الجزء 29: إستغلال

عند دقات الثامنة مساءً ..
كان "شهاب" يجلس في حديقة القصر الخلفية ، ينتظر مجئ "هاجر" التي ستصل بعد دقائق قليلة ..
أشعل "شهاب" سيكارة و راح يدخنها بعصبية ، في حين كان يفكر ... لا زال يصر علي رفض ما تختلجه نفسه من مشاعر ناحيتها ..
فهي لا تستحق الشفقة حتي من وجهة نظره ، فتلك الفتاة الصغيرة ما هي إلا ماكرة لعينة إستطاعت الدخول لعقر داره بل و قلبه و التلاعب به ، و لا يعلم ما تخبئه له أيضا !.و لكن لا.. ليس بعد الآن ..
فإذا أحس منها غدرا أخر و لو بسيطا ، عندها ستري منه ما لم تراه أبدا في حياتها ..
أفاق من شروده علي صوت محرك سيارة ، ففطن للحال بصولها ... لم يحرك ساكنا ، فقط ظل جالسا مكانه يدخن سيكارته في برود تام غير مبال ..
بعد لحظات .. إستطاع أن يسمع وقع خطواتها المتباطئة من خلفه فوق الحشائش الخضراء ..
و هنا فقط ، القي بسيكارته بالمنفضة و أطفأها ، ثم إستقام واقفا .. أدار جسده لها ببطء ..
فإستحالت تعابير وجهه بغتة من البرود و الجمود إلي الدهشة و الذهول !
فقد رأي وجهها .. كان شاحبا ذابلا ، كما أحاطت عينيها الهالات الزرقاء القاتمة ..
بعد دقيقة كاملة من الصمت و السكون ... إقترب منها "شهاب" بخطوة واحدة ، و مد يده لياصفحها ... لكنه وجد بريقا إنطفأ قليلا فيها ..
بينما ترفع هي خصلات شعرها لأعلي ، فلم تنساب علي جبينها كعادتها ..
بدت بالفعل كما شعر بها عندما كان يحدثها عبر الهاتف و كذب نفسه .. لم يكن يريد أن يصدق بإنه ظلمها مثلما قالت له مسبقا ، و لكن نظرته تبدلت حين رآها !
سارع "شهاب" و أجلسها مكانه ، ثم جلس بجوارها في هدوء غير إعتيادي .. فدائما ما كانا يتداعبان بمجرد أن يتصافحا ..
حزن لهذه الذكريات ، إنما تركها الآن و أخذ ينظر إليها بتركيز ، كأنه يبحث عن شيء ما ..
كفت هي عن الصمت و تطلعت إليه بعينين دامعتين ... تضاعفت صدمته لمرآي دموعها ، و أصبح يكره نفسه فجأة ..
بينما مدت يدها و أمسكت بيده الملقاة فوق الطاولة أمامها .. رفعتها إلى شفتيها و قبلتها ، لأول مرة في حياتها تقبل يد رجل ، و لم تشعر بأي إنتقاص في شخصها كإمرأة ..


فهي تحبه .. تحبه كثيرا و بعكس الكثيرات لا تري كرامة في الحب ..
أجهشت "هاجر" بالبكاء و هي تهز رأسها قائلة بصوت مهزوز متقطع:
-من فضلك يا شهاب مابتعدش عني تاني .. اوعي تديني ضهرك مرة تانية و تمشي منغير ما تسمعني .. مش من حقك تخرج من حياتي بالسهولة دي ، مش من حقك تظلمني كده.
كان صوتها متهدجا ، بالكاد إستطاع أن يميز كلماتها و يدركها من بين شهاقاتها و دموعها ..
لم يتكلم "شهاب" .. بل إقترب بمقعده منها ، و في صمت و هدوء شديدين ... فرد ذراعيه و ضمها إليه ..
فمالت برأسها علي كتفه و بكت بحرارة .. كانت يده الآن تنتقل بين شعرها و ظهرها محملة بعطف عليها ، و عشق و شوق إليها ..
شعرت براحة غامرة قللت من دموعها تدريجيا ، و لما ضمن أنها هدأت تماما ، إبعدها عنه برفق ..
فإستوت هي في جلستها ، فناولها "شهاب" كوب ماء من فوق الطاولة .. أخذته من يده ، و أطبقت عليه بأصابع مرتجفة ، إرتشفت القليل ، ثم أعادته إليه ..
تمهل "شهاب" قبل أن يتحدث معها بروية و رقة قائلا:
-المفروض كنت اقابلك بشكل تاني خالص .. انما بعد ما شفتك في الحالة دي قلبتيلي دماغي يا هاجر ... توهتيني و حسستيني اني ظلمتك فعلا ، بس لو صحيح ظلمتك زي ما بتقولي .. ازاي و انتي اللي بعدتي الاول منغير سبب و لا مبرر ؟؟!
تنفست بعمق تعبة .. ثم قالت تصارحه بهزل:
-اخويا يا شهاب .. اخويا هو السبب ، شافك لما جيت تاخدني من البيت يوم فرح اخوك .. تاني يوم جه سألني عليك ، كان مصر يعرف ايه اللي بيني و بينك .. اضطريت اقوله علي كل حاجة .. قولتله اني بحبك.
و صمتت قليلا ... ثم أردفت بمرارة:


-بس لما سألني اذا كنت انت بتحبني و لا لأ .. ماعرفتش اجاوبه ، لانك ماحاولتش تقولي او تلمحلي حتي يا شهاب !
تقلص وجهه بشيء من العصبية ، فغمغم من بين أسنانه:
-يعني عشان ماحاولتش اقولك او المحلك تقومي تبعدي عني بالطريقة دي ؟ ماكنتيش قادرة تعملي اي حاجة غير كده ؟؟
ضغطت شفتيها ببعضهما في حسرة و آلم ، ثم تابعت متجاهلة كلامه:
-قالي لازم ابعد عنك .. قالي انك ممكن تكون بتلعب بيا و بتضحك عليا .. انا مابعدتش الا عشان اقربك يا شهاب ، ماكنش قصدي اي حاجة من اللي فهمتها .. انا بحبك .. و الله بحبك.
تسربت الإبتسامة إلي شفتيه ، فوضع كفيه علي خديها ، ثم قرب وجهها من وجهه و هو يهمس:
-هو كان لازم اقولك يا هاجر ؟ .. ماعندكيش احساس يعني ؟ مافيش دم خالص ؟ .. معقول ماحسيتش اني بحبك اكتر ما بتحبيني ؟؟!
وجدت نفسها تضحك بهسترية لا إراديا من مرحه و مداعبته الساحرة .. و بالأخص من إعترافه بحبه لها ..
فإرتمت بأحضانه و عانقته بشدة و كأنها تريد أن تنصهر بداخله ..
عاودتها الدموع مجددا ، و لكنها دموع الحب و الشوق في هذه المرة ..
تذوقت "هاجر" حضنه الدافئ لأول مرة .. فعرفت كيف يكون الدفء بحضن من تحب ..
بينما تنهد "شهاب" بإمتنان و راحة .. فلف ذراعيه حولها أكثر و ضمها بقوة و هو يمسد علي ظهرها و يسند ذقنه علي شعرها ...

 


-راحت فييين ؟؟!!
هكذا راح يتساءل "إياد" و هو يمضي بسيارته بين الطرقات كالمجنون لا يكاد يري أمامه ..
كان يجوب البلد طولا و عرضا باحثا عنها بصورة عشوائية جنونية .. كل الأفكار السوداء حلت علي رأسه منذ النهار و حتي الآن تحت حلكة ظلام الليل و لا زالت هي مفقودة ..
هاتفهها مفتوح ، و لكنها لا تجيب علي أي إتصالات أبدا ..
و هنا ، واتته فكرة .. فأوقف سيارته علي جانب الطريق ، و أخرج هاتفهه ..
أجري إتصالا بزميل له ، فأجاب الطرف الأخر:
-اياد باشـا .. فـينك يا كبير ؟ ليك وحشة و الله.
باغته "إياد" بعصبية مفرطة:
-وليـد .. اسمعني يا وليد و ركز معايا عايزك في موضوع مهم.
إتسم صوت "وليد" بالجدية و هو يسأله:
-خير يا إياد باشا ؟ .. أؤمرني انا تحت امرك.
-خطيبتي مختفية من الصبح ، موبايلها مفتوح بس مابتردش علي المكالمات هاديك رقمها و هفضل معاك عالخط .. تعرفلي مكانها فين بالظبط يا وليد !
-تمام يا باشا اوامرك .. اديني خمس دقايق اكون حددتلك مكانها بالظبط ، هات الرقم يا باشا.

***********************************

داخل حجرة "مروان" بالمشفي الخصوصي ..
دقق المحقق النظر في وجه "مروان" و هو يحدثه ، بينما كان يجلس "توفيق" صامتا هادئا ، يتابع إبنه و هو يردد ما لقنه إياه قبل تلك الجلسة:
-انا يومها كنت راجع من برا علي 12 بالليل كده تقريبا .. اول ما دخلت الشقة لاقيتهم جوا.
قالها "مروان" بثبات و بأس كما أوصاه والده ، فسأله المحقق بحنكة بوليسية:
-طب احنا شوفنا موبايلك و شوفنا كمان قايمة الاتصالت الصادرة و الواردة .. ايه اللي خلا حضرتك تروح الشقة رغم المكالمة التحذيرية اللي جاتلك من خدامتك ؟؟!
و ضغط علي الكلمة الأخيرة .. صمد "مروان" و هو يجيبه برتابة:
-هي ماكنتش مكالمة تحذيرية حضرتك .. حنة اتصلت تسألني في رأيي علي العشا.
حدجه المحقق بإبتسامة هازئة و هو يهز رأسه في خليط من الغضب و الإعجاب الدفين بردوده الذكية، ثم سأله ثانية:
-طب ممكن تفهمني حضرتك ايه اللي يخلي الخدامة بتاعتك تلبس بيبي - دول و هي معاك لوحدها في الشقة ؟؟!
تصنع "مروان" الجهل في هذا الصدد ، و قال:
-انا ماعنديش فكرة عن النقطة دي .. بصراحة عمري ماشوفتها لابسة كده قدامي ، لكن هي كانت لوحدها في الشقة ، يمكن كانت متعودة تلبس كده و هي لوحدها !
تنهد المحقق بصبر نافذ و هو يتابع أسئلته:
-ليه تمت محاولة قتلك مع المجني عليها ؟ .. يا ريت تجاوبني بصراحة بقي يا مروان بيه ، لان زوج المجني عليها و اخوها اللي حضرتك اتهمتهم في محضر رسمي اول ما فوقت لما مسكناهم اقروا في اقوالهم بإنها كانت هربانة معاك ، و انها زنت .. معـاك بردو .. عشان كده قتلوها كرد شرف.
إستطاع "مروان" أن يبتسم بإستخفاف ، بل و يقهقه عاليا ، ثم يقول بتعجب و إستنكار:
-معقولة ! .. هاهاهاها ، معقولة يعني حضرتك انا ههرب مع الخدامة ؟ و كمان هزني معاها ؟ هاهاها .. ليه ؟ انا شكلي مش ابن ناس و متربي و لا ايه ؟ .. و لا حضرتك شايفني صايع و مستهتر ؟؟!
تمتم المحقق ساخرا:
-لا سمح الله يا باشا انا قلت كده !!
إنتهج "مروان" الجدية و الوجوم في حديثه و هو يردف:
-شوف حضرتك .. انا ماجبتش حنة الشقة الا بناء علي رغبتها .. هي لما عرفت اني هسيب الڤيلا شوية حبت تيجي معايا تخدمني و انا قاعد هناك ، و لما سألتها عايزة تيجي ليه حكيتلي علي الخلافات اللي بينها و بين جوزها .. بصراحة اثرت فيا فحبيت اساعدها قدر الإمكان يعني.
و تابع آسفا:
-حبيت اساعدها بس للآسف فشلت .. جوزها خطط صح ، لما حب يخلص منها خالص رسم الخطة الجهنمية دي كلها و قتلها .. و كان عايز يقتلني معاها عشان تبان انها قضية شرف.
ثم أضاف بإبتسامة هادئة:
-لكن هيروح فين من العدالة .. انا شخصيا مش هسيب حقي لو المحكمة سابته ، لكن ده مايمنعش ان لسا عندي ثقة في احكام القانون.
لاحت علي شفتي "توفيق" شبح إبتسامة مفعمة بالإعجاب من إسلوب إبنه المنمق الذكي ..
فهو ذاته إذا لم يكن قد لقنه كل هذا الكلام بنفسه ليرويه علي المحقق لكان صدقه لا محالة ..
حانت منه إلتفاتة نحو المحقق ، فإستطاع أن يراه و هو يشتعل غيظا في تلك اللحظة بالذات .. ثم حول نظره إلي إبنه ..
إلتقت نظراتهما معا ، فغمز "توفيق" لإبنه خلسة و هو يبتسم بهدوء معربا عن إعجابه بأدائه ..

 


بعد أن إغتسلت و إرتدت ثيابا أكثر حشمة عن ذي قبل .. جمعت خصلات شعرها كلها و رفعتها للأعلي بربطة حريرية ..
ألقت نظرة علي "عاصم" فوجدته ما زال يغط في نوم عميق ، تركته نائما و نزلت للإسفل حتي تعد له الطعام ..
كانت لديها خلفية عن فنون الطبخ ، و من حسن حظه أنها كانت لا تزال تحفظ طريقة تحضير الطبق المفضل لحالات الحمي و نزلات البرد القاسية ، فقد كانت تطبخها خصيصا لأبيها حين كان يمرض ..
أحضرت "هانيا" المكونات ، و بدأت في إعداد حساء زعانف أسماك السالمون المكون من قطع السمك المرقط ، و الخضار ، و الثوم ، و البصل ، و زيت الزيتون ، و الخوخ المجفف ، و عصير الليمون الطازج ..
إستغرقت "هانيا" ثلث ساعة حتي أنهت تحضير الصحن ، فأخذته فوق صينيه متوسطة ، و صعدت به للغرفة مرة أخري ..
وضعت الطعام جانبا فوق السرير ، و جلست مكانها بجواره .. مدت يدها و هزته بلطف و هي تهتف به ليفيق:
-انـت .. قـووم .. اصحي يلا جبتلك الاكل !
فتح "عاصم" عيناه بتثاقل و نظر إليها .. عاينها للحظات و هي في الثوب الجديد بنظرات إعجاب ، ثم سألها بصوت خامل:
-في ايه يا هانيا ؟؟
أجابته عابسة:
-قوم .. عشان تاكل.
بدون نقاش أو إعتراض ، إنصاع "عاصم" لها .. فقد بدأ يشعر بالجوع .. حاول أن يعتدل جالسا ، و لكنه لم يقدر .. فقد كان جسده هامدا متراخيا بصورة كلية ..
تأففت "هانيا" بضجر ، إذ لم تجد بدا من مساعدته ..
إقتربت منه .. وضعت يدا خلف ظهره ، و اليد الأخري أحاطت يها عنقه ..
ناضلت كي ترفعه قليلا و تسند ظهره إلي حائط الفراش و هي تقول بإنفاس متلاحقة للجهد العظيم الذي تبذله:
-آاه .. ايه ده ؟ .. انت تقيل اوي كده ليه ؟ ... آاه ، ساعدني شوية من فضلك.
لم يكن ينصت لها ، بل كان يستغل فرصة إقترابها منه بهذا الشكل ..
فراح يمرغ وجهه في ثنايا عنقها و صدرها و يشتم رائحتها الطيبة الزكية ليملأ صدره بها ..
و أخيرا .. إستطاعت "هانيا" أن تجلسه نصف جلسة ، و تسند ظهره بالوسائد إلي حائط الفراش ..
زفرت بضيق ، و عدلت ثيابها المتجعدة ، ثم قربت صينية الطعام قليلا .. أخذت طبق الحساء لتناوله إياه و هي تقول:
-خد .. امسك يلا طبق الشوربة ده.
لمعت برأسه فكرة ، فتصنع عدم القدرة علي الإمساك بالطبق ، و قال بنبرة متكلفة:
-مش قادر يا هانيا !
سألته مقطبة:
-مش قادر ايه بالظبط ؟؟!
بإستكانة و ضعف مصطنع أجابها:
-مش قادر امسك بإيدي اي حاجة !
حدجته بغيظ ، و تقريبا فهمت لعبته ، لكنها لم تجد بديلا للأمر ..
فأمسكت بالطبق جيدا ، و شرعت في إطعامه ، لكنه سألها بفضول أولا:
-هي ايه الشوربة الغريبة دي ؟؟
بشيء من الحماسة ، ردت:
-دي شوربة مشهورة جدا في إيطاليا .. بيقولوا القائد موسوليني كان متعود يشربها كل ما يحس بتوعك.
ثم رفعت الملعقة إلي فمه ، و أخذت تطعمه بها كمن يطعم الطفل في سنواته الأولي ..
كان هو ينظر إليها و يبتسم ، فتتحاشي هي نظراته و تنشغل بأشياء أخري ..
ثم فجأة ، رأت وجهه يتقلص بجزع ، فقال:
-ايه ده ؟ .. انتي حطة ايه في الشوربة ؟ دي طعمها وحش اووي .. لا تكوني حطالي فيها سم يا جميلتي !!
ضحكت رغما عنها ، و قالت:
-لا ماتقلقش مش حطالك سم و لا حاجة .. و بعدين مش وحشة ، دوقها و حس بطعمها كويس و هي هتعجبك.
-احس بإيه بس ؟ .. دي ايه مكوناتها دي ؟؟
حدقت "هانيا" في الفراغ عاقدة حاجبيها و هي تجيبه:
-زعانف سمك السالمون مكونة من قطع لحم سمك السالمون ، و خضار ، توم ، بصل ، خوخ مجفف ، زيت زيتون .. و بس.
إزدرد "عاصم" ريقه واهنا و هو يشعر بالغثيان خاصة بعد كلامها ، بينما رفعت إلي فمه ملعقة أخري فأبي بشدة ، لكنها أجبرته علي الطعام ..
غصبا و قهرا .. أكل "عاصم" الطعام الذي أعدته كله ..
إنتهت "هانيا" من إطعامه ، فأرجعت الصحن إلي الصينية و هي تشعر بتعب شديد يغزو جسدها بصورة مفاجئة بدءً من رأسها و حتي قدمها ..
لاحظ "عاصم" شحوب وجهها المفاجئ ، فسألها بقلق:
-ايه ؟ مالك ؟ .. حاسة انك تعبانة ؟؟
هزت رأسها نفيا دون أن تنظر إليه ، فتململ قائلا بلوم:
-قلتلك روحي اقعدي في الاوضة التانية لحد ما اخف .. اديكي اتعديتي مني.


و هنا ، نظرت إليه و قالت بحزم:
-انا مش حاسة بسخونة في جسمي و لا برودة .. يعني ماخدتش منك العدوي.
-اومال مالك ؟؟!
أمسكت "هانيا" برأسها و هي ترد:
-مش عارفة .. دايخة بس و .. و آاا ..
-انتي كلتي حاجة انهاردة ؟؟
سألها بإهتمام ، فتركت الفراش في تلك اللحظة و هي تحارب موجات الدوار التي داهمتها ، ثم قالت:
-للـ لأ مـ مأكلتش حاجة !
نطقت ذلك و تهاوت علي الأرض مغشيا عليها ..
-هـانيـــاااا !
هدر "عاصم" بإسمها و هو يقفز من مكانه ، و يندفع صوبها ...

***********************************

-يا مصيبتي !!
هتفت بها السيدة "هويدا" و هي تضرب صدرها بكفها ملتاعة ، ثم تهب واقفة و تكمل حديثها عبر هاتفهها الخلوي:
-ازاي تسكتي طول النهار كده يا قوت ؟ .. ازاي ماتكلمنيش و تقوليلي هو انا مش عمتها ؟ .. ماشي يا قوت لينا كلام تاني اما البت ترجع بالسلامة .. انا هلبس و جيالك حالا .. سلام.
و أغلقت "هويدا" الخط ... فسألتها "سمية" التي أخفت سرورها و فرحتها بأعجوبة:
-في ايه يا ماما ؟ .. هنا مالها ؟؟
-البت خرجت مالصبح و لسا مارجعتش !
قالتها "هويدا" و هي تركض تجاه غرفتها ، تبعتها "سمية و هي تقول بخبث:
-و مالك قلقانة كده ليه يا امي ؟ .. تلاقيها خرجت مع خطيبها و لا حاجة و مارضيتش تقول لأمها.
نظرت "هويدا " لإبنتها شزرا و هي تصيح:
-بت يا سمية .. اخرسي خالص دلوقتي ، بقولك البت خرجت و مارجعتش البيت مالصبح و خطيبها ذات نفسه داير يدور عليها في الشوارع زي المجنون.
لوت فمها بإبتسامة شيطانية و هي تمني نفسها برؤية نظرة الإنكسار في عيني "هنا" .. فهي الوحيدة التي تعلم ما حل بها الآن ...
إنتهت "هويدا" من إرتداء عباءتها القاتمة .. ثم إرتدت حجابها علي أعتاب باب شقتها ، وقالت لإبنتها و هي تهبط درجات السلم:
-اقفلي الباب علي نفسك كويس يا سمية ، احتمال اغيب عند قوت لو لا قدر الله البت مارجعتش الليلة .. و ادعيلها يا بنتي ربنا ينجيها و يجيب العواقب سليمة.
إبتسمت "سمية" في إستهزاء ، و رددت بخفوت:
-ادعيلها ؟ هه !
و أغلقت باب الشقة بقوة ، ثم هرولت إلي هاتفهها .. سارعت بالإتصال بـ"إسلام" و هي تتحرق شوقا للإطلاع علي كافة التفاصيل ..

 


إنتهوا الرجال جميعا من إرتداء ملابسهم عندما نهض أخر فرد عن "هنا" الغائبة تماما عن الدنيا و ما فيها ..
جلجلت فجأة ضحكة "إسلام" المقززة و ملأت المكان من حوله و هو يقول:
-جرالك ايه يا عم حسين ؟ .. للدرجة دي المزة عجباك و مش قادر تسيبها ؟ .. خلاص بقي حــِلها يا اخي حرام عليك البت خلصت خاالص و انت اكتر واحد خلصت عليها هعهعهعهعهع.
تجاهل المدعو "حسين" مزاح صديقه الثقيل و إبتعد عن "هنا" أخيرا .. بدأ يرتدي ملابسه هو الأخر عندما صدح صوت هاتف "إسلام" .. فمد الأخير يده ، و سحبه من جيب بنطاله ، و رد:
-سـوومـا .. بونسوار يا قلبي ، ازيك ؟؟
باغتته "سمية" بلهفة:
-طمني يا اسلام .. ايه الاخبار ؟؟
-كله تمام يا روح اسلام .. كل اللي انتي عايزاه حصل يا سمية.
-يعني ماعادتش تنفع تاني ؟؟
-ماعادتش تنفع ببصلة وحياتك ، ده كفاية الواد حسين عليها .. اصلها ناولته بونيه جامدة حبتين.
و عاد يقهقه من جديد .. زجره "حسين" بنظرة غاضبة و هو يكمل غلق أزرار قميصه ، بينما بدا صوتها قريرا و هي تقول:
-ماشي يا اسلام .. شكرا ، انا عمري ما هنسالك اللي عملته عشاني ده.
-عيب عليكي يا سوما ماتقوليش كده احنا اخوات ، و بعدين انا و الرجالة اللي عايزين نشكرك اصلا .. اتبسطنا اوي الصراحة.
-طب هتعملوا فيها ايه دلوقتي ؟؟
هز كتفيه بخفة ، و أجاب:
-و لا حاجة .. هنشيلها هيلا بيلا و نحطها كده في حتة قريبة من اي مستشفي ، اصلها بتنزف كتير اوي لحد دلوقتي .. مسكينة بردو محدش يقدر يستحمل اللي استحملته .. تسعة مرة واحدة !
و ضحك بمرح مجددا ...

 


كان جالسا داخل سيارته ..
مقطب الوجه ، يهز قدمه اليمني بعصبية ..
و عبثا حاول السيطرة علي أعصابه الثائرة .. ظل هكذا يشعر بنيران تتآكله من الداخل ، حتي وجد هاتفهه يرن و يضئ ..
فأجاب مسرعا و بكل ما فيه من إنفعال و غضب:
-الـو !
جاء رد الطرف الأخر سريعا بدوره:
-حددتلك مكان الموبايل يا إياد باشا !!



إعدادات القراءة


لون الخلفية