راحت "هاجر" تتأمل فستان السهرة الزهري الجميل ، الذي إرتدته خصيصا من أجل حفلة زفاف شقيق "شهاب" البسيطة ..
لم تكن قد إرتدت في حياتها فستانا مثله .. فهي دائما ما تميل إلي إرتداء الملابس العصرية المنتشرة ، و الفساتين الربيعية الرقيقة ، و تلك هي أول مرة ترتدي فستانا أنثويا جذابا يظهر مفاتن جسدها بوضوح ..
و لذلك شعرت بالخجل و الإرتباك جراء المظهر الجديد الذي ظهرت فيه .. كانت ملمة بأمور الزينة و التجميل ، فإستعملت المكياچ بمهارة ، و صففت شعرها بعناية أيضا ، حيث جمعت خصلاته الفوضوية في خصل حريرية ملساء ..
ثم إنتقلت بعد ذلك لعلبة مجوهراتها ، فإرتدت قلادة ذهبية كبيرة ، و علقت في أذنيها زوجي أقراط عريضين .. هزت رأسها لتعتاد ثقلهما ، ثم راحت تمعن النظر إلي نفسها بالمرآة ..
لقد تركت المجوهرات و الفستان و المكياچ أثرا واضحا عليها ، و أدركت لأول مرة أن لها جسدا متكاملا فاتنا ، كان مختبئا خلف قدسية عذريتها التي لطالما حافظت عليها و صانتها بشتي الطرق ..
بالملابس المحتشمة ، و لو أنها علي غرار العصرية الأوروبية ، و لكنها كانت تنتقيها بعناية ..
و أيضا بحسن سلوكها ، و طريقة تعاملها مع الآخرين .. و لكنها مؤخرا ، لاحظت تغييرا كبيرا طرأ علي مشاعرها ..
فمنذ ظهور "شهاب" بحياتها ، صار كل شيء في حياتها اليومية له معانٍ أخري ، لم تكن تعرفها مطلقا قبل أن تلقاه ، فمثلا ..
أصبحت تحس و تري كل شيء تملكه ، و كأنها تحسه و تراه لأول مرة ..
كثيابها ، و رائحة عطرها ، حتي نفسها .. لقد جعلها تشعر بإنها ولدت من جديد ، بهوية جديدة ، إذ إكتشفت أن حياتها الماضية كلها كانت تساوي لا شيء ، مقارنة بالفترة القصيرة التي قضتها معه ..
مرحه ، مزاحه ، مزاجه المتقلب .. كل هذه الأشياء شكلت مراحل عمرها من جديد ، و هي الأن في أوج أجمل مرحلة بعمرها ..
حيث يدق قلبها و لأول مرة .. إنها لا تعرف ما إذا كان يبادلها نفس الشعور أم لا ، و لكنها تعرف جيدا أنه علم أكيد بمشاعرها تجاهه .. :
-الله الله الله .. ايه الشياكة و الحلاوة دي كلها يا ست هاجر ؟ من امتي ده كله ؟؟!
إلتفتت "هاجر" نحو مصدر الصوت ، لتجد شقيقها يقف علي أعتاب باب غرفتها ، يتفحص مظهرها الجديد و الغريب عليه تماما بدقة بالغة ، فإنفرج ثغرها بإبتسامة خفيفة و هي تجيبه بصوتها الرقيق:
-اهو بحاول يا جاسر.
سألها مقطبا بصوته الخشن:
-بتحاولي ايه بالظبط ؟؟
هزت كتفيها بخفة قائلة:
-بحاول اكون انثي.
أرجع "جاسر" رأسه إلي الوراء ، و أطلق قهقهة عالية ، ثم عاد ينظر إليها و قال:
-بتحاولي تكوني انثي يا هاجر ؟ .. ماشي ياستي و لو انك زي القمر يعني في جميع الأحوال .. انما ما علينا ، علي فين العزم كده بالمنظر الانثوي ده ؟؟
بدون أن يطرف لها جفن ، أجابت بصوتها الناعم حتي لا يشك بها شقيقها:
-فرح .. رايحة فرح يا جاسر.
-و فرح مين بقي اللي انتي رايحاه و عاملة في نفسك كل ده ؟؟
إبتسمت في هدوء ، و أجابته:
-فرح ناس صحابي ماتعرفهمش.
أومأ رأسه مرارا ببطء ، ثم قال بصوت أجش:
-طيب .. انتي مش هينفع تروحي لوحدك ، انا هخلي مأمون يوصلك.
هنا ، لم تستطع منع الرجفة في صوتها و هي تسارع إلى القول:
-لأ ما هو في حد هيجي ياخدني و يرجعني تاني.
عبس "جاسر" في تحفظ و هو يسألها:
-حد ؟ .. و حد مين ده بقي ان شاء الله ؟؟
تداعت ثقتها بنفسها في تلك اللحظة ، لتجد لسانها ينطق بشيء من الإرتباك:
-ده .. ده يبقي اخو العروسة صحبتي ، هيوصلني و بعدين هيرجعني لحد هنا تاني.
-لا و الله !!
قالها "جاسر" متهكما بطريقته الفظة ، و تابع:
-و انتي فاكرة اني ممكن اسيبك تركبي عربية
لوحدك مع راجل غريب و كمان و انتي بالمنظر ده ؟ ليه ؟ كيس جوافة انا و لا ايه ؟؟!
إتخذت "هاجر" الدبلوماسية في الرد سبيلا لإقناعه ، فقالت بلطف مبتسمة:
-ماتقلقش يا جاسر .. انت اكيد واثق في اختك و عارف هي بتتصرف ازاي مع الناس خصوصا الناس الغريبة ، و بعدين هو عارف كويس اوي انا بنت مين و اخويا يبقي مين.
إزدادت إبتسامتها إتساعا ، عندما رأت إبتسامته هو الأخر تتسرب إلي شفتيه تدريجيا ، ثم يقول:
-بتهتيني يا هاجر ؟؟
قهقهت بمرح ، ثم قالت:
-ما عاش اللي يهتك يا حبيب هاجر .. انا بس عايزاك تطمن و تحط في بطنك بطيخة صيفي ، و خليك واثق في اختك شوية بقي.
-طبعا واثق فيكي ، انما مش واثق في الناس اللي حواليكي.
تململت بطريقة طفولية و هي تقول:
-ماتقلقش بقي يا جاسر.
حك "جاسر" ذقنه يتفكير ، ثم سرعان ما أنارت البسمة وجهه و هو يقول:
-ماشي يا هاجر .. روحي.
قفزت "هاجر" إلي حضن شقيقها متصايحة:
-حبيبي ربنا مايحرمنيش منك ابداااا.
ربت "جاسر" علي شعرها في حنان أخوي ، و لكنه قال بصلابة يحذرها:
-بس تاخدي بالك من نفسك ، و ترجعي بدري .. اوعي تتأخري.
عادت تنظر إليه بإمتنان قائلة:
-حاضر مش هتأخر ، و هاخد بالي من نفسي.
و هنا ، تصاعد صوت رنين هاتفها ، فإلتفتت و هرولت لتلتقطه من فوق فراشها ..
وجدت الشاشة تضيء بإسم "شهاب" .. ألغت إتصاله ، لتشير له بإنها في طريقها إليه ، ثم دست هاتفهها داخل حقيبة يدها الصغيرة ، و إندفت للخارج و هي تهتف بشقيقها:
سلااام ياا جاااسر.
صاح بدوره يذكرها بتعليماته:
-خدي بالك من نفسك و متتأخريش.
فجائه صوتها المتباعد تدريجيا:
-حاااضر.
علي الطرف الأخر ..
أمام باب ڤيلا ( الطحان) الداخلي .. وقف "شهاب" عاقدا ذراعيه أمام صدره ، مستندا بجسده إلي سيارته الفارهة ، في إنتظار وصول "هاجر" ..
و لأنه سريع الشعور بالملل ، تآفف في ضجر و أخرج هاتفهه من جيب سترته الفاخرة ليعاود الإتصال بها ..
إلا أن ظهورها المفاجئ أثناه عن عزمه ، فأعاد هاتفهه إلي جيب سترته مجددا بصورة بطيئة و هو لا يستطيع إزاحة بصره لثانية عنها ..
فقد ظهرت في شكل جديدا عليه كليا ، كانت شديدة الحسن و الفتنة ، لا تشبه البتة تلك الفتاة ذات الشعر الفوضوي و الملابس ذات الطالع البوهيمي ..
و ها قد إقترلت منه أخيرا و هي تنظر إليه في إستحياء ، فوجد نفسه يتفرس في وجه الفتاة بنت العشرين بنظرات متوهجة ، ممتزجة إعجابا و دهشة ..
و لا شعوريا ، خرجت الكلمات من فمه:
-ايه ده ياسطا هاجر ؟ .. كنت مخبي فين الجمال ده كله.
و فورا ، إختفت بسمة "هاجر" ليحل محلها العبس المستاء ، فضربته علي صدره بخفة معاتبة و هي تقول:
-اسطا ؟ .. بقي انا كنت اسطا يا شهاب ؟؟
أخذ "شهاب" يزحف بنظرة متفحصة علي جسدها وصولا إلي وجهها بمنتهي البطء و التركيز و هو يقول:
-اصل بصراحة اول مرة اشوفك حلوة اوي كده ، و مسرحة شعرك و لابسة فستان زي البنات .. ماتزعليش مني بس انا مش بحب البنت اللي تلبس كاچوال ، مابتفرقش ساعتها كتير عن الراجل.
أفحمتها كلماته بحيث لم تعد قادرة علي النطق أبدا ، و قد تصاعدت الدماء الغيظ و الغضب إلي وجهها ..
ضحك "شهاب" من قلله علي ما آلت إلي ملامحها من حنق ، فقال معتذرا:
-اسف .. اسف يا هاجر معلش سامحيني ، و الله انتي زي القمر حتي لو لبستي خيش ، انا كنت بهزر معاكي و الله ، و لا هو الهزار بقي حلو ليكي و وحش ليا ؟؟
و في الحال ، تذكرت أول لقاء لهما ، حيث أثارت حنقه بمزاحها الثقيل ..
إبتسمت "هاجر" برقة ، و قالت:
-ماشي يا شهاب .. سماح المرة دي ، يلا بقي عشان منتأخرش.
عاينها مرة أخري سريعا بنظرة إعجاب ، و قال:
-يلا.
و فتح لها باب السيارة لتجلس في الكرسي المجاور له ، بينما لم يفطنا الثنائي المرح إلي ذلك الرجل هناك ، الذي يقف بالأعلي يراقبهما بإهتمام من خلف إحدي نوافذ المنزل ..
-رايحة فين يا سمية ؟؟
قالتها السيدة "هويدا" مستوقفة إبنتها التي كادت تخرج من باب المنزل ، إلتفتت "سمية" إلى والدتها ، و بوجه متجهم قليلا أجابت:
-طالعة اسلم عالبت دعاء و اقعد معاها شويك يا ماما ، بقالي كام يوم ماشفتهاش وحشتني.
-طيب بس انزلي علطول ماتغيبيش ، و لو لاقيتي اخوها الصغير ده فوق انزلي ماتقعديش.
-ماشي ماشي.
قالتها "سمية" في لامبالاة ، ثم خرجت من منزلها قاصدة الطابق التالي ..
صعدت الدرج بسرعة ، ثم ها هي الأن أمام باب شقة صديقتها "دعاء" .. طرقت الباب مرة ، إثنان ، و ثلاث ..
ففتح لها الشقيق الأصغر بعائلة صديقتها .. إبتسم الشاب إبتسامة واسعة أظهرت أسنانه الصدئة ، و قال في ترحاب:
-اهلا اهلا يا سوما .. ازيك ؟؟
إبتسمت "سمية"بدورها ، و ردت تحيته:
-انا كويسة يا اسلام ، ازيك انت ؟ عامل ايه ؟؟
-زي الفل يا سوما .. خشي خشي واقفة برا ليه ؟!!
لبت "سمية" دعوته بسرور و دخلت ، فأغلق هو الباب من خلفها ..
بينما تساءلت "سمية" و هي تجوب أرجاء الشقة بعينيها:
-هو مافيش حد هنا و لا ايه يا اسلام ؟؟
قال "إسلام" و هو يتبعها إلي الداخل:
-لا ياستي مافيش حد هنا .. كلهم راحوا فرح واحدة قاريبتنا في الفيوم.
-ياااه الفيوم ؟ و هيرجعوا امتي ؟؟
-يعني عالفجرية كده .. ابويا اجر مكروباص ، و خد باقية العيلة اللي هنا و قال بدل ما كل واحد يروح لوحده يروحوا كلهم سوا.
أومأت "سمية" رأسها بتفهم ، فيما دعاها "إسلام" للجلوس قائلا:
-ماتقعدي يا سمية .. و لا انتي مكسوفة تقعدي معايا لوحدك ؟؟
إبتسمت "سمية " بخفة ، و قالت:
-لا يا اسلام مش مكسوفة .. ده انا كنت طالعالك انت مخصوص.
رفع حاجبيه ذاهلا ، و ردد:
-طالعالي مخصوص ؟ .. ليه خير يا سمية ؟؟
-نقعد الاول و اقولك.
و جلست سمية فوق مقعد قديم الطراز ، بينما جلس "إسلام" بالمقعد المقابل لها ، ثم سألها بفضول:
-ها يا سوما ؟ .. ايه الموضوع بقي ؟؟
تنهدت "سمية" بعمق قبل أن تقول:
-اسمع يا سيدي.
و قصت عليه لب الموضوع ، و كان ينصت إليها بتركيز حتي فرغت من شرح القصة كاملة ، فسألها:
-ايوه بس معلش يا سمية انا مش فاهم .. انتي عايزة مني انا ايه يعني ؟؟
تراقص لهيب الغل و الكره في عينيها و هي تجيبه:
-عايزاك تخدمني يا اسلام ، عايزاك تقف جمبي .. انا نفسي اشوف فيها يوم ، نفسي ادمرها.
وافقها "إسلام" بقوله:
-معاكي يا حبيبتي و أخدمك بعنيا ، بس افهم ايه المطلوب ؟؟!
إبتسمت في شر ، ثم قالت:
-انا هقولك ايه المطلوب يا اسلام.
قرع "عاصم" باب حجرة أمه مرتين متتاليتين ، ثم أدار المقبض و دفعه ..
وقف علي أعتاب بابها و هو يبحث عنها بعيتين قلقتين ، إذ لم يرها في فراشها كالمعتاد ، و لكن سرعان ما خمد قلقه ، و إرتخت ملامحه المتوجسة براحة ..
فقد رأها تجلس فوق الكرسي المعدني النقال الخاص بها أمام شرفتها المطلة علي أجمل الأماكن الخلابة بالقصر كله ، و بينما كان يقترب منها بخطوات خفيفة ..
كانت هي شاردة بذهنها بعيدا بعيدا .. حتي إنتزعها صوت إبنها من وصلة أفكارها .. :
-مساء الخير يا امي !
قالها "عاصم" بنبرة هادئة و هو يرمقها بنظرته الباسمة .. رفعت السيدة "هدي" بصرها إليه .. كادت أمه تجهله في البداية من تلك البذلة التي يرتديها ، لكن ملامح وجهه النبيلة ، كانت تعبر عن رصانة غير إعتيادية ..
كانت لتسعد برؤيته هكذا ، إلا أنها تعلم جيدا المناسبة التي من أجلها إبنها متأنق كثيرا هكذا ..
ردت عليه بفتور:
-اهلا يا عاصم.
ثم سألته ساخرة:
-خلاص نويت ؟؟
تنحنح "عاصم" في شيء من التوتر ، و أجابها:
-ايوه يا امي .. خلاص نويت.
و سألها بلين و رجاء:
-مش هتقوليلي مبروك ؟؟
أشاحت بوجهها عنه و هي تقول بلهجة جامدة:
-مبروك.
أغمض "عاصم" عينيه بقوة ، مزدردا غصة مريرة في حلقه ، ثم عاد يسألها:
-من قلبك يا ماما ؟؟
ساد الصمت بينهما ثقيلا لدقيقة كاملة قبل أن تعود أمه ، و تنظر إليه مجددا .. ثم تقول بصوت لاذع:
-مباركتي للجوارة دي مش هتفرق معاك ، زي ما رأيي مافرقش معاك بردو .. روح يا عاصم .. روح اعمل كل اللي انت عايزه ، جرب .. لكن خليك فاكر اني حذرتك قبل ما تكمل في الطريق ده .. صحيح انا شجعتك تمشي اوله ، لكن ده قبل ظهور البنت دي .. و بعد كده منعتك لما عرفت الحقيقة ، لكت انت كالعادة صوتك من دماغك.
ثم إستطردت بغضب:
-انت لازم تشوف النتايج بعنيك عشان تصدق انك اتعديت حدودك لما حطيتها في دماغك و اصريت تكمل انتقامك منها هي ، و هي اصلا مالهاش اي ذنب ، و مالهاش علاقة بأخطاء ابوها .. انما انا قادرة افهمك كويس اوي يا عاصم ، انت شفتها بنت جميلة و انت راجل عشت حياتك اللي فاتت وحيد بسبب عقدتك ان مافيش واحدة هتقبل بواحد مشوه زيك ، و لما جت الفرصة و قابلتها حللت لنفسك فكرة انتقامك منها ، لكن في الحقيقة ده كان غطا خبيت وراه رغبتك فيها .. رغبتك اللي عميتك و خلتك وصلت للمرحلة دي و اللي انا واثقة انك في يوم هتندم اشد الندم علي كل اللي انت عملته ده.
أطرق "عاصم" رأسه خزيا و قد أصابته كلمات والدته في الصميم ، لكنه تجاهل صوت الحق بداخله و الذي يؤيد كلامها ، و سألها بهدوء:
-طيب حضرتك حابة تنزلي تحضري كتب الكتاب ؟؟
-لأ.
هتفت أمه بصرامة .. فهز رأسه موافقا ، و قال:
-تمام . تصبحي علي خير يا امي.
و إتجه صوب باب الحجرة ليخرج ، إلا أنه توقف فجأة علي عتبته ، ثم قال من فوق كتفه دون أن يستدير لها:
-علي فكرة يا امي .. باللي هعمله انهاردة ، مش هعمله عشان انتفم منها .. هعمله عشان بحبها.
و أغلق الباب من خلفه في هدوء ..
أطلقت أمه تنهيدة مهمومة ، ثم رفعت وجهها نحو سماء الليل تناجي ربها بعينين خاشعتين هامسة:
-يااااا رب .. اكفيه شر نفسه.
سكن نسيم المساء قليلا ، و إنسدلت ظلال الليل البنفسجية مثل ستارة مخملية علي حديقة قصر "عاصم الصباغ" ..
كان القصر كله مضيئا بالأنوار المبهجة ، وسط ظلال الأشجار و أحواض الزهور و الورود علي إختلاف أنواعها ، كما أن هناك طاولة مستديرة كبيرة الحجم ، إنتصبت بمنتصف الحديقة تماما ..
يبدو أن "عاصم" يعد لحفلة خاصة ..
في هذا الوقت ، كانت "هانيا" داخل غرفتها ، تجلس في الكرسي المرفق بمنضدة الزينة ، و قد أسلمت نفسها لتلك السيدة المحترفة و المتخصصة في فنون المكياچ و التجميل بمختلف أنواعه ..
بعد أن ساعدت "هانيا" في إتخاذ حماما ساخنا تضمن مجموعة من الكريمات و السوائل التي تضفي للبشرة و الجسد نضارة و نعومة و رائحة عطرة زكية تدوم لأيام ..
بعد ذلك ، أخذتها للخارج لترتدي ثوب الزفاف الذي أرسل "عاصم" خصيصا ليبتاعه لها من الخارج ..
ثم جففت لها شعرها العسلي الطويل ، و صففته .. الخطوة الأخيرة تمثلت في أدوات الزينة ..
كانت السيدة خبيرة و ماهرة في عملها ، بحيث قدرت ما تحتاج إليه بشرة "هانيا" .. فلم تبتذل كثيرا في وجهها ، ألا عندما وصلت إلي مرحلة إنتقاء لون طلاء الشفاه ..
إختارت لها اللون الأحمر الناري ، و قد أحسنت الإختيار ، فقد عزز هذا اللون من إبراز وجهها بشكل واضح ملفت ، و جعل مظهرها ينطق بالجمال في الفستان الأبيض و شعرها الذهبي النادر و عيناها الزرقاوان ..
في تلك اللحظة ، أقبلت الفتاة المساعدة لخبيرة التجميل عليها ، و سلمتها قطعة قماش طويلة من الدانتيل المطرز بالورود البارزة ..
تناولتها السيدة من يد مساعدتها ، ثم وضعت الطرحة علي رأس "هانيا" .. ثبتتها بالدبابيس ، ثم سوت أطرافها فوق خديها النضرين ، و صرخت بإنبهار:
-اووووووه اوووه يا انسة .. بقيتي راااائعة الجمال ، هتصدقيني لو قلتلك انك اجمل عروسة زوقتها بإيدي ؟؟
لم تكن "هانيا" تصغي إليها لتجيبها ، بل كانت في وادٍ أخر سحيق ، بعيدا عن هذا الحاضر المجنون ..
ذلك التماسك الواهي الذي إتخذته درع حماية لها ، سرعان ما أخذ يتلاشى في تلك اللحظات الأخيرة التي تفصلها عن خطوة مصيرية إذا أقدمت عليها ، لن يكون هناك مجال للرجعة عنها ..
شعرت فجأة بالبرودة تسري في أوصالها ، بينما كان عقلها يجري في كل إتجاه هربا من فكرة كونها بالفعل ستصير زوجته ..
بعد قليل ، ستصير زوجته بصورة فعلية ، و سيكون له ملء الحق عليها .. هذا الرجل الذي دمر حياتها بالكامل سيصبح زوجها !!
لم تستطع "هانيا" أن تلوذ بالكتمان طويلا ، فتفجرت الدموع من عينيها عنوة سيلا غزيرا ..
صرخت الخبيرة في تلك اللحظة بذعر ، فقد أفسدت "هانيا" بدموعها أغلب ما قامت الخبيرة بإنجازه علي أكمل وجه ، فأنبتها بحزن كدِر:
-ليه كده يا انسة ؟ .. بوظتي كل اللي عملناه بدموعك.
ثم أحبت أن تسترضيها مجددا ، فقالت مداعبة:
-اكيد دي دموع الفرحة صح ؟ .. ربنا يتمملك علي خير ، شكلك بتحبي عريسك اوي.
تحبه ؟ .. محال ، إنها تمقته .. تكرهه إلي أقصي حد ممكن ، و غير ممكن ..
تابعت الخبيرة كلامها بتشجيع:
-و لا يهمك يا عروسة ، هنصلح كل ده من تاني حالا و هرجعك احلي من الاول كمان.
و بالفعل ، خلال دقائق قليلة ، عادت "هانيا" في صورة أبهي من صورتها السابقة ..
في تلك اللحظة ، سمعت "هانيا" طرقا علي باب الغرفة ، فراح قلبها يخفق بسرعة شديدة ، فسألتها السيدة:
-نفتح الباب يا عروسة ؟؟
إزدردت "هانيا" ريقها بصعوبة ، و قالت بصوت مبحوح:
-شوفي مين الاول لو سمحتي !
إنصاعت الآخيرة لكلامها ، و إتجهت صوب الباب ، و من وراؤه تساءلت:
-مين ؟؟
أتاها الصوت الرجولي القوي في الحال:
-عاصم !
أدارت السيدة رأسها لـ"هانيا" و هي تغمز لها بعينها ، و
تقول بهمس:
-عريسك جه يا عروسة.
ثم إندفعت صوبها مجددا ، و راحت تتمم علي مظهرها و تضع بين يديها باقة الورود البيضاء ، ثم قالت:
-بـــس .. احنا كده جاهزين خالص ، يقدر عريسك يدخل دلوقتي بقي.
و قبل أن تعترض "هانيا" .. إنطلق صوت السيدة سامحا لـ"عاصم" بالدخول ..
حبست "هانيا" أنفاسها حين إنفتح الباب ، و ظهر من خلفه "عاصم" بقامته المديدة المهيبة ..
لم يجذبها شيئا فيه إطلاقا ، و لم تلاحظ فيه أي شيئا مميزا .. بعكسه هو عند رؤيته إياها ..
نظر "عاصم" إلي فستانها الأبيض المبطن بالحرير ، و المغطي بالزهور الصغيرة البارزة ..
كان بدون أكمام ، فأظهر بشرتها المخملية الناعمة ، أما شعرها الأشقر ، فقد كان مرفوعا لأعلي بجدائل علي شكل تاج ذهبي ، و زينته بالزهور البيضاء التي خففت من رصانة تسريحتها ..
إضافة إلي إكليل ، فضي رقيق غُرز بشعرها من الخلف ، و قد تدلت منه الطرحة الكبيرة الهفهافة ..
كان "عاصم" مأخوذا بسحرها .. فقد كانت مبهرة الجمال ، مذهلة ..
تحرك "عاصم" متقدما منها بخطوات متأنية حتي وصل إليها و كاد يلتصق بها .. فتوقف أمامها مباشرة ، و قال بمنتهي الرومانسية ، و هو يحلق بنظراته الولهة علي وجهها:
-مش ممكن .. صحيح انتي جميلة يا جميلتي ، لكن انا دلوقتي مهما قلت و اتكلمت .. مش هقدر اوصف مدي جمالك.
و بحميمية و بطء ، إقترب منها .. و قطف قبلتين عميقتين من خديها ..
ثم أمسك بيدها ، و علقها بذراعه .. إضطرت "هانيا" أن تمنحه إبتسامتها حتي لا تهدم كل مخططاتها بأخر لحظة ..
و عندما ظهرت معه هكذا ، متأبطة ذراعه ، لم يخطر لأحد أنها ستتزوجه قهرا و ليس حبا ..
خرجا العروسان من الغرفة ، و هبطت "هانيا" الدرج و هي تشعر بقدماها ترتجفان ، فلم يكن أمامها سوي أن تظل متمسكة بذراعه بقوة لئلا تقع أو تفقد توازنها ..
كان المنزل هادئا كليا ، و الجو يعبق برائحة زكية .. كل شيء كان مرتب و مبهج و ساكن ..
إلا عندما تناهي إلي سمع "هانيا" همهمات الخادمات اللائي كن يتهامسن و يضحكن بخفوت أسفل الدرج من الخلف ..
إرتعشت رموش "هانيا" بإضطراب مع تقلص المسافة بهم ، حتي وجدت نفسها داخل الصالون الكبير ذا الأضواء الذهبية ، و الديكور العاجي الأنيق ..
كان "شهاب" يقف هناك مع "هاجر" بإحدي الزوايا ، و معه رفيقان جاء بهما ليشهدا علي عقد زواج أخيه ..
كما كان جالسا هناك فوق الآريكة الضخمة ، المأذون بشكله المألوف ..
حيث كان يعتمر الجبة ، و كان يرتدي القفطان ..
إنتبه الجميع لدخول العروسان ، فإعتدلوا جميعا في وقفتهم ، و أطلقوا التحيات و التهنئة الحارة لكليهما ..
كانت تهز "هانيا" رأسها في خجل مصطنع و هي تقترب من المأذون و لا تزال متمسكة بذراع "عاصم" ..
جلس "عاصم" علي شمال المأذون ، بينما هي علي يمينه و قد راحت "هاجر" تساعدها في لملمة فستانها الكبير حتي تستطيع أن تجلس براحة أكثر ..
و للحال .. بدأت مراسم الزواج ، حيث أخذ المأذون يرتل بعض الأدعية ، و بعضا من الآيات القرآنية الخاصة بصدد الزواج ..
ثم حول بصره إلي "عاصم" و قال:
-بطاقتك يا ولدي.
أخرج "عاصم" بطاقته من جيب سترته ، و أعطاها للمأذون الدي أخذها ، و إلتفت إلي "هانيا" ليعيد نفس الطلب:
-بطاقتك يا ابنتي.
نظرت "هانيا" لـ"عاصم" و سألته:
-مش انا ادتهالك الصبح بردو ؟؟!
أومأ "عاصم" رأسه قائلا:
-ايوه ايوه .. اهيه معايا.
و أخرج بطاقتها أيضا من جيب سترته و أعطاها للمأذون ..
إستغرق المأذون عدة ثوان يتفحص فيهم البيانات الشخصية للبطاقتين ، ثم هز رأسه إيجابا ، و قال:
-من وكيلك يا ابنتي ؟؟
ردت"هانيا" بصوت خافت:
-انا بابا متوفي.
جادلها المأذون:
-أليس هناك من ينوب عن الوالد رحمه الله ؟؟
هزت "هانيا" رأسها سلبا ، فهتف المأذون مستغربا:
-كيف إذن يتم عقد القران ؟ .. فالبكر لا تنكح إلا بواليا شرعيا !!
و هنا ، تدخل "عاصم" بصرامة و صلابة ، فقال:
-الانسة هانيا مش قاصر يا مولانا .. هي رشيدة دلوقتي و عدت السن القانوني كمان ، يعني تقدر تجوز نفسها بنفسها.
لم يجد المأذون ثغرة أخري يتحجج بشأنها ، فقال:
-إذن ، فلنبدأ .. توكلنا علي الله.
و فتح دفتره الكبير ، ثم عاد ينظر إلي "هانيا" و يقول:
-يا ابنتي .. إن هذا الرجل الذي يجلس بجواري.
و أشار بيده نحو "عاصم" و تابع:
-يدعي عاصم طايع الصباغ .. جاء اليوم بملء إرادته ، طالبا إياكي زوجةً له .. فهل تقبلين به زوجا ؟؟
أحدث السؤال جوا من الصمت في المكان ، بدا لـ"هانيا" إن "عاصم" يصغي و ينتظر جوابها بكل جوارحه ..
و لكن الأن كيف تستطيع الإجابة ؟ .. فقد شعرت بثقل عظيم بلسانها .. حيث لم تعد قادرة أبدا علي النطق …