كانت السماء تجود بكل مطرها علي الأرض .. و كان الليل شديد الحلكة عندما تجاوزت الساعة منتصف الليل بقليل ..
بينما وقف "عاصم" أمام المرآة يعدل هندام ثيابه الفاخرة ، و يرش بسخاء عليها و علي وجهه و عنقه عطره الزكي النفاذ ..
كانت "هانيا" تجلس هناك فوق الآريكة علي مقربة منه ، تطالع إحدي مجلات الأزياء و الموضة الفرنسية التي طلبتها منه لتسليها و أحضرها لها ..
كانت تراقبه أيضا دون أن يلاحظ هو عيناها المتلصصتان عليه .. و كم إغتاظت مما يقوم به ، فدارت بعقلها عشرات الأسئلة ..
لماذا يفعل بنفسه كل ذلك ؟ .. لماذا هو متآنق هكذا ؟ .. لما ينثر عطره الجذاب بغزارة حول وجهه و عنقه ؟؟
أهو مرتبط بموعد ؟ .. و لكن أي موعد ؟؟
فالوقت متآخر جدا الآن .. فضلا عن أن السماء متجهمة و تمطر في الخارج و البرودة تعم الأجواء ..
لا يمكن أن يكون موعد عمل .. إستبعدت هذا الإحتمال الذي غلب علي أفكارها ..
و تشبثت بالإحتمال الأكثر منطقية ..إنه سيذهب لملاقاة شخصية مهمة جدا ..
و لكن تري ما كينونة تلك الشخصية ؟ .. أهي إمرأة أم رجل ؟؟
بالتأكيد إمرأة .. و إلا فلماذا يهتم بمظهره الكامل بهذه الدقة ؟؟!!
إستشاط عقلها غيظا من شدة تدفق الأفكار و صوتها الداخلي العالي ..
فتحفزت في إتكاءتها المخملية ، و هي ترفع صوتها ليسمع و تقول بلهجة جافة دون أن تبارح مكانها:
-يا تري رايح فين بالشكل ده الساعة دي و الدنيا بتشتي برا ؟؟!
إستدار إليها و هو يعدل ياقة قميصه الكحلي الضيق ، ثم سألها بنبرته الهادئة:
-بتقولي حاجة ؟؟!
تآففت ضجرة ، و كررت سؤالها مرة أخري بتكبر و عنفوان:
--كنت بقول هتخرج تروح فين بالشكل ده و الدنيا بتشتي برا ؟!
إلتوي طرف فمه في إبتسامة خبيثة و هو يرفع حاجبه قائلا:
-و انتي عايزة تعرفي ليه ؟ .. اقصد من امتي بتهتمي يعني ؟؟!!
لم ترد عليه .. فقط حملقت فيه صامتة ، فإتخذ الخطي نحوها حتي جلس بجوارها علي طرف الآريكة ..
ثم مال صوبها قليلا ، و سألها مداعبا:
-لا تكوني بتغيري عليا مثلا !
بإسلوبها القديم المتغطرس ردت:
-هه ! .. انا اغير عليك انت ؟؟!!
إبتسم بهدوء و هو يمد يده إلي شعرها ، و يلتقط إحدي خصيلاتها الشقراء ، و يلفها حول إصبعه ، ثم يتمتم بخفوت مثير:
-عموما انا مش رايح اخونك في حتة و لا انا مواعد فتاة ليل انزل اقابلها تسدلي حاجتي بدالك .. انا رايح مشوار مهم اوي ماينفعش آجله اكتر من كده.
تجاهلت أخر كلماته ، و ردت بلباقة وقحة:
-انت سافل و قليل الادب !
ضحك بمرح من قلبه ، ثم قال:
-شكرا.
ثم نظر إلي المجلة في يديها ، و لمسها بطرف إصبعه و هو يقول بسخرية هادئة:
-قولتيلي اجيبلك مجلات فرنسية تقريها ، قلت و ماله ما انتي نصك فرنساوي و اكيد ثقافتك فرنساوي بردو .. لكن بصراحة ماكنتش اعرف ان الفرنسيين بيكتبوا بالشقلوب !
إنتبهت "هانيا" لوضعية المجلة بين يديها ، فوجدتها مقلوبة بالفعل ..
نظرت إليه و شفتيها ترتجف من الإرتباك ، فكتم ضحكة أخري كادت تفلت من بين شفاهه ، لتقذف بالمجلة في وجهه مغتاظة و تنهض متجهة نحو الشرفة ..
فتحت بابها علي مصراعيه ، ليصطدم جسدها بالعاصفة الهوائية الباردة ..
أقشعر بدنها من الصقيع الأشيب الذي إخترق جلدها و لحمها حتي بلغ عظامها ، و لكنها عاندت شعور البرد هذا و بقيت راسخة بمكانها .. تنظر إلي السماء التي غطاها الليل بظلمته و لا يشع فيها سوي بعض النجوم ..
آتي "عاصم" من خلفها في هذه اللحظة ، و أمسك بكتفيها صائحا:
-بتعملي ايه يا مجنونة ؟ .. ادخلي جوا هتاخدي برد كده.
حاولت أن تبعد عنه دون فائدة ، فتملصت منه و هي تغمغم بصوت مخنوق:
-اوعي كده .. انت مالك اصلا ؟ .. سيبني.
-ايه انا مالي دي ؟ .. لأ مالي و نص يا جميلتي.
و طوق خصرها بذراعيه من الخلف ، ثم رفعها عن الأرض بخفة و سحبها إلي الداخل ..
حاولت "هانيا" أن تقاوم و تشد بثقلها علي ساعديه لتغرز قدميها بالأرض ، أو تمسك بأي شيء في طريقها ..
و لكن لا فائدة .. فقد كان قويا كالوحش ، و لم ينزلها إلا أمام المدفأة ، ثم تركها ليغلق باب الشرفة ..
عاد إليها بسرعة .. فتوقعت كلام فولاذي منه كعادته ، و لكنه فاجئها بقوله:
-بطلي تآذي نفسك.
قالها "عاصم" بجدية صارمة و لا مجال للمزاح في نبرة صوته ..
إقترب منها أكثر و هو يكررها:
-بطلي تآذي نفسك.
كان قد وقف أمامها مباشرة و يشعر بأنفاسها المتسارعة ، و دقات قلبها غير المنتظمة .. ليواصل ببحة مؤثرة:
-انا استحالة اقدر اتحمل اشوفك تعبانة او فيكي اي حاجة .. ماعنديش استعداد اخسرك ابدا ، ابدا .. ارجوكي حافظي علي نفسك .. بالله عليكي.
تجمع الدم في خدودها الحمراء مسبقا ليزيدها حمرة ..
بينما إبتسم في شيء من الحزن و هو ينظر لها بعيونه البندقية اللامعة و كأنها أجمل شيء رآه علي الإطلاق ، و هي حقا كذلك بالنسبة له .. :
-جميلة جدا و الله !
همس .. و كأنه يحدث نفسه ، ثم إمتدت يداه ، و أحاط وجهها بكفيه ..
ثم طبع برفق قبلة خفيفة جدا علي شفتيها الورديتين و كأنه خائف أن تنكسر منه ..
ثم قال بحب و هو ينظر بعمق في عينيها الزرقاوين:
-انا بحبك .. بحبك.
و طبع قبلة أخري علي جبهتها ، و لكنها كانت قبلة عميقة و مطولة هذه المرة ..
إبتعد عنها أخيرا .. تركها مغمضة العينين ، متقطعة الأنفاس ..
و لما فتحت عينيها ، كان هو أمام الخزانة .. يتناول معطفه الثقيل ، ثم يرتديه و يلتفت إليها قائلا بإبتسامة عذبة:
-مش هتآخر .. ساعتين بالكتير و هكون هنا ، نامي انتي كويس و زي ما قولتلك .. خدي بالك من نفسك.
كان يستمع إلي صوتها المرتجف بالبكاء عبر هاتفهه في خليط من الغضب و التآثر و العنف ..
إلي أن إنتهت ، فصاح بها:
-ازاي يفضل حابسك المدة دي كلها ؟ .. و بتقولي ياباكي وافقه ؟ ليه ؟ .. انتي قاصر و لا طفلة ؟ .. و بعدين ازاي يمد ايده عليكي بالهمجية دي ؟؟!!
واصلت بكاءها الحار و هي تقول من بين شهقاتها:
-انا بس كل اللي مضيقني انه سحب مني اي وسيلة اقدر اوصلك بيها .. انا بكلمك دلوقتي من تليفون البيت و انا مرعوبة يا شهاب ، و اللي مخوفني اكتر تهديده .. ده حالف انه لو وصلك هايآذيك ... احنا لازم نبعد عن بعض يا شهاب و الا المشاكل هتكبر و اخويا مش هيسكت انا عارفاه.
إزدادت حدة غضبه و هو يرد:
-بلاش كلام فارغ نسيب بعض ايه ؟ .. و بعدين اخوكي ده مايقدرش يعمل معايا حاجة اصلا ، انتي لسا ماتعرفيش انا مين .. طب خليه يهوب ناحيتي كده بس او ناحيتك انتي كمان من هنا و رايح.
-قصدك ايه ؟؟
تساءلت بتوهان ، فقال بلهجة آمرة:
-اسمعيني كويس عشان هتنفذي كل اللي هقولك عليه.
-ناوي علي ايه يا شهاب ؟ .. صدقني انا المرة دي خايفة عليك انت مش خايفة علي نفسي.
-ماتخافيش قولتلك مايقدرش يعمل معايا حاجة ، و طالما مانعك من الخروج و من كل حاجة انا بقي هعرفه انه ماطلعش اذكي اخواته .. بس المهم تنفذي كلامي كله بالحرف.
سألته في إصغاء و هي تمسح دموعها بظهر يدها:
-عايزني اعمل ايه ؟؟
و لكنها لم تكن تعرف أن هناك من يتنصت علي مكالمتهما منذ البداية ...
كان "جاسر" يجلس هناك داخل حجرة مكتب والده ..
يسند ساقيه الممدودتين فوق طاولة صغيرة منخفضة ، و يدخن سيجارا في منتهي الهدوء و الإسترخاء ، في الوقت ذاته ..
كان يحتجز سماعة الهاتف ما بين كتفه و أذنه ليستمع إلي مكالمة شقيقته و حبيبها ، فقد نصب لها الشرك و قد وقعت فيه دون جهد يذكر ..
أنه الآن يعرف كل شيء عن مخططهم ، و ما عاد بحاجة لسماع المزيد ..
ترك سماعة الهاتف مرفوعة فوق الطاولة ، و إتجه نحو المكتب العاجي الضخم ..
ألقي بثقله فوق الكرسي التويد الوثير ، ثم مد يده بتكاسل و إلتقط ذلك المجلد الورقي ، و الذي قام بقراءته زيادة عن عشرون مرة حتي الآن. .
أطفأ سيجاره بالمنفضة الفخار الأنيقة ، ثم راح يطالع محتوي المجلد بعينين نصف مغمضتين ..
ليردد بنبرة خاملة و هو يقرأ المعلومات بعينيه:
-شهاب طايع الصباغ .. اخو الصباغ الكبير اللي علم عليك يا جاسر يا طحان ، و كمان طلع متجوز الحتة اللي كانت تخصك.
ثم إستطرد بعنف و هو يسحق الكلمات بين أسنانه:
-باعت اخوه لأختي عشان يقفل الـGame ؟ .. طب و رحمة امي لهلاعبه انا بطريقتي و اخليه يتحسر بقية عمره علي المحروس اخوه.
الضغط المستمر علي زر جرس باب منزله إستفزه ، و جعل جسده ينتفض غضبا و هو يمشي بخطوات واسعة تجاهه ..
مد يده و ملامحه تنطق بالحنق و العصبية ، ثم جذب مقبض الباب و هو يصيح:
-ايـه قلـة الـذوق دي !
ليتفاجأ برؤية صديقه أمامه ..
علي النقيض .. حدجه "عاصم" بابتسامة هادئة و هو يقول:
-ازيك يا زين ؟؟
عقد "زين" حاجبيه منزعجا ، و هو يسأله بنبرة جلفة:
-ايه اللي جابك يا عاصم ؟؟؟
بدوره رفع حاجبه متعجبا ، و سأله:
-ايه المقابلة دي ؟ .. ده بدل ما تقولي اتفضل ؟؟!
صمت "زين" و لم يرد .. تحرك من أمامه عائدا إلي الداخل ..
فهز "عاصم" كتفيه بلا اكتراث ، و تبعه للداخل بعد أن أغلق الباب من خلفه ..
في الصالون المذهب الفخم ..
جلس "زين" عابس الوجه فوق آريكة من قماش الچوت ، فجلس "عاصم" إلي جواره متنهدا و هو يتلفت حوله متفحصا المكان ، ثم تمتم بهدوء:
-شقتك حلوة اوي يا زين .. ماكنتش اعرف ان ذوقك عالي اوي كده في الديكورات !
و هنا .. أدار إليه "زين" وجها واجما ، و سأله بإقتضاب مرة أخري:
-عايز ايه يا عاصم ؟ جايلي ليه دلوقتي ؟؟
-يابني ايه العفانة اللي اكتسبتها مؤخرا دي ؟ .. بقي انا جاي ازورك في بيتك لأول مرة تقوم تقولي جاي ليه و عايز ايه ؟ .. ده بدل ما تهز طولك و تقوم تقدملي حاجة اشربها ؟ .. يلا قوم اعملي فنجان قهوة احسن دماغي مقلوبة عالأخر.
-مش قايم اعمل حاجة الا اما تقولي ايه اللي جابك ؟؟!
إعتصم "عاصم" بالصمت لثوان ، ثم أجابه بلطف هادئ:
-جاي اصالحك و اراضيك يا سيدي .. انا لا يمكن كنت اقدر اسيبك زعلان مني اكتر من كده.
جاء رد "زين" مندفعا بغضب:
-و مين قال اني عايزك تصالحني او تراضيني ؟ .. خلاص خلصت يا عاصم.
ضربه "عاصم" علي مؤخرة رأسه بخفة و هو يقول معنفا:
-ما تبطل غتاتة بقي .. هي ايه دي اللي خلصت ؟ هو انا اعرفك من امبارح ؟ .. دي عشرة سنين .. أوام نسيت ايام كفر الزيات ؟ .. يا اهبل .. ده انا عمري ما وثقت في انسان علي وجه الارض اد ما ‘ثقت فيك انت .. عمري ما سلمت رقبتي و لا فلوسي و لا شركتي لحد و انا مطمن الا ليك انت !
إبتسم بإستخفاف ، ثم قال هازئا:
-و ماقولتش الكلمتين دول لنفسك ليه لما فكرت تغلط فيا و تهيني ؟؟
أنكث "عاصم" رأسه في خزي ، و تمتم:
-خلاص بقي ماتفكرنيش .. انا لحد دلوقتي مش عارف انا قلت كده ازاي ؟؟!!
ثم رفع وجهه إليه ، و تابع:
-كل الكلام ده خرج غصب عني .. ماكنتش اقصد ، كنت هتجنن يا زين .. كانت معنداني اوي ، ماكنتش قادر الين دماغها .. و انت كمان كنت واقف قصادي و حاولت تمنعني عنها !
-و هفضل احاول امنعك عنها يا عاصم .. البنت دي مالهاش ذنب في اي حاجة حصلت في الماضي غير انها بنت الراجل اللي ظلمك و ظلم عيلتك .. و مش عشان نفسك راحتلها و حبيت تثبت رجولتك معاها بما انك مالكش تجارب قبلها تقوم تعمل فيها كده ، و لو حصل و اتجوزتها غصب عنها الجوازة هتبقي باطلة و اي حاجة هتحصل بينكوا قدام القانون فيما بعد مش هيبقي ليها مسميات غير انها اعتداء او اغتصاب و دول عقوبتهم مش سهلة.
صر علي أسنانه بقوة محاولا كبت إنفعاله ، لكنه أفلت التصريح القاطع فجأة من بين شفاهه:
-الجواز حصل خلاص .. انا اتجوزتها من شهرين.
توسعت عينا "زين" في صدمة و هلع ، فستاءل مفغرا فاهه:
-اوعي تكون قربت منها !!
عبس "عاصم" متضايقا ، و قال:
-طبعا قربت منها .. مش بقت مراتي.
و هنا ، صاح به "زين" في عنف غاضب:
-الله يخربيتك يا عاصم .. عملت ايه الله يخربيتك ، انت مصمم تودي نفسك في ستين داهية ؟ .. اوعي تكون فاكر ان عمها هيسكت و ان الموضوع انتهي من زمان و خلاص هو نسيها .. لأ ، مسيره هياخدها منك و ساعتها هينتقموا منك هما الاتنين و مش هتكفيهم املاكك و فلوسك .. و هيبقي كل اللي عملناه طول السنين اللي فاتت عشان نجيبلك حقك من مصطفي علام طار في الهوا.
رد "عاصم" و هو يهز رأسه في شيء من العصبية:
-محدش يقدر ياخدها مني .. بقت ملكي خلاص ، و عمها ده بعقد الجواز الرسمي اللي معايا مايقدرش يشوفها و لا يلمحها حتي منغير اذن مني.
كاد "زين" يفتح فمه و يتكلم مجددا ، فقاطعه "عاصم" بصرامة:
-خلاص يا زين .. انتهي .. في الاول و في الاخر انا لوحدي المسؤول عن تصرفاتي.
حدجه "زين" بنفاذ صبر ، ليستطرد هو متجهما:
-من بكرة بقي ترجع تمسك الشركة تاني .. الحسابات كلها اتدمرت من يوم ما سيبتها.
-و انت ماكنتش بتروح تتابعها ليه ؟؟
نظر إليه ساهما للحظات ، ثم رفع يده إلي صفحة وجهه و مرر أصابعه فوق ندبته الخشنة قائلا بصلابة:
-ما انت عارف .. انا مابظهرش قدام الناس.
***********************************
في صباح اليوم التالي ..
بلغه أن مدير الجهاز الأمني يطلبه للمثول أمامه .. فلبي الأمر علي الفور و ذهب لمقر مديرية الآمن ..
وصل لمكتب المدير ، و ولج بعد أن طرق الباب و سمع إذن الدخول ..
كان ذلك الرجل الذي إشتعل ر أسه شيبا ، يقف هناك أمام نافذة مكتبه عاقدا يداه خلف ظهره ، بينما إنتظره "إياد" حتي يستدير و يواجهه ..
و لكنه لم يفعل ، فتنحنح "إياد" لينبهه بحضوره لعله شرد قليلا ..
و بالفعل ، إستدار الرجل ببطء .. و لكنه لم يبدو عليه أنه كان شاردا ..
إذ كان وجهه متحفزا صارما و هو يتطلع إلي "إياد" ..
أدي "إياد" التحية العسكرية له قائلا:
-صباح الخير يافندم .. بلغني ان حضرتك عاوزني ، خير ؟؟!
-اقعد يا إياد !
قالها بجمود ، و أردف بنفس الإسلوب:
-دقايق و زمايلك و رؤساء الجهاز هيوصلوا ، اللي بلغوك نسيوا يقولولك ان في اجتماع.
-اجتماع ؟ .. خير سيادتك ؟ يا تري في حاجة مهمة ؟؟!
رمقه بنظرة مبهمة مطولة ، ثم قال:
-هتعرف حالا !
في مكان ما بغرفته التي باتت تقاسمه إياها منذ غدت زوجته ..
إكتشفت "هانيا" إحدي أدراجه السرية ..
ففتحته ، لتجد به إطار خشبي أبيض اللون ، رفيع الذوق يحتوي صورة له عندما كان فتي صفيرا ..
قدرت عمره وقتها ما بين الرابعة عشر و السادسة عشر ، كان فتي وسيم بحق ..
كان يرتدي أثمن الثياب ، و بدت عليه حياة الرغد و الترف بدرجة كبيرة ... و لكن هذا كله لم يجذب إنتباهها بقدر ما جذبها وجهه الخالي من الندبة القاسية ، و التي لطالما نغصت عليه أيامه و لياليه ..
لا شعوريا .. تحسست بأناملها وجهه في الصورة و هي تبتسم في تآثر حزين ، لتعود لها ذكري الليلة الماضية في وضع مشابه لهذا ...
حين عاد من الخارج في ساعة متآخرة ..
تظاهرت هي بالنوم ، و بدوره آبي أن يوقظها ، فتركها تنعم بغفوتها الدافئة دون أن يقلقها ، و حرص أيضا علي ألا يفتعل أي ضوضاء لئلا تسمعه و تستيقظ ..
و هكذا في منتهي الصمت و الهدوء ، بدل ملابسه و إحتل مكانه في السرير إلي جانبها ...
و ماهي إلا دقائق ..... حتي إنتظمت أنفاسه و غط في سبات عميــق ..
عند ذلك .. إطمئنت "هانيا" و فتحت عينيها لتقابلا وجهه ..
فأخذت ترنو إليه دون حركة تخت الضوء الخافت للغرفة .. تآملته مليا ، كانت تحاول تكتشف ما في أعماقها بالضبط ..
فلم يلح عليها سوي تأكيد وحيد بحبها الدفين له .. ربما لم تكن خيالية في يوما ما ، و لكنها تؤمن بالحب ..
و هو الرجل الوحيد الذي أحبته بصدق دون إرادتها ..
تآففت في يأس و عيناها ما زلتا تحدقان فيه .. و بحذر ، مدت يدها و وضعت كفها علي خده المشوه ..
و فجأة ، دوت بأذنيها عبارته التي قالها قبل رحيله منذ عدة ساعات .. " انا بحبك .. بحبك " ..
فإقتربت منه بجسدها حتي خيل إليها أنها ستقبله
.. و لكنها همست بإنهزام:
-و انا كمان بحبك !
فكرت "هانيا" طوال الليل بحل لقصتها معه ، و كيفية إنهاء الصراع بداخلها ..
فتوصلت لقرار و إعتزمت تنفيذه ... و ها هي الآن تغادر الغرفة و تجول في أنحاء القصر بحثا عنه ..
قابلت في طريقها إحدي الخادمات ، فسألتها إن كانت رأت "عاصم" فأجابتها:
-عاصم بيه في الـ Gym studio دلوقتي .. هتلاقيه في اخر الجناح اللي علي الشمال هناك ده.
و آشارت لها نحو الإتجاه ... شكرتها "هانيا" ثم راحت تعدو مسرعة حتي وصلت إلي صالة الرياضة خاصته ..
وقفت مترددة علي أعتاب الحجرة الواسعة و المزودة بأحدث الآلات الرياضية ..
و ما أزاد من توترها .. عندما شاهدته يتريض هناك في الزاوية ..
كان جالسا فوق مقعد معدني مرفق بآدوات الأثقال بمختلف أوزانها .. و لكنها إستطاعت أن تري أنه إختار أثقل وزن ..
وقفت تراقبه مشدوهة .. كان عاري الصدر ، و جسده كله يتصبب عرقا جراء المجهود العظيم الذي يبذله ..
فقد كان يمارس الرياضة بشراسة غير طبيعية ، إذ راح يشد بقوة علي عضلات ذراعيه المفتولة و ساعديه ليجذب الأثقال ثم يعيدها مكانها و يعاود الكرة مرة أخري ..
أخذ صوت تنفسه العنيف يعلو و يتسارع شيئا فشيء و هو غير عابئ بأي آلم من الممكن أن يستشعره .. فقط كان يركز علي تمرينه و يريد إتمامه علي أكمل وجه حتي النهاية ..
الآن فقط ... علمت "هانيا" سر لياقته البدنية ، و ضخامة جسده الوحشي و قوته القاهرة ..
إذن فهو يحافظ علي رشاقته ، ربما هي هوايته .. و كم أحسن في إختيار الهواية ...
إنتبه "عاصم" إلي وجودها بغتة .. فترك ما يفعله ، و نهض بقامته المديدة الناضحة كليا بالعرق الساخن ، ثم توجه بالقول إليها و هو يعقد حاجبيه في إستغراب:
-هانيا ! .. تعالي .. ادخلي واقفة كده ليه ؟؟
أطاعته بآلية ، و مشت صوبه حتي توقفت أمامه مباشرة ..
لفحت أنفاسه الدافئة وجهها و هو يستفسرها بلطف لاهثا:
-في حاجة ؟ .. عاوزة حاجة يا هانيا ؟؟!
تآملته بحواس متخدرة ، و كم آثارتها خصلة شعره المتهدلة فوق جبهته و أغرتها بأن ترفعها له بنفسها ..
إزداد إستغرابه و هو ينظر إليها مقطبا .. لا يعرف لماذا ترمقه بغرابة هكذا !
فأعاد سؤاله بقلق:
-هانيا .. في حاجة ؟ انتي كويسة ؟؟!
كانت تائهة بأنظارها بين غياهب هيئته الكاملة ، و كأنه شخصية أسطورية خرج للتو من كتب الخيال و الخرافة ..
فهي لم تري رجلا في حياتها مثله أبدا ..
كانت كالمسحورة ، عيناها تراقبان في شغف قطرات عرقه التي كانت تسيل من وجهه مرورا بعنقه ثم إلي صدره العضلي ..
كانت شديدة الإنبهار به و بمثاليته في كل شيء .. مخطوفة و هي تنظر بقوة في عينيه ، و تهمس أخيرا:
-مش بكرهك !