الجزء 21: صقيع في القلب

تصبب جسد "مروان" كله عرقا باردا ،،
و قد فقد نصف وعيه تقريبا نتيجة الطعنات الثلاث التي تسببت في خسارته أكبر قدر من الدماء التي يحويها جسده ، سحب "عبيد" نصل الآلة الحادة من بين جنب "مروان" ببطء ، و كأنه يريد أن يستمتع بإنتقامه حتي النهاية ..
فيما تركه "سالم" يسقط أرضا في الحال .. كان جسده قد بدأ يرتجف في توجس جراء تلك المناظر الدموية الممتدة علي مرمي بصره و التي شارك فيها بنفسه بمنتهي العنف و الوحشية .. :
-يلا بينا بقي يا عبيد.
قالها "سالم" بشيء من الإرتباك ، فهز "عبيد" رأسه موافقا ، دون أن يحيد بنظره عن جثة "مروان" المنسدحة فوق الأرض و الغارقة تماما بالدماء ..
إكتفي "عبيد" من النظر إلي جثة "مروان" و قد نجح في حفظ صورته بعقله علي تلك الحالة حتي يعاود إستذكارها فيما بعد وقتما يشعر بمرارة الخزي و الخيانة ..
إستدار "عبيد" و إتجه إلي خارج الشقة .. أحضر كيسا كبيرا مصنوع من القش ، ثم ألقاه فوق جثة حنة الهامدة بالكامل ، و خاطب "سالم" بإقتضاب:
-تعالي شيل اختك و حطها جوا الشوال ده.
قطب "سالم" مستغربا ، و سأله:
-اشمعنا ؟ .. احنا خلاص ردينا شرفنا و ماعدناش عايزينها.
شبت نيران الغضب في أعماقه مجددا ، و رقص اللهب في عينيه و هو يقول بصوته الجلف ، و بكل ما فيه من غل:
-انا حالف لأرميها بإيدي و هي ميتة و غارقانة في دمها في صندوق الزبالة.


-يا لهوي .. انا عمري ما شفت بجاحة بالشكل ده !!
تفوهت السيدة "قوت القلوب" بهذه الكلمات أمام غرفة الصالون المتواضعة بمنزلها مغتاظة من تصرفات خطيب إبنتها ، المقدم "إياد راشد" فيما قهقهت "هنا" بمرح ، و قالت بخفوت تخاطب والدتها:
-طب هنعمله ايه بس يا ماما هنطرده يعني ؟ و بعدين مالك بس يا قوت ما انتي كنتي بتحبيه !!
بمزيد من الحنق ردت "قوت القلوب":
-حبه برص ، المفروض يكون في حساسة مش كفاية بينطلنا هنا كل يوم ، لأ و بيقعد معانا لنص الليل ! .. الناس تقول ايه ؟؟
كممت "هنا" فمها بكفيها تمنع ضحكة مجلجلة من الإفلات من بين شفتيها ، بينما إستشاطت "قوت القلوب" غيظا مضاعفا و هي تقول:
-انتي يا بت ماتغظنيش .. مش علي اساس ماكنتيش طايقاه لما جه يتقدملك ؟ دلوقتي بقي عسل علي قلبك ياختي !!
ثم أمرتها بلهجة قاطعة:
-اتفضلي خشي سربيه و بالذوق كده ابقي فهميه ما ياخدوش العشم اوي في القعدة عندنا.
إزدادت ضحكات "هنا" فرددت كلمة أمها:
-اسربه ! .. حاضر يا قوت هدخل اسربه.
و إتجهت "هنا" نحو حجرة الجلوس ، حيث كان "إياد" يجلس هناك فوق الآريكة العتيقة ، منكمش الوجه و قد شعر بالملل الذي إستحال إلي الغبطة عندما رأي "هنا" مقبلة عليه مبتسمة ..
بادلها الإبتسامة عينها بدوره ، و نهض لملاقاتها ، ثم قال بشيء من العتاب:
-ايه يا هنا .. بتروحي فين و بتسبيني ؟ هو انا جاي اقعد مع عفشكوا و لا جاي اقعد معاكي ؟؟!
إحتقنت وجنتيها بدفقات دمائها الساخنة ، و لكنها إعتذرت منه مطرقة رأسها لتتجنب إشتباك نظرها بنظره:
-معلش يا إياد كنت بعمل حاجة مع ماما بس.
-ماشي يا ستي ، خلاص مسامحك .. تعالي بقي اقعدي جنبي هنا ، عايز اكلمك شوية.
تلعثمت "هنا" قليلا و هي تحاول أن تقول:
-لل لأ ما ماهو ماهو ..
عقد "إياد" حاجبيه في إستغراب قائلا:
-ماهو ايه يا هنا ؟ .. في ايه ؟؟
ضغطت "هنا" علي شفتيها في قلة حيلة ، ثم قالت بلطف آسفة:
-معلش يا إياد .. انت لازم تمشي دلوقتي ، الساعة عدت 12 و مش حلو الناس تشوفك نازل من عندنا بعد نص الليل كده.
-اااااه.
قالها "إياد" متداركا بشيء من السخرية ، ثم سألها:
-هي مامتك بقي كانت بتناديلك عشان كده ، عشان تسربيني.
مرة أخري ، إنفجرت "هنا" ضاحكة ، فعاد يسألها بغيظ:
-بتضحكي علي ايه ؟؟
أجابت من وسط موجات ضحكها:
-اصلها قالتلي سربيه فعلا.
رفع حاجبيه مدهوشا ، فهدأت "هنا" نوبة ضحكها ، و مدت يدها و ربتت علي كتف "إياد" قائلة:
-معلش يا إياد .. ماتزعلش عشان خاطري.
إبتسم "إياد" بخفة ، و قال:
-لأ يا ستي مش زعلان ، اهو كلها شهر و هتبقي مراتي و هاخدك من هنا خالص بقي .. يعني لا حد يقولك سربيه و لا غيره.
أهدته "هنا" إبتسامة رقيقة ، ذكرته بأول لقاء لهما ، فضحك بقوة ، فسألته بإستغراب:
-بتضحك علي ايه ؟؟
أجابها مشاكسا:
-افتكرت اول مرة اتقابلنا .. اللي يشوف وش الرقة بتاعك دلوقتي ، مايشوف الوش الخشب اللي صدرتيهولي ساعتها.
ثم غمز لها قائلا:
-فاكرة ؟؟
و تابع ضحكه ، بينما إغتاظت "هنا" منه ، فكورت يدها و ضربته في صدره قائلة:
-بقي كده ؟ بقي انا صدرتلك وش خشب ؟ .. مااشي.
أطلق "إياد" آهة مصطنعة و هو يدلك مكان ضربتها ، ثم قال:
-يا مفترية .. بتفتري عليا من دلوقتي ؟ اومال لما نتجوز هتعملي فيا ايه ؟؟
ردت "هنا" مستنكرة:
-مين اللي بيفتري علي التاتي دلوقتي ؟؟
إتسعت إبتسامته و هو يقول بلطف:
-خلاص يا ستي ، انا اسف حقك عليا.
و هنا ، دق جرس الباب ، فإستذنت منه "هنا" لتذهب و تتحقق من هوية الطارق ، فإستوقفها بقوله:
-استني يا حبيبتي ، ما انا كده كده متسرب .. خديني في ايدك.
عاودت "هنا" الضحك مجددا و هي تتقدمه تجاه باب المنزل .. فتحت "هنا" الباب ..
لتتفاجأ برؤية عمتها و إبنتها .. بهتت إبتسامة "هنا" حتي إختفت تدريجيا ، لكنها أسرعت تنتزع من أعماقها إبتسامة أخري لتغلف بها مجاملتها لا أكثر:
-عمتي هويدا .. ايه المفاجأة الحلوه دي ؟ ازيك يا عمتي ؟ ازيك يا سميه ؟ اتفضلوا اتفضلوا واقفين ليه ؟؟
كانت عيني عمتها متعلقة بـ "إياد" حيث راحت تتفحصه بدقة .. ثم أخيرا نطقت ، فقالت:
-ازيك انتي يا بنت اخويا ؟؟
-الحمدلله يا عمتي كويسة.


ثم تنقلت ببصرها بينها و بين "إياد" و قالت:
-اتفضلي يا عمتي ادخلي انتي و سميه ، ده إياد كان لسا هينزل حالا.
ردت السيدة "هويدا" بإبتسامة لم تصل إلي عينيها:
-نازل ليه بس ؟ .. ادا حضرت الشياطين ذهبت الملائكة يعني ؟؟
إبتسم "إياد" في تهذيب ، ثم قال بإسلوبه الرسمي الرجولي:
-لا ابدا حضرتك مش كده خالص ، بس الوقت اتأخر و انا لازم اروح انام عشان ورايا شغل الصبح بدري.
ثم إستأذن منهن و رحل ..
راقبته أعين الأم و إبنتها و هو يهبط الدرج بخفة حتي تواري عن أنظارهما .. :
-الله ! ما تدخلوا يا جماعة واقفين عالباب كده ليه ؟؟
إلتفتت عمتها إليها ، و لبت دعوتها بالدخول .. تبعتها إبنتها إلي الداخل ، فيما تنحنحت السيدة "هويدا" قبل أن تقول متشدقة:
-معلش بقي يا هنا طبينا عليكوا علي غفلة ، بس اصلنا كنا في مشوار قريب منكوا و الليل دخل علينا ، فقلت لسميه نروح بيت خالك نبيت فيه الليلة دي و الصبح نبقي نروح.
عند ذلك ، ملأ "هنا شعور الضيق و التأفف ، و لكنها لم تستطيع أن تفعل أو تقول شيئا سوي:
-هتنورونا يا عمتي و الله .. و الله.
-الله يخليكي يا حبيبتي .. اومال فين امك ؟؟
-هدخل اندهلها اهو .. البيت بيتكوا طبعا.
و ما أن إستدارت عنهم ، حتي ظهرت علي وجهها كل مشاعر الحنق التي راحت تعتمل بداخلها ...

 


كان "مروان" نصف واعيا بما يدور حوله ..
فقد سمع الحديث الذي دار كله بين "عبيد" و "سالم" .. ظل ساكنا بلا حراك حتي إنتهيا من فعل ما عزما علي فعله ، و تركا الشقة تماما خالية ، إلا من "مروان" الذي بات لا حول له و لا قوة ..
و لكنه بمنتهي الصعوبة ، حاول أن يحرك يده .. و قد نجح نسبيا في ذلك ..
فمد يده المرتعشة إلي جيب سرواله الخلفي ، و بصعوبة أيضا ، جاهد حتي أخرج هاتفهه ..
ففتحه و ضرب رقم هاتف والده بأصابع باردة مرتجفة و ملطخة بدمائه .. من حسن حظه أنه قام بتغيير رقم هاتفهه مؤخرا ، فلو كان رأي والده رقمه القديم علي شاشة هاتفهه ، ما كان ليجيب إتصاله أبدا ..
وضع "مروان" الهاتف علي أذنه في إنتظار الرد ..
و بالفعل ، أتاه صوت والده بعد لحظات:
-الو !
كم كان من العسير علي "مروان" أن يفعل ذلك ، و لكنه ناضل حتي خرج صوته ضعيفا مبحوحا متحشرجا:
-بـ .. بـ ، بابا.
جاء رد "توفيق" سريعا متوجسا:
-مروان ! في ايه مروان ؟ مالك ؟؟!
ضعف معدل تنفس "مروان" .. فلم يستطع سوي أن يهمس بأخر جملة:
-الـ الحقني يا بابا.
ثم فقد وعيه تماما ...


علي الطرف الأخر ..
إنتفض "توفيق" واقفا و هو يصرخ بإبنه:
-مروااان .. مروااااان رد عليا !!
كان "توفيق" قبل مكالمة إبنه يعد نفسه للنوم ، فيما الأن ، أخذ ينادي عليه بلا جدوي ،
و لما فقد الأمل في رده ، أجري الإتصال بزوجته ..
و ما هي إلا ثوان حتي جاء صوتها ، فصاح بها:
-ابني فيين يا ديناار ؟ مرواان فييين ؟؟؟

 


أمام باب العمارة التي كانت تقطن فيها قديما عائلة "توفيق علام" .. دوت أبواق سيارات الشرطة و الإسعاف ..
في نفس اللحظة التي وصل فيها "توفيق" إلي هناك قبل "دينار" .. ركض صوب باب العمارة ، و لكن عددا من العسكر منعوه عن بلوغ هدفه ..
فأخذ يصيح فيهم بضراوة:
اوعوا .. سيبوني .. ابني فوق ، سيبووني.
و هنا ، أقبل عليه الضابط المسؤول ، و راح يهدئه بقوله:
-يا أستاذ .. يا استاذ من فضلك اهدا ، مش هينفع تطلع ، ده مسرح جريمة و في ناس بتشوف شغلها فوق.
إلتفت "توفيق" إليه ، و سارع يصرخ فيه بكل جنونه:
-ابني بيموووت.
شعر الضابط بأن "توفيق" علي وشك أن يفقد عقله ، فأسرع يقول في إشفاق:
-في مسعفين معاه فوق يا استاذ ، ماتقلقش .. خير إن شاء الله.
في اللحظة التالية ، تناهي إلي سمع "توفيق" صوت صراخ "دينا" و عويلها ، فإستدار ليجدها تركض صوبه و "رضوي" في أعقابها مباشرة عيناها تنزفان بالدموع هي الأخري ، فيما توسلت "دينار" زوجها بقولها:
-فين مروان يا توفيق ، قولي فين ابني؟ جراله ايه ؟؟
-اهو !
صاحت بها "رضوي" و هي تشير بإصبعها نحو السرير النقال الذي حمل "مروان" فوقه .. قفز "توفيق" من مكانه جريا نحو إبنه ، و صوبت "دينار" نظرها المذعور تجاهه ، فغطت فمها في صدمة مما رأت ..
الملاءات البيضاء التي إفترشت السرير ، و التي إلتحف بها "مروان" جميعها غارقة بالدماء ..
كان السير كثيفا طيلة الطريق إلي المستشفي ، و أكثر من مرة شعر "توفيق" برغبة عارمة لإطلاق صوته بالصراخ في كل السائقين و رجال المرور الذين يشغلون الطريق دون مبرر ..
لكنه لم يفعل ، فقد خيم الصمت عليه و علي زوجته و إبنته اللتين جلستا إلي جواره داخل عربة الإسعاف مع "مروان" .. لا شيء يقال الأن ، فقط مجرد الإنتظار و الترقب و الدعاء ..
تأمل "توفيق" إبنه الغائب تماما عن الدنيا و ما فيها .. فلم يكن يتصور أن يجد "مروان" الشاب الشامخ الممشوق القوام طريح الفراش هكذا ..
وجد سائق العربة مكانا للتوقف أمام المدخل الرئيسي للمستشفي ، فأسرع رجال الإسعاف بنقل "مروان" إلي الداخل ..
و تمت إجراءات تسجيل الدخول بصورة سريعة ، و إستطاعت غرفة الاستعلامات تأمين طاقم من أفضل الأطباء بالمشفي لعلاج "مروان" ..
جاءت ممرضة بخطوات سريعة ، و قادت "توفيق" و عائلته إلي جناح الطوارئ ، و هذا يعني أن "مروان" الأن داخل حجرة العمليات ..
و مع المضي قدما وسط الإصابات العديدة الموجودة في ذلك الجناح ، بدت علي "دينار" علامات التأثر و الإضطراب ، مما دفع "رضوي" إلي الضغط علي يدها بشدة في محاولة منها لتشجيعها و تهدئة أعصابها ..
مضت عدة ساعات قبل أن يطل عليهم رجل متوسط العمر ، يرتدي الرداء الطبي الأبيض و فوقه الملابس المعقمة الخاصة بغرفة العمليات ..
ركض "توفيق" ناحيته فورا ، و قلبه يخفق بشدة ، لكنه واجه الطبيب بشجاعة مصطنعة ، و سأله:
-ابني عامل ايه يا دكتور ؟؟
في تلك اللحظة ، كانت "دينار" تقف إلي جانب "توفيق" عندما هز الطبيب رأسه بآسف قائلا:
-للأسف .. ابن حضرتك حالته سيئة جدا جدا .. و في اي لحظة متوقعين له الوفاة.
إختل توازن "دينار" فجأة لدي سماعها ذلك ، فأسرعت "رضوي" لإسنادها و دموعها تنهمر فزعا علي أخيها في صمت ..
هز "توفيق" رأسه رفضا ، و قال:
-لأ .. مش ممكن .. اكيد في حل ، مستحيل يموت.
وضع الطبيب يده علي كتف "توفيق" لمواساته و هو يقول بلطف:
-الطعنات اللي اتعرضلها كانت في اكتر المناطق خطر في جسم الانسان ، و اللي بيبقي صعب علي اكبر دكتور انه يسيطر عليها او يتحكم في امكانية شفائها .. و ابن حضرتك واخد 3 طعنات في 3 مناطق خطر مانقدرش احنا نتحكم فيها ، منها الامعاء و الكبد و الكلي ، الإصابات فيهم عميقة.
ثم تنهد و هو يخلع القفازات الطبية عن يده ، ثم يقول:
-احنا عملنا اللي علينا .. و لو طلع عليه الصبح و هو لسا عايش ، ان شاء. الله ده هيكون مؤشر كويس .. ادعوله انتوا بس ربنا يلطف بيه.
و غادر الطبيب ، تاركا "توفيق" جامدا في مكانه كمن هوت عليه صاعقة من السماء ..
لحظات سوداوية ، فاصلة بين الحياة و الموت غشيت "توفيق" .. فإستبد به شعور الآلم ممزوج بحسرة راحت تنهش قلبه .. فإن ولده الأن بين أيدي الله ، و مصيره المحتوم متوقف علي قضائه و قدره عز وجل ..
إذن ، فالأن هو لا يملك شيئا ليفعله ، و ما عليه سوي الدعاء و التضرع إلي الله ..

 


في الصباح ..
أطل النهار مشرقا دافئا بعد أن رحلت غيوم الأمس بعيدا ..
عندما إستيقظت "هانيا" .. كانت ترقد في الفراش ، و قد شدت الأغطية حتي عنقها ، و لكنها كانت تعرف أن البطانيات لا تستطيع تدفئة البرد في نفسها ..
فقد شعرت بأنها باردة ، خاوية في داخلها و هي تحملق إلي أعلي ظلال الغرفة ..
تجمدت دمعة فوق أهدابها ، حملت صدمتها ، و تساؤلاتها التي تكاد تذهب بعقلها ..
فلماذا فعل بها والدها كل ذلك ؟ .. لا تستطيع أن تصدق !
فهي طوال عمرها لم تري فيه أي نزعة شريرة .. معقول ؟! .. معقول أن هذا الذي رواه "عاصم" لها البارحة حقيقة ؟ .. معقول أن يكون هذا هو "مصطفي علام" الحقيقي ؟ .. معقول أن يكون هذا هو والدها الذي رعاها ، و أحبها ، و ساندها ، و منحها كل ما يمكن أن يمنحه الأب إلي إبنته ؟! ..
معقول أن تكون قد إنخدعت فيه كل هذه السنوات ؟ .. معقول أن يكون بكل هذا الشر ؟ .. أن يكون ثعبانا محشوا بسم اسود ؟؟!
أم أن هدا كله الذي رواه "عاصم" ليس سوي محض إفتراء !
و لكن كيف و هو كان يعلم أنها نائمة و لا تسمعه ؟
سرت رجفة متقلصة في جسمها إصطحبت سيل جارف من الدموع تدفق من عينيها ، فدفنت وجهها في الوسادة ، و تحول جسدها إلي كرة مشدودة من الآلم ..
أغمضت عينيها بشدة و هي تتمني لو يكون كل هذا من بدايته حلما مزعجا و تستيقظ منه ، و لكن للأسف .. لا يمكن أن يكون هذا الذي تعيشه حلما أبدا ..
كبحت "هانيا" نوبة الغم التي زحفت علي جسدها ، وأثقلت عليها صدرها منذ ليلة أمس ..
إنتزعت نفسها من الفراش .. و دلفت إلي الحمام ، غسلت وجهها ، و نظفت أسنانها ، ثم خرجت إلي الغرفة مجددا ..
وقفت قليلا بمنتصف الغرفة تفكر في حل سريع ، فقررت أن تخرج من شرنقتها تلك و تندمج مع الآخرين هنا ، فإذا أرادت أن تعرف المزيد حتي تستطيع أن تحكم حكما نهائيا ، عوضا عن إلقاء التهم جزافا ، إذن فعليها أن تقترب من الحقيقة بمختلف الطرق ..
إرتدت سترة صوفية بيضاء ، علي فستان أزرق سماوي بلون عينيها ، و إنتعلت حذاءً أبيض مسطحا ، ثم تركت شعرها الذهبي منسدلا حرا ..
و أخيرا ، لمسة من أحمر الشفاة ، و ها هي جاهزة الأن ..
كانت الساعة التاسعة و النصف صباحا عندما قرعت "هانيا" باب غرفتها ، لترد عليها وصيفتها الخاصة:
-افندم يا هانيا هانم ؟؟!
بلهجة مهذبة هادئة ، قالت "هانيا":
-من فضلك يا سناء روحي بلغي عاصم بيه اني حابة انزل افطر معاه.
أطاعتها "سناء" علي الفور ، و ذهبت تفعل ما طلبته منها .. و لم يمر وقت طويل حتي عادت ، فسمعت "هانيا" صوت المفتاح و هو يدور في القفل ، مما يعني أن "عاصم" إستجاب بشدة و حماس لطلبها كما توقعت ..
إبتسمت "هانيا" هازئة ، و لكنها أسرعت تداري إستهزائها عن الوصيفة الشابة حتي ..
فهي لا تريد أن يشك بها أحد .. إنه الذكاء الشخصي في مفهوم علماء النفس ، ألقت "هانيا" نظرة أخيرة علي الغرفة ، ثم أطفأت الأنوار ، و نزلت إلي الطابق السفلي ..
وجدت "عاصم" ينتظرها أسفل الدرج مباشرة ، و علامات الدهشة و الذهول تحتل جميع أركان وجهه ..
ضحكت "هانيا" في سرها و هي تراه مذهولا هكذا و لأول مرة .. صحيح أنها ما إستطاعت أن تنتصر علي ذلك المظفار ابدا ، لكنها تشعر الأن أنها ربجت ألف معركة ..
إذ يكفي ذهوله هذا .. نجحت "هانيا! في رسم إبتسامة رقيقة هادئة علي شفتيها زادته دهشة ، فقطب حاجبيه ، و أخذ يطرف بعينيه عدة مرات غير مصدق .. :
-نزلتي اخيرا !
قال العبارة و كأنه إنتظرها طويلا ، بينما لم ترد ، فقط واصلت الإبتسام ، و شرعت في التوجه نحو حجرة الطعام ، إلا أنه قبض علي ذراعها قائلا:
-لأ .. الفطار مش هنا انهاردة.
عادت تنظر إليه بإستغراب ، فإبتسم بخفة و قال:
-الفطار جاهز برا في جنينة القصر .. و لو مش هتضايقي شهاب اخويا و بنت زميلته هيكونوا معانا .. و لا هتضايقي ؟؟
هزت رأسها نفيا ، فسر لمزاجها اللين هذا و لكنه لا يستطيع أن يصدق إلي الأن ، لكنه قال:
-طب يلا بينا.
شدت "هانيا" علي يده ، و قالت:
-استني.
توقف بمكانه ، و إلتفت إليها مجددا و هو يطالعها في تساؤل ، تنهدت و هي ترفع خصلة من شعرها تدلت فوق عينها ، و قالت:
-كنت عايزة اتكلم معاك في موضوع الاول .. ممكن ؟؟
أومأ "عاصم" رأسه موافقا و هو يقول:
-طبعا .. تعالي.
و أخذها من يدها إلي داخل حجرة مكتبه .. أجلسها فوق كرسي وثير أمام زجاج الشرفة المطلة علي حديقة القصر الزاهية ، و جلس قبالتها في كرسي مجاور ، ثم سألها:
-خير يا تري ؟؟
تنحنحت "هانيا" و إصطنعت الرقة في كل تصرفاتها ، قبل أن تقول:
-انا عارفة انك هتجيب مأذون انهاردة عشان يكتب كتابنا.
عند ذلك ، تجهم وجه "عاصم" و أظلمت عينيه .. فأسرعت "هانيا" تتابع كلامها حتي لا يثور دون داع:
--انا كنت جاية اقولك اني موافقة.
للمرة الثالثة ، إستطاعت إن تذهله .. إذ نظر إليها مشدوها ، فضحكت هي بخفة و قالت:
-مالك ؟ بتبصلي كده ليه ؟ .. مش مصدقني ؟؟
أومأ رأسه إيجابا و هو يحدجها بشك ، فقهقهت بمرح ، و رددت:
-لأ صدق .. انا موافقة اتجوزك ، لكن ليا شرطين.
بفضول و ثبات ، سألها "عاصم":
-ايه هما ؟؟
غرست "هانيا" نظرتها الثاقبة في عينيه لوهلة ، ثم أردفت بنبرة متأنية:
-شرطي الاول .. لازم تديني وقت زي ما انا عايزة لحد ما انسي اللي عملته فيا ، و ماتضغطش عليا زي عادتك .. يعني مش هتلمسني الا لما اصفالك خالص عشان ماكرهكش.
-و الشرط التاني ؟؟
تساءل "عاصم" بإصغاء ، فصمتت لهنيهة ، ثم أجابت:
-الشرط التاني ان يبقي ليا مساحة كافية من الحرية . يعني اقدر اخرج و اروح و اجي براحتي مش طول الوقت ابقي محبوسة هنا في البيت.
ساد الصمت ثقيلا للحظات ، ترقبت "هانيا" قراره خلالها ، فيما هتف فجأة بلهجة قاطعة:
-موافق.
إبتسمت بإنتصار في داخلها ، إلا أنه تابع بتصميم و إصرار:
-لكن بالنسبة لموضوع الخروج ده اكيد مش هسيبك تخرجي لوحدك ، و لا هقد أئتمن حد عليكي .. انا بنفسي اللي هاخدك في اي مكان تعوزي تروحيه.
شعرت "هانيا" بالغيظ من تحكمه المطلق و المقرر دائما في كل شيء ، فحتي عندما فرضت عليه شروطها و تقبلها ، أصر أن يغلف الأمر ببصمته القاهرة ..
وافقته "هانيا" بإبتسامة صفراء قائلة:
-ماشي .. و انا كمان موافقة.
-عظيم .. يبقي متفقين ، يلا بينا بقي ، كده مش هنلحق حاجة من الفطار.
إغتصبت "هانيا" ضخكة مرحة ، و أودعت يدها الصغيرة في حضن كفه الكبير الممدود ..
فسار بها بين أروقة المنزل ، حتي خرجا إلي حديقة القصر . أقبلا علي "شهاب" و زميلته الجالسة إلي جواره علي طاولة حديدية مربعة ، مرفقة بخمسة مقاعد ..
تقدمت "هانيا" منهما و يدها لا تزال في يد "عاصم" .. بينما نهضا الثنائي المرح لملاقاتهما ، فبدأ "شهاب" أول الحديث:
-صباح الخير يا هانيا.
إبتسمت "هانيا" برقة ، و قالت:
-صباح النور يا شهاب.
-اعرفك بقي علي زميلتي الشعنونة.
لكزته الفتاة علي كتفه بخفة معاتبة ، فضحك مداعبا ، و عاد يقول:
-قصدي اعرفك بزميلتي الشقية ، حلو كده ؟؟
أومأت الفتاة رأسها بإستحسان ، فأعلن "شهاب" عن إسمها:
-الانسة هاجر الطحان.



إعدادات القراءة


لون الخلفية