الجزء 37: هل يُـهزم المظفار !

في مساء اليوم التالي ..
تحت ظلال شمس المغيب الدافئة ... راحا يتمشيا متشابكي الآيدي فوق الحشائش الخضراء التي إفترشت حديقة القصر بأكملها ..
كانت "هانيا" ترتدي فستانا صيفيا ذا حمالتين رفيعتين علي الكتفين ، يؤمن لها الإنتعاش و يظهر جاذبيتها في الوقت ذاته ..
كان "عاصم" أيضا يرتدي بنطلونا من قماش الكشمير ، مع قميص صيفي متعدد الآلوان ..
فبدا لها فورا أكثر شبابا مما في أي وقت أخر .. حيث تلك الثياب اللاصقة بجسده الفارع ، أضفت قوة فتية علي شخصيته النابضة بالحيوية ... :
-خدي بالك كده ممكن جدا تبردي .. الدنيا لسا ماصيفتش الجو لسا برد اديني حذرتك اهو.
قالها "عاصم" متبرما لتصرفاتها المتهورة ، لتضحك هي بخفة و تقول:
-طب ما انت كمان صيفت !!
-ما انا قلدتك عشان لو تعبتي اتعب انا كمان معاكي و نبقي سوا في كل حاجة.
قهقهت من قلبها ، و قالت:
-طب و لما نتعب احنا الاتنين .. مين اللي هياخد باله من التاني ؟؟!
توقف بها عن السير بغتة أمام صف أحواض الزهور العطرة علي إختلاف أنواعها ، و طفق ينظر إلي بشرتها البضة متفحصا ملامحها الفاتنة التي دائما ما تخلب لبه من شدة جمالها ..
ثم تمعن عينيها الزرقاوين و هو يردد بحب:
-انا عن نفسي لو هيبقي فيا تعب الدنيا .. هفضل آمنلك الحماية و الحب لحد اخر نفس يا هانيا.
خبت أنفاسها علي إثر كلماته ، فتنفست لعدة مرات لتخفف لهاثها ، و لتستطيع أن تقول:
-انت دايما كده بتغلبني ! .. حتي في الكلام ؟؟!
كان الهواء قد بعثر خصلات شعرها الشقراء علي فمها و وجهها ... فإبتسم و هو يقترب منها و يزيح الخصل برفق قائلا:
-طب تعرفي ان بيتهيئلك ؟ .. انا عمري ما غلبتك ، انتي اللي دايما بتغلبيني .. احيانا ببقي عايز اخالف ارادة قلبي معاكي ، لما يقولي روح شمال .. ببقي عايز اروح يمين ، بس نظرة واحدة من عنيكي كانت بتكفي تخليني اسلم .. عمري ما قدرت عليكي !
ثم أحاط خصرها بيديه ، و شدها إلي صدره متمتما بعذوبة:
-و انا جمبك بحس اني بتولد من جديد.
تعلقت عيناها بعينيه في نظرات هائمة ، و هي ترد له الكلمات بنعومة هي الأخري:
-انا بقي حاسة اني بتولد في عنيك كل لحظة.
رفع حاجبيه دهشة و إعجابا ، و إبتسم قائلا بمزاح:
-الله الله علي الكلام ... لأ بالراحة عليا ، انا اصلا مش مصدق لحد دلوقتي المعجزة اللي حصلت .. بالطريقة دي هشك فيكي !
رمقته بنظرات عاشقة ، ثم قالت و هي ترفع يديها و تشبك أصابعها خلف رقبته:
-شك براحتك .. مش مهم ، مش مهم اي حاجة دلوقتي ... المهم انك بين ايديا ، عيني في عنيك ، حاسة بيك .. قلبك قريب من قلبي !
و شبت بقدميها علي أطراف أصابعها و هي تطبق بكفها علي مؤخرة رأسه و تضمه إليها بقوة ..
كان "عاصم" مسحورا بكلامها ... مآخوذا بهذا الكم الهائل من دفق مشاعرها ..
فلم يستطع أن يفعل شيئا سوي يشدد ذراعيه حول خصرها و هو يدفس وجهه المشوه لدي عنقها ..
ربما هذا التصرف هو الوحيد الذي كان يفعله دوما ليختبر مدي صدقها ، إذ من الغريب أن تعيش معه لأشهر لم تظهر خلالهم إلا الكراهية العمياء له .. و تآتي بين ليلة و ضحاها بإكتشاف هذا الحب الكبير له !
إنها حقا لمعجزة كما أسماها "عاصم" و لا يمكن أن تكون غير ذلك ...
كانا لا يزالا حتي هذه اللحظة متلاصقان ببعضهما البعض بقوة ، عندما غرزت "هانيا" أصابعها بين خصلات شعره الناعمة و هي تقرب فمها من أذنه و تهمس بعاطفة ملتهبة:


-تصور ؟ .. انا بردت ، يلا خدني علي فوق بسرعة.
بدت الكلمات لـ"عاصم" مطربة ، تكاد ترفعه علي سحابة قانية إلي أعالي درجات النشوة ..
و لكن بالنسبة لها .. كانت الكلمات صعبة للغاية ..
لسبب بسيط جدا ، و هو أنها أوشكت أن تفقده للأبد .. حيث لم يتبق الكثير كما قررت ، فقط بضعة أيام أخري بقربه ..
ثم الوحدة ... و سنوات طويلة تمتد لتغلفها الذكريات ، إلي أن يحل النسيان ..
فالذكري ستضمحل ، هذا أمر محتوم .. و لن يبقي حبيبها "عاصم" مرتسما في ذاكرتها بحضوره الفتي ..
ممسكا بيدها ، أو معانقا إياها بحميمية دافئة ..
هو سيكون هناك ... و لكن بعيدا عن متناولها ، و سيظل يبتعد أكثر فأكثر مع مرور الوقت ...

***********************************

أسرع "إياد" عقب المكالمة التي جرت بينه و بين زميله أمام أحد المعالم العامة الشهيرة لمدينة « القاهرة » ..
ليجده في إنتظاره هناك ... أقبل "إياد" عليه متجهم الوجه و الخطي حتي وقف أمامه ..
و للحال .. سأله بخشونة:
-مين يا وليد ؟ .. قولي ميـن ؟؟
تذبذب "وليد" متوترا و هو ينظر إليه ، قبل أن يقول بتردد:
-شوف .. مبدئيا كده انا عايزك تهدا و تعقل ، و تفتكر انك سيبت الخدمة
انا جايبلك المعلومات دي لاجل العيش و الملح و الاخوة اللي ما بينا ، انما لو حد شم خبر انت عارف انا ممكن يحصلي ايه ! .. مستقبلي هيضيع يا إياد.
بنفاذ صبر ، صاح "إياد":
-اخلص يا وليد .. لو حصل حاجة المسؤولية كلها هتقع عليا انا ، و انا مش هجيب سيرتك في اي حاجة ماتقلقش.
-يا بني انت فاكرني خايف عليا لوحدي ؟ .. انا خايف عليك انت كمان ، بلاش تهور يا إياد مش هيبقي موت و خراب ديار هما كده كده هياخدوا جزائهم.
إنخفض صوته قليلا و هو يقترب منه أكثر و يهمس بتوحش:
-مين دول يا وليد ؟ ... قولي ايه اللي وصلتوله ؟؟؟
تنهد "وليد" بثقل ، ثم قال مستسلما لتصميم صديقه:
-الموبايل اللي اتلاقي في اوضة البانسيون .. لما كشفنا عنه ، طلع بتاع واحد اسمه اسلام صادق رشوان ... بعيدا عن مواصفاته الزبالة .. هو .. هو ... هو طلع ساكن في نفس البيت اللي ساكنة فيه عمة الانسة هنا الله يرحمها !
قطب "إياد" حاجبيه بغرابة و هو يستمع إلي "وليد" الذي واصل بحذر:
-و لما حصرنا المكالمات الاخيرة للموبايل و سجلناها ... اكتشفنا للآسف ان الحادثة كلها كانت مدبرة .. و ان في حد قصد يعمل كده في الانسة هنا ، في حد هو اللي حرض عليها الكلاب دول.
إستعرت عيناه و هو يستجوبه و في نفس الوقت يجبر أعصابه الثائرة علي الهدوء حتي النهاية:
-مين اللي دبر يا وليد ؟ .. اتكلـم !
مط "وليد" شفتيه آسفا .. ثم قال:
-اللي دبر لكل ده ... بنت عمة الانسة هنا ، سمية ياسر عبد الفتاح.
بُـهت "إياد" لسماع هذا ، و لم يصدق آذنيه .. حتي أنه عاد يطالبه بالإجابة مجددا:
-قلت ايه ؟؟؟!!
هز "وليد" رأسه بإشفاق و هو يطالع وجهه المصدوم بصورة لاذعة ...

***********************************

عند دقات الثامنة مساء ..
كان "شهاب" يقف هناك أمام الآسوار الخلفية لڤيلا ( الطحان ) في إنتظار قدوم "هاجر" ..
فقد إتفقا أن يلتقيا هنا في هذه اللحظة بالذات ..
كانت أعصابه مشدودة كالوتر .. و كان مضطربا أشد الإضطراب مع كل ثانية أو دقيقة تمر دون أن يحدث شيئا .. دون أن تآتي ..
نظر في ساعة يده للمرة العاشرة حتي الآن ، ثم حانت منه إلتفاتة قصيرة نحو الباب الخلفي ..
ليجدها تهرول نحوه حاملة بيدها حقيبة سفر متوسطة ..
ركض صوبها ملهوفا ، بينما حاولت أن تفتح البوابة علي عجل ، و من شدة تشوشها و تلبكها ، أخذت وقت لتفتحها ..
قابلته أخيرا ، فنهرها بصوت خافت:
-انا مش قولتلك ماتجيبيش حاجة معاكي ؟ ايه اللي في ايدك ده يا هاجر ؟؟
تململت في ضيق متوتر قائلة:
-دي شوية هدوم بسيطة يا شهاب مش حاجة يعني !
زفر بغضب مكتوم ، لكنه تجاهل هذا الحنق الآن و حمل عنها حقيبتها ثم أمسك بذراعها قائلا و هو يلتفت ليسير بها في إتجاه سيارته:
-طب يلا .. يلا قبل ما حد ياخد باله مننا !
ليتسمرا معا في نفس اللحظة عند رؤية "جاسر" ..
كان أمامهما مباشرة .. و لم يكن بمفرده ، كان يرافقه ثلاثة رجال تفوح منهم رائحة الشر ..
أما هو .. فقد برقت عيناه و إلتوي طرف فمه بإبتسامة شيطانية خبيثة و هو يرمقه و كأنه يتوعد له بحساب من نوع خاص ...


ها هي مجددا تسقط لاهثة في حضنه بإرادتها .. بكامل إرادتها ..
ليعتصرها هو بين ذراعيه متسائلا بسعادة ساحقة:
-ايه كل ده بس يا جميلتي ؟؟!
ردت "هانيا" بنبرة خاملة و هي تشعر بذلك الخدر اللذيذ يفترش جسدها و يثقله:
-ده مش كل حاجة !
صاح بإنبهار:
-هو لسا في تاني ؟؟!
-طبعا ... في كل اللي عمرك ما شوفته و لا هتشوفه الا معايا انا و بس يا حبيبي .. انا عايزة اديك حب و مشاعر علي اد كل لحظة حسستك فيها اني بكرهك او اني متضايقة من شكل الحرق في وشك !
خفق قلبه بشدة ، و لم يدر بماذا يجيبها ... فأسرع يحلق علي وجهها بنظرات تهدر حبا و إمتنانا ، ثم خرجت الكلمات من قلبه صادقة:
-حبيبتي يا هانيا .. انا مش عايز اي حاجة من الدنيا غيرك ... صدقيني انا حياتي مالهاش قيمة منغيرك .. وجودي زي عدمه ، معاكي بس هبقي موجود .. انتي اللي هترسمي مستقبلي ... انتي هتبقي المصدر لكل حاجة !
إبتسمت بحب و هي تضغط نفسها في حضنه كقطة في حاجة إلي الآمان ..
ثم تمتمت بصوت خفيض:
-تعرف يعني ايه حب يا عاصم ؟؟
إبتسم و هو يعبث في شعرها بأصابعه ، ثم أجاب ببساطة:
-قبلك ماكنش عندي ادني فكرة عن الشعور ده ... انما بعد ما شوفتك عرفته .. عرفته كويس اووي !
ضحكت برقة ، و قالت:
-طب خليني انا اقولك يعني ايه حب.
أحني رأسه يقبل شعرها ، و غمغم:
-قولي يا حبيبتي.
أطلقت تنهيدة حارة ، قبل أن تقول :
-الحب زي طفل صغير ... طفل نقي مش اي حاجة بترضيه ، طفل مايقدرش يعيش الا في سلام ، مايقدرش يجب حد قاسي عليه
بيحب بس اللي يبينله حبه و حنانه و اهتمامه .. الحب يا حبيبي زي طفل متهور ، جاهل تصرفاته اللي احيانا ممكن تآذيه .. ممكن يحب اي حد ، و ممكن يكره اي حد.
ثم رفعت إليه وجهها و هي تهيم بنظراتها الولهة علي وجهه ، و أردفت:
-لغاية ما يبان الشخص علي حقيقته .. لو طلع زيك كده في رقتك و قوتك مع بعض ، مستحيل يبقي للكره مكان في الحكاية .. زي ما حصل بينا بالظبط !
حدجها مبتسما في هدوء ، ثم قطف قبلة عميقة من وجنتها ، و ضغطها في حضنه مرة أخري و هو يقول:
-اقولك انا بقي يعني ايه حب يا جميلتي.
-قول يا عاصم.
أخذ يمسد علي شعرها و ظهرها و هو يشرح لها بطريقة ساحرة:
-الحب بيمثل العذاب في حد ذاته .. الحرمان و اللهفة يا حبيبتي ، الحرمان من العين اللي نفسها تبص علي حد و مش قادرة .. و القلب لما بيتملي باللهفة ... يبان اسرع ، و ارق ، و احن ، و اقوي
الحب يعلم ازاي تبقي ضعيف و انت اقوي من الدنيا كلها !
إنفلتت هتفتها المعجبة:
-الله يا حبيبي .. ماكنتش عارفة انك بتعرف تقول كلام حلو اوي كده !!
و شعرت فجأة بإنقباضة في معدتها ، فإنتفضت بقوة بين أضلعه المطبقة عليها ..
شعر هو بهذا ، فرفع وجهها بين كفيه عن كتفه و هو يتفحصها و وجهه متشحا بالقلق ، ليسألها بجدية بعد أن رآي الإصفرار يصبغ بشرتها:
-هانيا ! .. مالك يا حبيبتي ؟؟!
هي نفسها لم تعرف ما بها .. و لكنها قالت تطمئنه بإبتسامة:
-مافيش حاجة .. بس شكلي كده خدت برد زي ما قولتلي من شوية !
رد بإمتعاض غلفه شيء من العصبية:
-عشان مابتسمعيش الكلام ، قولتلك بلاش تصيفي دلوقتـ ...
و ما كاد يكمل جملته حتي قفزت من الفراش متجهة إلي الحمام و هي تغطي فمها بكفها ..
وثب "عاصم" قائما و ركض خلفها ... أراد أن يلحق بها و لكنها أغلقت الباب من الداخل ..
فأخذ يطرق عليها بإلحاح و هو يقول:
-افتحي يا هانيا .. افتحيلي خليني اشوف فيكي ايه !
كان يسمعها في تلك اللحظة و هي تتقيأ ، فإختلج قلبه ليعاود الطرق مجددا و هو يهتف بها:
-افتحي يا هانيا .. دخليني معاكي !
جاء صوتها من الداخل ضعيفا مهزوزا و هي تقول بلطف:
-ماتقلقش يا عاصم .. انا كويسة .. هاخد شاور بسرعة و هطلع !
هم يجادلها إلا أن صدح عنيف تردد صداه حول أركان القصر كله أوقفه ..
إستشعر خطر وشيك يكاد يغزو قلاعه الحصينة ، فأسرع نحو خزانته ..
إرتدي ما قابلته يده بسرعة البرق ، و غادر الغرفة راكضا إلي الأسفل ...


علي الطرف الأخر ..
هناك علي بعد أمتار من بوابة قصر الـ"صباغ" ..
"مروان" جالسا في المقعد الخلفي بجوار والده في سيارة الچيب المرسيدس ، بينما "رشدي" يجلس في المقعد الأمامي خلف عجلة القيادة .. :
-هما كده رجالتك يا انكل رشدي راحوا يعملوا ايه ؟؟
قالها "مروان" بوجه متجهم و لهجة جامدة ، ليرد "رشدي" و هو يمد رأسه خارج نافذة السيارة في محاولة لرؤية ما يحدث هناك:
-راحوا يسلكولنا السكة يابني .. اول ما يهدوا التيران اللي جوا و يفتحوا البابان هيدونا اشارة !
تدخل "توفيق" متسائلا:
-اومال فين الرجالة اللي جبتهم يا مروان ؟؟
-في العربية اللي ورانا يا بابا.
-طب ليه ماينزلوش يساعدوا الناس اللي جوا ؟؟
أدار "مروان" رأسه إلي أبيه ، و أجاب بإصرار عنيف:
-انا جايبهمله هو مخصوص يا بابا ... مخزون طاقتهم هيتفرغ فيه لوحده !



إعدادات القراءة


لون الخلفية