الجزء 8: و هربت من قبضته

لدقيقة كاملة تقريبا ، ظلت "هانيا" تحدق ذاهلة في "عاصم" الذي وقف أمامها هادئا واثقا واضعا كلتا يديه في جيبي سرواله ..
كان يبتسم إبتسامة إستفزت كل ذرة من مشاعرها ، بينما لمح إهتزاز طفيفا في عينيها الزرقاوين ، و كأن رؤيته المفاجأة قد مست شيئا من دفاعتها مما جعل إبتسامته المستفزة تتسع أكثر ..
قطع الضابط هذا الجو المشحون بالتوتر و العداء عندما نهض قائلا:
-طيب انا هسيبكوا شوية مع بعض .. عن اذنكوا.
و غادر المكتب ليتيح لهما فرصة الكلام بحرية ..
فيما ظلا لثوان كل واحد منهما يقف في مواجهة الأخر ، كالنار .. كانت تشتعل "هانيا" .. و كالجليد .. كان "عاصم" هادئا و باردا ..
إلي أن قالت "هانيا" بصوت مختنق لفرط حنقها:
-ليك عين تواجهني يا حقير ؟ جاي لحد عندي هنا عايز ايه ؟ عايز تشمت و تتشفي فيا ؟ اشمت براحتك .. بس يكون في علمك ، انا هخرج من هنا ، عمي هايخرجني و انت لوحدك اللي هتترمي مكاني في السجن.
فشلت محاولتها الدفاعية الشرسة حين قهقه "عاصم" بسخرية أجفلتها بتوتر ثم قال في رقة هازئة:
-انتي ماتعرفيش طريقتك العدوانية دي عاملة فيا ايه ! من زمان اوي محدش اتحداني و وقف قصادي كده !!
تألقت أسنانه الناصعة وسط بشرته البرونزية ، فيما إستدار و خفض جسمه الصلب جالسا برشاقة فوق الآريكة الجلدية السوداء ..
ثم تنفس بعمق و هو يبتسم متجاهلا تلك النظرة النارية التي رمته بها ، ثم تأملها في هدوء من رأسها إلي أخمص قدميها قائلا بصوت عذب:
-انا جاي اعرض عليكي اتفاق.
أزعجتها نظراته المتفحصة لها و المفعمة بالجرأة ، و شعرت أنه مسرور بتلك الهيئة المزرية التي ظهرت عليها ، لكنها هزت رأسها في عصبية و قلصت قبضتيها في غضب قائلة بصرامة:
-انا و انت مش ممكن نتفق علي حاجة يا .. يا عاصم بيه .. مستحيل.
تجاهل عبارتها اللاذعة و قال في تكاسل:
-انا اقدر اخرجك من هنا بمنتهي السهولة يا هانيا.
رفعت "هانيا" حاجبيها في دهشة ، و إندفعت تسأله حائرة:
-ازاي ؟ و ليه ؟ بعد ما رمتني هنا بإيدك هطلعني تاني ! ليه ؟؟
بدا قريرا و هو يتنهد مبتسما في إنتصار ، ثم أجابها بنعومة خبيثة:
-اوعدك .. هخرجك من هنا ، لو نفذتي شروطي اللي هقولك عليها دلوقتي.
و هنا تجمدت "هانيا" بمكانها .. إتضح لها الأن السبب الذي من أجله جاء إليها ، و سينطق بالكلمة في أي لحظة ...


إنكشف أمرهما ، وضبطا عرايا ..
ظلت "دينار" لعدة دقائق علي حالة الصدمة المصحوبة بالذهول و عدم التصديق و هي تحدق بذلك المنظر المخزي و المشين بكل المقاييس ، حيث كان إبنها و خادمتها فوق الفراش المبعثر بفوضوية مما يفسر مدي شراسة المعركة التي خاضاها معا ليلة أمس ..
أفاقت "دينار" من صدمتها بصعوبة بالغة ، ثم ركضت صوب إبنها صارخة و هي تضرب ظهره بقضبتيها بقوة عندما وصلت إليه:
-يا سافل يا حيواان ، عملت ايه ؟ الله يلعنك يا كلب.
بدون مقدمات فتح "مروان" عينيه فجأة علي إثر صراخ أمه الهستيري ، لهنيهة أستغرب ما يدور حوله ، ثم هب جالسا كالمصعوق و هو يحاوط جسد "حنة" العاري بذراعيه و حاول تغطيتها بالملاءة ، فيما أدار رأسه لمواجهة أمه ، و قال بتوتر متلعثما:
-مـ ما ماما ! خـ خليني افهمك انا آاا ...
-تفهمني ايه ؟؟
و هنا إستيقظت "حنة" فجأة بدورها علي إثر صياح "دينار" المجلجل ، فإنتفضت مذعورة و شدت الملاءة محاولة إخفاء ما ظهر منها ترتجف خوفا و رعبا في جميع أنحاء جسدها ..
لقد إنكشف المستور ..بسبب إنغماسها في النوم المغر بأحضان "مروان" أسوأ ما كانت تخشي حدوثه وقع الأن علي حين غرة دون سابق إنذار ، و لا شك أن زوجها سيعرف و الأن بوجودها طوال الليل في غرفة "مروان" و عندها لن يتورع أبدا عن قصف عنقها و لن يقوي علي ردعه أي مخلوقا كان ..
لا شعوريا راحت "حنة" تلطم خديها باكية و هي تحدق بـ"دينار" التي لا تزداد إلا غضبا و إنفعالا ..
بينما صرخت "دينار" بوجه إبنها في عنف:
-عايز تفهمني ايه يا كلب ؟ ابني في اوضة نومه علي سريره مع الخدامة و عريانين ! عايز تفهمني ايه اكتر من كده ؟؟!
تساقط الغطاء حتي أسفل خصر "مروان" مكشفا عن صدره العاري النامي العضلات ، فيما حاول تكوين جملة مفيدة في أوج إرتباكه المتفاقم فقال بنبرة مرتعشة:
-انا و حنة بنحب بعض يا ماما !
لوهلة أصيبت "دينار" بالخرس التام .. فلو قال أنه يحب فتاة علي سطح القمر لما بدت أكثر دهشة !
لكنها عادت تصرخ فيه و قد تحول وجهها إلي لون قرمزي ، كما كانت عيناها تتوهجان بلهيب الغضب:
-حب ايه يا سافل يا قذر ؟ وصل بيك الاستهتار للدرجة دي ؟ و مع مين ؟ مع الخدامة يا حيوان ؟؟!
ثم زاغت بعينيها و قالت بشحوب و هي تغطي فمها المرتعش بكفيها:
-ده لو جوزها عرف ! هايقتلك و يقتلها .. الله يلعنك ، الله يلعنك.
ثم دارت حول الفراش راكضة نحو "حنة" و بمنتهي القسوة و القوة ، مدت يدها و قبضت علي خصيلات شعرها المشعث ، ثم إنتزعتها إنتزاعا من فوق الفراش و راحت تموج بها في الهواء بوحشية و هي تهتف بإهتياج وسط صراخ "حنة" الحاد:
-اه يا حقيرة يا سافلة .. سلمتيله نفسك ، مرغتي شرفك في التراب يا واطية ، فضحتي نفسك و ضعتي ! و يا ريتك ضعتي لوحدك انما ضايعتي ابني معاكي يا ****.
ثم سددت لها صفعة عنيفة صرخت "حنة" بألم علي إثرها ، فصاح "مروان" غاضبا و هو يرتدي سرواله الداخلي من تحت الغطاء ليستر عريه ، ثم ينهض متجها نحوهما:


-ايه اللي بتعمليه ده يا ماما ! سيبيها.
و إلتقط الملاءة من فوق الفراش ، و إجتذب "حنة" من معصمها بقوة ، ثم لف جسدها العارٍ بالملاءة ، و أوقفها خلف ظهره ليحميها من بطش أمه العنيف ، ثم قال بصرامة و دون أن يطرف له جفن:
-اوعي تاني مرة تمدي ايدك علي الست اللي هتبقي مراتي.
تلقت " دينار" صدمة أعنف بكثير هذه المرة ، فلم تشعر بنفسها إلا و هي تصفع "مروان" بعنف هو الأخر ، ثم تنشب أظافرها الحادة في صدره صارخة بهسترية:
-انت اتجننت يا كلب ! يا حيواان ، ربنا ياخدك و يريحني منك ، عملنا فيك ايه عشان تعمل فينا كلنا كده ؟ عملنا ايييه ؟؟!
في تلك اللحظة ، أتت "رضوي" مهرولة بعد أن تناهي ألي سمعها أصوات عالية تنبعث من العلية الأولي ..
تطلعت لاهثة في الوجوه الثلاثة ، محاولة إستيعاب ذلك المنظر الغريب علي الإطلاق ، ثم شهقت مرتعدة و حبست أنفاسها برئتيها عندما إستطاعت تفسير الأمر ..


-شروط !!
هتفت "هانيا" مستنكرة و تابعت بصوت غاضب محتد:
-و انت بقي جاي متوقع مني اقبل بشروطك ! ماتفتكرش انك كسرتني ، و الله لو لفوا حبل المشنقة حوالين راقبتي عمري ما هاوطيلك راسي.
و هنا قفز قلبها حين فوجئت بشرارة خطرة تندلع في عمق عينيه ..
لكنها بقيت تحافظ علي ثباتها ، بينما نهض من مكانه فجأة و تقدم نحوها ببطء و علي وجهه تعابير الجمود ..
كتمت "هانيا" رجفة الذعر التي إعترتها .. و تساءلت عن نوع الإنتقام الذي سيلحقه بها هذه المرة ؟ .. لكنها سرعان ما إنذهلت من إبتسامته العريضة التي أعقبها بضحة عالية و هتاف مرح:
-انتي قطة متوحشة فعلا.
ثم أضاف و هو يتفرس في ملامحها الرقيقة الغاضبة:
-عنيدة .. و جميلة كمان !
تعجبت من سلوكه المعقد ، فإرتجفت من الحيرة و قطبت في غضب متحفز ..
بينما أخرج من الجيب الداخلي لسترته السوداء الفاخرة علبة سكائره المصنوعة من البلاتين ، و عندما قدم لها سيكارة هزت رأسها بأباء صارم قائلة:
-مابدخنش.
و تابعت مستهجنة:
-انا مش هنفذ و لا شرط من شروطك يا عاصم بيه .. امشي احسنلك و بلاش تضيع وقتك.
راقبته و هو يشعل سيكارته من الولاعة الذهبية التي أضاءت جانب وجهه المشوه ، فبدا الجانب الأخر أكثر سمرة و صرامة ..
فيما سحب نفسا عميقا من السيكارة و نفثه عموديا صوب وجهها ..
فسعلت في غضب و هي تسمعه يقول بصوت عميق و ناعم:
-هتنفذي كل شروطي يا هانيا ، ماعندكيش اختيار تاني .. انتي محتاجالي .. رقبتك تحت رجلي.
إشتعلت بالغضب بفعل الطريقة التي أطلق فيها الكلمة الأخيرة ، و خرج من فمها الكلام قويا عنيفا:
-يعني بتعترف انك ورا كل اللي انا فيه ده ! حقيقي انك بني ادم بجح و حقير و جبان ، يا ريت ترجع للحواري اللي اتربيت فيها احسن مش لايق عليك المظهر الاجتماعي المحترم يا .. يا عاصم بيه.


أهداها إبتسامة بسيطة لا تخلو من البرود ، لكنها أحست بغضب شديد يتعاظم بداخله و هو يحاول السيطرة علي نفسه ..
بينما قال بنبرات حادة مشذبة لسعتها كرياح باردة:
-ماتتصوريش انتي بتشجعيني أد ايه بإسلوبك ده علي تنفيذ كل اللي في دماغي .. في يوم هتندمي علي كل كلمة قولتيهالي دلوقتي .. لكن انا مش هندم علي اي حاجة عملتها .. او لسا هعملها فيكي !
إنكمشت داخليا ، و كانت مرتاعة من هول كلماته ، لكنها أدركت أنه من الخطر إظهار رعبها خشية أن يستضعف موقفها أكثر ..
تابع كلامه قائلا بإقتضاب بارد:
-عندي شرطين .. لو قبلتي تنفذيهم هخرجك من هنا حالا.
-هتخرجني ازاي ؟؟
-بنفس الطريقة اللي جبتك بيها هنا.
بدا شديد الثقة و هو يتكلم ، كما بدا أنه يعي معني كلامه جيدا ..
فيما إستجمعت "هانيا" قوتها لتتبدل نظراتها المتوترة بنظرات حادة و هي ترجع خصلات شعرها للخلف و ترفع ذقنها بشموخ محاولة أن تبدو كإمرأة قوية ، و بلهجة خشنة سألته:
-و ايه هما الشرطين ؟؟
تألقت عينا "عاصم" في ظفر و تنهد بعمق و هو ينظر إليها من أعلي إلي أسفل بتسلية ..
بينما تأهبت بقلب واجف و أطراف باردة لسماع شرطيه .. !

*******************

أدارت "رضوي" مقبض باب غرفة والدتها و ولجت دون إستئذان .. فوجدتها تجلس متهدلة فوق مقعد أثري مذهب ساندة رأسها المحنية بين يديها المرتعشتين و تبكي بحرارة ..
طغت علي "رضوي" موجة من العطف المتأثر ، فركضت تركع عند قدمي أمها و تواسيها قائلة:
-ماما .. بس كفاية عشان خاطري .. كفاية ماتعمليش في نفسك كده ، ما انتي عارفة مروان و تصرفاته الطايشة.
ثم تابعت بلهجة غاضبة محتدة:
-هو صحيح غلط غلطة كبيرة و مقرفة كمان ، لكن اللوم هنا يقع الاول علي السافلة اللي طاوعته و رضيت توسخ شرفها و تخون جوزها.
صدمت "رضوي" حين رفعت أمها رأسها و رأت الأنهيار يهدل تقاسيم وجهها ..
بينما كانت "دينار" خائرة العزيمة و غارقة في التعاسة إلي أقصي درجة و هي تقول بصوت متحشرج ممزوج ببكائها المرير:
-خلاص .. خلاص البيت اتخرب من يوم ما توفيق سابه .. اخوكي ضاع ، و الدور هايجي عليكي انتي كمان ، و انا ربنا ياخدني و يريحني من اللي انا فيه ده بقي ، ماعدتش قادرة استحمل خلاص.
ثم راحت تهز رأسها للجانبين بلا وعي ، فوضعت "رضوي" ذراعها علي كتفها و هي تقول بلطف محاولة تهدئتها:
-يا ماما عشان خاطري اهدي .. مافيش حاجة ضاعت ، احنا بس بنمر بمحنة صعبة ، لكن كل جاجة هترجع زي الاول و احسن .. هو مـروان دلوقتي ساب البيت اه لكن مسيره يرجع و بابا كمان اكـيد هيرجـع.
عند ذلك ، أوقفت "دينار" نحيبها ، و إلتفتت تنظر إلي إبنتها بإهتمام ، ثم شخصت بعينيها و هي تسألها متوجسة:
-مروان ساب البيت ؟؟
أومأت "رضوي" رأسها و هي تقول في إرتياب متعثر:
-ايوه .. مـ مشي !
صاحت "دينار" برعب:
-مشي لوحده ؟؟


فأجابتها "رضوي" بتردد:
-لأ ... خد حنة معاه.
إزداد وجه "دينار" شحوبا في تلك اللحظة و إنهارت باكية من جديد و هي تردد:
-يادي المصيبة ، يادي المصيبة .. خدها معاه ! ده جوزها لو عرف هيقتلها و هيقتله .. هيقتلهم هما الاتنين ، و لو ماعملهاش هو اهلها مش هيسكتوا .. يادي المصيبة .. ليه يا ربي بيحصل فيا ده كله ؟ انا عملت ايه لكل ده ؟! .. جوزي يسيبلي البيت و يمشي لا يعرفني عنه حاجة و لا يسأل عليا ، و ابني طايش طول عمره و اخرتها يغلط مع الخدامة ! ليه كده يا رب ؟؟!!
إكتأبت "رضوي" لمرأي والدتها علي تلك الحالة ، فراحت تربت علي كتفها لعلها تنجح في التخفيف عنها و لو قليلا ...


كان الجو داخل سيارة "مروان" متورما بنبضات خافقة ثقيلة لا علاقة لها إطلاقا بهدير المحرك ..
بينما كانت "حنة" تجلس في المقعد الأمامي إلي جانبه تفرك كفيها الباردين في توتر و عصبية ..
لقد قطعا أميال بين شوارع القسم الغربي للمدينة الحديثة في صمت مطبق ، إلي إندفعت "حنة" علي الرغم منها و كسرت التوتر الرهيب ، فسألته بصوت مرتجف:
-هنعمل ايه دلوقتي بقي ؟؟
-في ايه ؟؟
قالها "مروان" بهدوء بارد ، فإستوت "حنة" في مقعدها و هي تهتف بإستنكار:
-في المصيبة اللي وقعنا فيها .. دينار هانم شافتنا مع بعض ، و الست رضوي كمان ، يعني خلاص سرنا انكشف و اتفضحنا و اكيد عبيد زمانه عرف هو كمان و هنروح فيها !
ركن "مروان" سيارته إلي جانب الطريق ، ثم تنهد بعمق و إلتفت لينظر إليها ، ثم قال بجدية:
-ماما و رضوي مافيش قلق من ناحيتهم .. مش ممكن يفتحوا بؤهم بكلمة فماتقلقيش .. و حتي لو جوزك الزفت ده عرف كل حاجة .. مش هيقدر يمس شعرة منك طول مانتي معايا.
هزت "حنة" رأسها بحركة منفعلة و هي تقول بجزع:
-انا مش خايفة علي نفسي .. انا خايفة عليك انت.
بان الصدق في عينيها و هي تستطرد:
-انت عارف ان انا دلوقتي بقيت خطر عليك ؟ .. و انت لو جرالك اي حاجة انا هموت .. ماقدرش اعيش منغيرك.
إبتسم لها بدفء ، ثم قال بلطف:
-متخافيش يا حنة .. اطمني خالص ، كويس اصلا ان كل ده حصل.
علقت "حنة" بدهشة مفغرة فمها:
-كويس ان كل ده حصل !!
أومأ رأسه مبتسما ، ثم أجابها بصرامة:
-انا هتجوزك .. هخلي عبيد يطلقك و هتجوزك يا حنة .. هتبقي مراتي قدام الناس كلها و هايعيشك ملكة وسطهم .. مش هتبقي خدامة خلاص بعد انهاردة .. هخلي الكل يحكي و يتحاكي عليكي ، هخليهم يقولوا هي دي حنة هانم اللي وقعت مروان علام في شباكها و خليته تابع ليها و غرقان في حبها.
نظرت إليه بإنفاس مبهورة .. كانت مأخوذة بسحر كلماته ..
كما شعرت بشعور لذيذ إنتشت له جوارحها ، و تفتحت نفسها ، و ذاب الهم في صدرها ، و نسيت الوجود بمشاغله و أحزانه و فكرت فيه هو فقط
و هو جالسا بالقرب منها يخبرها عن خططه المستقبلية لهما .. و تساءلت .. أيعقل هذا ؟ أيعقل ان تتحول من خادمة نكرة إلي سيدة راقية ؟
و أن يتخذها "مروان" سليل الحسب و النسب زوجة له ؟ ..
تأملت لبرهة الصورة الإجتماعية المرموقة التي لاحت بذهنها للتو حيث رأت نفسها داخلها معه بعد عدة أعوام زوجين سعيدين ..
لهما أولادا كُثر يزقزقون بفرحٍ حولهم ، بينما يراقبان هما مراحل نموهم بشغفٍ و حب ..
أفاقت من تأملاتها فجأة ، و عادت تنظر إليه مشدوهة ..
ترقرقت الدموع بعينيها و هي تقول بصوت مبحوح:


-امنية حياتي اني ابقي مراتك .. و اعيش اللي باقي من عمري جمبك و اشيل جوايا ولادك .. ده حلم ياما حلمت بيه .. بس خايفة ! .. لأ مرعوبة ليقلب بكابوس و تروح انت مني .. انا خايفة عليك اوي.
تناول "مروان" يدها و رفعها إلي فمه ليقبلها ، فكاد قلبها يقفز سرورا من ملمس شفتيه الدافئه لباطن كفها ..
منحته إبتسامة خجولة ، مهتزة و مرتبكة ، فيما قال لها برقة يطمئنها:
-متخافيش يا قلبي .. احنا لبعض و محدش هيقدر يفرقنا ابدا ، كل حاجة هتبقي كويسة ، اوعدك.
ثم ضغط علي يدها بحنان قبل أن يضعها علي المقود تحت يده و ينطلق بسيارته مجددا و هو يقول في مرح باسما:
-دقايق و هنوصل البيت يا حبيبتي .. بيتنا.


دخلا إلي القسم كلا من "توفيق" و السيد "شركس ناصف" المحامي ، و إتخذا طريقهما إلي مكتب وكيل النائب العام ..
دلفا إلي المكتب بعد أن حصلا علي أذن الدخول ..
إستقبلهم "طارق الحسيني" بإبتسامة ودودة .. و بعد تبادل التحيات ، جلسوا جميعهم في شبه مثلث ، إذ كان "طارق" جالسا مترأس مكتبه ، بينما "توفيق" و "شركس" يجلسان في المقعدين المقابلين لمقعده ..
بدأ السيد "شركس" الحديث قائلا و هو يمد يده عبر المكتب لـ"طارق" ببعض الأوراق:
-ده توكيل محتاجين عليه امضة الانسة هانيا مصطفي علام يا طارق باشا .. عشان اقدر اترافع في القضية بشكل رسمي.
تناول "طارق" التوكيل من يد المحامي و تفحصه لهنيهة ، ثم ألقاه فوق المكتب بحركة هزيلة قائلا:
-قضية ايه يا استاذ شركس ؟؟
قطب "شركس" مستغربا و أجابه:
-قضية المخدرات اللي ظبطوها في مخزن المنصورية بتاع الانسة هانيا !
بصوت متكاسل و إبتسامة باهتة أجابه "طارق":
-خلاص يا متر .. ما عادش في قضية.
و هنا تجهم وجه "توفيق" الذي إندفع يقول بنزق:
-مافيش قضية ! يعني ايه مافيش قضية مش فاهم ؟؟!!
حول "طارق" بصره تجاهه و أجابه بهدوء:
-قسم تحاليل المعمل الجنائي بعت تقريره انهاردة الصبح .. العينة اللي اخدناها من المضبوطات ماطلعتش هيروين و لا طلعت ايه حاجة ليها علاقة بالمواد المخدرة.
-اومال طلعت ايه ؟؟
سأله "توفيق" مستهجنا ، فأجابه "طارق" ببساطة:
-طلعة عينة سكر .. الاكياس اللي ظبطناها ماكنتش غير سكر بودرة.
إتسعت عينا "توفيق" في حنق ، و هتف منفعلا:
-سكر بودرة ! يعني ايه ؟؟
هز "طارق" رأسه في بلاهة قائلا:
-سكر بوردة يا توفيق بيه .. يعني سكر مطحون.
ثم أضاف بإبتسامة مصطنعة:
-احنا طبعا بنعتذر عن الملابسات اللي حصلت لكن زي ما انت اكيد عارف دي اجراءات امنية و الشبهة الجنائية في المواقف اللي زي دي محظورة و كان لازم نأدي واجبنا .. و عموما احنا اعتذرنا للانسة هانيا و فهمناها اننا كنا مضطرين نتصرف بالطريقة دي علي الاقل لحد ما تقرير المعمل الجنائي يقول كلمته.
صر "توفيق" علي أسنانه بغضب مكتوم ، ثم رفع رأسه و عاد يسأله بجمود مقتضب:
-طب فين هانيا يا حضرة الظابط ؟ اقدر اخدها معايا امتي ؟؟
-الانسة هانيا مشيت من حوالي ساعة و نص تقريبا.
هب "توفيق" واقفا و هو يهتف بعصبية:
-مشيت ! مشيت ازاي منغير ما تكلمني !!
هز "طارق" كتفيه بلا إكتراث قائلا:
-ماعرفش و الله .. كل اللي اعرفه انها مشيت بعد اما افرجنا عنها ، اكيد مش هنحجزها عندنا بعد ما ثبتت براءتها.
إهتز جسد "توفيق" غضبا و إنفعالا ، فضرب بقبضته بقوة علي المكتب و هو يصيح:
-انا مش مصدق الكلام ده ! و مش هتحرك من هنا الا و بنت اخويا في ايدي و الا مش هيحصل طيب !
مد "طارق" جسده إلي الأمامه ، و أشار له بسبابته محذرا بلهجة حادة:
-حاسب علي كلامك يا توفيق بيه و اعرف انت بتقول ايه ، بنت اخوك احنا افرجنا عنها بعد ما اتأكدنا من براءتها و اكيد مش هنمشي وراها مخبربن يرصدوا كل تحركاتها !!


نهض المحامي "شركس" بدوره و إقترب من "توفيق" ثم وضع يده علي كتفه و ضغط عليه برفق و هو يقول بلطف حازم:
-خلاص يا توفيق بيه اهدا .. طارق باشا معاه حق و اكيد الانسة هانيا هتكلمك انهاردة و هتقولك هي فين ماتقلقش.
زمجر "توفيق" من بين أسنانه:
-في حاجة مش مظبوطة يا متر .. انا حاسس ان هانيا جرالها حاجة.
طمئنه "شركس" بإبتسامة هادئة و هو يقول:
-ماتقلقش .. هتبقي بخير ان شاء الله و في اي لحظة هتلاقي موبايلك بيرن و هتكون هي بتكملك عشان تطمنك عليها.


إسترخي "عاصم" في المغطس الممتليء بالماء الدافيء و سائل الإستحمام المُركز ..
تنهد بعمق مغمضا عينيه و هو يمني نفسه بنوما عميقا بعد أن يفرغ من حمامه ، يعوض به متاعب الأيام الماضية كلها ..
فقد حقق إنجازات عديدة في الآونة الأخيرة و قد جاء وقت الراحة الأن ..
فيما لاحت فجأة إبتسامة هادئة علي شفتيه و هو يفكر بهذه الفتاة المتقلبة التي تقف أمامه و تتحداه و لا يستطيع أن يفهم إلي أي شخصية تنتمي ؟
للفتاة الناعمة البريئة كشكلها الجميل ؟!
أم الفتاة المرتجفة الضعيفة ؟ أم الفتاة التي تجاهد أمامه كي تظهر له أنها قوية ؟؟!!
منذ فترة طويلة ، بقيت صورتها ماثلة أمام نظره أينما راح و غدي و حل ، بقيت كما شاهدها أول مرة ، والأبتسامة الخفيفة الشاحبة تخطف على شفتيها كما يخطف البرق فى ظلام الليل ..


وضع إبهامه علي شفته السفلي .. يفكر ما هي حقيقيتها ! و من بالضبط هذه الفتاة التي إحتلت كل تفكيره ؟
و ما هي نهاية مشاعره الراغبة بها ؟!
في تلك اللحظة تخيلها أمامه مباشرة ، و تركزت كل حواسه علي شفتيها الوردية الممتلئة .. ليتخيل بلحظة واحدة أنه يلثمها بين شفتيه ..
الأن يمتصها بقوة .. و يداعب خصلات شعرها بأصابعه في الوقت ذاته .. كم هي جميلة .. همس بداخله .. ليشعر بحرارة قوية تنشب بجسده ، و خيالاته تذهب به لأشياء أخري يطمع بها ، و يريد أن يفعلها معها منذ أن وقعت عينه علي صورتها ..
هز رأسه بعنف ليخرج هذه الأفكار التي تحتل رأسه .. هذا ليس مناسبا الأن ، خاصة و أنها لا زالت تعانده و ترفض تنفيذ شرطيه ، و لكن لا مناص لها من الإذعان .. ستوافق لا محالة و في أقرب وقت .. ليس إمامها خيارات أخري ..
و بينما كان يمرر "عاصم" الصابون علي جسده ، سمع صوت رنين هاتفهه ينبعث من الحجرة ..
تردد في الرد علي الهاتف ، لكنه خشي أن يكون هناك امرا عاجلا يستدعي الإتصال به ..
فغادر المغطس و هو يجفف جسده سريعا بالمنشفة البيضاء القطنية ، ثم يلفها حول خصره ، و يلج إلي حجرته بخطي واسعة و مبتلة ..
تناول هاتفهه من فوق فراشه ، و أجاب بسرعة دون أن يعرف هوية المتصل:
-الو !
علي الطرف الأخر ، أتاه صوت "طارق الحسيني" قائلا:
-مساء الخير يا عاصم باشا .. معاك طارق الحسيني.
رد "عاصم" بذهن نصف حاضر و هو يبعد بيده قطرات الماء التي ما زالت تتساقط من شعره المتهدل علي جبينه إلي وجهه:
-اهلا يا طارق بيه .. خير في حاجة ؟؟
-طبعا في كل خير يا باشا .. الانسة هانيا مضت الاوراق اللي حضرتك سيبتها عندي.
إبتسم "عاصم" بإنتصار متهالك و قال:
-طب كويس.


-و ماتقلقش يا باشا كله تمام ، الورق انا شايله عندي في الخزنة و الانسة لسا خارجة من عندنا من حوالي ساعتين كده.
و هنا جحظ "عاصم" بعينيه ثم هدر بعنف ناسيا أرقه و إرهاقه بالكامل:
-بتقول ايه ؟ خرجت ؟ خرجت يعني ايه ؟؟
شعر "طارق" بالخطر من نبرة "عاصم" العنيفة ، فرد متلعثما:
-هي خرجت بعد ما مضت الورق .. مش سيادتك اتفقت معايا علي كده ؟!!
صاح به "عاصم" بغضب حارق:
-انت بتتصرف من دماغك يا حضرة الظابط ! انا قلتلك مشيها !!
أجابه "طارق" بتوتر:
-يا باشا و حضرتك كمان ماقلتليش خليها ، كل اللي قولته انك عاوزها تمضي الورق و بس ، و فعلا ده اللي حصل ، الورق اتمضي فسيبتها تمشي !
كان رد "عاصم" الوحيد عليه ، هو انه أغلق الخط بوجهه و نيران الغضب تتأجج بصدره ..
ثم سارع بإرتداء ملابسه و هو يسب و يلعن و يتوعد و يتساءل .. أين هي الأن ؟ .. لا يمكن أن تهرب منه بهذه السهولة ...


لم تعرف "هانيا" كيف نجت من دمارها المحتوم بمثل هذه السهولة ! لم تعرف كيف إستطاعت التنصل من قبضة "عاصم" الحديدية ! ..
جل ما تعرفه أنها كانت بحاجة و لو لفرصة ضئيلة تستطيع من خلالها أن تنتزع نفسها بعيدا عن متناوله و تفر كالعمياء لتختفي عن بصره كما تفعل الأن ..
كان الليل قد أرخي سدوله ، لكن القمر الساطع أضاء لها مواطئ قدميها علي الدرب
و هكذا مضت تعدو راكضة بين الشوارع المظلمة خشية أن يلحق بها أحدا من أعوانه و يعيدها إليه كي تنفذ شرطه الثاني الذي عرضه عليها صباح اليوم ..
و فجأة لم تستطع مقاومة وجهه المرعب و هي تركض عندما طغي علي أفكارها ، و الصورة التي عادت إلي ذهنها .. هي صورة لقاؤهما في الصباح .. عندما أجفلها بشرطيه .. إذ قال بنبرة مفعمة بالإنتصار و هو يبتسم بهدوء:
-اول شرط انتي عارفاه .. هتكتبيلي تنازل رسمي عن المخزن بتاعك .. مع العلم اني سحبت المبلغ اللي عرضته عليكي قبل كده و رفضتيه ، يعني في مقابل التنازل اللي هتكتبيه .. مش هدفعلك و لا مليم.
نظرت إليه ملتهبة العنين و الوجنتين ، ثم غمغمت من بين أسنانها:
-و ايه الشرط التاني ؟؟
ران الصمت بينهما للحظات قبل أن يقول بلهجة قوية ثابتة:
-هتتنقلي للإقامة في بيتي لفترة قصيرة ، مش طويلة.
إلتهب محياها غضبا ، و إجتاحتها رغبة شرسة في الرد بعنف علي جملته المبطنة الوقحة ، لكن وضعها جعلها تتمالك نفسها و تقول مستوضحة بحدة:
-مش فاهمة ! اتنقل للإقامة في بيتك ليه و بأي صفة ؟؟
كان كالأسطورة بشعره الأسود المتفحم الكث و الناعم ، و عينيه البندقيتين و سمرة بشرته
هذا المزيج من المتناقضات يلفت نظرها مرة بعد مرة .. تارة تشعر بالنفور و الإشمئزاز من رؤية وجهه المشوه .. و تارة تري أن تلك الندبة لا تشوهه ، بل ربما تزيده وسامة !
شكله الأن يشبه شكل القراصنة الأشرار .. يحتاج فقط لإبتسامة شيطانية ماكرة و ستكتمل صورة القرصان ..
لم يخيب "عاصم" ظنها ، إذ إبتسم بخبث و هو يجيبها:
-ماتقلقيش .. اوعدك هتكوني في امان ، انا اه احيانا ببقي شرير و مابرحمش ، لكن العِرض و الشرف عندي خطوط حمرا ، مقدرش اتخطاهم.
تعجبت ، لم تتوقع أن تسمع منه كلاما كهذا !
رمته بنظرة حادة ، و ظلت للحظات عاجزة عن الكلام ، ثم اطلقت لسانها:
-بردو لسا مش فاهمة ! ايه لازمة كده يعني ؟؟!
أجابها بلهجة قاتمة:
-انا مش ناسي اهانتك ليا .. و لا ناسي كلمة واحدة قولتيهالي .. و قلتلك قبل كده اني هدفعك التمن.
عاود "هانيا" ذلك الشعور العنيف بإنها علي وشك أن تفقد السيطرة علي نفسها ، لكنها هي التي بدأت المعركة و عليها أن تستمر فيها ، فكبحت إنفعالها و أستوضحته بخشونة:
-و هدفعني التمن ازاي بقي ؟ هيكون علي صورة ايه يعني ؟؟
حك مؤخرة رأسه ، ثم قال بوجوم دون أن ينظر إليها:
-امي ست مريضة .. و مُقعدة .. بقالها سنين طويلة مش بتقدر تتحرك من السرير.
كان صوته لينا و مترددا ، كأنه لا يرغب في التحدث عما حصل معه بالماضي ..
فيما قطبت "هانيا" متأثرة و سالته بلطف:
-تقصد مشلولة يعني ؟؟
حدجها بنظرة حادة غير متوقعة ، فهزت كتفيها و هي تقول معتذرة:
-انا اسفة .. ماقصدش اقول حاجة علي مامتك ، انت اللي اتكلمت الاول.
أحس بلدغة قوية من كلامها ، و بدت عيناه مليئتين بالحزن و الغضب و هو يجيب علي سؤالها بشيء من الانفعال:
-ايوه مشلولة .. لكن الشلل تأثيره نفسي مش عضوي .. من عشرين سنة و امي بتتصدم صدمات محدش يقدر يتحملها ، اولهم موت ابويا ، و بعدين اللي حصلي.
و رفع يده إلي خده الأيمن حيث الندبة المجعدة ، ثم تابع:
-و بعدين البهدلة اللي اتبهدلناها و الذل اللي شوفناه و كل ده بسبب ابوكي.
أشاحت بوجهها عنه و هي تقول بأرتباك حاد:
-طيب انت عايز مني ايه بالظبط يعني ؟؟
-عايز اتجوزك.
سمعت عبارته ، و أحست كل مقطع فيها يسقط عليها كما الصدمة ..
قلصها خوف لا يوصف ، فرفعت بصرها إليه و تمتمت ذاهلة:
-عايز تتجوزني ؟ .. انت مجنون ؟ بقي انا اتجوزك انت ! .. انت اللي خليت ابويا ينتحر و يموت نفسه بعد ما خدت منه شقي عمره ! و بعدين بهدلتني و جبتني هنا ظلم ! .. ده انت لو اخر راجل في العالم مستحيل اتجوزك او ارتبط بيك بأي شكل من الاشكال.
تجاهل تعليقها اللاذع المنفعل ، و قال بفتور ساخر:
-انا ماقلتش اننا هنتجوز بجد .. جوازنا هيبقي مجرد تمثيلية حتي مش هكتب عليكي ، هتعيشي تحت سقف بيتي كام شهر ، بالكتير سنة علي انك مراتي و بعد كده هاسيبك تمشي و مش هاتعرضلك تاني ابدا و لا هتشوفي وشي ، بشرط تتعاوني معايا و تقبلي تديني فترة قصيرة من عمرك ، بعد كده هتبقي حرة تماما زي ما قلتلك و انا هخرج من حياتك للأبد.
قطبت بحيرة ، ثم سألته:
-و ايه غرضك من التمثيلية دي ؟؟
أجابها بصلابة متجهما:
-الدكتور قال ان حالة امي النفسية هتتحسن لو حصلت حاجات تفرحها و تحفزها علي الرجوع لحياتها الطبيعية من تاني .. و انا لما فكرت لاقيت انها مش هتتحسن الا اذا اتجوزت و فهمتها اني نويت استقر و اجيبلها الاحفاد اللي نفسها فيهم .. انتي دورك في الحكاية دي انك هتكوني مراتي قدامها بس لحد ما تخف.
نظرت إليه في تشكك و تمتمت:
-و انا ايه اللي يضمنلي انك مش بتكتدب عليا ! ممكن تكون ألفت القصة دي كلها عشان اجيلك برجليا .. و يا عالم ممكن تعمل فيا ايه لما ابقي في بيتك .. ساعتها هبقي تحت رحمتك !
غامت عيناه خلف سحابة غامضة ، و لم تستطع "هانيا" أن تفهم تعابير وجهه ..
ظلا للحظات ثقيلة صامتين في مواجهة بعضهما البعض قبل أن يقول "عاصم" بصرامة و حزم:
-ماعنديش ضمانات .. انا قلت كل اللي عندي خلاص .. هاسيبك انهاردة تفكري و هاجيبلك تاني بكرة .. و انتي عليكي تختاري بقي .. يا تتسجني .. يا تنفذي شروطي و تطلعي من القصة دي كلها بأقل خسارة ممكنة.
تفحصها بنظره مطولة للمرة الأخيرة ، ثم أولاها ظهره الذي بدا لها غاضبا و غادر المكتب مسرعا دون أن يتفوه بحرف زائد ..
و أخيرا أصبحت "هانيا" بمفردها .. ظلت واقفة مكانها لعدة ثوان .. فالصدمات المتوالية منعتها عن الحراك ، و في الوقت ذاته جعلت ساقيها ترتخيان بشدة ..
إستعادت روعها بصعوبة بالغة ، ثم رمت بنفسها فوق أقرب مقعد ..
دقائق و آتي العسكري ليعيدها إلي زنزاتها ..
و بعد صراع عنيف بين المنطق الذي يجبرها علي قبول شروط عاصم كي تخلص نفسها من الوقوع في بئر بلا قرار ، و بين عاطفتها تجاه والدها و التي تحتم عليها عدم التعاون مع الرجل الذي إحتال عليه ثم كان سببا في موته ..
إستطاعت تحديد موقفها .. فطلبت العودة إلي مكتب الضابط مقررة بكل خنوع و إنكسار قبول الشرطين الذي عرضهما عليها "عاصم" ..
و بعد أن مضت التنازل ، أشرق وجه "طارق" و هو يقول لها برقة:
-بجد انا بعتذرلك اوي يا انسة هانيا .. و عايز اقولك اني كنت مجبور اعمل كده لان اللي حصل ده بيا او منغيري كان هيحصل .. ارجو تكوني متفهمة الموقف !
حدجته "هانيا" في إزدراء جم و لم ترد عليه ، فتنحنح بحرج ثم قال مشيحا عنها بوجهه:
-تقدري تمشي دلوقتي.
إتسعت عينيها الزرقاوين في ذهول ، و حركت فمها تكاد تسأله .. ماذا عن الشرط الأخر ؟
لكنها تراجعت بسرعة و إختبرت الأمر بوقوفها .. ثم مشت بحذر تجاه باب غرفة المكتب و الغريب ، لم يعترض "طارق" أبدا و تركها ترحل .. !!
عادت "هانيا" إلي أرض الواقع مجددا و قد تسارع وجيب قلبها بشدة لفرط توترها و إنفعالها ..
بينما أخذت تركض بجنون لتهرب من ذلك الرجل المفعم بثقة مخيفة و سطوة مهيبة ، و الذي يبدو عازما بقوة و إصرار علي قلب ميزان حياتها بأي ثمن ... !!!!!
 



إعدادات القراءة


لون الخلفية