كانت حديقة القصر مضاءة جزئيا بفوانيس صفراء منحت المكان طابعا خـياليا و قد إنعكست أضوائها علي النباتات الخضراء التي إصطفت بتناسق علي جانبي ممر حجري مؤدي إلي الباب الرئيسي ..
بينما قطع "عاصم" ذلك الممر بخطي واسعة و ملامح متجهمة إلي أن وصل عند البوابة الحديدية الضخمة ، حيث كان "توفيق" يقف هناك بين مجموعة من الثيران البشرية - أفراد حراسة القصر - ..
كان التحدي واضحا تماما في عيني "عاصم" حين قذفه "توفيق" بنظرة متقدة و عيناه مصوبتان مباشرة إلي عينيه المفعمتين بعدائية مكشوفة ..
فيما وقف "عاصم" أمامه راسخ القدمين و إنطلق صوته الهادئ يقول مرحبا:
-اهلا اهلا يا توفيق بيه .. خطوة عزيزة ، مش كنت حضرتك تديني خبر بزيارتك الكريمة ، كنت عملت احسابي و استقبلتك استقبال يليق بيك !
حدق "توفيق" في وجهه و هو يرمقه بغضب جليدي ، ثم قال وصوته يختلج بإنفعال:
-فين هانيا ؟ فين بنت اخويا يا عاصم يا صباغ ؟؟
قطب "عاصم" و هو يتساءل متظاهرا بالجهل و الإستغراب:
-حضرتك جاي تسأل علي بنت اخوك عندي هنا في بيتي ؟ .. ايه اللي هاجيبها عندي يا توفيق بيه ؟؟
صاح "توفيق" بثقة حادة:
-انا متأكد انها عندك.
و صمت لثوان ، ثم إستطرد بخشونة:
-هانيا حكيتلي علي كل حاجة .. حكيتلي علي طلباتك و شروطك اللي عرضتها عليها مقابل انك تخرجها من تهمة انت لبستهلها اصلا ..بس اسمع مني انا بقي الكلام ده كويس اوي .. اذا كنت فاكر هانيا بقت مكسورة و لوحدها بعد موت ابوها تبقي غلطان ، انا لسا موجود ، و طول ما فيا روح و بتنفس مش هسمح لمخلوق يمس شعرة منها أو يأذيها .. هي بتكرهك و بتعتبرك عدوها ، عمر ما هيكون في تصالح بينكوا ، عمرها ما هتفكر تبص لواحد زيك اصلا و اظن انت فاهم قصدي كويس .. و دلوقتي هاتلي بنت اخويا يلا .. انا مش هتحرك من هنا الا بيها.
وقف "عاصم" في مواجهته صامتا ، و قد تصلبت عيناه فجأة مع أن تعبير وجهه ظل محتفظا بليونته ، ثم رد بسكينة أدهشت "توفيق":
-انا فاهم قصدك كويس اوي يا توفيق بيه .. و عارف ان الانسة هانيا بنت اخو حضرتك بتكرهني لمجرد اني رجعت حقي و حق ابويا اللي نهبه مصطفي بيه اخوك من عشرين سنة .. و عارف كمان انها جميلة .. و جميلة اوي كمان ، و ان الف راجل غني و من عيلة يتمناها رغم كل اللي حصل.
ثم تمهل للحظات ، و تابع و في عمق عينيه بريق صارم:
-بس حضرتك لازم تعرف حاجة مهمة اوي .. انا ماتعودتش احقق انتصار ناقص .. و الانسة هانيا هي اللي هتكمل الناقص في نظري.
و بلهجة هادئة و حازمة جدا قال بصراحة مطلقة:
-ايوه بنت اخوك عندي .. و هتفضل عندي لحد ما اقرر انا امتي تمشي.
عند ذلك نفذ صبر "توفيق"و إنقطع الخيط الرفيع الذي كان يمسك أعصابه ، فصرخ فيه قائلا و هو يهم بالإنقضاض عليه لولا أجساد أفراد الحراسة الضخمة التي منعته:
-مش هاسيبك ، و مش هاسيبهالك تعمل فيها ما بدالك .. هرجعها و لو لمست منها شعرة هقتلك .. قسما بالله هقتلك ، انا مابقاليش حاجة ابكي عليها.
إرتسمت إبتسامة خافتة باردة علي وجه "عاصم" قبل أن يقول بلهجة مهذبة:
-مع السلامة يا توفيق بيه .. حقيقي شرفتني بزيارتك.
و بعد أن نطق بهذه الكلمات ، إستدار علي عقبيه و مشي عائدا إلي منزله مخلفا وراءه "توفيق"بصياحه الغاضب و الهستيري ...
إجتازت "حنة" ردهشة الشقة المترفة التي إستأجرها لهما "مروان" بخطوات واسعة أقرب إلي الركض ..
دلفت إلي الغرف التي يتقاسماها و نظرت بلهفة و قلق نحو "مروان" الراقد بلا حراك فوق الفراش العريض ..
كان متعبا و يشعر ببوادر حرارة آثار الإنفلونزا المنتشرة بين البعض في تلك الأيام الشتوية القارصة ..
صدمها منظر العرق علي وجهه .. فالجو كان باردا جدا ..
إقتربت منه و جلست إلي جواره .. وضعت كفها علي جبينه .. كان ملتهبا ..
إرتعبت .. أعدت له كمادات الماء البارد و أحضرت له دواء مخفض للحرارة ، ثم وضعت يدها خلف عنقه و هي تحاول أن تجلسه ..
و لكنها عجزت .. فجسده الضخم المكدس بالعضلات كان كجبل مثبت بأوتاد ..
عضت علي شفتها السفلي بقوة و قربت فمها من أذنه هامسة:
-حبيبي .. اصحي .. اصحي عشان خاطري عايزة اديك الدوا !
إستجاب "مروان" لندائها و فتح عينيه بتثاقل .. حاول أن يجلس و هو يشعر بدوار حاد ، فتهدل علي ظهره مجددا و هو يئن من آلم جسده ..
بعد عدة محاولات و بمساعدة "حنة" له .. نجحت في جعله يبتلع الأقراص ، ثم بدأت تضع الكمادات علي جبينه و هو متمدد علي ظهره ، بينما تجلس بجواره ..
كان يرتعش من البرودة .. لحوالي الثلث ساعة بقيت تغير "حنة" الكمادات حتي إنخفضت حرارته من تأثير العلاج و الكمادات الباردة ..
كانت علي وشك القيام كي تجلب له مشروبا ساخنا ، إلا أنها فوجئت بيده القوية تطبق علي معصمها و تعيدها إلي جانبه مجددا ..
كان مغمض عينيه عندما سألها بصوته العميق المتحشرج:
-رايحة فين ؟؟
أجابته بهدوء:
-هروح اجبلك حاجة سخنة تشربها !
هز رأسه هامسا بفتنة غير مقصودة:
-لأ .. خليكي جمبي.
إبتسمت بحب و تمددت إلي جانبه و هي تنعم بالدفء الذي نشره جسده ، بينما إحتج "مروان" قائلا بتعب:
-انا قلتلك خليكي جمبي ، بس ماقلتش الزقي فيا كده .. قومي يا حبيبتي .. قومي اقعدي بعيد عني شوية احسن تتعدي مني.
تجاهلت "حنة" أمره ، بل إنضمت إلي صدره و إلتصقت به ليغدق عليها مزيدا من حبه ، بينما صاح بها بضعف حاد:
-حنة ! قلتلك قومي من جمبي.
هزت رأسها برفض قائلة:
-لأ .. مش هقوم .. انا معاك في اي حاجة يا حبيبي .. مش ممكن اسيبك ابدا.
-ايوه بس انتي كده هتتعبي.
قالت بإصرار:
-انا هفضل جمبك و مش هتحرك .. مش هاسيبك.
ضحكت عينا "مروان"و بتكاسل قال:
-انا تعبان ، مش قادر اتكلم .. يلا قومي و اسمعي الكلام.
بعناد قالت "حنة":
-لأ .. مش هقوم.
و لامست وجهه بحنان قائلة:
-انا كنت هموت من خوفي عليك .. ربنا يخليك ليا .. مش عارفة انت تعبت اوي كده ازاي !!
مد "مروان" يده بجهد و رفع خصلة شعر عن جبينها ، ثم ترك يده تنزلق تائهة علي وجنتها مداعبة حنجرتها ، ثم قال و هو يلهث إعياء:
-بعد الشر عليكي يا حبيبتي .. انشالله انا.
قطبت في قلق من تحول حالته ، فتهدجت أنفاسها و هي تسأله:
-مالك يا حبيبي ؟ انت كويس ؟؟
كان مغمضا عينيه نصف إغماضة و هو يقول لها:
-انا بحبك يا حنة !
أجفلت بقلق متفاقم و وضعت كفها علي صدره قائلة:
-و انا كمان بحبك .. مالك يا حبيبي ؟ حاسس بإيه ؟؟
لامس بأنامله ذقنها و قال بصوت متقطع:
-أ انا بـ بحـ بك ..
و سقطت يده إلي جواره و أغمض عينيه و صار بلا حراك ..
إتسعت حدقتيها في هلع و للفور راحت تصرخ باكية و هي تهزه بقوة:
-لأاا .. مروااان .. مرواااان لأااااا ..
عند ذلك إنفجر "مروان" ضاحكا ، فقد إنطلت عليها خدعته ، بينما أوقفت نحيبها لكنها لم تكف عن البكاء ..
نظرت إليه بعتاب جم و أولته ظهرها و كادت تنهض من جانبه ، فسارع هو إلي جذبها نحوه فصرخت به:
-اوعي سيبني .. اخس عليك بجد ازاي تعمل فيا كده ؟؟
كانت مقاومتها ركيكة ، فتغلب عليها بسهولة و هو يقول ضاحكا:
-خلاص يا حنة .. خلاص يا حبيبتي كنت بهزر معاكي .. خلاص بقي.
و أحاط خصرها بذراعه و شدها إليه .. فشعرت بأنفاسه تنتشر علي شكل مروحة عند رقبتها ..
جمحت عاطفتها تحت هذا الغطاء الحميمي .. فزحف الكري إلي أجفانها و غطت في النوم بأحضانه ...
علي الطرف الأخر ..
إستلقت "هانيا" بإسترخاء في المغطس المليء بالماء الساخن ..
كان الحمام بمثل جمال غرفة النوم .. المرايا تغطي مغظم الجدران ، و الأرض رخامية بلون الزبدة ، و المغطس عاجي ذي حنفيتين مصممتين علي شكل ثعبان ..
و الرفوف من حولها مكتظة بعلب البودرة و الكريمات المرطبة و سوائل الإستحمام و الصابون الفاخر ذا الرائحة النفاذة المنعشة ..
فرغت "هانيا" من حمامها .. وغادرت المغطس ..
تناولت منشفة من كدسات المناشف المخملية الدافئة بخزانة الحائط الصغيرة ..
جففت جسدها جيدا و إرتدت برنس الإستحمام الذي وجدته من ضمن هداياه .. لفت المنشفة الصغيرة حول رأسها علي شكل عمامة و عادت إلي الغرفة مجددا و هي تحس بإنتعاش هانئ يملأ مسامها و يغمرها بالعافية و السعادة - رغم الثورة العنيفة التي تعتمل بداخلها تجاه الوضع برمته - ..
نظرت "هانيا" إلي ساعة الحائط ، فوجدتها السابعة مساء ..
ما زال أمامها الوقت الكافي لتهئ نفسها قبل موعد العشاء .. حافت من البرودة التي لاقتها في الغرفة بعد حمامها الساخن ، فإتجهت نحو الخزانة مسرعة ..
توقفت تتفحص بعينيها الملابس و الفساتين .. جميع الأغراض مذهلة ، مبهرة الجمال .. و لكنها لا تتوافق مع ذوقها ..
فهي برغم مستواها الإجتماعي الرفيع و المتحرر ، إلا أنها تفضل الملابس المحتشمة ، و هو إبتاع لها أغراضا تناسب ذوقه هو !
عاودها الغضب من جديد ، لكنها سرعان ما كبحته و عادت تتفحص الخزانة مجددا لعلها تجد ما يناسبها ..
و بعد بحث طويل ، وجدت ضالتها أخيرا ..
إختارت ثوبا بسيطا جدا مسترسل حتي الأرض في خطوط ملساء دون أي زركشة ، حريري ذي لون ناري براق ، أكمامه طويلة ، أما فتحة الرقبة فقد كانت مستديرة منخفضة الصدر و الظهر ..
إرتدت "هانيا" الثوب و وقفت أمام المرآة تتأمل نفسها داخله ..
فوجدت أنه يليق بها تماما .. إذ أن قصته ذات فن رفيع ، كما أنه يظهر شكل جسمها النحيف و الممشوق ..
إتجهت "هانيا" صوب منضدة الزينة ، فمساحيق التجميل و العطور كانت موجودة أيضا ..
صففت شعرها أولا و تركته ينسدل أمواجا شقراء علي كتفيها ، ثم وضعت حمرة فاقعة علي شفتيها ، و كحلت عينيها و جفنيها ببراعة فائقة ..
و أخيرا إختارت عطرا فرنسيا جذابا و نثرت منه حول عنقها و علي بعض خصلات شعرها ..
وقفت بثبات تتأمل مظهرها برضا .. إنها صارخة الجمال ، و لكن جمالها كالعادة لم يكن مصدر سعادتها إطلاقا ..
بل كثيرا ما سبب لها المشاكل ، و ها هي الأن وقعت بأخطر مشكلة في حياتها و كان لجمالها السبب الأكبر هنا ..
تنهدت مطولا و هي ترسخ بأعماقها أنها في أزهي حالاتها لتحصل علي دفعة كبيرة من الثقة بالنفس هي بأمس الحاجة إليها ..
خرجت "هانيا" أخيرا من الغرفة التي خصصت لها و مشت بحذر تجاه الدرج العريض الذي يربط الطابق العلوي بالطابق الأرضي ..
نظرت حولها بإعجاب صادق .. فقد كان البيت كبيرا جدا و جيد الصيانة .. دلائل الثراء واضحة في كل مكان و زاوية .. الثريات اللامعة ، و التحف الفنية الثمينة ، و الديكور العاجي المصقول .. كل شيء رائع و متكامل هنا ..
تعثرت "هانيا" و هي تهبط الدرجات ، فثقتها الجديدة في ذاتها وليدة التحدي ، تخلت عنها للحظات عندما رأت "عاصم" جالسا في البهو المقابل للدرج يحتسي القهوة و هو يتامل حديقة قصره القريبة من الشرفة الداخلية ..
إنتبه "عاصم" إلي وقع خطواتها علي الدرج ، فإلتفت إليها و نهض واقفا عندما رآها تقترب منه ، بينما أحست "هانيا" بصدغيها تنبضان بفعل هذا التوتر المفاجئ الذ إحتلها ..
و لكن عليها أن تضبط أعصابها أمامه قدر المستطاع ..
لاحظت "هانيا" أنه كان يرتدي قميصا ناصع البياض ، يبرز لونه الأسمر البرونزي .. و كان شعره ممشطا بعناية و قد بدا لامعا ، أما عينيه البندقيتين فكانتا تراقبانها بتفحص و إعجاب ..
أخذت "هانيا" نفسا عميقا ، ثم إبتلعت ريقها .. ها هي الأن مستعدة لمواجهته ..
لكنها إندهشت عندما أمسك يدها بيده الغليظة و رفعها إلي فمه مقبلا إياه برقة بالغة ، ثم نظر إليها و قال في إعجاب:
-دلوقتي مش ممكن يكون في حاجة في الدنيا تساوي جمالك .. ماكنتش متخيل إن الهدوم هتبقي حلوة عليكي اوي كده !
إغتصبت "هانيا" إبتسامة باردة و أجابته:
-شكرا لذوقك و لكرم ضيافتك ليا .. و يا ريت تكمل جميلك و تسمحلي امشي بعد العشا ، انا خلاص بقيت كويسة خالص.
تجهم وجهه فجأة ، لكنه عاد يقول بلهجة هادئة ناعمة:
-شكلك جلو .. و انتي جميلة جدا كالعادة .. لكن في حاجة ناقصة.
قطبت "هانيا" متعجبة ، لم تفهم من عبارته ماذا يعني !
ما الذي يدور خلف قناعه الأسود ؟ .. كانت عيناه تحدقان في فستانها المتوهج ، تحديدا كان ينظر بقوة إلي فتحة الفستان الصدرية ..
أشعرها ذلك بأنه يتعمد أثارتها بجرأة لا مبالية ، بينما سحبها من يدها خلفه و مشي بها متجها إلي غرفة مكتبه .. حيث ذاك البساط البني الفاتح بفترش الأرض ، و علي الجدران رفوف بيضاء مليئة بالكتب الضخمة و المجلدة .. كانت هناك أيضا مدفأة ضخمة تلفت النظر من حجر الرخام تعلوها ظهرية نحاسية تعكس الوان النار الفاقعة و المتبدلة ..
فتنها المنظر كليا ، بينما توجه "عاصم" نحو المكتب و فتح أحد أدراجه ، و أخرج علبة مخملية فاخرة و عاد إليها ..
لم تتكلم "هانيا" .. كان نظرها مركز علي العلبة في يده .. و عندما فتحها "عاصم" ببطء ، رأت بريق الماس يشع تدريجيا حتي تبينت المحتويات كلها ..
كان عقدا جميلا ثمينا يستقر علي قاعدة غلفت بقماش الساتان ، لم تكن قد رأت لذلك العقد مثيلا ، فقد كانت الأحجار التي زينته من الياقوت الأزرق النادر ، و حوله فصوص من الماس تشع ببريق يخلب الأبصار ..
بالإضافة إلي قرطين مشابهين ، و محبس ذهبي بسيط مرفق بخاتم ثمين زينه صفا عريضا من الأحجار الكريمة المبهرة .. كان طقما كاملا متكاملا ..
إقترب "عاصم" منها فجأة ، فتراجعت بسرعة إلي الوراء و هي تهتف بحدة:
-ممكن افهم في ايه بالظبط ؟؟
بدأت شرارة تلمع في عينيه البندقيتين ، فحدجها بإبتسامة رقيقة قائلا:
-قلتلك في حاجة ناقصاكي .. الفستان عليكي يجنن ، بس لما نلبسك الطقم ده.
و أشار لها بعلبة المجوهرات متابعا بنعومة خبيثة:
-كل حاجة هتبقي كاملة .. دي شبكتك علي فكرة .. انا اخترتلك الياقوت الازرق بلون عنيكي .. اتمني يكون ذوقي عجبك المرة دي كمـ آا ..
-انت مجنون !!
صاحت مقاطعة بعنف و قد غاض الدم من وجهها فجأة ، ثم قالت بصوت واهن مذعور:
- انا مش هتجوزك .. انت مش عايز تفهم ليه ؟ انا مش هتجوزك .. مش هتجوزك !
و ساد صمت لم يتخلله سوي صوت أنفاسها العنيفة المثقلة بالغضب ، و هو كان يراقبها في صمت ملاحظا أقل رد فعل منها و كأنه يختبر ثباتها و إندفاعاتها ..
ثم قال بهدوء وثقة:
-هتتجوزيني يا هانيا .. انا عايزك ، بأي تمن ، ماتنسيش انك في بيتي ، يعني علي ارضي .. صحيح انا قلتلك قبل كده ان الشرف عندي خط احمر مقدرش اتخطاه ، لكن لو فضلتي رافضة عرضي ده هضطر اجبرك تقبليه بإرادتك الكاملة .. بس ما اتمناش اننا نوصل للنقطة دي .. صدقيني انا مش عايز آذيكي او اجرحك.
قفز الإزدراء إلي ملامحها بلمح البصر ، و قالت بقسوة عنيفة:
-احقر منك ماشفتش في حياتي و لا هشوف .. يعني بتهددني بصراحة و بعدين بتقولي مش عايز تجرحني و لا تأذيني ؟ .. انت جنسك ايه بالظبط ؟ انت مش بني ادم .. انت منافق اوي !
لفظت جملتها الأخيرة بصوت غاضب مختنق لفرط عصبيتها ، بينما إبتسم بسخرية مريرة قائلا:
-انا عارف انك بتكرهيني .. دي حاجة ماعنديش شك فيها .. بس قدرك كده ، و مش هتعرفي تغيريه .. هنتجوز يا هانيا.
قالت بشراسة و كأن شيطانا يدفعها لإثارة غضبه الساكن:
-انا مستحيل اتجوزك .. فاهم يعني ايه مستحيل ! مستحيل اسمحلك تلمسني او تقرب مني اصلا ..انا عندي اموت و لا اني ارتبط بيك بأي شكل من الاشكال ، انا بكرهك ، بكره اللحظات الي بشوفك فيها و اي حاجة تخصك من قريب او من بعيد.
إرتسم تعبير بشع علي وجهه ، و إشتعل الغضب كنيران بندقية في عينيه الحادتين مما جعلها تنكمش و تتراجع إلي الوراء بتوتر ..
رمي علبة المجوهرات من يده بإهمال فسقطت و تناثرت القطع الثمينة فوق أرضية المكتب ..
فيما قطع "عاصم" المسافة بينهما بخطوتين واسعتين و أمسك بذراعيها قبل حتي أن تفكر بالفرار ، فأحست بالألم عندما إنغرزت أصابعه القاسية في بشرتها و إنتابها ذعر شديد عندما أدركت خطورة موقفها ..
وقع بصرها علي فمه القاسي و هو يقول:
-للأسف انتي مضطرة تقبلي حقيقة اني هربطك بيا قريب اوي .. مضطرة تتحمليني كمان .. انا مش ناوي اسيبك ابدا ، انتي زي هدية او مكافأة كده كان لازم اخدها من زمان بعد اللي ابوكي عمله فيا.
حاولت "هانيا" بشدة أن تتملص من قبضته الحديدية دون جدوي ، فقالت و صدرها يخفق بسرعة ملحوظة:
-نجوم السما اقربلك مني .. عمي مش هيسكت زمانه بيدور عليا و هيلاقيـ آا ..
قاطعها بضحكة خشنة قاسية ، ثم أمسك وجهها بإحدي يديه الكبيرتين و عن قصد أجبرها علي النظر إلي الندبة في وجهه ، بينما إختفت كل شجاعتها و أحست بالنفور من قربه ، من لمسة يديه ، بل و من النفور لإعتقادها السابق أن وجهه كان أجمل وجه رأته .. رغم خطوط التشوه الغائرة بالجانب الأيمن من وجهه ..
نعم كان وسيما .. و قاسيا ..
فيما قال بصوت جمد الدماء بعروقها:
-عمك ! عمك كان هنا من شوية .. كان متأكد انك عندي و انا ماكدبتش عليه ، قولتله انك هنا .. لكن للأسف ماقدرش يعمل حاجة و لا هيقدر لا هو و لا غيره .. انتي بقيتي ملكي.
صرخت به بعصبية:
-انا مش ملك حد.
مط شفتيه متأسفا علي عنادها و قال:
-انا كنت بحاول اعاملك كويس عشان الحياة بينا تبقي سهلة .. لكن انتي اختارتي ماتتعاونيش معايا .. براحتك مافيش مشكلة بالنسبة لي طالما اللي انا عايزه في كل الاحوال هيحصل.
إرتسم الذعر في عينيها و إنتفض جسدها بين ذراعيه بعنف ، و عبثا حاولت أن تحرر وجهها من قبضة يده القوية ، و بجهد تلوت بوجهها يمنة و يسرة حتي إستطاعت أن تنشب أسنانها اللؤلؤية بلحم كفه في قوة شرسة ..
صرخ "عاصم" بألم و أرخي قبضته عنها مطلقا شتيمة مختنقة .. فهربت "هانيا" منه و راحت تتعثر علي الأرض الرخامية الملمعة ..
أخذت ترتقي الدرج العريض الذي بدا لها بلا نهاية ، و لم تستطع أن تتأكد من مصدر الدوي في أذنيها .. أهي خفقات فلبها ؟ أم وقع قدميه خلفها ؟؟
وصلت إلي غرفتها متقطعة الأنفاس و أغلقت الباب من خلفها بإحكام ، ثم إستندت بظهرها إليه ..
سرت قشعريرة من مفرق رأسها حتي قدميها و صارت ترتعش في كل أنحاء جسدها ..
تحاملت علي نفسها حتي وصلت إلي الفراش .. فإستلقت فوقه و راحت تجهش بالبكاء المُر …