطء و هو ينظر إليه مضيقاً عينيه ، بينما سيكارته البيضاء الرفيعة تميل علي حافة فمه الواسع الصارم ، و عندما وقف أمامه مباشرة ، رمقه مقطباً لبضع لحظات ، ثم صاح فجأة بإبتسامة واسعة :
- مش ممكن ! توفيق علام ؟!
- رشدي هلباوي.
هتف " توفيق " باسماً بدوره ، ثم راحا يتعانقان بقوة ، حتي إبتعد " رشدي " أولاً و قال و قد إنفرجت أساريره :
- يااااه يا توفيق ، و الله زمان يا صاحبي ، يا تري ايه اللي فكرك بيا ؟؟
كاد " توفيق " يتكلم فباغته الأخير بسرعة :
- تعالي نقعد نشرب حاجة الاول.
ثم قاده إلي أقرب طاولة و أجلسه ثم جلس قبالته ، و بعد أن طلب الشاي لكليهما ، إدار وجهه الباسم إليه قائلا :
- تصدق انا كنت فاكرك نسيتني يا توفيق ، بعد ما ربنا فتحها عليك قلت خلاص بقي ، راحت عليها الصداقة القديمة ، اللي بينا ، ماكنتش متخيل اني هشوفك تاني بعد كل السنين اللي فاتت دي !!
أجفل " توفيق " في خجل قائلا :
- انا اسف يا رشدي ، انا فعلا اهملت صداقتنا اللي دامت من ايام المدرسة ، لكن صدقني انا من يوم ما خلفت و ولادي واخدين كل وقتي.
- الا بالحق صحيح ، ولادك عاملين ايه ؟ هما كانوا بنت و ولد علي حسب ما انا فاكر صح ؟؟
أومأ " توفيق " رأسه باسماً و أجابه :
- ايوه يا سيدي ولد و بنت ، مروان الكبير و رضوي الصغيرة. 
- ربنا يخليهملك و يباركلك فيهم. 
إبتسم "توفيق " في سخرية مريرة و قال :
- ربنا يوفقهم في حياتهم بقي ، انا خلاص بقيت مجرد اسم في شهادات ميلادهم و بطايقهم. 
قطب " رشدي " حاجبيه مستغرباً ، ثم سأله :
- ايه اللي بتقوله ده يا توفيق ؟ ليه بتقول كده ؟؟
تنهد "توفيق " بثقل ، و نظر إليه صامتاً لبرهة ، ثم قال بلهجة مفعمة بالآسي :
- هحكيلك يا رشدي.


- ابوك لم هدومه و ساب البيت ، و ده كله بسبب عمايلك السودا. 
هتفت " دينار " بحدة بالغة توبخ إبنها الذي وقف أمامها بغرفة نومها واضعاً كلتا يديه في جيبيه و علامات الضجر تعلو قسمات وجهه .. :
- حد قاله يمشي ؟؟
سألها متأففاً ، ثم أردف في هدوء :
- انا ماليش دعوة باللي حصل ده ، هو مشي من نفسه بمزاجه ، هو حر بقي. 
تصاعدت الدماء إلي وجه " دينار " في تلك اللحظة ، فصرخت به في عنف :
- اخرس يا سافل يا قليل الادب ، مش عايزة اسمع صوتك ، خلاص كبرت و بقيت راجل ؟ شميت نفسك و اول واحد هتشد حيلك عليه ابوك يا مروان ؟ انما ارجع و اقول انا السبب في كل ده ، انا اللي وصلتك للنقطة دي ، انا اللي خليتك تقف قصاد ابوك في المحاكم و تحجر عليه. 
عند ذلك ، زال برود "مروان " و هتف بشئ من الغضب :
- ونبي يا ماما الله يكرمك ، بلاش الافورة دي كلها .. انتي سكتي علي كل اللي انا عملته ده عشان عارفة كويس عمايلي دي كانت لصالح مين .. و لا كنتي عايزاني اسيب املاكنا و فلوسنا تتبعتر يمين و شمال علي مصطفي بيه و بنته ؟!!
هتف أخر كلماته محتداً ، ثم أضاف مزمجراً :
- ما كل حاجة كانت قدامك ! مش كان عايز يغرف من فلوسنا و يدي اخوه ؟؟
هزت " دينار " رأسها مضطربة ، ثم قالت تعزز موقف زوجها و قد تلعثمت الكلمات علي شفتيها :
- ابوك ماكنش هيبعتر الفلوس و لا حاجة ، هو كان عايز يساعد اخوه في ازمته مش اكتر. 
إبتسم " مروان " في تهكم قائلا :
- يساعده ببيع 45 % من اسهم شركتنا بالحب كده هاه !
ثم صمت لثوان ، و صاح منفعلاً :
- كان عايز يبعله نص الشركة تقريباً ، و كنتي عايزاني اسكت !!
أجابته " دينار " بعصبية :
- خلاص عمك مات الله يرحمه و الموضوع انتهى.
ثم أضافت بشئ من الهدوء :
- كلم ابوك و صالحه و قوله انك هترجع كل حاجة زي ماكنت. 
هز " مروان " رأسه رافضاً ، ثم قال بحزم :
- لأ يا ماما .. مافيش حاجة هترجع زي ما كانت ، التركة كلها خلاص اتقسمت عليا انا و انتي و رضوي ، مافيش حاجة هتتغير و انا مش هتنازل عن جنيه واحد. 
حدجته " دينار " بغضب متقد ، ثم صرخت بهستريا :
- انت ماتربتش ، انا حقيقي ماعرفتش اربيك ، ماعرفتش اربيك !!
إنفتح باب الغرفة في تلك اللحظة ، و دلفت فتاة في منتصف عشريناتها ، ذات شعر أسود طويل متموج ، و عينين واسعتين بين أهداب كثيفة بنفس لون شعرها ، لم تكن تفضل ميل غيرها من الفتيات للنحالة ، لذا كان جسدها ممتلئ برشاقة ، و هذا ما أظهرته ثيابها الضيقة ..
بينما تقدمت نحو منتصف الغرفة ، حيث كان " مروان " يقف بوجه مكفهر في مواجهة أمه الثائرة المنفعلة ، ثم هتفت متسائلة :
- في ايه يا جماعة ؟ مالكوا ؟ صوتكوا عالي كده ليه ؟ في ايه يا مروان ؟؟
أدار " مروان " رأسه إلي شقيقته و أجابها بخشونة :
-اسألي دينار هانم. 
ثم إنصرف إلي الخارج بخطي واسعة غاضبة ، بينما صوبت " رضوي " ناظريها إلي والدتها ، ثم عادت تتساءل :
- في ايه يا ماما ؟؟
- اخرسي انتي كمان. 


هتفت " دينار " صارخة ، ثم أضافت :
- انا مش ام حد ، خلاص انا كمان مابقاليش لازمة في حياتكوا زي ابوكوا بالظبط. 
عند ذلك ، أومأت " رضوي " رأسها مهمهمة ، ثم تنهدت بعمق و قالت في هدوء :
- طيب اهدي من فضلك يا ماما .. انا عارفة انك زعلانة علي بابا و عارفة ان الوضع اللي حطيناه فيه صعب و مهين. 
ثم هزت كتفيها بأسف و أضافت :
- بس للأسف ماكنش قدامنا اختيار تاني ، هو كان مصمم علي رأيه ، و لو ماكنش مروان لحق يتصرف بسرعة كانت فلوسنا و املاكنا كلها هتضيع ، تصرف بابا ماكنش منطقي و لا عقلاني عشان كده المحكمة حكمتلنا بمنتهي السرعة و السهولة. 
أقرت " دينار " و الآسي يملأ قلبها بصدق أقوال أبنائها ، و لكن في الوقت ذاته رفضت أن تحذو حذوهما ، فصاحت بإبنتها في حدة باكية :
- اعملوا اللي يعجبكوا ، اتحكموا فيا انا و ابوكوا براحتكوا ، علي رأي توفيق ، الآية انقلبت. 
ثم أسرعت إلي الخارج يتآكلها الغضب ، بينما هزت " رضوي " رأسها حائرة ...



- لا حول و لا قوة الا بالله ! معقول !!
صاح " رشدي " بذلك مشدوهاً ، ثم تابع :
- معقول العيال بعد ما كبرتهم و علمتهم و شقيت عشان تبنيلهم مستقبلهم ، اخرتها يعملوا فيك كده ؟ و عشان ايه ؟ عشان كنت عايز تساعد اخوك و تقف جنبه في محنته !!
إحتشدت الدموع بمقلتي "توفيق " و هو ينظر إلي " رشدي " في خزي قائلا بصوت متهدج إنفعالاً :
- سألت نفسي كل الاسئلة دي يا رشدي ، مالقتش اجابة تريحني ، كأن راجل غيري هو اللي رباهم ، كأن راجل غيري كافح و شقي طول السنين دي عشانهم. 
عبس " رشدي " قائلا بصوته العميق :
- جري ايه يا توفيق ؟ بتدمع و لا ايه ؟ لا اجمد كده و خليك شديد و ارمي ورا ضهرك مسيرهم يرجعولك و يستسمحوك كمان.
بمرارة تقطرت من صوته قال :
- يرجعولي ! بقولك ورثوني بالحيا و بقي معاهم ملايين.
ثم أردف بآسي :
- انا دلوقتي بقيت ميت في نظرهم يا رشدي. 
ضغط " رشدي " علي شفتيه في تأثر آسف ، ثم مد يده عبر الطاولة الصغيرة و ربت علي كتف صديقه قائلا :
- و لا يهمك يا توفيق ، هما العيال كده ، لما بيكبروا بيحبوا يخرجوا عن طوع اهاليهم ، طيش ، طيش يا توفيق. 
أومأ " توفيق " رأسه متنهداً ، ثم عاد ينظر إلي "رشدي " قائلا في إستحياء :
- انا كنت قصدك في طلب يا رشدي. 
- يسلام ! طلبين يا توفيق مش طلب واحد اؤمر ؟؟
كم وجد صعوبة في صياغة كلماته قبل أن يقولها ، لكنه إنطلق يقول بصوت مرتج قليلاً :
- كنت عايزك تشوفلي اي حتة هنا اقعد فيها ، انا زي ما قلتلك سيبت البيت و ..
- طب بس ماتكملش.
قاطعه " رشدي " واجماً ، ثم تابع مقرراً :
- انت هتيجي تقعد عندي في الشقة ، مين قالك اصلا اني كنت هسيبك تمشي من هنا و انت في الظروف دي !!
أهداه " توفيق " إبتسامة خفيفة ، ثم قال في تردد :
- متشكر يا رشدي ، بس انا مش عايز اكون ضيف تقيل علي المدام و الاولاد. 
- مدام و اولاد !!
هتف " رشدي " باسماً في سخرية ، ثم إنفجر ضاحكاً و قال :
- مدام و اولاد ايه بس يا عم توفيق قول يا باسط. 
- انت لسا ماتجوزتش يا رشدي ؟ معقول ؟؟
عاد " رشدي "بجسده يستند إلي ظهر مقعده ، ثم تنهد قائلا :
- ماتجوزتش يا توفيق ، بس في واحدة ايه .. معششة في قلبي ، و مخيشة في نافوخي. 
- طب ماتتجوزها يا اخي !!
هتف " توفيق " متعجباً ، بينما زم " رشدي " شفتيه آسفاً و قال :
- يا ريت ، بس ماينفعش.
- ليه كده ؟؟
لمعت عيناه خبثا ، ثم أجابه بإبتسامة واسعة :
- اصلها متجوزة. 
- يخربيتك يا رشدي ! عامل علاقة مع واحدة متجوزة ؟!!
- ايه يا جدع ماتفهمنيش غلط ، انا علي علاقة بيها اه لكن عمري ما عملت معاها حاجة في الحرام ، انا بردو رشدي مجالات كبير الحتة و ليا سمعتي. 
- اه صحيح !
صاح " توفيق " متذكراً ذلك اللقب الغريب ، ثم سأله :
- ايه حكاية رشدي مجالات دي ؟ الواد صبي القهوة لما سألته عن رشدي هلباوي اصر انه رشدي مجالات مش هلباوي ! ايه حكاية مجالات دي ؟؟
قهقه " رشدي " بمرح ثم أجابه :
- دي حكاية طويلة ، هبقي احكيهالك بعدين. 
و فجأة سمعا صوت نزاع حاد آت من منتصف ( الحارة) فهب " رشدي " واقفاً علي قدميه ، ثم إتجه نحو التجمهر يتبعه " توفيق " بينما علي الطرف الأخر ، صاحت بصوت مجلجل تلك المرأة الأربعينية ذات القوام الشرقي الجذاب :
- هي الخمسة جنيه مافيش غيرها و لو مش عاجبك خلي عنك خالص.
بينما باغتها بوقاحة ذلك الشاب الأسمر الهزيل قائلا :
- صدقي انتي ولية ماعندكيش دم ، بقي جايبك من المشوار ده كله رايح جاي و تديني خمسة جنيه ! ليه ؟ هو التوكتوك فلوسه حرام و لا ايه ؟ طب عليا النعمة ما انا متعتع من هنا الا اما اخد في ايدي عشرة جنيه فوق الخمسة دي.
- بس يابني انت ، ايه مالك في ايه ؟؟
قالها " رشدي " بصوته العميق و هو يحول فيما بينهما ، بينما إلتفت إليه الشاب ذا الأسنان الصدأة قائلا بتبجح :
- الولية ام لسان ذفر دي جايبها من اخر بلاد المسلمين رايح جاي و في الاخر بتديني خمسة جنيه !!
- احترم نفسك ياض انت لأقل ادبي عليك بجد.
هتفت السيدة في حدة بالغة و قد تضرج وجهها بحمرة الغضب ، بينما تدخل " رشدي " في هدوء حازم قائلا :
- خلاص يا ست دلال ، اسكتي انتي لو سمحتي. 
ثم توجه بالحديث إلي الشاب :
- و انت يابني ، خدت الست منين و وديتها فين بالظبط ؟؟
- خدتها من هنا يا بشمهندس و بعدين وديتها الضراسة ، و من الضراسة رجعتها هنا بردو. 
- بس الضراسة مش بعيدة اوي يعني. 
قالها " رشدي " متململاً ، ثم تنهد بثقل و سأله :
- ما علينا ، انت عايز كام يعني ؟؟
- عشرة جنيه. 


أجابه مسرعاً ، فدس " رشدي " يده بجيب سرواله دون كلام و أخرج ورقة نقدية بعشرة جنيهات ، ثم أعطاها للشاب قائلا :
- خد يا سيدي.
تهلل وجه الشاب و هو يطوي النقود بيده ، ثم يضعها داخل جيبه ، بينما صاحت السيدة " دلال " معترضة بشئ من الخجل :
- انت بتعمل ايه بس يا سي رشدي مايصحش كده.
ثم أضافت و قد إحتدت نبرة صوتها :
- هو خد حقه علي داير مليم ، انما تقول ايه في الطمع و قلة التقوي !
- خلاص بقي يا ست دلال ، و انت يابني يلا اتكل علي الله و بعد كده ابقي اتعلم ازاي تتكلم بإحترام مع الناس.
شدد " رشدي " علي أخر كلماته و هر يربت علي كتفه بقوة ، فيما أومأ الأخير رأسه إيجاباً ثم رحل في هدوء و هو يرمق " دلال " شذراً ، بينما توجهت " دلال " صوب " رشدي " علي إستحياء باسمة ، ثم تطلعت إليه قائلة :
- انا مش عارفة اقولك ايه يا سي رشدي !
أهداها " رشدي " إبتسامة عذبة بدوره و قال :
- ماتقوليش حاجة يا ست دلال ، انا ماعملتش حاجة كبيرة يعني.
- عموماً ماتقلقش انا هردلك فلوسك ، قبل المغرب بأمر الله هيكونوا عندك. 
قست ملامحه و هو يؤنبها :
- عيب كده يا ست دلال ، انتي كده بتشتميني.
فشهقت " دلال " قائلة :
- معاذ الله ياخويا ونبي ماقصدش انا بس آا ..
- خلاص يا ستي قولنا مافيش حاجة. 
قالها بصرامة منهياً للمجادلة ، فإبتسمت هي برقة ، ثم حولت بصرها نحو " توفيق " الواقف إلي جوار " رشدي " يتابع ما يجري من حوله في صمت ، بينما راحت تتآمله لبرهة ..
لم يكن وسيماً ، و لكنه بالتأكيد كان جذاباً بنظرها ، فجذبيته تكمن بتلك الهالة العجيبة التي أحاطته ، إنه هادئ للغاية ، شديد الملاحظة ، بدا لها ساحر و لطيف ، كما أنه كان أنيقاً أيضاً و هو داخل بذلته الداكنة و جزمته اللامعة .. :
- ده الاستاذ توفيق علام ، صاحبي يا ست دلال.
قالها " رشدي " عابساً عندما لاحظ نظرتها المتفحصة لصديقه ، بينما إستطاعت أن ترسم إبتسامة مرتعشة علي شفتيها ، ثم ألقت عليه التحية بصوت أبح :
- اهلا يا استاذ .. الغورية منورة. 
بادلها " توفيق " بإبتسامة ودودة ، ثم قال :
-اهلا بيكي يا مدام ، متشكر اوي لذوقك. 
- العفو. 
قالتها برقة متناهية و هي ترمقه في إعجاب بالغ و قد تلألأت مقلتيها ببريق لامع ...



في منزل أخر ، أكثر تواضعاً عن سوابقه ..
وقفت فتاة بمنتصف حجرة الجلوس الصغيرة تنظر حولها برضا ، ثم قالت و البسمة تعلو شفتيها الورديتين :
- و نضفتها اخيرا ، باقي اوضة ماما بقي. 
ثم فجأة سمعت صوت جرس المنزل يدق ، فذهبت و فتحت الباب ، لتصطدم بأمها و بفتاة تقف خلفها مباشرة .. :
- ازيك يا هنا ؟؟
حيتها أمها السيدة " قوت القلوب " ببشاشة ، ثم أضافت حين لاحظت جمود إبنتها :
- معايا ضيفة. 
ثم إلتفتت خلفها قائلة :
- ادخلي يا هانيا ، ادخلي يا حبيبتي البيت بيتك. 
تراجعت " هنا " إلي الخلف بآلية حين رأت حقائب ملابس كبيرة رابضة أمام باب الشقة ، بينما أمسكت السيدة " قوت القلوب " برسغها قائلة :
- تعالي يا هنا عايزاكي في كلمتين. 
ثم نظرت إلي "هانيا " و قالت معتذرة :
- البيت بيتك يا حبيبتي خدي راحتك و انا مش هتأخر عليكي. 
أهدتها " هانيا " إبتسامة بسيطة مترددة ، فقد إنتابها شعور خفي بأن وجودها بهذا البيت غير مرحب به من قِبل أحد سكانه ..
و لكنها خطت إلي داخل المنزل و هي تتفحصه بإهتمام و دقة ، كان السقف منخفضاً جداً مقارنة بسقف منزلها العال ، و الجدران مطلية بلون أبيض إستحال إلي الأصفر لفرط قِدمه ، كما كان الأثاث عتيق مهترئ ..
وقفت " هانيا " تتأمل ذلك المنزل ملياً و فكرت .. هل ستتحمل العيش هنا ؟ هل ستعتاد تلك الحياة الخشنة الجلفة ؟ و هي ربيبة القصور المدللة !!
أدركت أن ما بيدها حيلة ، و أن عليها تحمل هذا الوضع ريثما تجد حلاً و تفتش وراء هذا الرجل الذي قلب حياتها رأساً علي عقب في ليلة و ضحاها ..

***************

علي الطرف الأخر ..
ما أن إنتهت " قوت القلوب " من شرح الأمر إلي إبنتها حتي صاحت " هنا " حانقة :
- ليه يا ماما تعملي كده ؟ هي الحكاية ناقصها يعني ! و بعدين انتي كنتي خلفتيها و نسيتيها ؟ هي مالهاش اهل ؟؟
- وطي صوتك يا بت. 
همست " قوت القلوب " بحدة ، ثم تابعت :
- اسمعي يا هنا ، انا اعمل اللي انا عايزاه و اتصرف بالطريقة اللي تعجبني ، هانيا هتعيش معانا من انهاردة معززة مكرمة. 
ثم أضافت محذرة :
- و لو شفتك عاملتيها وحش او بطريقة مش اللي هي انتي حرة ، هبعتك لعمتك تعرف تربيكي هي بقي طالما انا مش قادرة عليكي. 
جن جنون "هنا " في تلك اللحظة بعد أن إستمعت لتهديد أمها ، فصاحت بغضب جامح :
- ايه اللي انتي بتقوليه ده ؟ يعني ايه تبعتيني لعمتي ! ده بيت ابويا الله يرحمه يعني بيتي. 
- يبقي تسمعي كلامي و ماتوجعيش قلبي لو مش عايزاني ادخل عمتك في الموضوع و انتي عارفاها اكتر مني بقي. 
نجحت السيدة " قوت القلوب " في زعزعت عزيمة إبنتها ، فتلك السيدة التي تدعي عمتها هي عجوز شمطاء سليطة اللسان ، قاسية الفؤاد و لا أحد يستطيع مجابهتها أبداً ، لذا إستسلمت " هنا " لإرادة والدتها مرغمة ...



أرخي الليل سدوله فوق قصر " عاصم الصباغ " ..
و بينما كان يجلس "عاصم " بحجرة الجلوس فوق كرسي وثير إلي جانب مدفأة موقدة بالنيران ، دلف إليه " زين " بخطي واسعة ، ثم توجه نحوه و حياه قائلا :
- مساء الخير يا عاصم !
تجاهل "عاصم " تحيته ، و باغته في جمود متسائلا :
- وصلت لشهاب ؟؟
خلع "زين " معطفه الأسود ، و ألقاه فوق الأريكة إلي جواره ، ثم جلس بمقعد قبالة "عاصم " و أجابه في هدوء :
- ايوه .. الرجالة اللي بعتهم يدوروا عليه لقيوه و زمانهم راجعين بيه في السكة. 
- لقيوه فين ؟؟
- عند عيال ضاريبة في اكتوبر مشهورين اوي في ساحة الضرب.
ثم أضاف متململاً في جلسته :
- اتضح ان اخوك هرب من المصحة بمساعدة واحد زميله بقاله اربع سنين في المصحة يخف و بعدين يتنكس و يرجع.
تقلص وجه " عاصم " بغضب ناري إمتد إلي عينيه البندقيتين اللون ، فيما إنثنت أصابعه و كأنه يود لو يعتصر عنق شقيقه في تلك اللحظة ، بينما أضاف " زين " متردداً :
- و مش كده و بس .. لما روحت انهاردة المصحة بنفسي ، قابلت ممرض قالي ان شهاب من يوم ما دخل ماتحسنش إنش واحد ، و قالي لما الدكاترة راقبوا حالته كويس اكتشفوا انه لسا بيتعاطي البودرة و الكوكايين.
عند ذلك ، هب " عاصم " واقفاً ، ثم إنطلق كالسهم يقول بعنف :
- ازاي ده ! ده انا هوديهم في ستين داهية ، هقفلهم المصحة دي كلها ، هطربقها فوق دماغتهم ، هو انا كنت موديه هناك عشان يتعالج و لا عشان يكمل ضرب ؟!!
إنتصب " زين " واقفاً علي قدميه بدوره ، ثم إقترب من " عاصم " و قال يهدئه :
- اهدا يا عاصم ، الحاجات دي كانت بتدخل متهربة اكيد الدكاترة مايعرفوش بوحود حاجة زي دي !
- و لو ، دي مصحة لعلاج الادمان مش وقر للضرب ، و ديني لأوديهم كلهم ورا الشمس.
و في تلك اللحظة دق جرس المنزل ، بينما كان " عاصم " مركز بصره تجاه باب حجرة الجلوس العريض ، حتي دلف قائد طاقم الحرس الخاص بالقصر يتبعانه رجلان ضخمان يمسكان بذراعي " شهاب " من الجانبين ، فيما لم يتوقف الأخير عن مقاومتهما و محاولة التملص منهما و هو يصرخ بهم في إنفعال أن يتركوه دون جدوي ، بينما كان " عاصم " يتابع الموقف بنظر حاد و في صمت هادئ يتناقض مع تلك النيران المتآججة بصدره ..
و عندما أصبح أخيه يقف علي مقربة منه ، راح يتآمله ملياً ، كان يرتدي ثياباً رثة ، شعره أشعث و يبدو عليه التعب و الضياع ، كما أنه فقد الكثير من وزنه ، إضافة إلي تلك الظلال السوداء العميقة تحت عينيه الذابلتين الحمراوين ، و ذلك الإصفرار الذي صبغ طبقة جلده بأكملها ..
تطلع " شهاب " إلي شقيقه مرتاباً و هو يحاول أن يتظاهر بالبرود قدر إستطاعته ، بينما تصاعدت الدماء إلي وجه " عاصم "المشوه و كأن مرآي أخيه علي تلك الحالة أفلت فيه عقال الغضب ، فإقترب منه بخطوة واحدة ، ثم أمسك بتلابيب قميصه الرث ، و جذبه بعنف صائحا :
- هربت من المستشفي عشان ترجع للقرف اللي كنت فيه ؟ يا شمام يا سرنجاتي ، عايز تموت نفسك ؟ طب قولي و انا اموتك بإيدي احسن و اسهل ، لما اضربك بالنار زي الكلب و محدش هيدري بيك هيبقي احسن.


عند ذلك ، إندفع " زين " نحو الشقيقان و قبض علي ذراعي " عاصم " حتي نجح في إبعاده عن "شهاب " ، بينما صرخ " عاصم " في غضب حارق :
- اوعي يا زين ، اوعي بقولك ماتدخلش انت. 
فيما أطبق " شهاب " فمه بتحد ، و إلتزم الصمت ناظراً لأخيه في تمرد ، فقال " عاصم " بصوت قاس و كأن الغضب يسحق الكلمات بين أسنانه :
- ه‘ديك مصحة تانية يا كلب ، و هحط علي باب اوضتك اللي يعرفوا مايخلوش الدبانة تدخلك. 
في تلك اللحظة ، إنهار غلاف الثلج الذي غلف " شهاب " به نفسه ، ثم نطق أخيراً ، إذ قال واهناً بلهجة مختلجة :
- لأ .. لأ يا عاصم بلاش ، مش عليز ارجع المصحة تاني ، اعمل فيا اللي انت عايزه بس ماتودنيش هناك تاني ، انا مابنزلش من الديتوكس ، انا بموت هناك بالطئ. 
و لما تكلم " عاصم " وقع صوته في أذن شقيقه بارداً مليئاً بالتهكم :
- يا راجل ! ده انت كنت عايش هناك باشا ، كنت بتضرب براحتك و مقضيها.
ثم تحولت نبرة صوته إذ قال بحدة :
- بس خلاص بقي ، انا هعرف شغلي معاك ، مش عايز ترجع المصحة ؟ تمام ، هخليك هنا و هعالجك بطريقتي يا شهاب. 



- ادخل !
هتفت " رضوي " بنعومة آذنة بالدخول لمن طرق بابها تواً ، بينما دلفت إليها إحدي الخادمات حاملة بين يديها علبة بيضاء كبيرة ، ثم خطت نحوها قائلة بخفوت :
- الطرد ده جه لحضرتك يا مدام رضوي ، لسا مستلماه حالا.
قطبت " رضوي " حاجبيها مستغربة ، و لكنها تناولت العلبة منها ، ثم أصرفتها ..
و إنتظرت حتي خرجت ، ثم شرعت في فتح العلبة البيضاء ذات الشرائط الزرقاء 

 



إعدادات القراءة


لون الخلفية