الجزء 12: القصر المرصود

عندما إشتد ظلام الليل ، كانت العواصف الرعدية تزمجر في البعيد مع إنهمار المطر الغزير ..
بينما إستمر "عاصم" في ذرع قاعة الجلوس ذهابا و إيابا لأكثر من ساعة .. ذهابا و إيابا كالنمر في قفصه و قد بدا عصبيا إلي أقصي درجة ، إذ أنه ألقي بسيكارته قبل أن يكملها ، و إتجه إلي مكتبه و هو ينظر إلي ساعة يده ..
لقد تأخر "زين" كثيرا .. قال في نفسه .. و لم يلبث أن أحس بوقع خطوات فوق السجادة التي تغطي أرض الغرفة .. و شعر بوجود صديقه ، فإستدار بسرعة و صاح بضيق:
-اتأخرت كده ليه يا زين ؟؟
تقدم "زين" من "عاصم" و هو يتطلع إليه بعينين متفحصتين ، ثم أجابه بهدوء:
-الدنيا بتشتي برا و المطر نازل بتقله ، يدوب عرفت اوصل من البيت لهنا .. خير يا عاصم ؟؟
تخللت أصابع "عاصم" شعره الداكن و هو يقول محاولا السيطرة علي أعصابه:
-خلاص يا زين .. خلاص مش قادر !
ضيق "زين" عينيه و هو يستوضحه:
-مش قادر علي ايه ؟؟
إلتقط "عاصم" أنفاسه بصعوبة و قال:
-انا عايزها .. عايزها اوي .. في كل مرة بشوفها رغبتي فيها بتزيد اكتر .. و كل ما بترفضني بتخليني اتمسك بيها اكتر و اكتر.
و صمت لثوان ليقول فجأه:
-انا عايز اتجوزها .. و في اسرع وقت يا زين.
تجهم وجه "زين" للحظات ، ثم هز رأسه مهمهما و حدق فيه متسائلا:
-طيب انت عرضت عليها رغبتك دي ؟ وافقت يعني علي فكرة الجواز ؟؟
رد "عاصم" بعصبية:
-انت مابتهمش يا زين ؟ بقولك بترفضني يبقي هتوافق علي الجواز ؟؟!
-يعني انت عايز تفهمني انك هتغصبها تتجوزك مثلا !!
قالها "زين" مستنكرا ، فأولاه "عاصم" ظهره صائحا و هو يضرب سطح مكتبه الخشبي بقبضته في غضب:
-انا لسا مش عارف انا هعمل ايه !


ثم إلتفت إليه مجددا و قال:
-اومال انا كلمتك و جبتك هنا دلوقتي ليه ؟ مش عشان تشوفلي حل !!
بضيق حانق رد "زين":
-عايزني اعملك ايه يعني يا عاصم ؟ لما هي مش عايزاك زي ما قولتلي يبقي هتقتنع ازاي ؟ تحت تهديد السلاح !
و بشيء من العصبية أضاف:
-انا مش فاهم انت عايز تعمل فيها ايه اكتر من اللي عملته ؟ اتقي الله يا عاصم و سيبها تروح لحال سبيلها كفاية عليها كده حرام عليك هي مالهاش ذنب.
إحتقن وجه "عاصم" فصاح به:
-انا كل ما اكلمك عنها لازم تسمعني الكلمتين دول ؟ ايه مش حافظ غيرهم ؟!
أجابه "زين" بهدوء:
-انت عارف رأيي في الموضوع من الاول .. البنت لازم تمشي من هنا و انت لازم تنساها و تسيبها في حالها ، انت خلاص عملت كل اللي انت عايزه ، و اللي انت عايز تعمله دلوقتي ده مالوش اي علاقة بتارك ، و ان ماكنش ظلم و افترا فأنا ماعرفلوش اسم تاني يا عاصم !
-ظلم و افترا ؟!!
ردد "عاصم" مزمجرا ، ثم قال بعناد و هو يرتعد غضبا:
-طيب مش هسيبها يا زين .. هتجوزها ، و من هنا و رايح عايزك توفر نصايحك دي لنفسك و انا من ناحيتي مش هادخلك في اي حاجة تخصني و هتولي اموري بنفسي بعد كده يا .. يا صاحبي.
و بعد أن نطق "عاصم" بهذه الكلمات إستدار علي عقبيه و غادر غرفة المكتب مسرعا ، بينما كاد "زين" يوقفه و لكنه كان سريع الخطي ..
فزفر "زين" في إنزعاج و هو محتارا من أمره .. فهل يعاون صديقه المقرب حتي يحصل علي مبتغاه ؟ .. أم ينصاع لنداء ضميره الذي يحتم عليه مساعدة "هانيا" و إخراجها من ذلك المأزق ؟؟

كان ظهرا مشمسا و دافئا ، ليس كالأيام العاصفة التي سبقته ، فقد جفت الأرض من مياه المطر ، و ساد الدفء الغامر تدريجيا ..
بينما إستيقظت "هانيا" علي إثر النور المنسكب من خلف ستائر غرفتها ..
غادرت فراشها ، و إتجهت إلي النافذة التي لم يكن يفصلها عن العالم الخارجي سوي ذلك السور الضخم الذي بات يشكل لها حصنا مرصودا لتكن سجينة بداخله ..
تنهدت بآسي و عادت إلي سريرها و إستلقت فوقه برهة .. في هذه الأثناء ، كان ضوء الشمس يشتد أكثر بالغرفة ، فأدركت "هانيا" أنها لن تستطيع العودة إلي النوم مجددا ، خاصة و أن عقلها مليء بالأفكار المتضاربة ..
فقد مر إسبوعا كاملا و هي أسيرة بهذا القصر الكبير .. نهضت من فوق الفراش و راحت تتمشي ذهابا و إيابا نحو ساعة من الزمن و هي تفكر في الأمر بعقلانية لا يشوبها هاجس أو خوف ..
فرأت أنه من الخير أن تستغل الحرية المحدودة التي وفرها "عاصم" لها ، كالتجول بكافة أنحاء القصر و التصرف فيه كما تشاء ..
و لكن ماذا في وسعها أن تفعل ؟ فحتي لو خرجت من عزلتها تلك ، إمكانية فرارها من هنا لن تكون أكيدة مائة بالمائة ..
ثم أن الهرب من هنا مستحيل ، و إذن فلا سبيل لذلك إلا بوصول نجدة لإنقاذها ..
و كان عمها هو أقرب ما توصل إليه عقلها في تلك اللحظة .. عليها أن تجد وسيلة ، أي وسيلة و تتصل به ..
قطبت "هانيا" حاجبيها و وقفت بجانب النافذة تحدق إلي ظلال الأشجار الخضراء و البنايات البعيدة و هي تفكر في كيفية تخطي حدود ذلك الحصن المدجج بالخدم و الحرس الذين و لا شك تلقوا آوامر بمراقبة حركاتها و سكناتها ..
راحت "هانيا" تفكر و تفكر حتي أنتهت إلي وجوب القيام بمحاولة لإستعمال الهاتف في الليل .. لا في النهار ..حين يكون جميع ساكني القصر نائمون ..
في تلك اللحظة .. سمعت فجأة طرق علي باب غرفتها ، فصاحت بجمود عصبي:
-مين ؟؟
فجاءها الجواب الصارم:
-عاصم.
أغمضت "هانيا" عينيها ، و ضغطت علي فكيها في حنق ثم سألته بجفاف:
-عايز ايه ؟؟
أجابها بلهجة مهذبة:
-الفطار جاهز !


قالت بإصرار:
-انا هفطر هنا في الاوضة زي كل يوم.
فكان رده صلبا كالفولاذ:
-لأ .. انتي هتلبسي هدومك و هتحصليني علي اوضة السفرة تحت .. قدامك عشر دقايق بالظبط ، لو مانزلتيش هطلع اجيبك بنفسي حتي لو بالغصب.
إستشاطت غضبا من لهجته و طريقته الآمرة الوقحة ، فأقسمت ألا تلبي دعوته و ليكن ما يكون ..
و بغضب منه و من نفسها إنتظرت حتي سمعت وقع خطواته تبتعد عن غرفتها و توجهت إلي الباب و أوصدته ، ثم مشت إلي المرحاض الملحق بالغرفة ..
غسلت وجهها و نظفت أسنانها .. ثم عادت إلي الغرفة مجددا ..
و بتردد فتحت خزانة الملابس ، و بعد تفكير طويل ، إختارت ثوبا وردي اللون ، يتمتع بالضيق الشديد و يدخله التطريز الإيطالي الفريد ..
إرتدته و وقفت أمام المرآة تمشط شعرها و تضع القليل من مساحيق التجميل لكي تخفي شحوبها ..
بينما سمعت فجأة خطوات في الردهة الخارجية ، فتركت ما كانت تفعله في الحال ..
فيما توقفت الخطوات أمام باب غرفتها ، فتسمرت مذعورة ، فيما تحرك مقبض الباب ، فظلت "هانيا" صامتة و بلا جراك ..
سمعت صوت "عاصم" الجاف يقول:
-العشر دقايق خلصوا ! يا تري لسا بتجهزي ؟؟
-لأ .. انا مش هنزل !
صاحت بتهور ، فسمعت صوت "عاصم" يقول بإقتضاب غاضب:
-افتحي الباب.
ردت بعنف و العصبية ترجف صوتها:
-لأ !
حذرها "عاصم" بقوله:
-لو مافتحتيش دلوقتي هكسر الباب.
و بعد قليل خلع الباب بالفعل و ولج إليها .. ذعرت "هانيا" من مظهره الغاضب و شعرت بإرتخاء قدميها و كادت تسقط ، لكنها تمكنت من القول بحدة شرسة:
-انت مش بس مجنون ، انت حيوان .. ايه اللي عملته ده !!
إقترب منها بسرعة غريبة ، فأطلقت شهقة مكتومة عندما إرتعش جسدها بعنف متأثرا بقربه ، إذ لفحتها قوة لا مرئية صدرت عن كل قطعة ثائرة في جسده الضخم ..
أغمضت عينيها عندما تقلصت المسافة بينهما حتي أحست بأنفاسه تلفح وجهها ، بينما قال بعد لحظات بصوت أجش:
-بقالي اسبوع ماشفتش الوش الحلو ده ! .. حرماني منك ليه ؟؟
لم تحرك ساكنا ، فقال آمرا:
-فتحي عنيكي ، بوصيلي و انا بكلمك !
و عندما لم تستجب ، أسرع هو برفع وجهها بإصابعه القاسية التي خدشت جلدها الناعم ..
بينما فتحت عينيها الزرقاوين علي وسعهما من المفاجأة و إشتبك نظرها بنظره .. كان غضبه قد إختفي ليحل محله شيء أخر .. ذلك الشيء الذي رأته دائما في عينيه دون أن تفهمه أو تحبه ، بينما تمتم بخفوت:
-تستاهلي عقاب علي اللي بتعمليه فيا.


إرتعد جسدها عندما تسلل همسه الحميمي إلي أذنها ليهز مشاعرها و يشل أطرافها ، فيما تابع و هو يجول بنظره عليها بوقاحة:
-و تستاهلي بوسة كمان علي جمالك ده !
شهقت بذعر و أبعدت وجهها عنه ، ثم رفعت يدها لتسدد له صفعة عنيفة ، و لكن "عاصم" إستقبل الصفعة في راحة يده اليمني التي بدت كجدار من الصلب ، ثم قال بإبتسامة هازئة و هو يعتصر أصابعها الرقيقة بين أصابعه الغليظة:
-حقيقي انتي بنت مصطفي علام .. شريرة زيه .. لكن متوحشة و شرسة اوي ، ماتتصوريش انا حبيت طباعك العدوانية دي اد ايه !
أطلقت آهة آلم ثم أشاحت بوجهها عن و هي تزمجر غاضبة:
-ماتجيبش سيرة ابويا علي لسانك يا حيوان.


إنتفضت بعنف عندما أمسك وجهها بين سبابته و إبهامه بقسوة ليجبرها علي النظر إليه ، إرتعبت عندما رأت عينيه تلتمعان بشرارات مخيفة ، فيما تشنجت عضلات وجهه و إستحال فمه إلي خط رفيع أبيض اللون ..
تكلم أخيرا فكان صوته منخفضا و لكنه مختلف بفعل الغضب مما جعل جسدها يقشعر خوفا:
-لحد امتي هتفضلي تدوري وشك كل ما تشوفيني
عن قرب ؟ .. قلتلك كتير قبل كده ابوكي هو السبب في اللي حصلي .. هو غلط معايا ، و انتي اللي هتدفعي تمن غلطته.


توهجت عيناها بغضب ملتهب ، فصرخت فيه بهستريا:
-هقتلك .. قبل ما توصل للي انت عايزه ده ، مش ممكن هتلمسني الا و انا ميتة.
قهقه بمرح ، ثم لف يده حول عنقها النحيل و قال بتسلية:
-لو كان قدري اموت مقتول ، فأنا هبقي مبسوط جدا لو مت علي ايدك يا جميلتي.
ثم جمدت أصابعه علي عرق عنقها النابض و قال ببطء و هو يحدجها بنظرة ثاقبة:
-لكن طول ما انا لسا موجود مش ممكن اسمحلك تختفي من حياتي .. مش ممكن اسمح لأي حاجة تاخدك مني .. حتي الموت .. سامعة ؟ .. حتي الموت !
حدقت فيه صامتة .. إذ أحست أنها معزولة عن العالم للحظات بفعل بريق عينيه القوي الذي ينذر بالخطر ..
بينما أطلق سراحها فجأة و هو يقول بفتور:
-هخليهم يطلعولك الفطار هنا .. انا كنت عاوز اشوفك بس مش اكتر ، لكن ده مش معناه اني هاسيبك تقضي يومك كله في الاوضة .. انا كنت سايبك اليومين اللي فاتوا دول بس عشان تهدي اعصابك و تحاولي تأقلمي نفسك علي وضعك الجديد .. و من هنا و رايح هتفطري و تتغدي و تتعشي معايا.
و تابع مشددا علي كلماته:
-و اعملي حسابك بعد ما نتعشا سوا انهاردة هاخدك اعرفك علي امي .. هي مستنيا تشوفك الليلة دي.
ثم إلتفت إلي الباب و أشار نحوه مضيفا:
-هبعتلك حد يصلح الباب و ابقي اشوفك بليل زي ما اتفاقنا ، و حذاري اجي الاقيكي مش جاهزة او قافلة الباب بالمفتاح هكسره تاني و هدخل اجيبك بالعافية.
و أخيرا إستقرت عيناه علي وجهها الشاحب قبل أن يستدير خارجا من الغرفة ..
بينما تهدلت "هانيا" علي أقرب مقعد لفرط إعياءها ، و راحت تفكر ..
إنه أقوي منها بمراحل ، غير أنها بمنطقة نفوذه .. لن تستطيع التغلب عليه بمفردها ..
عليها أن تجد حلا و في أسرع وقت قبل أن تصل معه إلي نقطة اللارجوع ..
و لكن عليها أيضا أن تكون حذرة جدا ، إذا ما لعبت بهذه النيران .. و إلا أحرقت أصابعها بنفسها ...


-يا اخي حرام عليك بقي اللي بتعمله في نفسك !
قالها "رشدي" بإنزعاج واضح يخاطب "توفيق" الذي جلس فوق الأريكة بحجرة الجلوس و قد بدا مهموما بائسا ، بينما تأفف "رشدي" بسأم قائلا:
-ما اللي انت فيه ده مامنوش فايدة يا توفيق .. تقدر تقولي استسلامك ده هيفيد الموضوع بإيه ؟؟
عند ذلك ..نظر إليه "توفيق" بفتور قائلا:
-طيب و انت عايزني اعمل ايه يا رشدي ؟ انا مافيش في ايدي حاجة اعملها .. كان بيني و بين بنت اخويا خطوتين و ماقدرتش انقذها من اللي هي فيه .. و الله اعلم حصلها ايه دلوقتي ! .. الله اعلم عمل فيها ايه و انا قاعد هنا متكتف مش قادر اعملها حاجة.
ثم أضاف بمرارة و ضميره يعذبه في العمق:
-ازاي هحط وشي في وش اخويا لما اقابله ؟ .. هقوله ايه ؟ .. هقوله ماعرفتش احافظ علي بنتك اللي سيبتها امانة في رقبتي ؟ هقوله إتاخدت من قدامي و انا كنت واقف ساكت ماعملتش حاجة ؟ هقوله ايه يا رشدي ؟ .. هقوله ايه ؟؟
تغضن جبين "رشدي" بعبسة متأثرة ، فمد يده و ربت علي كتف صديقه و قال مواسيا يمده بالصمود و قوة البأس:
-اهدا يا توفيق .. اهدا ان شاء الله بنت اخوك لسا بخير و هنرجعها قبل ما ايده تتمد عليها بالسوء.
-هنرجعها !!
ردد "توفيق" مستوضحا ، فأومأ الأخير قائلا:
-اه هنرجعها .. انا مش هاسيبك يا توفيق ، هقف جمبك لحد ما ترجع بنت اخوك و تطمن عليها.
إبتسم "توفيق" بسخرية و قال:
-و هنرجعها ازاي يا رشدي ؟ .. الجبان مالي قصره حراسة و بيتحامي فيهم .. محدش يقدر يدخل القصر بسهولة.
ضربه "رشدي" بخفة علي ذراعه و هو يقول بثقة:
-يابا علي نفسه هو و حراسته .. ده انا عندي رجالة تحت في الورشة لو فذيتهم علي قصره ده هيطربأوه فوق دماغه و يجيبوا عاليه واطيه ، ده غير رجالة الغورية كلها اللي نفسهم يخدموا رشدي مجالات .. قول امين انت بس و مالكش دعوة ، و ان ماكانتش بنت اخوك تبات في حضنك الليلة دي ابقي قول عليا مش راجل.
صمت "توفيق" للحظات يفكر ، ثم قال بهدوء:
-لأ يا رشدي .. انا عايز ارجعها بدون مشاكل ، مش عايزك تتآذي بسببي كمان .. انا في حاجة في دماغي لو تمت زي ما انا عايز هانيا هترجع قريب .. و لو ماتمتش ، هلجألك اكيد.
وضع "رشدي" يده فوق يد "توفيق" و شد عليها قائلا:
-و انا مش هتأخر عنك يا توفيق .. هتلاقيني واقف جمبك و في ضهرك.
دق جرس الباب في تلك اللحظة .. فنهض "رشدي" و إتجه صوبه و فتحه ، ليصطدم بإمرأة حسناء ترتدي فستانا فضفاضا من الساتان البنفسجي السميك ، و شعرها النحاسي القصير ممشط بعناية ..
إستطاع "رشدي" أن يخمن هويتها ، و لكنه تساءل بلهجة مهذبة:
-ايوه يافندم ! اي خدمة ؟؟
بشيء من التوتر قالت المرأة:
-توفيق .. موجود هنا ؟؟
-ايوه موجود .. حضرتك مدام دينار حرمه مش كده ؟؟
أومأت "دينار" رأسها ، فإبتسم "رشدي" ببساطة و تنحي جانبا و هو يدعوها للدخول قائلا:
-اتفضلي ادخلي.
خطت "دينار" داخل الشقة و هي تبحث بعينيها عن زوجها حتي وجدته جالسا في هدوء بالصالون المقابل للباب ، بينما حانت منه إلتفاتة نحو باب الشقة فوقع بصره علي زوجته ..
نهض "توفيق" من مجلسه و هو يهتف قاطبا حاجبيه:
-دينار ! .. انتي جيتي هنا ازاي ؟ عرفتي مكاني ازاي ؟؟
لوت فمها بإبتسامة ساخرة و أجابته:
-اللي يسأل مايتوهش.
بتهكم لاذع سألها "توفيق":
-و سألتي مين بقي ؟؟
قطع "رشدي" حديثهما في تلك اللحظة بقوله:
-طيب يا توفيق انا نازل الورشة ، لو عوزت حاجة كلمني.
و غادر الشقة مسرعا ، بينما وقف "توفيق" في مواجهة "دينار" صامتا للحظات ، ثم سألها ببرود و هو يعاود الجلوس مجددا:
-خير يا دينار ؟ .. جاية عايزة مني ايه ؟ ماعتقدش اني بقيت مفيد ليكي او للولاد زي زمان !
تنهدت "دينار" بثقل و تقدمت نحوه ، ثم جلست في مقعد قبالته و قالت بلهجة مفعمة بالحزن:
-من ساعة ما سيبت البيت يا توفيق و كل حاجة بدأت تنهار .. انا ماعتش قادرة اشيل الحمل لوحدي .. محتاجاك جمبي.
هز "توفيق" رأسه بسخرية و قال بإستخفاف:
-و محتاجالي ليه يا دينار ؟ .. انا مابقتش نافع خلاص ، ربنا يخليه مروان بقي كبر و بقي راجل .. دلوقتي يقدر يشيل المسؤولية و اتتي تقدري تعتمدي عليه .. و لا انتي بتعتمدي عليه بس في امور تانية !
هزت رأسها في خزي قائلة:
-مالوش لزوم الكلام ده لوقتي يا توفيق.
بشيء من الإنفعال رد "توفيق":
-لأ لي لزوم يا دينار .. ان كنتي نسيتي بالسرعة دي افكرك .. مش انتي اللي روحتي تشجعيه و هو بيرفع قضية الحجر عليا ؟ مش انتي اللي ساعدتيه ؟ .. جاية دلوقتي عايزه مني ايه ؟ .. احمدي ربنا اني ماطلقتكيش .. انتي علي ذمتي لحد دلوقتي بس كرامة لابوكي الله يرحمه .. انا وعدته اني مش هفرط فيكي.. بس مش هقدر ارجع اعيش معاكي زي الاول .. مش هقدر اسامحك.
شعرت "دينار" و كأن خنجرا حادا يضرب صدرها مع كل كلمة أطلقها "توفيق" ..
كانت عاجزة عن الرد ، خاصة و إنها تدرك في أعماقها أنه لا يقول سوي الحقيقة المجردة ..
و لهذا إبتلعت غصتها المريرة ، و تطلعت إليه دامعة العينين و قالت:
-انا بعترف اني غلطانة .. و مش جاية اطلب منك السماح .. انل بس جاية اطلب منك تلحق ابنك قبل ما يضيع يا توفيق ، لو مالحقتوش هيضيع مننا احنا الاتنين .. ده مهما كان ابنك بردو.
عبس "توفيق" متسائلا بوجوم جاف:
-ايه اللي حصل ؟؟
مسحت "دينار" الدموع التي فرت من مآقيها إلي وجنتيها بظهر يدها ، و نظرت إليه صامتة لثوان ، ثم راحت تقص عليه الأمر كله ...


قضت "رضوي" ساعات النهار الأولي في التسوق و إختيار الألبسة الجديدة التي تناسب إطلالة العصر ..
و بعد أن فرغت أخيرا من رحلة البحث الشاقة و الدقيقة .. خرجت من بناية السوق التجاري الشهير ، و نزلت إلي الكراچ حيث صفت سيارتها هناك ..
وصلت عند السيارة و فتحتها ..
و لكنها لم تلبث أن تنبهت لصوت أفزعها يهمس من خلفها:
-لو تعرفي وحشتيني اد ايه !!
كان الصوت مألوفا لديها .. ذا لهجة ناعمة رقيقة لا تعكس حقيقة صاحبها قط .. لقد مضي علي سماعها ذلك الصوت ثلاث سنوات ، و ها قد قاربت علي نسيانه ، لكنها مع هذا لم تلتفت كليا نحوه ..
فقد خشيت أن يكون موجودا بحق .. فهي تخافه بشدة ، تكرهه تمقته إلي أقصي حد ..
لا تريد رؤيته أبدا .. لكن الصوت تساءل بتصميم:
-يا تري وحشتك انا كمان يا رضوي ؟؟
مالت برأسها إلي الوراء قليلا .. فلمحت حذاءً جلديا أسود اللون ، و سروالا من القماش الأبيض ، يعلوه قميصا مرجانيا مكسوا بسترة سوداء جلدية ..
رفعت وجهها قليلا ، فإصطدمت بوجهه .. لا .. انه هو يقف أمامها حقا .. لم تكن تتوهم وجوده أنه هو .. "أكرم" .. زوجها السابق ..
لم تشعر "رضوي" بما حل به من تغيير ، فما زال عريض المنكبين ، رشيق ، و جذابا ، و لكن بعض التجاعيد ظهرت حول عينيه ، كما أنه ترك لحيته تنمو كثيرا ، أما شعره الأسود الكثيف الطويل ، ما زال منسجما مع عينيه شديدتي السواد ..
كانت "رضوي" تقف في مواجهته هادئة ثابتة .. إلي أن تسللت رائحة عطره الثقيل النفاذ إلي أنفها .. ذلك العطر المفضل لديه و الذي يميزه ، ذكرها به و بما فعله بها ..
إنتفضت مذعورة و تراجعت إلي الخلف حتي إلتصقت بباب سيارتها و هي تنظر إليه بعينين متسعتين منتظرة أن يقوم بأي حركة لكي تصرخ عاليا ..
و بالفعل إقترب منها و هو ينظر إليها بشوق ، فصرخت فيه:
-خليك مكانك .. اوعي تقرب مني.
كان قلبها يخفق خفقانا شديدا ، و شعرت أن قدميها تخونانها ، فإستندت بمرفقيها إلي مقدمة سيارتها ، بينما مد "أكرم" يده لملامسة خدها الناعم ، ففتحت فمها بصورة تلقائية و همت بالصراخ ..
فأسرع إليها "أكرم" و أحبط محاولتها مطبقا بيده علي فمها ، ثم لف ذراعه حول كتفها و شل حركتها العنيفة و هو يحاول أنه يهدئ من روعها ..
بينما أخذت "رضوي" تغالبه بكل قواها ، و لكن عبثا .. كانت بين يديه كالدمية التي لا حول لها و لا قوة ..
و فيما هي تحاول الفكاك من بين ذراعيه ، إقترب بفمه من أذنها و همس بدفء:
-اهدي يا حبيبتي .. ماتخافيش انا مش هعملك حاجة .. انا جيت عشان اتكلم معاكي بس .. صدقيني وحياتك عندي انا مش جاي آذيكي .. انا بحبك يا رضوي.
و لكن دون جدوي ، ظلت تقاومه بجنون و هي تصرخ بهستريا فيخرج صوتها أنينا مخنوقا من تحت كفه ..
فما كان منه إلا أن أفلتها مرغما ، فأسقطت الأغراض التي كانت تحملها بكلتا يديها أرضا و إستقلت سيارتها ، ثم إنطلقت بأقصي سرعة ممكنة حتي تبعد نفسها عن متناوله ...


-طب و انتي عايزاني اعمل ايه يعني ؟؟!
قالها "توفيق" ببرود مزدر ، فرفعت "دينار" حاجبيها في دهشة قائلة:
-عايزاك تعمل ايه ؟ .. عايزاك تلحق ابنك قبل ما يضيع.
نظر "توفيق" أمامه و لم يقل شيئا للحظة ، ثم تكلم بهدوء و حزم:
-انا ماليش دعوة يا دينار .. دي مش مشكلتي ، دي مشكلته هو ، و هو ادري بمصلحته مابقاش قاصر يعني.
حدجته "دينا" في عدم تصديق ، ثم قالت بذهول:
-ايه اللي انت بتقوله ده يا توفيق ؟؟
-اللي سمعتيه يا دينار.
أجابها بقسوة متعمدة ، فعلت نبرة صوتها و هي تقول:
-انا مش مصدقة اللي بسمعه منك ! انت هتتخلي عنه يعني ؟ هتسيبه يغرق ؟ ده ابنك يا توفيق .. احنا ماعندناش غيره .. معقول هتسيب مروان ؟؟!
صاح بها "توفيق" في عنف و فد طغي صوته الهادر علي صوتها:
-انتي السبب في كل ده .. انتي السبب في اللي وصله ابنك ، انتي اللي فسدتيه و من زمان ، دايما كنتي بتداري عليه و مدلعاه كنتي بتشجعيه علي الطيش و لما كنت بقولك اللي بتعمليه ده نتيجته هتبقي سليية مش ايجابية ، كنتي تردي و تقوليلي نفس الكلام اللي قولتيه دلوقتي .. ده وحيدنا ، خليه ينبسط ، احنا ماعندناش غيره .. اهو اشربي بقي.
ثم رفع يده و هز بسبابته قائلا:
-اوعي تلوميني علي اي حاجة .. لومي نفسك و بس يا دينار.
عضت "دينار" علي شفتها السفلي بقوة ، ثم سألته بإيجاز كي لا تنفجر باكية:
-يعني هتسيبه ؟؟
لم يجب "توفيق" .. بل إكتفي بنظرة قوية خرساء .. فهزت "دينار" رأسها قائلة بصوت متهدج:
-ماشي يا توفيق .. سلام.
و نهضت متجهة صوب باب الشقة .. إلتفتت تنظر إليه بخيبة أمل مريرة و دموعها تتلألأ علي وجنتيها ، ثم غادرت بعد أن أغلقت الباب من خلفها بهدوء ..
بينما وضع "توفيق" رأسه بين كفيه و هو لا يدري من أين تأتي الكوارث تباعا ؟؟


بعد أن أخذ حماما ساخنا يستعيد به نشاطه و حيويته .. وقف يتأمل نفسه و ملابسه أمام المرآة .. لم يكن يرتدي بذلة أنيقة و ربطة عنق كالعادة ..
بل قميصا أسود بسيطا و سروال أسود أظهر تفصيلته الرياضة الرشيقة و طول ساقيه ، و فوقهما إرتدي سترة كحلية مفتوحة فلم يفقد هيبته المعتادة ، أو وقاره ، بل إزداد شبابا و رجولة ..
سمع طرق علي باب غرفته ، فإنطلق صوته الصارم يسمح بالدخول للطارق ، فدلفت إحدي الخادمات متوسطات العمر و قالت بخفوت:
-عاصم بيه .. الاستاذ زين جه تحت حضرتك.
تجهم وجه "عاصم" للحظات ، قبل أن يقول بجمود:
-طيب .. قوليله نازل حالا.
إنحنت الخادمة لسيدها بتهذيب ، ثم إنسحبت في هدوء ..
بينما إلتقط "عاصم" قنينة عطره ، و نثر منها بغزارة فوق ملابسه و حول عنقه ، ثم وضعها بمكانها و غادر الغرفة إلي الطابق الأرضي ..
كان "زين" يجلس هناك بقاعة الجلوس المضاءة بالثريات اللامعة و التي بعثت نورا ذهبيا خافتا ، أضفي علي المكان جوا من الدفء و الألفة الحميمية ..
وقف "عاصم" أمام "زين" صامتا .. تبادلا نظرة متوترة ، و ظل لسان كل منهما مترددا في الكلام ..
إلي أن قطع "زين" الصمت عندما نهض و تقدم من "عاصم" قائلا في عتاب بصوته الخفيض:
-تعرف ان زعلك وحش اوي ؟ .. يعني عشان اختلفنا علي حاجة انا و انت و لأول مرة تقاطعني اسبوع بحاله ؟؟!
تنهد "عاصم" بعمق ، ثم منحه إبتسامة بسيطة و قال:
-ماقدرش اقاطعك .. انت اخويا يالا مش صاحبي و شريكي بس.
ثم عانقه بعاطفة أخوية و ربت علي كتفه قائلا:
-عمري ما اقدر ازعل منك اصلا.
إبتسم له "زين" بخفة و قال:
-و انا ماقدرش اضايقك يا عاصم .. شوف انت عايز تعمل ايه و انا معاك فيه.
تصاعد رنين هاتف "عاصم" في تلك اللحظة ، فأخرجه من جيب سترته و نظر إلي الشاشة ليري هوية المتصل .. ثم نظر صديقه قائلا:
-هرد علي المكالمة دي و راجعلك.
أومأ "زين" رأسه ، فتواري "عاصم" عن ناظريه داخل غرفة مكتبه ..
و بينما كان يعاود "زين" الجلوس مجددا ، لمح "هانيا" تهبط الدرج بخفة و هي تصوب نحوه نظرة متسائلة ..
نهض "زين" مجددا ، و مد يده عندما إقتربت منه ليصافحها ..
تجاهلت "هانيا" يده الممدودة و حدجته بنظرة متعالية ، فإبتسم "زين" برقة و قال بهدوء:
-اعرفك بنفسي .. انا زين الرويعي .. الصديق الصدوق لعاصم الصباغ و بير اسراره و دراعه اليمين كمان.
قفز الإزدراء بملامحها في لمح البصر ، فقهقه "زين" بخفة و قال:
-انتي بقي مش محتاجة تعرفيني علي نفسك .. لاني عرفك كويس .. انتي هانيا مصطفي علام .. الضحية الجميلة في قصة الانتقام اللي تنفع تتعمل مسرحية او فيلم سينيمائي.
إستشاطت غضبا من مزاحه الثقيل ، فإستدارت و همت بالرحيل ، إلا أنه قبض علي رسغها و أعادها إلي مكانها قائلا:
-انا عارف انك هنا غصب عنك .. و صدقيني انا عايز اساعدك.
و تلفت حوله في توجس يتأكد من عدم وجود "عاصم" بالقاعة ، ثم إقترب منها قليلا و قال بخفوت أقرب إلي الهمس:
-انا مستعد امشيكي من هنا .. ممكن اهربك !
 



إعدادات القراءة


لون الخلفية