في تمام الثامنة و النصف صباحا ..
كانت "هانيا" تقف أمام المرآة ، تتحضر و تتهيأ إستعدادا لملاقاة عدوها
بعد أن تركت الفراش ، إستعادت حيويتها بحمام ساخن ، ثم إرتدت تنورة حمراء سميكة ، يعلوها قميص أبيض حريري ، ثم وضعت فوق كتفيها معطف ذا لون سماوي يتلاءم مع زرقة عينيها تماما ، و مع المظهر الذي أرادت أن تظهر به ..
ثم جلست فوق كرسي خشبي أمام المرآة و راحت تصفف خصيلات شعرها الأشقر ، فيما زمجرت بغيظ و هي تنظر إلي صورتها .. فهذا الصباح ستواجه محنة مقابلة "عاصم الصباغ" ..
كيف ستتحمل هذا اللقاء ؟ كيف ستتحمل النظر إليه دون أن تنقض عليه و تقتله إنتقاما لأبيها الراحل الذي تسبب هو في موته .. كيف ؟
و لكن فجأة ، و بعزيمة قوية ، أبعدت عن ذهنها صورة أبيها التي تعذبها ، مستعينة علي ذلك بتذكر الحرب التي ستبدأ عما قريب ، و لكن ذلك الأمر سوف يتحدد بعد اللقاء المنتظر ..
كانت فكرة الثأر كفيلة أن تجعلها دبلوماسية في المعاملة معه عندما تراه ، لهذا كانت تعمل علي تهدئة أعصابها طيلة الوقت
ألقت "هانيا" نظرة إلي ساعة يدها السوداء الجلدية ، لم يبق لها سوى عشرين دقيقة للوصول إلي مقر الشركة .. سوف تصل سيارة التاكسي التي طلبتها هاتفيا في أي لحظة الأن
و بعد ما نظرت مرة أخري إلي نفسها بالمرآة و تأكدت من حسن مظهرها ، حملت حقيبتها و علقتها بكتفها و هي ترسخ بأعماقها شعور العزة و الكبرياء ..
حمدت "هانيا" الله عندما تبين لها أن السيدة "قوت القلوب" لا تزال نائمة ، فهي ما كانت لتتركها تغادر دون أن تتناول الإفطار
هبطت "هانيا" السلالم المتعرجة بإحتراس و روية ، و لدى وصولها إلي عتبة الباب الرئيسي للبيت المتهالك ، وجدت سيارة التاكسي في إنتظارها ..
بعد ثلث ساعة .. أوصلها السائق أمام البوابة الرئيسية لمؤسسة - A T S - للإستيراد و التصدير .. و بعد أن دفعت له الأجرة ، ترجلت متوجهة إلي الداخل ، ثم ذهبت صوب مكتب الإستقبال و الإستعلامات برأس شامخة و خطى ثابتة ، إذ طلبت أن يصار إلي إعلام رئيس الشركة بحضورها ، بينما طلبت منها موظفة الإستقبال بدورها أن تدلى بأسمها و السبب الذي من أجله أتت لرؤية الرئيس ..
أدلت "هانيا" بأسمها الثلاثي ، و رفضت أن تصرح بأكثر من ذلك ، مشيرة بأن رب العمل هو من طلب رؤيتها و ليس هي ، و بناءاً علي ذلك رفعت الفتاة سماعة الهاتف ، و تحدثت لدقيقة بصوت خافت أقرب إلي الهمس ، ثم عادت تنظر إليها قائلة بإبتسامة خفيفة:
-مستر عاصم منتظر حضرتك فعلا.
ثم هتفت بإسم أحد العاملين في الإستقبال ، فجاء شاب يرتدي زي العمل الرسمي ، فطلبت منه أن يقود الزائرة إلي الطابق السادس من المبني الضخم حيث يقع مكتب المدير الرئيسي ..
أحني الشاب ذا البسمة الحلوة رأسه في أدب ، و طلب من "هانيا" أن تتبعه ، بينما شعرت الأخيرة بقدميها ترتخيان فجأة ، و لكنها إستعادت رباطة جأشها مسرعة و عادت تحصن نفسها بأسوار الشموخ و الكبرياء ..
تمكنت من عبور البهو المفروشة أرضه ببساط واسع مزين بألوان زاهية و رسوم فنية ، و لما إنفتح باب المصعد و خطت داخله ، خيل إليها أنها تغادر العالم المتزن الواضح ، لتدخل عالما أخر غير مألوف علي الإطلاق ، بينما كان الغم و الكدر يضغطان علي حنجرتها و هي تحاول جاهدة أن تنطق دون جدوى .. الطوابق تمر أمامها و هي عاجزة أن تطلب من الشاب الذي كلف بتوصيلها إلي مكتب المدير أن يعيدها إلي الأسفل ..
و بصورة مفاجأة ، توقف المصعد ، و خرج الشاب أمامها ، فتبعته و قدماها تدوسان البساط الأخضر السميك ، بينما كانا يتوجهان نحو صالة واسعة وضع بها مكتب صغير جلست خلفه السكرتيرة الخاصة بمكتب المدير ، و حالما رأت الزائرة المنتظرة ، راحت ترمقها في فضول ، و لكنها نهضت و توجهت نحوها مسرعة ..
رحبت بها في برود هادئ و علي فمها إبتسامة رقيقة باهتة ، ثم أصرفت الشاب و أخذتها إلي مكتب رب العمل .. طرقت الباب ، و فتحته عندما سمعت الصوت الصارم يدعوها للدخول ، ثم إلتفتت إلي "هانيا" قائلة:
-حدودي لحد هنا .. اتفضلي ادخلي.
أومأت "هانيا" رأسها و تنفست بعمق ، ثم خطت إلي داخل المكتب الفسيح ..
أغلقت السكرتيرة الباب وراءها ، بينما ركزت " هانيا" بصرها نحو مركز الغرفة .. حيث إستقر "عاصم الصباغ" و قد ملأ مقعده الجلدي الوثير بكتفيه العريضتين
كان مستديرا بالمقعد نصف أستدارة ، حيث ظهر بالجانب الأيسر من جسده ، فيما كان متظاهرا بالإنهماك في إحدي مكالمته الهاتفية المهمة .. و من دون أن ينظر إليها ، أشار لها بيده أن تقترب ، ثم تجاهلها تماما ليستمع إلي محدثه الوهمي ..
بينما ظلت واقفة علي بعد مترين من مكتبه ، إلي أن تململت في ضيق و إنزعاج عندما إستغرق وقتا طويلا في مكالمته ، فيما كان هذا هدفه تماما ، أن يضجرها و يزعجها و قد نجح
و لما شعر بالكفاية ، أغلق هاتفهه ، و وضعه فوق سطح المكتب ، ثم إستدار لها بمقعده و بكامل جسده ، و نهض بطوله الفارع ليواجهها ..
الأن تستطيع "هانيا" أن تنظر إليه جيدا و تتبينه بوضوح عندما إحتوته بنظرها .. أحست بأن نفسها قد إحتبس برئتيها ، كما شعرت بالإرتباك و إختلطت عليها مشاعرها .. فالخصم الذي رسمت صورته في خيالها ، يختلف تماما عن هذا الرجل الواقف أمامها !
كانت ندبة عميقة ، خشنة طويلة فوق خده الأيمن أول ما لفت نظرها .. الأن عرفت لماذا لم تر له أية صورة علي مواقع الإنترنت ..
تابعت النظر إليه و هي تتفحصه بدقة ، كان ينتعل جزمة سوداء لماعة ، كما كان يرتدي بذلة من اللونين ، الأسود و الكحلي .. شعره أسود ناعم و غزير ، بدا ما بين الطول و القصر و هو مصفف بعناية إلي الوراء ، بينما بعض الخصيلات تموجت إلي جانبي وجهه لتضفي عليه لمسة وسامة ..
بينما إستطاعت "هانيا" أن تميز عبر المسافة الفاصلة بينهما ، حاجبين كثيفي السواد ، فوق عينين بمزيج من لون البندق و شذرات ذهبية ، و أنف مستقيم ، ينحدر إلي فم مغر بشفتين ممتلئتين شهوانيتي التأثير ، و جانب وجهه السليم المنحوت و الخالي من التشوهات ، أعطي وجهه شكلا كلاسيكيا فريدا ..
إنبهرت "هانيا" من ذلك التكوين المذهل وتساءلت .. هل يمكن أن يمتلك رجلا مثله كل هذا الكمال رغم عاهته ؟!!
أجفلت عابسة ، ثم أوقفت نفسها بسرعة عن الإسترسال في تأمل هيئته ، بينما ظهرت علي وجهه إبتسامة ساخرة و كأنه قرأ أفكارها و ما يختلج بنفسها من مشاعر متضاربة ، فيما هنأ نفسه بإنتصاره بالجولة الأولي ، فقد نجح في تطبيق عنصر المفاجأة عليها .. فهي بالطبع لم تكن تتوقع أن تر خصمها ذا وجه مشوه ..
شعرت "هانيا" بعينيه الثاقبتين تخترقانها إختراقا ، بينما بصوت عميق و أجش قال لها:
-صباح الخير يا انسة هانيا .. اهلا بيكي في شركتي ، نورتي.
ثم مد يده الكبيرة ليصافحها ، بينما لم تغب عن " هانيا" رنة الإستهزاء في صوته ، لكنها مدت يدها في بطء و ثبات و صافحته ، ثم سحبتها بسرعة و حزم و هي ترمقه بكل ثقة قائلة:
-صباح النور .. ميرسي لذوقك.
إبتسم بخفة و هو يقول:
-انا اسف لو كنت خليتك تنتظري كتير ، بس كان معايا مكالمة شغل مهمة.
ثم دعاها للجلوس في أحد المقعدين الواقعين قرب المكتب:
-اتفضلي اقعدي.
لبت "هانيا" دعوته ، إذ جلست إلي حيث أشار قبالته في المقعد الجلدي الوثير ، بينما قبل أن يجلس بدوره ، راح يعينها في إمعان دقيق ..
و بعد أن تفحصها من قدميها إلي رأسها ، إشتبكت نظراته بنظراتها ..
تمكنت "هانيا" من رؤية الإعجاب في عينيه الجرئيتين ، فتلون وجهها قليلا ، بينما جلس "عاصم" أخيرا و سألها بنعومة هادئة:
-تشربي ايه يا انسة ؟؟
أجابته بإبتسامة خفيفة:
-شكرا .. و لا اي حاجة.
-لأ ازاي ! لازم تشربي حاجة .. انتي بتزوريني في شركتي و لأول مرة مش هاينفع.
غمغمت "هانيا" برقة قائلة:
-مممم ، لو لازم يعني يبقي قهوة سادة.
-سادة !!
هتف "عاصم" في تعجب إستنكاري رافعا حاجبيه ، فأكدت له بإيماءة من رأسها ، فهز هو كتفيه بخفة ، ثم رفع السماعة و آمر بإحضار فنجانين من القهوة إلي مكتبه ، ثم عاد ينظر إليها باسما و هو يقول:
-قبل اي حاجة انا بقدم التعازي في والدك الله يرحمه .. ماتتصوريش اتضايقت اد ايه لما جالي الخبر.
في تلك اللحظة .. كانت عيناها الزرقاوان تنفثان الغضب ، لم تشعر من قبل بمثل تلك العصبية التي إعتملت بنفسها نتيجة كلماته ، و لكنها بقيت تحافظ علي برودة صوتها
لن تترك لهذا الرجل الفرصة ليشعر أنها لا تستطيع السيطرة علي هدوء أعصابها .. :
-استاذ عاصم !
هتفت في جمود هادئ ، ثم سألته بلهجة رسمية:
-حضرتك طلبت تقابلني .. و اديني اهو جتلك زي ما طلبت .. خير ؟؟
مط "عاصم" شفتيه مهمهما ، ثم أجابها ببطء متعمدا إستفزازها:
-طبعا زي ما انتي عارفة .. كل املاك والدك الله يرحمه .. بقت ملكي حاليا.
و توقف عن الكلام قليلا ، يراقب تعابير وجهها المتصلب متلذذا ، ثم عاد يقول:
-كل حاجة بقت ملكي .. ماعدا حاجة واحدة بس.
حدجته "هانيا" في حدة ، و قد فطنت بالبديهة أنه يقصد تلك الأرض التي تركها لها والدها قبل وفاته بخمسة أعوام ..
بينما رفعت وجهها ، و عقدت حاجبيها في إستغراب متكلف و هي تقول:
-مش فاهمة يا استاذ يا عاصم ! تقصد ايه ؟؟
إبتسم بإلتواء و قد إستشف فيها نزعة عنيدة و مغامرة تحت قناع وجهها الإرستقراطي الجميل ، ثم أجابها بلهجة هادئة مستمتعا باللعبة التي يمارسها معها:
-في حتة ارض صغيرة للاسف فلتت من تحت ايدي .. لما جيت افرز الاملاك اكتشفت ان والدك كتبهالك من كام سنة كده.
-طيب ! فين المشكلة ؟!
هتفت في خشونة متهكمة ، بينما أجابها بإبتسامة خفيفة:
-الارض دي علي وجه التحديد و لاسباب شخصية تهمني اوي .. انا عايزها ، هاشتريها منك و هاديلك المبلغ اللي تطلبيه.
رمقته بعبسة متجهمة ، ثم سألته في إهتمام مترقب:
-ايه مدى اهمية الارض دي بالنسبة لك يا استاذ عاصم ؟؟
هز كتفيه و كأنه يجد الأمر برمته مسليا ، ثم أجابها قائلا كمن يشرح درسا:
-هي موقعها حلو ، مساحتها كويسة ، و انا بصراحة نفسي ابني فوقيها بيت.
ثم أضاف برقة هازئة:
-طبعا ده بعد ما اهد المخزن اللي عليها الاول.
خضب كلامه وجنتيها بحمرة الغضب ، إذ كان واضحا من نبرة صوته الناعمة و كأنه تعمد أن يشعرها بالذل و الحسرة علي إرثها الذي نهبه و إستولي عليه بأساليب الإحتيال ..
فيما غالبت شعور الغضب الذي راح يتصاعد داخلها ، حيث أخذت نفسا عميقا ، و حاولت أن تبادله ذلاقته الهازئة نفسها و هي تقول:
-قبل ما اجي هنا .. كنت متوقعة ان حقوقي هترجعلي بعد المقابلة دي .. كنت متوقعة اعتذار م وندم علي التصرفات الاحتيالية اللي حضرتك لجأتلها عشان تنصب علي ابويا و تسرق منه كل حاجة.
عاد يرسم علي شفتيه تلك البسمة الساخرة ، و رفض منحها تأكيدا شافيا لكلامها ، بل قال و هو يسترخي فوق مقعده:
-طالما كشفنا ورقنا يبقي مافيش داعي للتظاهر بالبساطة و تزويق الكلام.
أردف بهدوء و قد بدا وجهه قريرا متألقا:
-الضرب تحت الحزام شيء مشروع في شغلنا جدا يا انسة .. و اذا كنت انا نصاب زي ما بتقولي .. يبقي والدك العزيز شيخ منصر.
إشتعلت حدقتيها الزرقاوين بغضب حارق ، فهبت واقفة و هدرت بشراسة تدافع عن أبيها:
-والدي اللي بتتكلم عنه ده كان راجل شريف .. كان صاحب شركات و بيزنس محترم ، مش رئيس عصابة و لا حرامي زيك .. و علي فكرة ، اوعي تفتكر اني هسكت علي اللي حصل ، انا مش ممكن اسيب حقي ، و مستحيل اسيب تار ابويا.
منحها نصف إبتسامة باهتة ، ثم سألها ساخرا و هو يعبث بقلما فوق مكتبه:
-و يا تري في ايدك ايه تعمليه يا انسة ؟ مافيش في ايدك غير شوية التهديدات الفارغة اللي بتستخدميها ضدي دلوقتي كسلاح فاسد .. انا معايا السلطة و النفوذ و الفلوس .. انما انتي.
و مسح جسدها بعينيه من الأسفل إلي الأعلي في تقييم ساخر ، و أضاف:
-انتي مش معاكي اي حاجة .. صوتك عالي بس ، لكن ده بردو انا اقدر اسكته بطريقتي.
في تلك اللحظة ، كان قادرا علي ملاحظة الحقد الوحشي يلمع بعينيها الواسعتين ، بينما أحست بموجة عارمة من الغضب في صدرها ، و بالنار تشتعل في عينيها ، فصاحت بعنف تكيل له الصاع صاعين:
-بكرة تعرف ان اللي قلته ماكنش مجرد تهديد .. مش هاسيبك تتهني بشقي ابويا ، و الارض مش هتاخدها ، بعينك ، و قريب اوي هرجعك من الصفر عشان تشحت من اول و جديد بعد ما اخد منك كل حقوقي هعمل معاك اللي عمله ابويا مع ابوك من عشرين سنة.
ثم أضفت إلي صوتها نبرة متعالية لتضعه في مكانه:
-هشتري شركتك دي و كل املاكك بتراب الفلوس .. و ساعتها هتبقي واقف متكتف ، مش هتقدر تعمل حاجة .. زي السيد الوالد.
قالت هذا و شمخت بذقنها متحدية ، فإتقدت عيناه ، و أسود مزاجه ، فأدركت للحال بأنها أخطأت في التكلم بهذه الطريقة عن والده ..
و لكن قد سبق السيف العزل .. إذ أنه رمى قلمه من يده فجأة ، فأجفلت لحركته المفاجأة ، و لكنه تأملها بقوة طويلا حتي أحست بنظراته ستقتلعها من مكانها .. ثم نهض واقفا بحركة خاطفة عنيفة
فتراجعت تلقائيا عندما رأته يتجه نحوها بخطي واسعة ، يدنو منها بجسده الضخم المكسو بالبذلة الأنيقة ..
توترت و هو يزيد من إقترابه منها ، لكنها تجمدت بمكانها متحدية بوجه متصلب ، بينما غمغم هو من بين أسنانه:
-مبدئيا .. الارض بتاعتي .. و هاخدها بأي طريقة ممكنة ، اما انتي بقي .. ففتحتي باب لسكة انتي مش ادها .. مش هحاسبك علي كلامك دلوقتي ، بس اوعدك انك في الايام الجاية ، هاتشوفي اللي عمرك ما شفتيه.
قطبت حاجبيها و هي تنظر إليه واجمة .. كان وجهه شاحبا ، و الندبة أشد إحمرارا عما رأتها لأول مرة ..
إنفتح باب المكتب في تلك اللحظة ، بعد أن طرقه الساعي الذي دلف بالقوة التي آمر بها رئيس العمل ، بينما تنهد "عاصم" بعمق ، ثم دعا "هانيا"للجلوس مجددا بنبرة متكاسلة و كأن شيئا لم يكن:
-اتفضلي اقعدي عشان تشربي قهوتك.
فأجابته بجفاف:
-اشربها انت.
ثم أحضرت حقيبة يدها من فوق المقعد ، و غادرت مسرعة بخطوات واسعة أقرب إلي الركض ..
قطعت مسافة طويلة ، بعيدة عن مقر الشركة ، إلي أن ضاقت ذرعا بنفسها ، فتوقفت تستند إلي شجرة ، تتوق إلي قدر من رباطة الجأش ، خاصة و أنها شعرت بدوار شديد
حمدا لله علي أن لا أحد هنا يشهد ضياعها و وهنها ، فهي لم تشعر في حياتها بمثل هذا الذعر الذي إستبد بها من جراء تهديده ..
ترى ماذا سيفعل ؟ .. ربما ينوي معاقبتها علي مضايقتها له بكلماتها اللاذعة .. و لكن كيف ؟!!
أن "عاصم" هذا لن ينفك أبدا عن فعل أي شيء ليحصل علي ما يريد ، ذلك ما إستنتجته بعد ما فعله ، و ما تأكدت منه بعد أن قابلته ..
لا تستبعد أن ينفذ تهديده ، فعيناه كانتا تشعان نار ، كما أن صوته الهادئ عكس غضب عنيف لا ينذر بخير علي الإطلاق
إنها حاليا لن تستطيع التصرف وحدها ، ستذهب ألي عمها لتأخذ برأيه .. هذا ما ستفعله الأن ...
**************
-لأ يا عاصم !
هتف "زين" بقوة معترضا و هو يجلس قبالة صديقه بالمكتب ، ثم تابع منفعلا:
-لحد هنا و كفاية اوي .. انا اذا كنت وافقت اساعدك علي اللي عملته قبل كده فأنا عملت كده عشان كنت متفهم وضعك و عارف ان ماكنش في طريقة تانية ترجع بيها حقك غير الطريقة دي .. لكن كل اللي فات كوم و اللي انت عايز تعمله دلوقتي ده كوم تاني ، البنت مالهاش ذنب في اللي حصل ، خرجها من اللعبة يا عاصم و سيبها في حالها و كفاية اللي عملته فيها.
رمقه "عاصم" في برود ، ثم همهم بهدوء متسائلا:
-همم ! خلصت ؟؟
قطب "زين" مستاءاً ، بينما مد "عاصم'' جسده إلي الأمام ، و سند مرفقيه فوق المكتب و هو يقول بلهجة آمرة:
-هتخرج من عندي دلوقتي ، و هتنفذ اللي قلتلك عليه.
كاد"زين" يتكلم ، فقاطعه "عاصم" بصرامة قائلا:
-انا عارف انا بعمل ايه كويس اوي يا زين .. و اظن انت مش غريب عني ، انت معاشرني بقالك سنين و فاهم تصرفاتي.
-ايوه يا عاصم ، بس اللي انت عايزه يحصل ده خطر .. انت فاهم انت بتعمل ايه ؟ انت كده ممكن تضيع مستقبل البنت و تنهي حياتها.
لوى "عاصم" فمه القاسي بإبتسامة بالكاد ظهرت ، و قال:
-قلتلك انا عارف انا بعمل ايه يا زين.
زفر "زين" في كدر و هو يحدق بصديقه ، لقد كان "عاصم" طوال السنين التي مضت ، نموذجا للرجل المستعد لفعل أي شيء لتزويد ثروته
قد يتفهم دوافعه نظرا لنشأته الصعبة ، و لكن لا يمكن أن تصل الأمور إلي هذا الحد ، رغبته في الإنتقام أعمته ، قد يدمر حياة أشخاص ليس لهم أدني ذنب فيما حدث بالماضي .. و "هانيا" في نظر "زين" واحدة من هؤلاء الأشخاص ...
أفاق "زين" من شروده فجأة علي صوت صديقه ذا النبرة الحازمة:
-هتنفذ اللي قلتلك عليه.
أطرق "زين" رأسه مذعنا ، ثم قال بخفوت:
-حاضر يا عاصم.
عندما ذهبت إلي مسكن عمها الجديد في "حي الغورية"العريق ، قصت عليه تفاصيل لقاءها ب"عاصم الصباغ" و أخبرته عن التهديدات المخيفة التي أفاض بها ..
كان " توفيق" يستمع إلي حديث إبنة شقيقه في إهتمام بالغ ، لم يقاطعها للحظة حتي إنتهت .. فتنحنح ثم قال بهدوء:
-انتي غلطتي يا هانيا لما اتهجمتي عليه بالكلام و لما اتكلمتي عن والده بإسلوب مهين .. ده اولا .. ثانيا بقي ، رفضتي عرضه ليه ؟ تقدري تقوليلي هتعملي ايه بحتة الارض اللي فوقيها مخزن فاضي ؟ لو كنتي قبلتي تبيعيله ساعتها كان ممكن تحطي الرقم اللي انتي عايزاه و كان هيدفع طالما طلب يقابلك مخصوص عشان يشتري الارض منك.
تنهدت "هانيا" بعمق ، و قالت بسأم:
-الطريقة اللي اتكلم بيها حسستني بالقهر و الذل يا انكل .. و بعدين ازاي كنت عايزني اوافق علي طلبه و ابيعله الارض بمنتهي السهولة ! الراجل ده هو اللي اتسبب في موت بابا ، و انا لا يمكن احط ايدي في ايده ، ده غير انه سرق مني كل حاجة كمان عايز ياخد الارض !!
هتفت أخر كلماتها بإستنكار إنفعالي ، ثم أضافت في عند صلب:
-مش هبيعهاله ، حتي لو كنت ناوية ابيعها بعد ما قابلته انهاردة مستحيل هبيعها حتي لو مت من الجوع.
و صمتت لثوان تستجمع أنفاسها .. و لكن فجأة غاض الدم من وجهها حين تذكرت تهديداته .. فعادت تقول بنبرة متهدجة و قلبها يخفق في وجل:
-تفتكر ممكن ينفذ تهديده يا انكل توفيق ؟ يا تري ممكن يعمل ايه ؟؟
مط "توفيق" شفتيه قائلا:
-ماعتقدش انه ممكن يعمل حاجة .. مافيش في ايده حاجة تانية يعملها.
ثم مد يده و أمسك بيدها الباردة ، و شد عليها مطمئنا بقوله:
-ماتقلقيش يا حبيبتي .. في كل الاحوال انا جمبك و في ضهرك .. و لا يمكن هسمح لمخلوق انه يمس شعرة منك.
أومأت رأسها مبتسمة في توتر ، فيما راح التورد يخبو في وجنتيها .. إذ عاد إليها الدوار ، و بالكاد أحست عمها ينهض ثم يعود و يضع بين أصابعها المرتجفة فنجانا و يآمرها بلطف أن تشربه:
-اشربي الشاي يا حبيبتي و هدي اعصابك خالص .. كفاية تفكير و حاولي تسترخي.
أحتست "هانيا" الشاي في عصبية .. فعاد لونها المفقود .. لكنها إستمرت تفكر خائفة ...
أفاقت "هانيا" من شرودها فجأة علي صوت سائق الحافلة الجهوري و هو يقول:
-يا انسة .. انتي يا انسة خلاص وصلنا الوراق.
طرفت "هانيا" مضطربة ، فجمعت شتات نفسها سريعا ، ثم تلفتت حولها ، و تنبهت إلي خلو الحافلة و وحدتها بها ، فغادرت بدورها ..
و لدي وصولها إلي منزل مربيتها .. فتحت لها باب المنزل الإبنة "هنا" بوجه قاتم سرعان ما إستحالت تعابيره إلي الإستغراب و الحيرة عندما شاهدت وجه "هانيا" الأبيض الشاحب ..
بينما عبرت السيدة "قوت القلوب" الصالة الصغيرة بخطوات واسعة نحوها و القلق باد علي ملامح وجهها ، و قبل أن تفكر "هانيا" في وسيلة للهرب ، وصلت إليها الأخيرة .. :
-هانيا !
هتافها المختصر جمدها بمكانها ، فإستدارت إليها متسائلة:
-نعم يا داده ؟؟
-كنتي فين ؟؟
سألتها بلطف قلق ، فأجابت "هانيا" بهدوء:
-انا مش قلتلك امبارح ان عندي ميعاد مهم ؟؟
-ايوه .. بس انتي نزلتي قبل ما اصحي ، و اتأخرتي اوي قلقتيني عليكي.
عللت "هانيا" سبب تأخرها بقولها:
-بعد ما خلصت المشوار اللي كنت فيه روحت ازور انكل توفيق عشان كده اتأخرت شوية.
أومأت "قوت القلوب" رأسها في تفهم ، بينما إستأذنت "هانيا" قائلة:
-عن اذنك يا داده هدخل انام.
إحتجت "قوت القلوب" بإستنكار قائلة:
-مش هتتعشي !!
منحتها "هانيا" أبتسامة رقيقة ، و شكرتها قائلة:
-شكرا يا داده .. بس انا مش قادرة آكل .. عايزة انام بس .. تصبحي علي خير.
تنهدت "قوت القلوب" بإشفاق علي حال الفتاة التي ربتها كإبنتها منذ نعومة أظافرها ، بينما دلفت "هانيا" إلي غرفتها و إستلقت علي الفراشة متهالكة بعد أن خلعت حذائها و نزعت معطفها و القميص الذي كبل حركتها ..
ثم تكومت علي جانبها الأيمن ، و ضمت ساقيها إلي صدرها آخذة وضعية الجنين في بطن أمه .. و ما هي إلا ثوان معدودة حتي غطت في نوم عميق من فرط إرهاقها ، و ما شهدته اليوم من خوف و إضطراب ...
كانت مستغرقة في نوم سيطرت عليه الكوابيس التي نسيتها .. أحست ألما عنيفا يغزو رأسها .. حاولت أن تنهض و لكنها لم تستطع حتي تحريك أصبعها ..
ما سبب ثقل جسمها الغريب ؟ .. ربما لو حاولت التحامل علي نفسها لنهضت .. و لكن هناك صوت لم يصدر عنها سمعته فلسانها كان ثقيلا جدا و كأنه قطعة من حجر ..
أحست بأنها بالفعل ليست وحدها في الغرفة .. هناك من يتنفس في مكان قريب منها ..
حاولت إختراق الظلام بعينيها لتراه .. فلمحت خياله الأسود يقترب منها ببطء .. تسلل شعور الخوف و الذعر إلي داخلها عندما بدأت ملامحه تضح لها ..
التقاسيم الوسيمة المألوفة ذات التعبير الساخر المخيف .. إتسعت عيناها و زادت محاولاتها في الحركة و الهرب دون فائدة ..
و هنا قال الصوت الساخر ليجفف الدماء في عروقها:
-انتي ليا انا و بس يا رضوي .. اوعي تفتكري اننا خلصنا لحد كده لأ .. مسيرك ترجعي لحضن اكرم حبيبك .. و جوزك.
تدفقت دموعها و هي تراقبه يقترب منها و ملامحه الوسيمة تستحيل تدريجيا إلي أخري شيطانية ، و المخالب تبدأ بالظهور من أطراف أصابعه ..
في تلك اللحظة ، أطلقت "رضوي" صرختها المختنقة و هي تهب جالسة فوق السرير و قد تبلل جسدها تماما بالعرق رغم برودة الجو ، نظرت حولها لاهثة برعب .. كانت الغرفة غارقة في الظلام حتي إنفتح الباب بقوة ، و دلفت والدتها السيدة "دينار" مهرولة تجاه إبنتها .. :
-رضوي ! بسم الله الرحمن الرحيم مالك يا حبيبتي ؟؟
قالت "دينار" ذلك و هي تضم جسد إبنتها المنتفض ، و تمسد ظهرها في محاولة لتهدئتها .. بينما صاحت "رضوي" بهلع:
-ماما ، ماما خليه يمشي يا ماما .. خليه يمشي عشان خاطري.
-هو مين ده يا حبيبتي ؟؟
-اكرم .. اكرم يا ماما.
جابت "دينار" ببصرها أرجاء الغرفة ، فوجدتها خاوية تماما إلا منها و من إبنتها ، فعادت تقول لإبنتها بصوت هاديء ناعم:
-حبيبتي الاوضة فاضية .. مافيهاش حد غيري انا و انتي.
صرخت "رضوي" قائلة:
-لأ .. بقولك اكرم هنا .. كان واقف جمب السرير دلوقتي.
أضاءت "دينار" مصباحي الطاولتين اللتين حاصرتا الفراش العريض قائلة:
-بصي كده يا حبيبتي .. اهيه الاوضة فاضية قدامك .. اكرم مش هنا ، و مستحيل يدخل هنا ، انتي كنتي بتحلمي.
ثم عادت تهدئها بصوتها الدافيء:
-ماتخافيش يا رضوي .. انتي في وسطنا .. انا و اخوكي حواليكي ، محدش يقدر يهوب ناحيتك و لا يأذيكي.
إبتلعت "رضوي" ريقها بصعوبة ، و راحت تسمع صوت أمها يطمئنها ، كما شعرت بها تمددها علي الفراش ، و هي تربت علي شعرها بحنان ..
فإنحسرت الأحلام القاسية .. و إستغرقت "رضوي" في نوم هاديء و هي تشعر بالراحة و الأمان ، فيما والدتها تربت علي خدها ، ثم تنحني لتضع قبلة علي جبينها ...
في صباح اليوم التالي ..
أستيقظت السيدة "قوت القلوب" علي صوت طرقات عنيفة علي باب المنزل ، فخرجت من غرفتها مسرعة ، و إتجهت صوب الباب مهرولة و هي تفرك بعينيها لتزيل عنهما أثر النعاس ، ثم صاحت:
-ايوه ايوه جاية اهو .. يا ساتر يا رب ، مين ده اللي بيخبط بالطريقة دي ؟؟
و فتحت الباب لتتفاجأ برجلان يرتديان الزي الرسمي الخاص بالشرطة ، فشهقت في فزع ، ثم قالت بشحوب تحدث القائد الذي يواجهها:
-صـ صباح الخير يا باشا .. خير ؟؟
رد الأخير بغلظة قائلا:
-هانيا مصطفي علام .. قاعدة هنا ؟؟