أشرق الصباح بحله جديده وآمال مرتقبه ، وأزال كل الوحشة في ظلام الأمس الغابر ، بألوان زاهية وأحلام لاتعرف نهايه ..
بينما تحركت "هانيا" بقلق متأوهة بشدة .. إذ كان كل جسمها يؤلمها ، كما شعرت بثقل رأسها ..
لم تكن قادرة حتي علي رفع جفنيها لتري أين هي ؟ و ما الذي حل بها ؟؟
و لكنها في تلك اللحظة .. أرادت أن تستسلم لكل شيء ..
أرادت أن تستسلم لأنها تعبت من المقاومة ، تعبت كثيرا من التظاهر بالقوة لكي تحمي نفسها من بطش الأخرين ، و من نظراتهم المهينة الشامتة ..
اليوم و لأول مرة إختنقت "هانيا" بحبل الذل و القهر الذي لطالما أمسكت بطرفيه حتي لا يلتف حول عنقها ..
ضاعف ذلك الحبل حزنها و وهنها بقوة ، و صار مثل الأفعي التي تتأهب لتلتف حول جسد فريستها حتي تبتلعها في قضمة واحدة دون رحمة
عيناها اللتان كانتا تتظاهران بإخفاء الدموع .. أسقطت اليوم حصون قلعتها الجفنية و هجم سيل جارف من الدموع علي وجنتيها الناعمتين ..
كانت غيبوبتها قلقة .. أحست خلالها مرارا بوجود شخص يحوم حولها ..
و في إحدي المرات .. خيل إليها أن هناك يدين تلمسان شعرها ، و أن هناك صوتا خفيضا عميقا يهمس لها برقة
و رغم ذلك تملكها الرعب ، و حاولت الدفاع عن نفسها .. لكنها أدركت أن الهجوم مفاجئ و قوي ، و أنها صارت محاصرة من كل جهة ، و لا مفر من مصيرها المرير ..
أنها النهاية .. و لكن السؤال الحقيقي هو .. هل هذه هي النهاية حقا ؟ .. أم أنها فقط البداية ؟ .. بداية عذابها ..
إستيقظت "هانيا" أخيرا .. و تململت بتكاسل، و ببطء أزاحت جفنيها عن عينيها الزرقاوين ..
سكنت بمكانها للحظات مقطبة و هي تجوب المكان بنظرها
إنها في غرفة ،غرفة فسيحة للغاية ، علي سرير وثير و مريح ..
تستطيع أن تستنشق رائحة زكية منعشة ..
خلال تلك اللحظات كانت قد إستعادت بذاكرتها صورة أخر مشهد رأته قبل أن تفقد وعيها .. و في لمحة .. عادت إليها أحداث اليوم الماضي كله ، فقفزت من فوق الفراش مرتاعة ، متجاهلة آلام جسدها ..
و هنا .. سمعت محاولة لفتح باب الغرفة المغلق ، و إستدارت لتسمع تكرار الصوت ..
فشحب وجهها ، و بسرعة البرق إلتقطت من أحد الأركان تمثالا خزفيا صغيرا إستُخدم للزينة و تصدت به مستعدة إلي أن تقذفه في وجه أي شخص يريد الهجوم عليها ..
فهي لا تعرف أحدا هنا ، و لا تعلم أين هي أصلا ..
إنها وحيدة .. و ها هو موقف أخر يذكرها بوحدتها اللامتناهية ..
بينما ضحكت بسخرية علي أفكارها و هي تتساءل .. و هل من المعقول أنه إذا فكر أحد في الإعتداء عليها أو إيذاءها ، سوف يمنعه ذاك التمثال الصغير الموجود في يدها ؟!!
إنفتح الباب فجأة ، فتحفزت في وقفتها و أخذت وضعية الدفاع عن النفس و هي تبتلع ريقها بخوف و توتر ..
رأت رجلا في ثياب سوداء يتقدم نحوها بخطي وئيدة بقامته الطويلة المهيبة ..
و سرعان ما حلت الدهشة محل الخوف في نفسها عندما تعرفت عليه ..
إنه هو .. "عاصم الصباغ" .. إذن فهي بمنزله الأن !
و لكن كيف ؟ أيعقل أن يكون هو من أنقذها من بين براثن "جاسر" و زملاءه ؟؟
إستمر "عاصم" في الإقتراب منها ببطء و ها هي النظرة الذاهلة قد تلاشت من عينيه البندقيتين ، لتحل محلها نظرة واثقة جذلة ..
كان يفرد قامته بإعتداد و قد بات وجهه يحمل ملامح الخبرة التي إكتسبها طيلة سنواته الماضية و تجارب الأيام التي صنعت منه ما هو عليه الأن .. رجلا يصعب قهره .. رجلا دائما يحصل علي ما يريد ..
إنتظرت "هانيا" حتي وقف أمامها مباشرة ..
كانت تراقبه بعينين تلتمعان بشرارات الغضب و قد ظهرت علي وجهها علامات الشراسة المدمرة ..
بينما إلتقت عيناه بعينيها في تحد ، فأدركت أن ساعة المواجهة قد حانت .. :
-تقدر تفهمني انا جيت هنا ازاي ؟؟!
قالتها بحدة شرسة ، فيما تجاهل "عاصم" كلامها و نظر إلي ساعة يده قائلا ببرود:
-انتي نمتي كتير اوي يا هانيا .. عندك فكرة اننا بقينا في ضهر يوم الجمعة !
صعقت "هانيا" من عبارته .. إذ وفقا لذلك فقد مضي يوما كاملا و هي غائبة عن الوعي !
نامت أربع و عشرين ساعة متواصلة !!
تظاهرت "هانيا" بعدم إكتراثها لذلك الأمر ، و قطبت قائلة و هي تجاهد كي تبقي صوتها خفيض:
-ماجاوبتنيش علي سؤالي يا عاصم بيه ! .. انت بأي حق تجبني هنا ؟ في بيتك !!
إبتسم بسخرية و هو يجيبها بجفاء:
-احمدي ربنا اني وصلتلك في الوقت المناسب و جبتك هنا .. في بيتي .. انتي مش فاكرة اللي حصلك امبارح و لا ايه ؟؟
تعمد "عاصم" أن يصمت قليلا ، و كأنه يريدها أن تتذكر أحداث اليوم الماضي بكل تفاصيله .. ثم تابع بصوت ناعم:
-بس ماتقلقيش .. انا خدتلك حقك و اديت الكلاب دول درس عمرهم ما هينسوه.
حبست "هانيا" أنفاسها بغضب ، و تهدج صوتها بتوتر قبل أن تتمالك نفسها و تقول:
-ماتفتكرش انك كسرت عيني .. انا بيك منغيرك كنت هبقي كويسة.
-و الله !!
رد بقسوة بينة و قد إتشح وجهه بالحنق الشديد ، لكن "هانيا" لم تكن تهتم لشيء و حدقت في عينيه مباشرة و هي تقول بتحد:
-ايوه .. انا كنت اقدر ادافع عن نفسي ماكنتش محتاجة لمساعدة حد .. و حتي لو كنت محتاجة .. انت اخر واحد ممكن افكر استنجد بيه ، انت مش بني ادم اصلا ، انت واحد لا عندك شفقة و لا رحمة متعتك الوحيدة هي انك تذل الناس و تدوس عليهم و تضعفهم و ترهبهم.
أفرغت جعبتها و أشبعت رغبتها في تسديد النعوت القاسية له ، ثم شمخت برأسها في كبرياء قائلة:
-و دلوقتي و بالذوق كده .. خليني امشي من هنا حالا.
كان وجهه متقلصا بغضب طوال فترة حديثها ، لكن صوته كان هادئا و ناعما حين رد عليها:
-مش معقول تمشي منغير ما تنفذي اتفاقنا.
ثم إقترب منها أكثر و حاول ملامسة وجهها ، لكنها إنتفضت و لطمت يده الممدوة و هي تصيح بقسوة:
-اياك تلمسني .. اياك تفكر في كده اصلا !
ثم أضافت بهجوم أقسي:
-و بعدين مافيش اتفاق بينا .. احنا ماتفقناش علي حاجة .. ماكنش و لا هيكون يا عاصم يا صباغ.
و فجأة .. قفزت إلي الوراء بسرعة حتي إصطدمت بالحائط ..
إذ رأته يتقدم نحوها بخطي واسعة غاضبة .. حاولت الفرار من إمامه ، لكنه إعترض طريقها بذراعيه مسندا إياها إلي الجدار ..
فأطلقت شهقة مكتومة و إنكمشت علي نفسها محاولة حماية نفسها منه و هي تهتف بعصبية:
-طب ايه اللي انت بتعمله دلوقتي ده ؟ ابعد عني لو سمحت !
لم يجيبها في الحال .. بل أحني رأسه ليجتذب بصرها ، ثم تمتم بصوت خشن:
-طيب ليه انتي مش بتبصيلي و انتي بتكلميني ؟ مش بتحبي تبصي في وشي ؟ صح ؟ شكلي مضايقك ؟ .. عموما انا قلتلك قبل كده ان ابوكي هو السبب في اللي حصلي ، و من سوء حظك انك بنته و وقعتي في ايدي.
عند ذلك .. حدقت إلي وجهه القاس ، و صاحت و قلبها يخفق بسرعة فائقة:
-تقصد ايه ؟ انت بتهددني ؟ هتعمل ايه يعني ؟؟!
إلا أن أنفاسها أخذت تتلاحق بقوة أثارته و جذبت عينيه إلى حركة صدرها السريعة .. رفع نظره الى وجهها ليتأمل تقاطيعه الناعمة والجميلة .. عينيها البريئتين و المشتعلتين في آن .. أنفها الدقيق وفمها الوردي المثير ..
شعرت به يقترب منها أكثر ، فتراجعت بدورها أكثر حتي إلتصقت بالجدار و ضغطت عليه بجسدها و هي ترفع عينيها المذعورتين نحوه و قد إنتابها إحساس بالآسر ..
بينما دنا منها و غمغم بخفوت:
-كنت ناوي انفذ اتفاقنا الاولاني و اخليكي تقضي فترة قصيرة في قصري.
ثم خفض بصره إلي صدرها النصف مكشوف و تمتم بصوت محموم:
-بس بعد ما شفتك بقميص النوم ده .. غيرت رأيي و قررت اخليكي تقضي عمرك كله هنا ، هتجوزك !
تملكها الهلع من كلماته ، و بسرعة خفضت بصرها بدورها فأكتشفت أنها ترتدي فستانا مخمليا ، أزرق ليليا ، له حمالتان علي كتفيها ، و يبرز مفاتن جسدها بتفصيل كبير و مثير ..
إرتفعت يديها بحركة دفاعية محضة و غطت صدرها محاولة إخفاء نفسها عنه ، فسقط التمثال الخزفي الصغير من قبضتها إلي الأرض محدثا صوت طرطقة خفيفة ..
بينما هتفت و عيناها تتآججان وسط وجهها الصغير:
-انت مجنون ! انا مستحيل اتجوزك ، و بعدين فين هدومي ؟ انا ازاي آاا ..
-اهدي.
قاطعها ساخرا ، ثم قال بمزيج من الهدوء و البرود:
-عندي خدم كتير في القصر .. و في منهم ستات ، سلمتك ليهم اول ما جبتك هنا و هما اللي غيرولك هدومك .. يعني مش انا اطمني.
ثم أشار لها برأسه دون أن يحيد بنظره عنها إلي تلة من الصناديق المصنوعة من الكرتون ، موضوعة بالأرض في وسط الغرفة ، ثم قال بليونة خبيثة:
-انا اخترتلك بنفسي مجموعة هدوم و ميك اب و اي حاجة ممكن تحتاجيها من اكبر Store ( متجر تجاري ) في البلد .. عن الطريق النت ماليتلك دولاب الهدوم بكل الأصناف و الأنواع و الماركات .. انا واثق انهم هيعجبوكي ، بس يا ريت ذوقي انا يعجبك !
كادت تتكلم ، فسارع هو إلي القول بلهجة قوية قاطعة:
-باقي علي الغدا ساعة بالظبط ، انا هخليهم تحت يطلعولك اكلك هنا ، اما العشا فبيتقدم الساعة 8 بالظبط ، يا ريت تجهزي في الميعاد عشان بعد ما نتعشا سوا هاخدك اعرفك علي امي.
و لم ينتظر ردها و أولاها ظهره و غادر مسرعا بعد أن أغلق الباب من خلفه ..
تسمرت "هانيا" مكانها دون أن تحدث أي حركة .. ظلت تحدق ذاهلة في أثره الفارغ للحظات ، ثم طرفت بعينيها و حاولت تدارك الأمر ، رغم غضبها الذي أعجزها عن ذلك ..
فيما تنهدت بعمق ، ثم راحت تجوب أرجاء الغرفة بنظرها ..
كانت الغرفة جميلة جدا .. لا تستطيع أنكار تلك الحقيقة ..
عالية السقف و واسعة تماما ، و تطل علي مقدمة المنزل من خلال نافذتين عريضتين تكشفان الحديقة الخضراء المبهرة ..
إتجهت "هانيا" إلي إحدي النافذتين لتتأمل المناظر البديعة الممتدة أمامها .. هذا المنزل المترف يذكرها بمنزلها القديم الذي كانت تتشاطر و والدها العيش فيه ..
لبرهة وقفت "هانيا" صامتة أمام الستائر المخملية البيضاء .. ثم تركت النافذة لتتأمل أثاث الغرفة المصنوع كله من خشب السنديان المصقول بأناقة ..
كان هناك مقعدان وثيران و آريكة صوفية حمراء ..
و الفراش الذي إضطجعته منذ اليوم الماضي كان مفروش بأغطية بيضاء سميكة ..
و في إحدي الزوايا ، إستقرت طاولة عليها مزهرية قديمة أثرية باهظة الثمن .. و وجدت حتي جهاز تلفزيون كبير الحجم إحتل الزاوية المقابلة للفراش ..
إن أثاث الغرفة بأكمله يدل علي ذوق راق و إهتمام ملحوظ ..
بينما فجأة .. قع بصر "هانيا" علي تلك التلة التي أشار إليها "عاصم" منذ قليل ..
إقتربت ببطء و هي تدقق النظر .. كانت تلك الصناديق من مختلف الأحجام و كلها تحمل إسم الماركة العالمية الشهيرة ( Chanel ) محفورة أحرفها بالذهب ..
توجهت "هانيا" نحو الخزانة الضخمة و فتحتها لتجدها مكتظة بالملابس النسائية أيضا ، و فوق بعض الرفوف وجدت الكثير من أدوات التجميل و العطور المختلفة عن بعضها و الفريدة من نوعها ..
عادت "هانيا" مرة أخري إلي الصناديق و تناولت الصندوق الأول .. هزته بحذر ، فصدر عنه حفيف بالكاد سمعته ، أثار إهتمامها ففتحته ..
أبعدت الشرائط الحريرية الحمراء عنه ، ثم شهقت بصدمة و خجل عندما شاهدت قميص نوم شفافا من الدانتيل الوردي الناعم ..
إستشاطت غضبا و راحت تفتح باقي العلب الواحدة تلو الأخري ..
ما هذا ؟ .. تساءلت في نفسها .. إن أكثر الأغراض و الألبسة من فصيلة ثياب النوم الحالمة !
فقط هناك مجموعة قليلة من الفساتين المحتشمة و السترات المغلقة التي تتناسب مع الإجتماعات الخارجية ..
تساءلت مجددا بغضب جم .. ماذا يعني بذلك ؟ .. أن مخططاته ستتحقق و أنها سترتدي له تلك الثياب الليلية المثيرة ؟!!
تفاقم بداخلها شعورها نحوه بالكراهية و العداوة و البغض ..
لا .. لن تجعله يغزوها بهذه الطريقة الرخيصة .. سوف ترحل من هنا .. و اليوم ..
لقد رفضت الزواج منه و ستمضي في رفضها .. و لن يضيره أن يتعذب و يتعلم معني التوق إلي المستحيل .. و لو لمرة واحدة ..
علي الطرف الأخر ..
أمام الورشة الصناعية الشهيرة بحي الغورية العريق ..
أمسك "رشدي" برسغ "توفيق" في إلحاح قائلا:
-يا توفيق استني بس .. اقعد كده و استهدا بالله ، هتروح فين طيب ؟؟
جاهد "توفيق" في جذب ذراعه من قبضة صديقه بلا جدوي ، فصاح به بعصبية:
-سيبني يا رشدي ، البت مارجعتش من امبارح ، سيبني اروح ادور عليها.
سايره "رشدي" قائلا بهدوء:
-طب بس هتدور عليها فين ؟ انت عارف مكانها ؟؟
أجابه "توفيق" ثائرا:
-لا ماعرفش .. بس لو حكمت هلف البلد كلها كعب داير لحد ما الاقيها.
-طب تعالي .. تعالي بس اقعد هنا معايا.
و أخذ يجره إلي طاولة صغيرة وضعت أمام الورشة غير آبه بتأففه ، ثم جلس إلي جواره و هو يقول بلهجة رزينة هادئة:
-العصبية و الانفعال دول مش هيحلوا حاجة يا توفيق .. لازم تفكر كويس الاول عشان تعرف تتصرف صح.
باغته "توفيق" منفعلا:
-يعني عايزني اعمل ايه يا رشدي ؟ بقولك البت مارجعتش من امبارح !!
صمت "رشدي" قليلا .. ثم قال في تردد:
-طيب .. هي مش ممكن تكون عند اللي اسمه عاصم الصباغ ده ؟؟
حملق فيه "توفيق" بعينين متسعتين ، ثم صاح مصدوما و كأنه قد بوغت بقوة:
-يانهار اسود ! .. صح يا رشدي .. صح ممكن يكون خطفها !
و سرعان ما إحتقن وجهه بغضب حارق ، ثم هب واقفا و هو يهتف بشراسة:
-المرة دي مش هسيبه الكلب ده.
و قبل أن يأخذ خطوة بعيدا ، أمسك به "رشدي" للمرة الثانية و قال:
-استني بس ماتتهورش ، احنا اسلم حل نعمله دلوقتي اننا نروح نعمل محضر في القسم.
-محضر !!
قالها "توفيق" بإستخفاف ، و تابع هازئا:
-انت ناسي اللي حكيتهولك قبل كده و لا ايه ؟ ده قدر يشتري الحكومة مرة .. مش هيقدر يشتريها مرة تانية يعني !
ثم أضاف بحسم و تصميم:
-المرة دي هجيب حق بنت اخويا بنفسي .. و هرجعها انشالله يكون فيها موتي.
كان يقف أمام مرآة توسطت غرفة نومه الفخمة ذات الألوان الغامقة ..
فيما حدق بإنزعاج إلي تلك الرضوض و الكدمات التي ملأت قسمات وجهه ، و تذكر بغضب متقد ذلك الرجل الذي حرر "هانيا" من هجومه عليها ..
ما زال يذكر جيدا كيف أنه إنتزعه من فوقها إنتزاعا و أمسك بتلابيبه و قد حوله الغضب إلي وحش مخيف لم يري له مثيل من قبل ..
ما زال يذكر أيضا كيف لقنه الرجل و أفراد حراسته درسا قاسيا هو و صديقيه اللذين أرادا مشاركته رغبته المشينة المخزية ..
أفاق من شروده و هو يقسم بأغلظ الإيمان أنه سوف يقاصصه علي ما فعله به ..
أنه يعرفه تمام المعرفة .. إذ ان صوته لا زال يرن بأذنيه .. عندما كان يكيل له اللكمات بعنف .. إقترب بفمه من أذنه و همس بشراسة جلفة " محدش يقدر يحط ايده علي حاجة ملك عاصم الصباغ " ..
"عاصم الصباغ" .. لقد سمع بذلك الإسم مرارا من أبيه ، السيد "كمال الطحان" رجل الأعمال الثري و الشهير بدوره ..
علي حسب تقييم والده لـ"عاصم" أنه رجل مجتهد و حاد الذكاء ، و لكنه أفرض شخصه المنحط علي أصحاب الطبقات الإجتماعية الرفيعة ، بحيث تحول في ليلة وضحها من شاب فقير معدم إلي رجل أعمال ثريا مرموق ..
و لكن مهما كان ذا شأن عظيم .. حتما سوف يضع خطة للإنتقام منه ، لن يترك الحادثة تمر دون رد إعتبار كرامة لكبرياءه المتغطرس ..
إنتفض "جاسر الطحان" بشموخ ، و غادر غرفته بهدوء ..
هبط الدرج بخفة و كاد يخرج من باب المنزل إلا أن صوت والده إستوقفه فجأة:
-جاسر !
جمد "جاسر" بمكانه لوهلة ، ثم إستدار ليواجه والده الذي صُدم من مرآي وجه أبنه المتورم و المتضرج بمزيج من اللونين الأزرق و الأحمر .. :
-ايه اللي عمل فيك كده ؟؟
صاح السيد "كمال" بصدمة ، بينما إقترب منه "جاسر" و هو يجيبه بفتور:
-اتخانقت يا بابا.
-اتخانقت يا بابا !!
ردد "كمال" بنزق منفعل ، و عاد يسأله غاضبا:
-و اتخانقت مع مين و ليه يا افندي ؟؟
زفر "جاسر" بضيق قائلا:
-الموضوع انتهي خلاص يا بابا ، و بعدين ده شيء يخصني انا.
-اتكلم معايا عدل يا ولد !
قالها " كمال" بخشونة ، فكبح "جاسر" عصبيته بقوله:
-طيب حضرتك عايز مني ايه دلوقتي ؟؟
عاينه أبوه للحظات في تقييم مزدر ، ثم قال:
-هيئتك هيئة راجل .. لكن عقلك و تفكيرك و تصرفاتك عيالي اوي.
كز "جاسر" علي أسنانه بقوة حانقا من كلام أبيه ، بينما أشار له الأخير برأسه و هو يقول آمرا:
-تعالي ورايا.
تبعه "جاسر" علي مضض حتي وصلا إلي غرفة المكتب ..
جلس "كمال" خلف مكتبه و دعا إبنه للجلوس في المقعد المقابل له ..
و بعد صمت قصير .. هتف قائلا:
-مبدئيا عايزك تعمل حسابك بكرة الصبح هتروح مع اختك و هي بتقدم في الجامعة.
سأله "جاسر" بإهتمام:
-و اختارت تدرس ايه بقي ؟؟
بصوت خال من الحماسة أجابه والده:
-سينيما .. اختارت سينيما.
-نعم !!
هتف "جاسر" منفعلا ، و تابع:
-ده مجموعها كويس و تقدر تدخل كلية كويسة .. انت موافق علي حوار السينيما ده ؟!!
مط "كمال" شفتيه متآسفا علي عناد إبنته و قال:
-انا ماتعودتش اغصبها علي حاجة من يوم ما امكوا اتوفت الله يرحمها .. هي حرة.
صاح "جاسر" بفظاظة جلفة:
-هي حرة يعني ايه ؟ انت عارف ايه هي السينيما ؟ عارف الوسط ده بيحصل في ايه ؟؟
أجابه "كمال" بلهجة حادة:
-اختك مؤدبة يا جاسر .. و انا بثق فيها.
و قبل أن يتفوه بحرف أخر قاطعه بصرامة:
-خلاص انتهينا.
صمت "جاسر" قاطبا في غضب ، بينما غير "كمال" مسار الحديث فسأله بإهتمام:
-قولي بقي بصراحة .. مين اللي عمل فيك كده ؟؟
نظر له "جاسر" بتشكك ، فإبتسم والده بخفة و قال بلطف يحثه علي الكلام:
-قولي يا جاسر ماتخبيش عليا .. انت ابني و انا عارف انك عنيد و متهور زيي و مابتسيبش حد غلط فيك .. بس انت ابني بردو و اللي يضرك كأنه ضرني بالظبط.
إسترخت تعابير وجه "جاسر" فتنهد "كمال" بعمق و عاد يسأله:
-ها بقي .. مش هتقولي اتخانقت مع مين ؟؟
بعد تردد .. قص عليه "جاسر" الأمر كله ..
إتسعت عينا "كمال" في غضب و هو يصيح بإهتياج:
-نهارك اسود .. انت ازاي فكرت تعمل كده ؟ انت اتجننت ؟ انت مش عارف دي تبقي مين يا متخلف !!
أجاب "جاسر" بغلظة:
-عارف يا بابا .. هانيا مصطفي علام .. بنت حلوة كانت غنية لحد ما ابوها فلس و انتحر و مابقاش حيلتها و لا مليم.
ثم رفع يده إلي وجهه يتحسس صدغه الأيمن مغمغما بحنق:
-و اول واحدة ترفضني و مش كده و بس لأ دي اتجرأت عليا و ضربتني بالقلم كمان .. كان لازم اخد حقي.
صرخ "كمال" بإنفعال:
-و لما عمها ياخد خبر بعملتك السودة دي !
ببرود و لامبالاة رد "جاسر":
-هو انا لحقت اعمل حاجة .. و بعدين حتي لو عمها عرف ما هو كمان بردو فلس انت ماسمعتش اخر اخبارهم و لا ايه ؟ مش مروان ابنه رفع عليه قضية حجر و كسبها .. يعني هما الاتنين بقوا صفر عالشمال .. و لا ليهم اي لازمة ، مايقدروش يعملوا حاجة.
ثم تمتم بغيظ:
-هانيا دلوقتي ماتهمنيش اد ما يهمني اللي اسمه عاصم الصباغ ده .. لازم اربيه.
أنذره والده محتدا:
-انت مش هتعمل حاجة خالص .. الموضوع انتهي و مش عايز اسمع فيه كلمة زيادة لا من قريب و لا من بعيد .. فاهم ؟؟
-يعني عايزني اسيب حقي ؟!!
هتف "جاسر" مستنكرا ، فباغته والده بلهجة قاطعة:
-انت الغلطان في الحكاية كلها .. و اي بني ادم غيره لو كان شافك في الوضع ده كان هيتصرف زيه بالظبط .. فأعقل كده و بطل جنان .. انا مشغول الفترة دي في الشغل و مش فاضي الم وراك.
عادت "هنا" من كليتها إلي المنزل مبكرا هذا اليوم علي غير العادة ، و دلفت إلي المطبخ متسللة علي أطراف أصابعها ..
بينما كانت أمها تقف أمام الموقد تقلب الطعام بملعقة كبيرة ، فإنقضت "هنا" عليها و صاحت و هي تقبلها علي خدها:
-يا قووت القلوووب يا جميييل .. وحشتيني يا بطة.
أرتعدت "قوت القلوب" و صرخت من المفاجأة ، ثم إستدارت لتواجه إبنتها بوجه عابس و عاتبتها:
-يا ينتي حرام عليكي فزعتيني !
ضحكت "هنا" بخفة ، ثم ربتت علي كتف أمها بلطف قائلة:
-معلش يا قوت .. كنت بهزر معاكي عديها المرة دي.
تنهدت "قوت القلوب" بثقل ، ثم عادت إلي عملها وهي تستوضحها بإهتمام:
-رجعتي من الكلية انهاردة بدري يعني !
أجابتها "هنا" و هي تلهو بسلسلة مفاتيحها:
-اخر محاضرة اتلغت عشان الدكتور ساب الجامعة و مشي فجأة.
-ليه كده ؟؟
-و انا ايش عرفني ، بس اكيد حصلتله مصيبة يعني.
وبختها أمها قائلة:
-يادي لسانك المتبري منك ده .. نفسي اسمعك تقولي كلمة حلوة.
قهقهت "هنا" بمرح و قالت:
-بس كده ؟ عنيا انتي تؤمري يا بطة .. يلا بقي اما اروح اغير هدومي و اجي اشوفك طبخلنا ايه انهاردة.
دلفت إلي غرفتها .. و بينما كانت تهم بتبديل ملابسها ، سمعت صوت رنين هاتفهها يتصاعد بنغمته الصاخبة ..
إتجهت نحو فراشها الصغير و إلتقطته ، ثم أجابت علي المكالمة التي لم تتعرف علي مصدرها:
-الو !
-الانسة هنا معايا ؟؟
تسارعت نبضات قلبها بصورة جنونية عندما جاءها ذلك الصوت الغريب و المألوف في آن .. فردت بإضطراب:
-آ ايوه انا .. مـ مين اللي بيتكلم ؟؟
أجابها الطرف الأخر بنعومة:
-انا اياد .. اياد راشد.
مستحيل .. أنه هو .. نعم هو .. حدسها أكد لها ذلك منذ البداية ..
أغمضت عينيها و هي تشتم نفسها بصمت .. ثم سألته بمزيج من الإرتباك و الحدة:
-اياد راشد مين ؟ انا ماعرفش حد بالاسم ده !!
و عندما مرت عدة لحظات من الصمت ، قال بلهجة غريبة:
-بس انا اعرفك كويس اوي .. انتي اسمك هنا صلاح عبد الفتاح .. عمرك 20 سنة ، طالبة في تجارة انجلش ، وحيدة ، والدك متوفي ، عايشة مع والدتك في حي الوراق .. تحبي اقولك بيت و شقة رقم كام ؟؟
أجفلت "هنا" بذهول و سألته مشدوهة:
-انت .. انت عرفت كل ده ازاي !!
أجابها برقة:
-انا ظابط يا انسة .. كمان رتبتي مش قليلة ، و من خلال مصادري جمعت معلومات عنك من يوم ما اتولدتي لحد اللحظة اللي بكلمك فيها دلوقتي.
تمكنت من أن تقول أخيرا بجفاف:
-و ليه عملت كده اصلا ؟؟
أجابها بصوته العميق:
-لاني كنت متأكد انك مانسيتنيش ، و انك بتفكري فيا دايما .. زي ما انا بردو بفكر فيكي.
في تلك اللحظة ، تهاوت "هنا" علي فراشها و هي تلهث إعياءً .. كانت قادرة علي الإحساس بإبتسامته الواثقة و كأنها تراه ، بينما قال فجأة:
-عايز اشوفك .. ممكن ؟؟
عند ذلك .. عادت "هنا" إلي خشونتها فباغتته:
-تشوفني ! تشوفني ازاي يعني ؟ لأ طبعا ماينفعش .. انا لا هاشوفك و لا انت هاتشوفني و رقمي ده يا ريت تنساه و ماتتصلش بيا تاني يا حضرة الظابط.
رد بهدوء و ثقة:
-هو اكيد الكلام علي التليفون مش مناسب اطلاقا .. عشان كده اوعدك المرة الجاية هنتكلم مع بعض انا و انتي وجها لوجه يا انسة هنا .. سلام مؤقت.
إنتهت المكالمة فجأة .. فحدقت في الهاتف مذهولة ..
أحست بمزيج من السعادة و الإثارة و التوتر .. و قد عادت القشعريرة تغزو كيانها من جديد ، بينما راحت تتساءل .. ماذا ينوي بها ذاك الغريب ؟ و لماذا هو مهتم بتفاصيل حياتها المتواضعة إلي ذلك الحد ! .. لماذا !!
أصبح الليل أكثر حلكة .. بينما كان "عاصم" يقف أمام نافذة مكتبه ، متكئا بكتفه علي إطارها و متجها ببصره إلي السماء التي يضيئها نور القمر المتسلل من بين السحب الرمادية ..
مشاعر كثيرة كانت تغوص بداخله ، تقتحم قلبه ..
و عقله يدور بحلقة صراع كان الفائز فيه هي ..
الحيرة و الألم ماض ينخر جسده بوجع مؤلم ، وجع يسري بأوصاله صقيعا ..
يصيبه برعشة مؤلمة ، توخز قلبه ..
لطالما كان غارقا حتي أذنيه بهذا العذاب .. لكن الأن .. و هي هنا معه .. أصبح قريبا جدا من تحقيق غايته .. قليلا و ستخمد ناره ... :
-عاصم باشا ، في واحد جه برا طالب يقابل حضرتك.
كان هذا صوت حارس البوابة الضخم ، الذي دلف إليه من خلال باب المكتب الموارب ..
بينما إستدار "عاصم" و قد خرج من دائرة أفكاره .. ثم سأله قاطبا حاجبيه:
-واحد مين ؟ ماقالش اسمه ايه ؟؟
أومأ الحارس رأسه و أجابه بصوت خفيض:
-قال يا باشا.. اسمه توفيق علام.
عند ذلك .. تحفزت حواس "عاصم" بقوة و هو يسأله بجمود:
-هو فين ؟؟
-واقف عند البوابة يا باشا.
أخذ "عاصم" نفسا عميق و شد قامته بإعتداد ، ثم خرج من مكتبه ..
غادر منزله ، و تابع سيره حتي وصل إلي بوابة قصره .. حيث كان يقف "توفيق علام" هناك بإنتظاره ...