الجزء 27: بين غياهب القهر

تمتاز أحجار الياقوت بلونها الأحمر الناري ..
لكن ليس من النادر أن يتغير لونها ، فتصبح في داخلها داكنة أكثر ..
و خاصة عندما يتعرض أصحابها للخطر ، و ثمة نوع من الياقوت يطلق عليه الخبراء إسم ( دم اليمامة ) .. و هو ياقوت ثمين ، أحمر قان فيه مسحة من اللون الأزرق ، كأنه داكن في أعماقه ..
و كانت "هانيا" الآن كأحجار ذلك الياقوت تماما .. ضائعة ، مخضبة بالدم ، فاقدة الشعور بأي لذة دنيوية ..
لم تفتح "هانيا" عينيها علي وسعهما إلا حين إسترخي فوقها ، و أصبح مرخيا بداخلها ..
عندما نهض عنها .. كان "عاصم" لا يكاد يستطيع أن يمشي ، فإرتدي سرواله الداخلي بحواس متخدرة ، و مشي مترنحا عبر الغرفة ..
إتكأ إلي باب الحمام برهة محاولا أن يتمالك نفسه .. أخذ نفسا عميقا ، فلاحظ رائحتها الطيبة المميزة ممتزجة برائحة عرقه الحار ..
فتح "عاصم" باب الحمام و دلف بسرعة هاربا من نظرات الإتهام التي حتما تشع من عينيها الآن .. أغلق الباب علي نفسه ، و فتح الدوش ..
لكته بدلا من أن يقف تحت الدوش ، إنهار و جثا علي ركبتيه و بكي ...


كانت "هانيا" ترقد الآن في الفراش وحدها ، و قد شدت الأغطية حتي عنقها ..
تمددت تعبة و منهارة و مهزومة .. فيما تجمدت الدموع بمآقيها و هي تفكر ؛
لقد أشبع "عاصم" حاجته ، و حقق إنتصاره الأكبر ، الا و هو الظفر بها ..
و لكنها أحست بشيء غريب طرأ علي تصرفاته ، و بدا في أفعاله .. شعرت أنه لم يسمو إلي السعادة القصوي التي كان يرجوها ..
هل لأن تلك السعادة لا تتحقق إلا بالإنسجام الروحي ؟ .. يجوز .. إذ لا يمكن أن يحدث هذا إلا عندما يتواجد الحب و القبول بين الطرفين ، و لطالما رفضته "هانيا" .. كانت ، و مازلت ، و ستظل ..
فضلا عن أن عناق "عاصم" و قبلاته النهمة في هذه الليلة ، كانت أشياء تعبر عن الرغبة .. الرغبة فقط ..
و لذلك ، لم تستطع هي أن تشعر بالدفء حتي ، بل علي العكس .. شعرت بأنها باردة ، خاوية في داخلها ..
شعرت أنها تائهة .. حيث لم تتمكن من تمييز نفسها ، كما لم تعرف جسدها ، و كأنها إمرأة أخري غيرها ..
عندما ولجها بمنتهي القوة و العنف ، غير عابئ بشعورها .. أحست "هانيا" في تلك اللحظة بصوت يقول لها ؛
لو أن "عاصم" ضمها بحنان بين ذراعيه علي الأقل ، فقد كان من الممكن أن يهدئ قليلا من الفراغ المؤلم بداخلها ..
و لكنها لم تكن تعرف أنه كان تائها مثلها ، و كان لا يدر ماهية ما يفعله حتي ..
جل ما أراده بكل جوارحه - هي - .. أراد أن يفوز بها و لو لليلة واحدة ، حتي و إن خسر كل شيء في المقابل ..
عادت "هانيا" لأرض الواقع مجددا حين سمعته يعود إلي الغرفة .. أغمضت عينيها الذابلتين لتتظاهر بالنوم ، أحست به يعاينها و يتمعن في وجهها من بعيد ، فوجدت صعوبة في المحافظة علي تنفسها الطبيعي المنتظم ..
راح قلبها يخفق كالمطرقة و هي تترقب خطوته التالية ، و لكنه بدا متعبا هو الأخر ، و ها هو يتجه صوب الخزانة ..
أخرج بنطالا قطنيا فقط كحلي اللون و إرتداه ، لم يرتدي شيئا فوقه و ترك نصف جسده العلوي عار تماما ..
فالحرارة التي نشبت بجسده ، غلبت علي البرد المهيمن علي الكرة الأرضية بأكملها ..
إذ كان فصل الشتاء لا يزال في أوجه ..
إختلست "هانيا" النظر إليه فاتحة نصف عين ، فرأته يتقدم صوب السرير بخطوات هزيلة متباطئة ..
إستطاعت أن تلمح كتفيه العريضتين ، و العضلات الضخمة التي يصل عرضها تدريجيا إلي خصره .. إحتل مكانه في صمت بالفراش من الجهة اليمني .. رقد إلي جانبها دون أن يحاول ملامستها ، و لكنه كان قريبا علي نحو شعرت من خلاله بحرارة جسده ..
تقلب "عاصم" عدة مرات قبل أن يستقر في وضع ... و بعد دقائق قليلة ، سمعته يتنفس بعمق و قد إستغرق في النوم ..
و تنهدت "هانيا" و هي تتخيل ساعات طويلة قبل أن تستغرق مثله في النوم ...

 


في صباح اليوم التالي ..
بان النهار .. و كان صباحا بليدا و غائما ، يشي بما سبحدث اليوم لتلك الفتاة الطاهرة ، و الخلوقة ، و الجميلة ..
عندما دوي جرس المنبه الموضوع علي منضدة قرب فراشها ..
إستيقظت "هنا" متململة ، و سرعان ما هبت جالسة من أعماق حلم مزعج و معقد ..
و لكن ما شغل بالها في هذه اللحظة ، هو إسكات ذلك الضجيج الكريه و إطراده من مسمعها ..
تناولته من فوق المنضدة ، و أطفأته علي الفور .. تنفست الصعداء ، ثم وثبت تاركة الفراش ..
و لم تلبث أن تفعل أي شيء حتي وجدت هاتفهها يضيء و يرن .. إبتسمت بخفة لأنها علمت هوية المتصل دون حاجة لرؤية الإسم ..
هرعت إلي الهاتف ، فإزدادت إبتسامتها إتساعا حين تأكد تخمينها ، فأجابت برقة:
-الو !
أجاب الطرف الأخر بدوره ، و لكن في رومانسية بالغة:
-صباح الهنا يا هنا عمري .. وحشتيني ، وحشتيني يا حبيبتي.
بغبطة خفية ، ردت "هنا":
-إياد .. انت كمان وحشتيني.
-وحشتك بس ؟؟
-عايز ايه اكتر من كده عالصبح ؟؟
-مش عارف انتي قاسية عليا كده ليه ؟ .. ده احنا باقيلنا اسبوعين و هنتجوز .. هتفضلي قاسية كده بردو ؟؟!
إكتسبت نبرة صوتها رنة رقة مكثفة ، و هي تقول في إستنكار:
-فين القسوة دي بس يا اياد ؟ .. انا بس .. بتكسف !
-يادي كسوفك اللي هيجنني .. ده انا لحد دلوقتي مابوستكيش يا هنا بسبب كسوفك ده !
إتسعت حدقتاها في صدمة ، فردت بصلابة غاضبة:
-تبوسني ؟ و انت كنت تقدر تعملها ؟ .. ده انا كنت اطردك من حياتي للأبد.
سمعت قهقهته العالية ، أعقبها رده المرح:
-تطرديني من حياتك عشان بوسة يا هنا ؟ .. دي تعتبر حاجة طبيعية يعني و لازم تحصل قبل الجواز عشان نتعود علي بعض.
بلهجة متجهمة ، قالت "هنا":
-لأ يا حبيبي ، نتعود علي بعض بعد الجواز مش قبله.
سمعته يتنهد بإستسلام ، ثم يقول:
-ماشي ياستي .. بس عارفة لو صدرتيلي الوش الخشب ده بعد ما نتجوز هعمل فيكي ايه ؟ هـ ..
قاطعته محتدة:
-هتعمل ايه يعني ؟؟!
صمت قليلا ، ثم قال بلطف مداعبا:
-هفضل ابوس فيكي للصبح لحد ما تتعودي عليا.
إصطبغ محياها بحمرة الخجل ، و ردت بخفوت:
-طيب .. انا لازم اقفل دلوقتي بقي عشان الحق انزل و اجي بسرعة.
-هتروحي فين ؟؟
سألها بإهتمام و جدية:
-هروح اشتري شوية هدوم بيتي كده ناقصاني.
-يا هنا يا حبيبتي .. انا مش قولتلك قبل كده اني ماحبش مراتي تصرف علي نفسها طول ما انا موجود ؟ مش قولتلك انا عايزك بس بالهدوم اللي عليكي ؟ و مش قولتلك كمان اني جايبلك كل حاجة ؟ و مش قولتلك بردو لو نفسك في اي حاجة تقوليلي و ننزل نجيبها سوا ؟ .. حصل و لا لأ ؟؟
كان يخاطبها بمنتهي اللطف و الهدوء ، فإبتسمت "هنا" بحب ، و ردت بنفس الهدوء:
-حصل .. بس سؤال .. انت عرفت مقاسي في الهدوم ازاي بقي ؟؟!
إستطاعت أن تري إبتسامته الحلوة هو الأخر دون تراه ، بينما جاءها صوته الدافئ قائلا:
انا حافظك صم يا حبيبتي .. و لسا بعد ما نتجوز ، هحفظ كل شبر فيكي .. من راسك لرجليكي.
طغي الخجل علي كيانها ، فقالت بإيجاز مضطرب:
-طيب بص .. انا هنزل و هاجي بسرعة ، و هشتري شوية رفايع كده مش هاجيب حاجات كتير يعني .. ماشي ؟؟
صمت للحطات ، ثم تمتم علي مضض:
-ماشي يا هنا.
و أضاف محذرا:
-بس متتآخريش .. و تخلي موبايلك في ايدك علطول عشان هبقي اتصل كل شوية اطمن عليكي.
أطاعته بسعادة قائلة:
-حاضر !
أنهت المكالمة معه ، و هرعت للخارج حيث دلفت إلي الحمام ..
إغتسلت بماء ساخن ، ثم توضأت ، ثم عادت إلي غرفتها مهرولة ..
لبست ثيابها بسرعة هائلة ، و فرشت سجادة الصلاة .. راحت تؤدي و تتلو صلاتها بخشوع متجاهلة قدماها اللتان تتوجعان بفعل البرد ..
إنتهت من الصلاة ، فإتجهت صوب الخزانة مرة أخري لتبدل ملابسها بملابس أخري سميكة تقيها من ذلك النهار الشتوي القارص ..
إختارت كنزة رمادية ثقيلة ، و تنورة ، و جوارب طويلة ، و حذاء بني عتيق ..
ثم وضعت فوق كتفيها معطف أحمر باليا من الصوف ، و لكنه يدفئ بصورة جيدة ..
لم تتذمر "هنا" يوما من حياتها البسيطة المتواضعة ، بل كانت تؤمن دائما أن السعادة لا تكمن إلا في أبسط الأشياء ..
و لطالما عاشت سعيدة بحياتها حتي أهداها الله "إياد" .. زوج المستقبل ، المحب و الحنون بدرجة كبيرة رغم عمله العنيف بالشرطة ..
خرجت "هنا" من حجرتها ، فوجدت أمها تعد طاولة الأفطار داخل الصالة الصغيرة المقابلة لغرفتها تماما ، ألقت "هنا" عليها تحية الصباح في ود و هي تتقدم نحوها:
-صباح الخير يا قوووت .. صباح الخير يا مامتي يا حبيبتي.
تطلعت إليها السيدة "قوت القلوب" و قد كانت علي وشك أن ترد تحيتها ، لكن فمها فُتح و أُغلق بدون كلمات ..
لكنها سرعان ما سألتها مستفسرة:
-ايه ده يابنتي ؟ .. رايحة فين عالصبح كده ؟؟
أجابتها "هنا" و هي تتناول قطعة خبز طازجة و تقضمها:
-نازلة اجيب شوية الحاجات اللي قلتلك عليهم امبارح بالليل .. انتي نسيتي و لا ايه ؟؟
همهمت أمها بإدراك و قد تذكرت ، فقالت:
-طيب اقعدي افطري الاول.
-لا مش هينفع بقي عشان الحق ارجع بسرعة .. انتي عارفة هلف لفة كبيرة شويتين علي ما الاقي حاجات حلوة.
لم تجادلها "قوت القلوب" كثيرا ، فهي تعرف إبنتها و كم هي صعبة المراس ، فتركتها تفعل ما تراه صائبا ..
بينما أخذت "هنا" في يدها سندويش حتي لا تحزن أمها ، و إندفعت خارج الشقة ..
و عندما خرجت من البناية المتهالكة ، هبت بوجهها رائحة الصباح المشبع بالغبار و الجص الرطب ..
كان الصباح لا زال غائما ، و العشب مترع بندي ثقيل .. و بدا الشارع و الطريق أمامها خاوي علي غير العادة ، ربما ذلك الخواء بسبب الطقس السيئ !
بررت لنفسها الأمر هكذا ، و تابعت سيرها بخطي واسعة لتلتحق بأول حافلة .. فغالبا الحافلة الأولي تكون غير مزدحمة ...

...........................................................

علي الطرف الأخر ..
كان هناك من يترصدها و يراقبها جيدا منذ لحظة خروجها من بيتها ..
أخرج هذا الشخص هاتفهه ، و أجري إتصالا .. :
-الو .. ايوه يا سمير .. اهي المزة جاية عليكوا ، ام احمر دي .. شوفوا شغلكوا و انا جاي وراها علطول.

..........................................................

عندما بلغت "هنا" ناصية الشارع الفرعي ، هرعت نحو تلك الحافلة البيضاء ..
كانت فارغة تقريبا إلا من السائق و ثلاثة رجال ، أحدهم هرم ، و الإثنان الباقيان بديا في أواسط العمر ..
أشرق وجهها بإبتسامة متفائلة ، فحتي الآن يسير يومها بشكل سلسل و سهل ..
صعدت "هنا" إلي الحافلة بعد أن أخبرت السائق بوجهتها .. فصعد خلفها مباشرة الرجل الرابع و الذي كان يتعقبها طوال الطريق ..
لم تحس "هنا" بأي شيء خاطيء ، و لم يخالجها الشعور بالريبة حتي ..
فقط كانت منهمكة في فتح حقيبة يدها لتخرج أجرة السائق ، و بينما كانت تفعل ذلك بكل تركيز .. إمتدت يدي أحدهم بسرعة البرق ، و أطبقت علي فمها و أنفها بمنديل رطب ..
إرتعدت "هنا" مذعورة ، و قاومت في بادئ الأمر ، و لكن لم تلبث أن تلاشت مقاومتها إثر المادة المخدرة بالمنديل التي إستنشقتها بقوة ..
غابت عن الوعي سريعا ، و من دون أن تحدث جلبة لهؤلاء الشلة الذين تصايحوا بمرح و كأنهم ربحوا الجائزة الكبري ...

***********************************

طرق "توفيق" باب مكتب الطبيب المشرف علي علاج "مروان" ..
ثم ولج بعد أن سمع أذن الدخول .. كان الطبيب جالسا هناك خلف مكتبه ، منكبا فوق أوراقه و قد بدا منهمكا للغاية ، لكنه إهتم بدخول "توفيق" حين رفع رأسه إليه ..
فإبتسم للحال ، ثم نهض و مد يده ليصافحه في تهذيب ، صافحه "توفيق" بخبل مرهق ، فشعر الطبيب بما يعانيه من آرق و أرهاق ، فسارع يطلب منه الجلوس في المقعد المقابل له ..
لبي "توفيق" دعوته و جلس ، فيما ضغط الطبيب زر الديكتافون ، و طلب القهوة لكليهما ، ثم عاد يهتم بضيفه .. :
-ايه اخبارك يا توفيق بيه ؟؟
تنهد "توفيق" قانطا ، و قال:
-كويس يا دكتور .. الحمدلله.
تأمله الطبيب مليا بنظرة إشفاق قبل أن يقول برتابة:
-طيب عموما انا طلبت اشوف حضرتك عشان اقولك مبروك و الف حمدلله علي سلامة ابنك .. فاق انهاردة الصبح.
تطلع إليه الأخير مشدوها ، فإبتسم الطبيب قائلا:
-ايوه .. مروان بيه فاق الحمدلله و تقدر تكلم دينار هانم كمان اذا حبت تيجي تشوفه.
بلهفة قوية ، تساءل "توفيق":
-طيب و حالته ؟ .. هو عامل ايه يا دكتور ؟ لسا في خطر عليه ؟؟
-اطمن يا توفيق بيه ابنك معافي تماما ، و عدي مرحلة الخطر من مدة قصيرة .. غيبوبته ساعدت في إلتئام جروحه .. و كمان حالته النفسية نوعا ما إتحسنت ، لأنه لما فاق ماثارش زي المرة اللي فاتت و لا انفعل حتي .. لكن اعتقد انه شايل في نفسه من جوا و حابس مشاعره ، و في النقطة دي انا بنصحك لما يخرج من هنا بالسلامة تعرضه علي طبيب امراض نفسية .. اتا متأكد انه هيقدر يساعده.
تنهد "توفيق" براحة بالغة و هو يرفع يده و يفرك وجهه في عصبية دفينة خالفت نبرة صوته الهادئة حين قال:
-انا ممكن اشوفه ؟؟
أومأ الطبيب رأسه فورا ، و قال:
-اه طبعا ممكن .. احنا خرجناه من غرفة الرعاية خلاص ، الممرضة اللي واقفة برا هتاخد حضرتك لأوضته.

 


بدأت "هانيا" تستيقظ تدريجيا و هي تتلوي بالفراش من شدة الآلم الجسيم الذي شعرت به في معظم أجزاء جسدها ..
تأوهت في خفوت و قد عاد شعور المرارة يجرفها بقسوة مجددا .. إنها حقا لا تعلم لماذا يحدث لها كل ذلك ؟ .. لماذا و هي التي لم تؤذ إنسانا واحدا طيلة حياتها ؟ .. و هي التي لا تحمل ضغينة لمخلوق مهما قسا عليها ؟ ..
و لا تحمل في قلبها سوي الحب لكل الناس ؟ .. إذن فماذا فعلت كي تستحق كل هذا العذاب ؟ .. ماذا فعلت ؟؟
راحت تصرخ في نفسها مستغيثة بربها أن يرحمها من جهنم المستعرة من حولها ، التي تحرقها بلا رحمة !
و بينما هي سابحة في بحر أفكارها العنيف الأمواج ، تناهت إلي سمعها أصوات آنات و آهات مجروحة ، مكتومة ..
أدارت رأسها للجانت الأيمن حيث يرقد "عاصم" منذ البارحة ..
كان ممدا علي ظهره ، فحدقت فيه بإستغراب .. فرأت بشرته البرونزية تلمع بحبيبات العرق و قد بدأ يهذي بكلمات غير واضحة ، غير مفهومة ..
إستوت "هانيا" في جلستها و هي تحيط جسدها بالملاءة .. أخذت تعاينه في قلق للحظات ، و تبينت أنه مريض .. نعم ، فقد ظهر هذا واضحا أمامها الآن ..
إذ آلمت به حمي مصحوبة بالتعرق الشديد ..
من دون وعي ، وضعت "هانيا" كفها علي جبينه ، فشهقت بقوة وقد أرعبتها درجة حرارته المرتفعة ..
جذبت يدها مسرعة ، و ظلت تحدجه في صمت مضطرب لعدة دقائق و هي لا تدري ماذا عليها أن تفعل ؟
هل تتركه علي حالته هكذا ؟ .. أم تحاول إسعافه ؟ .. تسعفه ؟!
و لكن كيف تسعفه ؟ كيف تساعده بعد كل ما فعله بها ؟ و بخاصة بعد ليلة أمس ؟ .. كيف تساعده ؟؟
إنه لا يستحق .. و لكن علي الرغم من كل ذلك ، ضميرها و قلبها الرحيم بضعف الإنسان حتي لو كان عدوها ..
و فوق كل هذا أخلاقها و دينها الذي يحتم عليها مساعدته .. حسمت "هانيا" أمرها سريعا ، و من دون تردد قررت أن تساعده ..
فمدت يدها ، و أخذت ردائها الليلي الملقي أرضا بجانب السرير ..
إرتدته علي عجل ، ثم تركت الفراش .. أخذت تفكر في شيء من التوتر ، ما هي خطوات الإسعافات الأولية في حالته ؟ ..
جمعت أفكارها المشتتة علي مهل ، و رددت بصوت مسموع لكنه خفيض:
-كمادات .. دوا .. حاجات سخنة !
ثم إندفعت تنفذ أولي الخطوات ..
هرولت نحو الثلاجة الصغيرة الرابضة بأخر الغرفة ، و المغلفة بالألواح الخشبية المصقولة اللماعة ..
أخرجت قالب قطع الثلج ، و أخذت زجاجة مياه باردة ، ثم فتشت عن قطعة قماش ..
وجدتها ، ثم أودعت كل تلك المحتويات داخل طبق الفاكهة البيضوي بعدما أفرغته .. إتجهت صوبه مرة أخري .. جلست علي طرف السرير و وضعت قطعة القماش علي جبينه الملتهب بعدما بللتها بالماء ، لينتفض كالمذعور و يحاول إبعادها عن جبينه ..
وضعت يدها فوق قطعة القماش لتمنعه من إبعادها ، و ظلت تبللها كل دقبفة ، و تضعها في أماكن متفرقة من وجهه إلي أن إنخفضت حرارته قليلا .. قليلا فقط ..
و لكنها فجأة شاهدت وجهه يتلون ببن الزرقة و الحمرة ، كما لاحظت عودة نشاط تشنجاته و هذيانه ..
لتتفاجأ به يردد بصوت مخدر و هو ينتفض و يرتجف بقوة:
-هاااانيا .. ازاي عملت فيها كده ؟ .... انا آسف .. سامحيني ... انا بحبك .. بحبك.
إزدردت "هانيا" ريقها في توتر ، و ما أزاد من توترها عندما رأته و قد وضع شفته السفلي بين أسنانه دون وعي ..
أخذ يضغط عليها بقوة كاتما آلامه .. إذ كانت آلامه شديدة ، تجري في دمه ، تسبح في كل جسده ..
إنتفضت خائفة منزعجة ، و إقتربت منه محاولة أن تعرف ما علته ؟ .. تساءلت ، ماذا به ؟ بماذا يشعر بالضبط ؟ ما الذي يؤلمه يا تري ؟ ..
و كانت إجابة أسئلتها آنة مكتومة صدرت عن "عاصم" فوضعت يدها علي وجهه لتتفقد درجة حرارته ..
و صادف أن وضعتها فوق ندبته الخشنة المجوفة تماما ..
و تعجبت هذه المرة ، إذ لم تشعر بالنفور من وجهه أو من ملامسة ندبته تحديدا !
ألهتها درجة حرارته التي أخذت ترتفع مرة أخري عن تحليل مشاعرها ..
إزداد إضطرابها حين بدأ وجهه يشحب شيئا فشيء .. فلم تعي تصرفاتها حين أمسكت يده الكبيرة ، و إقتربت من جسده الملتهب بحمي المرض ..
باتت أعصابها تالفة للغاية خلال تلك اللحظات و هي تترقب مدي تطور حالته ، إلا أن ثورة آلامه هدأت فجأة و خمدت ..
و كأنه إستعذب لمساتها له .. تنهدت "هانيا" بإرهاق ، ثم حاولت أن توقظه ..
فضربت بأطراف أصابعها علي خده بخفة ، و ناجته بخفوت مضطربة:
-آاا .. انت .. انت .. ياااا ، يـ يااا .. انت سامعني ؟ .. ياااا ، يااا ..
لم تستطع أن تناديه بإسمه أبدا ، فهي حتي الآن ما فعلتها .. إذ تجد صعوبة بالغة في نطق إسمه ، و لا تعرف لماذا يتعذر عليها ذلك !!
بينما فجأة ، و رغما عنها .. إنفرج ثغرها بإبتسامة واسعة ..
فلم يخطر ببالها أبدا أن "عاصم الصباغ" بجلالة قدره ، الرجل ذو الهيبة و السطوة و النفوذ ، الثري صاحب البنية الضخمة ، الوحش الذي كبل حركتها و شلها بالكامل ليلة أمس بفضل قوته الساحقة التي لا تضاهي ..
لم يخطر ببالها أن تصبح اليوم و تراه هامدا ضعيفا هكذا ، و لا يقوي علي تحريك إصبعه حتي !!

***********************************

ثلاثة و عشرون يوما ..
كانت تلك هي الإجابة علي سؤال "مروان" لدي خروجه من حجرة الرعاية ..
إذ تساءل علي الفور .. كم طالت غيبته عن الواقع ؟ و كم مر من الوقت علي الحادث ؟؟ ..
و حتي الآن ، يكاد يجن .. لا يستطيع أن يصدق بأنه لن يراها مجددا ، كما لا يستطيع محو ذكري مقتلها أمام عينيه ، ليس بمقدوره أن يتناسي كيف إستغاثت به بعينيها الدامعتين ..
و كيف ودعته .. فقد كانت أخر كلماتها لا تزال ترن بأذنيه في كل لحظة عندما قالت ؛ "بحبك .. و عمري ما حبيت حد ادك ، و مش ندمانة اني حبيتك" ..
و إذا به ينفجر باكيا لتلك الذكري الأليمة التي لا تغيب عن باله أبدا ..
و بينما كان منغمسا في نوبة بكائه الحار و هو ينعي آلمه و حسرته و قلبه المفطور ..
لم يفطن لدخول أبيه للغرفة ، فيما سحب "توفيق" منديلا ورقيا من جيب سترته ، و إنحني صوب إبنه ، ثم راح يمسح له دموعه برفق ..
إحترق قلب "توفيق" علي إبنه و هو يسمع شهقاته و نهنهاته و بكائه ، و قد حلت فجأة علي ذاكرته أيام طفولته حين كان يبكي بنفس الطريقة ، فيضمه هو إلي صدره الواسع و يحاول أن يسترضيه بشتي الطرق ..
و من دون تفكير .. فعل "توفيق" ذلك ، إذ إقترب من ولده ، و ضم رأسه إلي حضنه ، و أخذ يربت علي شعره الأملس ، و يمسد له ظهره ..
أجهش "مروان" بالبكاء أكثر ، فتركه أبوه يبكي علي سجيته ليفرغ كل آلامه و أوجاعه عله يطيب ..
و لما هدأ قليلا ، أبعده والده ، و سخب مقعد قرب الفراش الطبي ، و جلس فوقه ..
تأمله مليا بنظرة حزن و حيرة ، ثم قال بهدوء:
-عامل ايه يا مروان ؟ .. ازي صحتك ؟؟
سكن "مروان" للحظات ، فقد داهمه الخجل ، و لم يستطع النظر إلي أبيه ، فأطرق رأسه و هو يجيبه بخفوت و إنكسار:
-الحمدلله.


ثم أردف في خزي:
-بابا .. انا آسف ، آسف علي كل حاحة حصلت مني و ضايقتك .. انا .. انا هرجعلك كل حاجة خدتها منك ، هتنازل عن حكم الوصاية علي الاملاك كلها اول ما اخرج من هنا .. سامحني يا بابا.
فوجئ "توفيق" بشعور إبنه هذا بالخجل منه ، فرمقه مندهشا ، ثم كان رده هادئا كما تعبيرات وجهه:
-انا مسامحك علطول يابني .. عمري ما كرهتك يا مروان ، ممكن اتضايق منك ،انما اكرهك ؟ .. مستحيل ، ده انت ابني الوحيد و كل اللي ليا ليك في الاخر.
و هنا ، تشجع "مروان" و نظر في عيني والده المتسامحتين .. فقال بندم جم:
-انا مش عارف اعمل ايه عشان ارضيك و اخليك تسامحني من قلبك ؟ .. نفسي تنسالي كل تصرفاتي اللي عملتها معاك طول الفترة الاخيرة ، انا اكتشفت اني لسا ماكبرتش و لا بقيت راجل زي ما كنت فاكر .. و في عز ضعفي مافيش غيرك جه علي بالي يا بابا.
إنسابت إبتسامة "توفيق" في تسامح ، ثم كان رده في حنو:
-لو عايز ترضيني بجد .. خد بالك من نفسك ، و اتغير يا مروان .. اتغير للأحسن ، صدقني انت مش وحش.
زاغ "مروان" ببصره ، و سرح قليلا ، ثم قال لوالده بلهجة متهدجة ، و قد تلألأت الدموع بمقلتيه:
-عارف يا بابا .. ايه اكتر حاجة عمري ما هندم عليها في حياتي ؟ .. حبي لحنة.
و إنهمرت الدموع الحارة غزيرة علي خديه ، فتابع في آسي و لوم:
-انا السبب في اللي حصلها ، انا اللي خسرتها حياتها و اخرتها .. و هي ماكنتش ست وحشة يا بابا ، حنة كانت طيبة اوي ، كانت طيبة و يضحك عليها بسهولة ، بس انا حبيتها بجد .. خدت بالها مني و حبتني ، قدمتلي كل حاجة تملكها و في المقابل ماطلبتش غير الحنان .. كان نفسها في ايد تطبطب عليها ، كنف تبكي عليه براحتها وقت ما تكون متضايقة ، حد يسمعها و يتكلم معاها .. و يكون جزائها في الاخر انعا تتدبح و قدام عنيا !!
حنة انقي واحدة قابلتها في حياتي .. انا اللي وسختها ، انا اللي عملت فيها كل ده.
و إزدادت حدة بكائه ، فعاد "توفيق" يضمه مرة أخري و هو يقول:
-ابكي .. ابكي يا مروان ، خرج كل اللي جواك ، فوق يابني من اللي كنت فيه و اطرد شيطانك.
لم يحتاج "مروان" إلي مزيد من التشجيع ليطلق العنان لدموعه أكثر ، لم يبال "توفيق" بأن قميصه قد إبتل بدموع إبنه ، كان كل إهتمامه منصب عليه هو ..
بينما كبح "مروان" نفسه و مشاعره ، فكف عن البكاء و إن وجد صعوبة في ذلك ..
جلس "توفيق" قبالته مرة أخري ، و راح يحدثه بجدية:
-شوف يا مروان .. احنا الحمدلله اطمنا عليك دلوقتي ، و زمان البوليس عرف انك فوقت .. ركز معايا بقي و اسمعني كويس اوي عشان هتعمل اللي هقولك عليه بالحرف.


كانت "هنا" سابحة في ظلام دامس ، و ليس سحابا رماديا كما في الأحلام ..
إذ بدا لها هذا كابوسا راح يجثم عليها ، كاد يخنقها بوطأة شديدة ، و رغم عجزها عن المقاومة ، إلا أنها أصرت و تحررت منه بعزم ..
فإستعادت وعيها ، و كأن أنفاسها كانت مقطوعة ، فشهقت بفزع و هي تثب قائمة ..
أخرستها الصدمة أولا ، صدمة كونها نائمة فوق فراش عريض جدا بغرفة خالية تماما إلا منها و من الفراش ..
كان الطلاء باهتا ، و الإضاءة صفراء داكنة .. و الرائحة عفنة بالمكان من حولها ، و لكنها لم تهتم بذلك بقدر ما إهتمت بوضعها ..
فراحت تتساءل في هلع .. ماذا جاء بها إلي هذا المكان ؟ .. كيف جاءت إلي هنا أصلا ؟؟
إنها لا تذكر شيئا .. لا تذكر سوي أنها قبل أن تغيب عن أرض الواقع ، كانت بحافلة المواصلات مع أربعة رجال ، و ما كادت تدفع الأجرة للسائق حتي ......
إنقطع حبل أفكارها بفتح باب الغرفة الموحشة ، و ظهر من خلفه رجل ، تلو الأخر ، تلو الأخر ، تلو الأخر ..
حتي بلغ العدد أمامها تسعة رجال تفوح منهم رائحة الشر …



إعدادات القراءة


لون الخلفية