الجزء 22: ليلة العرس

تجمدت ملامح "هانيا" عندما أعلن "شهاب" عن هوية الفتاة ، و قد لاحظ الجميع ذلك
لكن سرعان ما أرخت "هانيا" تعابير وجهها الجامدة ، و رسمت علي شفتيها إبتسامة هادئة يشوبها التوتر البسيط ..
ثم تساءلت في هدوء:
-انتي اسمك هاجر الطحان ؟ .. يعني ليكي صلة قرابة بكمال الطحان ؟؟
إبتسمت "هاجر" برقة ، و أجابتها:
-ده يبقي بابا.
تضاعف إرتباك "هانيا" فقد تأكدت شكوكها ، إلا أنها جاهدت حتي تحافظ علي هدوئها أمامهم ..
بينما سألها "شهاب" بدهشة:
-ايه ده يا هانيا .. انتي تعرفيه ؟؟
أجابت "هانيا" بثبات ناقض تلك الفوضي التي تعتمل بداخلها:
-اه طبعا .. كمال الطحان نار عالعلم ، اكبر رجل اعمال في البلد.
ضحك "شهاب" قائلا و هو يغمز بعينه لها مرحا:
-حسبي علي كلامك يا هانيا ، اكبر راجل اعمال في البلد واقف جمبك اهو .. و اسكتي بقي مش عايزين نزعل عاصم ، عاصم زعله وحش.
و تابع الضحك مرة أخري ، فشاركته "هانيا" ضحكه قائلة:
-اقصد في مجاله يعني.


تدخل "عاصم" هنا ، و نفي قول أخيه بأن نظر إلي عيني "هانيا" و قال بمنتهي اللطف:
-انا ممكن ازعل كل الناس .. انما ماقدرش ازعل هانيا ابدا.
ثم دني برأسه من رأسها ، و قطف قبلة سريعة من خدها ..
أقشعر بدنها من ملمس شفتيه علي بشرتها ، إلا إنها أهدته إبتسامتها الحلوة ، ردا علي عبارته اللطيفة التحببية ، بينما كانت تسخر منه في قرارة نفسها ..
برز صوت "شهاب" في تلك اللحظة ، حين قال مخاطبا شقيقه:
-علي فكرة يا عاصم .. انا عزمت هاجر علي كتب الكتاب انهاردة ، ده لو ماعندكش مانع يعني !
هز "عاصم" رأسه نفيا و هو يقول بإبتسامة خفيفة:
-لأ خالص ماعنديش مانع طبعا .. هتشرفينا يا انسة.
بشيء من الخجل ردت "هاجر":
-ميرسي اوي لذوق حضرتك.
-حضرتك !!
قالها "شهاب" مستنكرا ، و تابع:
-حضرتك ايه بس ؟ قوليله عاصم عادي مش هيقفش عليكي.
رمقته "هاجر" بنظرة جانبية من عينيها يعرفها جيدا ، فأدرك مقصدها علي الفور ، و قال:
-ماشي ماشي خلاص.
ثم نظر إلي "عاصم" و أردف:
-انا هروح اوصلها بقي عشان تلحق تجهز.
و صافحت "هاجر" كلا من "عاصم" و "هانيا" قبل أن تلتقط حقيبة يدها من فوق الطاولة ، ثم تستدير علي عقبيها و ترافق "شهاب" إلي باحة القصر ، حيث مكان سيارته هناك ..
و الأن ، ها و قد أصبحا الخطيبين وحدهما ..
سحب "عاصم" مقعدا لـ"هانيا" و دعاها للجلوس بلهجة مهذبة .. لبت "هانيا" دعوته بطواعية هادئة و جلست ..
حانت منها إلتفاتة قصيرة نحوه ، فشاهدت في عينيه نظرة دفء و هو يرنو إليها .. فأزاحت بصرها عنه بسرعة ، و عادت تركز إهتمامها علي الطعام ..
تحلت أيضا بروح المضيفة المعاونة ، و أمسكت إبريق القهوة الساخنة ، و سكبت فنجانا له و أخر لها ..
كان فطوره خفيفا .. قليلا من الخبز بالزبدة مع القهوة ، و قد إستمتع بالإفطار هذا الصباح و هي جالسة أمامه يراقبها بعينيه ..
بينما كانت تأكل ببطء و هي تفكر ، و قد حرصت علي ألا تشرد بذهنها أمامه حتي لا يساوره الشك حيالها ..
قالت في نفسها .. هل إنطلت عليه حيلتها يا تري ؟ .. هل حقا صدق بإنها علي إستعداد لبدء صفحة جديدة معه ؟ .. و هل حقا صدق بإنها تخلت بمثل تلك السهولة عن ثأرها و ثأر والدها ؟؟ ..
من الصعب أن تفهم طريقة تفكيره ، فرجل مثله يستطيع أن يخفي كل مشاعره إذا أراد ، و لكنه الأن لا يظهر إلا الإهتمام الشديد بها ..
رأته في تلك اللحظة يشعل سيكارة لنفسه ، و لاحظت أن يده الممسكة بولاعته الذهبية لامست خده الأيمن ، و شاهدته يمر بأصابعه فوق الندبة الخشنة دون وعي ..
فرفعت يدها بسرعة ، و أمسكت بيده من الرسغ ، و أنزلتها علي الطاولة بعيدا عن وجهه و هي تقول:
-بطل تعمل كده !
رفع حاجبيه متفاجئا ، و ردد ببلاهة:
-ابطل اعمل ايه ؟؟
تذكرت "هانيا" أنها كانت عضوا فعالا ضمن فرقة التمثيل أثناء دراستها في الصف الثانوي ، و للحال ، أسرعت تستدعي كل خبراتها كممثلة محترفة ، و قالت:
-بلاحظ كتير اوي انك متأثر بالحرق اللي في وشك ، مع انه مش بشع اوي زي ما انت اكيد فاكر .. و مش عميق اوي كمان.
نظر "عاصم" إليها و بدا كشابا طائشا لا يصدق ما يسمع .. كان وجهه الأسمر متقلصا بشعور غامض لم تستطع "هانيا" تفسيره
إنما إستطاعت أن تتأكد من وقع كلماتها في نفسه ، و مدي تأثره بها ..
في اللحظة التالية .. هب "عاصم" فجأة من مجلسه ، و أسلفها ظهره ..
سار مبتعدا ببطء لعدة أمتار ، و هو يعاود ملامسة الندبة بيده مرة أخري .. نهضت "هانيا" بدورها و تبعته ..
وضعت يدها علي كتفه ، و ضغطت بلطف لتجعله يستدير و يواجهها .. و بالفعل ، إستدار لها ..
كانت عينيه حزينتين تحت حاجبين معقودين ، و قد بدا نافذ الصبر عصبيا .. ربما لم يعجبه كلامها ، قالت "هانيا" في نفسها ..
أو ربما شعر بسخف المهزلة التي أقدمت عليها .. مما يعني أنه كشفها و ينذرها بألا تتمادي في تمثليتها ، إلا أنها تجاهلت هذا كله ، و ثبتت علي موقفها ..
فإن تمثليتها تلك هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق مآربها ، و لن تدع الفرصة تفلت من بين يديها ..
أسندت "هانيا" كفها علي صدره ، و ببطء ، زحفت بيدها حتي وصلت إلي وجهه .. فلامست بكفها ندبته القاسية لتؤكد له صدق قولها ..
و في لحظات ، كانت تلملم بقايا كرهها له و نفورها منه ، و تلقي بهم مؤقتا في أعمق أعماقها ، لتنثر بأماكنهم عاطفة كاذبة مصطنعة .. فلمعت عيناها ببريق النشوة ، و تسربت إبتسامتها الجذابة إلي شفتيها ، و إنفرجت أساريرها ..
و بمنتهي الرقة و اللين قالت:
-انت .. مش وحش ابدا.
و أكدت علي كلامها مرة أخري:
-ابدا.


بدا "عاصم" ذاهلا ، إلا أنه بطريقة ما كان يقرأ ما يدور في خلدها .. عليها إذن أن تضلله و إلا ذهبت آمالها سدي !
همت بنزع يدها عن وجهها ، لكنه كان أسرع منها ، إذ أمسك بكفها و هو لا زال علي وجهه ، و بحركة آلية ..
قربه من فمه ، و أغمض عينيه ، ثم طبع قبلة عميقة بباطن كفها الناعم ..
إحمرت وجنتاها لوهلة .. فقد ضجت بأعماقها مشاعر الكره و النفور تجاهه مرة أخري ، لكنها كبحت نفسها بصورة سريعة ، و تذكرت أن تكون محببة متساهلة إذا ما أرادت الوصول إلي تحقيق أهدافها ..
ثم لو لزم الأمر تقتله بعد ذلك .. نعم ، فلم يعد هناك شيئا لتخسره ، لقد سلب منها كل ما تملك .. و فضلا علي هذا ، هي لم تنسي يوما إعتدائه البغيض عليها ..
و بما أن حياتها كانت تتمثل في طهارتها التي دنسها ، إذن فلا مستقبل لها في كل الأحوال ، و قد إنتهت حياتها بالفعل منذ أيام ..
و لن يضيرها لو تحقق موتها بشكل فعلي ، لن يفرق هذا كثيرا .. و لكن عليها أن تأخذ روحه هو أولا ...

************************************

طيلة الليلة الماضية ، و حتي الأن .. لم يعرف النوم طريقه إلي أعين "توفيق" أو زوجته أو إبنته ..
و رغم أنه قام بحجز غرفة إضافية لكي تستريح فيها عائلته ، إلا أنهما رفضتا ، و ظلتا برفقته داخل جناح الطوارئ ..
الأن ، تجاوزت الساعة العاشرة و النصف صباحا ، و لا زال "مروان" داخل حجرة الرعاية المركزة ، لا أخبار عنه تطمئن قلوب أبويه و شقيقته ، الذين أصابهم داء الصم و البكم عن الدنيا و ما فيها ..
و قد ذبلت أعينهم و جفت من الدموع .. إذا أصابه مكروه ، حتما ستفقد "دينار" صوابها أو ستموت بعده مباشرة ..
و "توفيق" .. سينهار "توفيق" تماما ، سينكسر و يغدو فتاتا ، فمهما كان الذي فعله إبنه به ، هذا لا ينفي كونه ولده الذي ترعرع و نما في حضنه ..
و إن يكن ، فإن حبه إليه بمقدوره أن يغلب علي سخطه .. فهو والده ، و ليس هناك والدا يضمر ضغينة أو حقد تجاه ولده .. :
-صباح الخير يا توفيق بيه !
رفع "توفيق" ناظريه إلي مصدر الصوت ، ليجد أمامه شابا يافعا نبيلا ، إستطاع تقدير عمره في تفاوت ما بين أواخر العشرينيات ، أو أوائل الثلاثينيات ..
خرج صوت "توفيق" خافتا مهموما:
-صباح الخير .. افندم حضرتك !!
إبتسم الشاب ببساطة قائلا:
-انا الرائد عمرو جلال ، من الداخلية.
و عرض له بطاقته الشخصية ، فنهض "توفيق" لمصافحته و هو يقول:
-اهلا و سهلا بحضرتك .. خير يافندم ؟ في حاجة ؟؟
-هو بصراحة في اه.
تساءل "توفيق" بإصغاء:
-في ايه ؟؟
تنهد الرائد "عمرو" بعمق قبل أن يقول:
-انا عارف ان الوقت مش مناسب لكن للضرورة احكام ، لازم استجوب حضرتك و مدام دينار دلوقتي لان كلامكوا هيفرق في التحقيقات و انا مارضتش استدعيكم بشكل رسمي و جيت لحد عندكوا.
-اتفضل حضرتك ؟ قولي اساعدك ازاي ؟؟
-احنا لاقينا جثة واحدة ست مدبوحة بطريقة بشعة اوي انهاردة الساعة 7 صباحا بعد حوالي شارعين من العمارة اللي تمت فيها محاولة قتل الاستاذ مروان ابن حضرتك .. و عارف سيادتك لاقيناها فين ؟؟
تسمر "توفيق" بمكانه و لم يرد ، فأستطرد "عمرو"مجيبا لسؤاله:
-لاقيناها في شوال جوا صندوق زبالة ، و منظرها علي فكرة ماكنش محتشم خاالص يا توفيق بيه.
إنتفض "توفيق" بشيء من الغضب ، و قال له:
-انت قصدك ايه يعني ؟ .. و بعدين احنا مالنا بالست اللي لاقيتوها دي اصلا !!
بنظرة ثاقبة ، و نبرة تراوحت بين الحدة و اللين أجابه "عمرو":
-مالكوا كتير يا توفيق بيه .. تحليل المعمل الجنائي اثبت ان الدم اللي عالارض في الشقة اللي تمت فيها الجريمة ماكانش دم ابنك و بس .. كان دم الست دي كمان.
و هنا ، تجمد "توفيق" تماما و لم يدر بماذا يجيب ، فهبت "دينار" واقفة فجأة ، و بجهد عظيم إستعادت رباطة جأشها ، و قالت:
-ماكنش في ست في الشقة مع ابني يا سيادة الرائد الا الخدامة .. هي بنت ريفية كده و اسمها حنة ، كانت طول الفترة اللي فاتت بتتخانق هي و جوزها و كان علطول هو بيمد ايده عليها و كل الخدامين اللي عندنا يشهدوا بكده .. فإقترحت عليها تروح الشقة تخدم ابني مروان و تشوف طلباته و اهي فرصة تبعد شوية عن جوزها لحد ما النفوس تصفي.
بدهاء المحقق ، إستوجبها "عمرو" بصلابة:
-و ايه اللي يخلي ابن حضرتك يا مدام يسيب بيته الكبير و يروح يقعد لوحده في شقة قديمة ؟؟!
لم يهزها سؤاله ، و أجابته بمنتهي الثقة:
-انا و هو كنا شدين مع بعض بسبب ابوه ، كنت بضغط عليه بإستمرار عشان يتنازل عن حكم الوصاية علي املاك توفيق بعد قضية الحجر اللي رفعها عليه .. لكن هو كان دايما بيرفض و مع الحاحي المستمر زهق و ساب البيت ، و راح يقعد في شقتنا القديمة لوحده.
حدجها "عمرو" بنصف إبتسامة متنمرة ، و كأنه أراد أن يسايرها بإرادته ، لا لمكرها كما تتوقع ..
ثم تساءل بحيرة ساخرة:
-طب ايه تفسيركوا لمحاولة قتلهم هما الاتنين سوا ؟ مع العلم بأن القاتل ماسرقش حاجة من الشقة .. معني كده ان الدافع شخصي مش دافع سرقة .. فياتري ايه اللي ممكن يخلي القاتل يعوز يقتلهم هما الاتنين ؟ ايه السبب في رأيكوا ؟؟


للمرة الثانية ، أجابته "دينار" و لكن بحده:
-و الله مانعرفش ، ده شغلكوا انتوا ، و انتوا اللي لازم تحققوا فيه ‘ تعرفوا و تقولولنا.
أومأ "عمرو" رأسه موافقا و هو يقول بشيء من التهكم:
-اه اه طبعا حضرتك .. اوعدك انه هيحصل.
ثم أطلق سؤاله الأخير:
-طب سؤال اخير .. يا تري بتشكوا في حد ممكن يكون هو اللي عمل كده ؟؟
مرة أخري ، ردت "دينار":
-لأ مابنشكش .. لما يفوق ابني بالسلامة ان شاء الله ممكن يبقي يفيدك في النقطة دي.
بنبرة متكاسلة ، رد "عمرو":
-اكيد هيفدني يا مدام .. و عموما احنا بعتنا نجيب زوج الضحية ، اومال ايه .. لازم يعرف اللي حصل لمراته ، و لازم كمان نحقق معاه .. احنا مش بنستبعد حد من التحقيقات أبدا .. كل فرد بالنسبالنا مشتبه فيه.
و شدد علي جملته الأخيرة بقوة ، فحدجته "دينار" بعداء سافر ، فهو يصر علي إدانة إبنها ، و لكنه في جميع الأحوال لن يستطيع أن يدينه بشيء .. فلن تسمح هي بذلك لا له أو لغيره ، ستحمي ولدها بكل قواها ، و إن كلفها ذلك الغالي و النفيس ، و إن كلفها عمرها .. فليكن ...

 


رحلت السيدة "هويدا" هي و إبنتها "سميه" باكرا ، من منزل أخيها المتوفي ، و الذي آل إلي زوجته و إبنته بالنهاية ،،
عادت أخيرا إلي بيتها ، و أثناء ما كانت تصعد الدرج المؤدي إلي شقتها ، خاطبتها إبنتها بلهجة مفعمة بالغيظ:
-شفتي يا ماما ماكنوش طايقنا من امبارح ازاي ؟ .. انا قلتلك بلاش نروحلهم ماسمعتيش كلامي.
ردت الأم بأنفاس لاهثة ، و قد وصلت أمام باب الشقة:
-خلاص بقي يا سميه .. اهي ليلة و عدت ، كنا هنروح فين يعني في عز الليل امبارح ؟؟
ثم دفعت المفتاح في القفل و فتحت ، دلفت إلي الداخل و في أعقابها إبنتها تقول بمنتهي الحقد:
-و لا بنت اخوكي اللي اول ما شافتنا امبارح عالباب كأنها شافت عفاريت ، و في ساعتها خلت خطيبها ياخد ديله في سنانه و يجري .. تكونش فاكرانا هنخطفه ؟ تكونش فاكرانا زيها ؟؟!
تأففت أمها بضيق و ضجر ، فقالت:
-ما خلاص بقي يا سميه فضيها سيرة و انسي اللي حصل كفاية كده.
-انسي !!
صاحت "سميه" بإستنكار ، و أردفت:
-انسي ايه يا ماما ؟ .. انسي انها كانت عايزة تخطف مني خطيبي ؟ انسي انها كانت السبب في فسخ الخطوبة اصلا ؟ .. عايزاني انسي ايه بالظبط ؟؟!
بفتور ، جادلتها والدتها:
-يابنتي بردو بلاش نظلمها .. احنا ماشفناش من ناحيتها حاجة وحشة ، خطيبك هو السبب ، الله يجازيه مطرح ما راح بقي.
-هو السبب ازاي يعني ؟؟
أكدت السيدة "هويدا" بقولها:
-ايوه .. هو اللي عنيه كانت زايغة ، ده حتي يوم الخطوبة ماسبش بنت و لا ست الا اما بص عليها ، لما جابلنا الكلام من اللي يسوا و اللي مايسواش.
إشتعلت عينيها غضبا و هي لا زالت متمسكة برأيها:
-لأ بردو .. هي السبب ، هي طول عمرها يتكرهني و بتغير مني اصلا و اديها مارتحتش الا اما فسخت خطوبتي و هي اللي اتخطبت .. بس و الله ما هسيبها ، زي ما دمرت حياتي و ضيعت من ايدي فرصة اني اتجوز جوازة كويسة ، هدمرها انا و هضيع خطيبها من ايديها.
في لامبالاة ، سألتها والدتها و هي تتجه نحو غرفتها:
-هتعمليلها ايه يعني ؟؟
رددت "سميه" بصوت كالفحيح ، و بكل ما فيها من غل:
-هدمرها يا امي .. هدمرها.

************************************

علي الطرف الأخر ..
أخيرا ، ظهر أحد من خلف حجرة الرعاية المركزة ، حيث يرقد هناك "مروان" ما بين الحياة و الموت ..
هرول "توفيق" طائرا علي جناح اللهفة صوب الطبيب ، الذي أقبل عليه بوجهه البشوش ، و سأله متوجسا:
-قولي يا دكتور .. طمني من فضلك ، مروان عامل ايه ؟؟
و هنا ، وصلت "دينار" التي كانت تستند إلي إبنتها ، و وقفت إلي جانب زوجها تصغي بكل حواسها إلي الطبيب الذي تحدث أخيرا بلطف يطمئنهم:
-الحمدلله حالته في بداية طريق الاستقرار ، جهاز المناعة عنده قوي ، و صحته كويسة اوي ما شاء الله و ده شيء مساعده جدا.
زفر "توفيق" بإرتياح ، فيما تهللت أسارير كلا من "دينار" و "رضوي" .. حتي أردف الطبيب في إستثناء:
-لكن ده مش معناه ان الخطر زال .. لازم يقضي كام يوم في غرفة العناية لحد ما جراحه تلم نوعا ما علي الاقل ، و العمليات اللي عملنهاله نتأكد من نسبة نجاحها .. بعد كده نقدر نقول انه في طريقه للشفا ان شاء الله.
ثم أضاف محذرا:
-اهم حاجة لما يفوق مش لازم ينفعل بأي شكل من الاشكال ، يعني محدش يقوله خبر يزعله او حتي خبر يفرحه ، الانفعالات بمختلف أنواعها بتفتح الجروح اللي لسا مالمتش في الجسم ، فخلوا بالكوا.
إنطلق صوت "دينا" الملهوف يسأله:
-طيب هو هيفوق امتي يا دكتور ؟؟
نقل الطبيب نظره إليها ، و أجابها:
-ماعرفش الله اعلم .. ممكن يفوق في اي وقت و كذلك ممكن يطول في غيبوبته شوية ، لانه مش تعبان جسديا و بس ، ده كمان اتعرض لموقف اكيد اثر بشكل سلبي علي حالته النفسية .. فعلي حسب ما عقله يرده للواقع هيفوق ان شاء الله .. المهم نطمن علي اعضائه المتضررة الاول.
و بعد أن طمئنهم الطبيب تماما ، إستأذن منهم ليرحل ، فيما إندفع "توفيق" نحو مسجد المشفي ليؤدي صلاة الشكر لله ، في نفس الوقت الذي راحت دينار و إبنتها ترفعان أعينهن إلي السماء بالدموع و الدعاء لـ"مروان" بكامل الشفاء ...
 


أرخي الليل سدوله فوق قصر "عاصم الصباغ" ..
بينما كانت تقف "هانيا" في نافذة غرفتها ، تاركة الهواء المنعش يلامس وجهها و هي تراقب عظمة الخالق في خلقه ..
الليل الحالك ، القمر المشع بالنور البهي ، و النجوم المتلآلئة من حوله ..
كانت السماء سعيده بليلها ، علي عكس "هانيا" .. كان ليلها حزين ، بلا قمر ، بلا نجوم ، كان حالك فقط ..
فبعد عدة ساعات قليلة ، ستختبر بنفسها شعور البرئ الذي حكم عليه بالإعدام ..
بإرادتها سيتم زواجها من عدوها اللدود .. ستضع يدها في يده ، و تزوجه نفسها بنفسها ..
لقت قست علي ذاتها كثيرا ، لا .. بل أجرمت في حق نفسها ، الأن فقط ، أدركت "هانيا" أن ما كان عليها أن تخوض هذه المعركة الخاسرة في جميع الأحوال ..
نعم خاسرة .. فماذا ستجني من ورائها سوي القهر و الإذلال ؟ .. ليغفر الله لأبيها ، هو من جعلها تواجه كل هذا من بعده .. هو من زرع الحصرم و هي من تحصد الأن ..
لقد إختصر الأمر لنفسه و وضع حدا لآلامه ، بينما هي تتجرع مرارة الآلم و الخزي ..
ما كان يجب أن تقبل بهذا الزواج أبدا .. أبدا ..
إنسابت دموع الندم من عينيها حارة مدرارة ، و قد شهدت نجوم الليل إنسياب أدمعها ، فيما كفكفتهم "هانيا" و إستسلمت لمداعبات النسيم الرقيقة قبل أن تعاود الدخول إلي غرفتها ..
توقفت "هانيا" أمام المرآة ، و بقوة مسحت بقايا الدموع العالقة بأهدابها ، و محت آثارها تماما ..
فقد عادت إليها أفكارها المزدوجة ، إذ يجب أن تقوم بأدائها علي أكمل وجه .. لقد إنتصر عليها في كل الجولات السابقة ، و لكن هذه الجولة لها ، و ستسعي بكل جوارحها و كيانها من أجل ربحها مهما كلفها الأمر ..
إنتفضت "هانيا" بعنف ، عندما دق باب غرفتها .. و لكنها هتفت بثبات:
-مين ؟؟
و أتاها الصوت القوي في الحال:
-عاصم !
منحت نفسها خمسة ثوان بالضبط لتنظم فيهم أنفاسها ، ثم سمحت له بالدخول ..
أدار "عاصم" مقبض الباب و دفعه .. ثم دلف و قد إعتلت وجهه إبتسامة رقيقة ، بادلته "هانيا" البسمة عينها ..
إلا أن شيئا أخر لفت إنتباهها و جمد تعابير وجهها .. فقد كانت الوصيفة الخاصة بها تسير خلف "عاصم" مباشرة حمراء الوجه ، كثيرة الحماس ، و كانت تحمل بين يديها كيسا قطنيا كبيرا يحوي شيئا ضخم ..
إستطاعت "هانيا" تخمين ما يمكن أن يكون داخل هذا الكيس بسهولة ، و لكنها تساءلت:
-ايه ده ؟؟
أمر "عاصم" الوصيفة دون أن يحيد بنظره عن "هانيا" بأن تضع الكيس فوق الفراش ثم تخرج ، ففعلت الوصيفة ما أمر به في صمت ، ثم إنسحبت في هدوء بعد أن أغلقت الباب من خلفها ..
لا زالت "هانيا" تحدجه في تساؤل، فأجاب "عاصم" الإجابة التي توقعتها تماما:
-ده فستان الفرح.
إزدردت ريقها في شيء من التوتر ، و رددت:
-فستان الفرح ؟ .. هو في فرح اصلا ؟ .. مش هو كتب الكتاب و بس ؟؟!
إبتسم "عاصم" بنعومة ، و قال:
-يعني معقول اتجوزك منغير ما افرحك و لو بالفستان حتي ؟؟!
ثم تقدم منها ببطء حتي وقف أمامها و صار لا يفصله عنها سوي سنتميترات قليلة جدا ، ثم قال بصوت أقرب إلي الهمس:
-انتي غالية عندي اوي يا هانيا .. و الغالي مافيش حاجة في الدنيا بتغلي عليه .. فستانك ده انا بعت جبتهولك مخصوص من اكبر بيت ازياء في العالم ، و في تحت واحدة صاحبة اكبر سنتر تجميل في البلد هتطلع تساعدك و انتي بتجهزي.
إعتقدت "هانيا" في تلك اللحظة أن الأرض إهتزت تحت قدميها ، و أن رجليها تهاوتا تحتها ، و أن دوار عنيف يكاد يفقدها الوعي حالا ..
و لكنها في الحقيقة كانت لا تزال واقفة مكانها .. يبدو أن ساعة الإعدام قد حانت ..
أفتر ثغر "عاصم" عن إبتسامة واسعة أظهرت أسنانه الناصعة المتناسقة .. ثم أمسك بيدها و هو ينظر إلي محيط عينيها الأزرق في نفس الوقت ، ثم يقول:
-هتبقي ملكة الليلة دي في الابيض يا جميلتي.
 



إعدادات القراءة


لون الخلفية