هتف "إياد" به كالمجنون:
-فيــن ؟ فين يا وليـد ؟؟
-الموبايل دلوقتي موجود في مصر القديمة.
ثم أملاه العنوان بدقة و تركيز و كأنه يقرأه من مصدر ما أمامه:
-تحديدا في آاا .. في دار السلام ، جوا سكن قديم او بانسيون حاجة كده تقريبا .. اه هو بانسيون اسمه بانسيون النجمة.
-بانسيون النجمة !!
تمتم "إياد" مقطبا ، لكنه سارع إلي القول بصوت أجش:
-طيب عموما انا قريب شوية من مصر القديمة ، هطلع حالا علي هناك بس طلعلي انت اذن يا وليد و ابعتلي قوة علي هناك.
-عملت كده فعلا يا إياد باشا ، و مسافة السكة انا كمان هكون عندك.
-هناخدها نرميها جمب انهي مستشفي ؟؟
قالها "إسلام" متسائلا و هو يلهو بهاتفهه ... فبرز صوت زميل من زملاؤه:
-في مستشفي قريبة من هنا بعد شارعين بالظبط .. ممكن نحطها في اي حتة برا و الناس اكيد هياخدوها علي هناك.
قطع حديثهم بغتة رنين هاتفهها داخل حقيبة يدها علي الأرض ..
تآفف "إسلام" في ضجر قائلا:
-يوووه .. موبايلها ده مابطلش رن مالصبح.
ثم أطلق إحدي دعاباته الثقيلة:
-اكيد اهلها كلهم اللي عاملين يتصلوا بيها .. زمانهم دايرين في الشوارع يغنوا عيلة تايهة يا ولاد الحلال.
و قهقه مغتبطا ، ثم قال بلهجة آمره:
-طب يلا بقي عشان الوقف قفز .. حد يشيل المزة علي ما افضي السكة برا.
إتجه أحد الرجال نحوها متطوعا بحملها ، فمد يديه و لف جسدها بالملاءة البيضاء الناضحة بدمها الغزير ..
و لكنه ما كاد يحملها بين ذراعيه حتي تناهي إلي سمعه دوي قوي لأبواق سيارات الشرطة ..
إرتد الرجل بجسده للخلف مرتابا ، بينما سادت حالة من الفزع العام بين الباقون ، فصاح أحدهم ملتاعا:
-ايه ده ؟ .. ايه الصوت ده ؟ .. هو ايه اللي بيحصل يا اسلام ؟؟
عبس "إسلام" في شيء من التوتر ، و إندفع صوب الباب ليسترق السمع من الخارج ... فتكلم فرد أخر:
-هي ايه الحكاية يا اسلام ؟ .. البوليس ده داخل علي هنا و لا ايه ؟ انت مش قلتلنا الطلعة دي مافيهاش عوأ ؟؟!
إلتفت "إسلام" إليهم و قال بعصبية:
-ماعرفش حاجة .. جايز .. ما اصلا الزفت البانسيون ده مشبوه ، يعني كنا هنعرف نجيبها فين و نعمل العملة دي الا في مكان زي ده ؟ .. و بعدين المكان هنا عمر ما شمته الحكومة ، اشمعنا انهاردة يعني ؟ جت علي حظنا احنا و بركت ؟؟!
برز صوت أخر مذعور:
-طب ايه العمل دلوقتي ؟ .. هـ هنتصرف ازاي ؟؟
أخذ "إسلام" يفكر للحظات .... ثم قال فجأة:
-في باب هنا في البدروم بيخرج عالشارع من الناحية العمومية .. يلا بينا هنمشي دلوقتي حالا و هنسيبها هنا مش هناخدها معانا.
علي الطرف الأخر ..
بفضل المرور المزدحم ، وصل "إياد" إلي المكان المنشود بعد مدة طويلة نسبيا ..
فوجد جميع المارة ، و سكان الحي محتشدين هناك في حالة قلق و تساؤل ..
لم يستطع "إياد" أن يبلغ الطريق إلي الداخل بسهولة نظرا لوجود الحواجز الحديدية ، و منع الشرطة لدخول أو خروج أي أحد .. و لكنه شق طريقه بين التجمهر الكبير و هو يسمع التعليقات علي إختلاف أنواعها ..
وصل عند الشرطي القائد ، فأخرج بطاقته الشخصية ليريها له و هو يقول بصلابة:
-انا المقدم إياد راشد.
بمجرد أن نظر الشرطي في بطاقته الشخصية ، أفسح له طريق الدخول بسرعة و هو يقول بآدب:
-اتفضل يا باشا .. وليد بيه مستني سيادتك جوا.
إندفع "إياد" كما العاصفة الهوجاء للداخل ، فإنتبه إلي صوت مشادات و مشاجرات صادرة من قاعة الإستقبال البالية ..
خطي "إياد" داخلها ، ليجد زميله "وليد" يقف هناك ، و يطلق لسانه و صوته إطلاقا شنيعا في جميع مسؤولي المسكن الردئ ..
وصل "إياد" عند زميله بوجه مكفهر ، فسأله بذلك الهدوء الذي يسبق العاصفة:
-في ايه يا وليد ؟ .. ايه اللي بيحصل هنا ؟؟
إلتفت "وليد" إليه ، و أجابه و هو يحاول أن يهدئ قليلا من حدة نبرته الثائرة:
-اياد باشا .. جيت في وقتك .. العيال اللي هنا سايقين الهبل عالأخر ، لحد دلوقتي مش عارف اخد معاهم لا حق و لا باطل ، كل الناس هنا في المنطقة عارفين سمعتهم و سمعة المكان الو*** لكن اول ما دخلنا جينا نفتش و لا لقينا حاجة ، و لا مخلوق .. ترمي الإبرة ترن يا باشا عاملين ناصحين.
ثم عاد ينظر إلي المسؤول الأول عن المسكن ، و هتف بغضب:
-يابني انطق بالذوق احسنلك بدل ما انطقك بطريقتي.
و هنا .. رفع "إياد" يده في حركة حازمة ليسكت "وليد" ... ثم إقترب ببطء من الشاب ..
إبتلع الأخير ريقه في توتر و خوف .. فقد كان مظهر "إياد" لا ينم عن خير أبدا ، إذ بدا كرجل قادر علي القتل في هذه اللحظة و لن يتواني عن عزمه أبدا ..
و علي حين غرة .. هجم "إياد" عليه كوحش مفترس ، حيث أمسك بتلابيب قميصه و رفع قبضته المشدودة ، و لكمه في وجهه بقوة .. تأوه الشاب بصوت واهن جريح ، فسأله "إياد" هو يسحق الكلمات بين أسنانه:
-هي فين ؟؟
رد الشاب بإعياء لاهثا:
-هي مين دي يا باشا .. ما انا لسا قايل للباشا اللي وراك احنا ماعندناش حد هنا.
سدد "إياد" له لكمة أخري أسفل فكه .. أسالت اللكمة خيطا رفيعا من الدماء تدلي من جانب شفتبه ..
ضاعف إنكاره من غضب "إياد" و قوته ، فصاح فيه بضرواة قبل أن يصب علي جام غضبه مجددا:
-هي فييييين ؟ .. انطق يالاه ، انطق .. و رحمة امي لو ما نطقت لاكون دفنك مكانك هنا و محدش هيحوشني عنك.
أجابه الشاب بنبرة خاملة و هو يترنح بين يديه:
-هي مين بس يا باشا ؟ .. احنا ماعندناش حد هنا و الله ، المطرح اديله اسبوعين بينش زي ما سيادتك شايف.
صر "إياد" علي أسنانه بقوة ، فرفع قبضته مرة أخري و هوي بها علي أنفه ، ليحطم إثنان من أسنان فكه العلوي ..
صرخ الشاب بقوة كبيرة و هو يتألم بشدة ، و لكن "إياد" لم يكتف بعد ، بل أطاح به أرضا و إنفجر غيظه بضربات قاسية فيه ..
حيث راح يركله بقدميه بأقصي قوته ، أسفل معدته ، في وجهه ، في ظهره ، و علي رأسه ..
عند ذلك.. جاء "وليد" من خلف "إياد" و أمسك به ، حاول أن يهدئه بقوله:
-خلاص يا إياد باشا .. خلاص الواد هيموت في ايدك.
ثم وجه حديثه بحدة إلي الشاب:
-و انت يابني انطق بقي و خلص نفسك لتروح فيها دلوقتي.
تخلص "إياد" بسهولة من يدي "وليد" اللتين تكبلانه ، و جثي علي ركبيته إلي مستوي الشاب ، و أمسكه بتلابيبه مجددا و هو يسأله مزمجرا:
-لو ماتكلمتش فورا هقتلك .. قسما بالله هقتلك.
و أخرج سلاحهه من عقاله الجلدي .. إتسعت عينا الأخير في رعب وجل ، فهز رأسه هزة أفقية خفيفة ، و دار لسانه في كهف فمه ..
لوهلة ، إستعصي عليه النطق .. لكنه أصدر صوتا ضعيفا بغيضا ، أشبه بالعواء:
-فـ في و .. ا حـ دة هـ هنا يا باشا !
هزه "إياد" بعنف صائحا:
-هي فيــن ؟ انطق !
أخذ يسعل بقوة ، ثم قال بصوت خفيض بالكاد إستطلع "إياد" سماعه:
-في شلة عيال .. جابوها هنا الصبح .. نزلوا بيها عالبدروم اللي تحت ده.
و رفع يده المرتعشة ، و أشار له علي سلم جانبي صغير ..
تركه "إياد" و هرول راكضا صوب السلم يتبعه "وليد" ..
قفز الدرجات مرة واحدة ، حتي وجد نفسه وجها لوجه أمام باب خشبي متهالك ..
رفع ساقه اليمني و دفع الباب بكل قوته ، فإنخلع من مكانه للحال ..
ولج "إياد" للداخل مسرعا .. ليتسمر بأرضه فجأة ، و يسكن بلا حراك ..
تجمدت عيناه في محجريهما لدي رؤيته "هنا" .. كانت هناك ..
ملقاه فوق فراش عريض .. جسدها ملتف بملاءه بيضاء ملوثة بكمية رهيبة من الدم أحالت لونها الأبيض إلي الأحمر القان ..
************************************
حين أصر عليها أن يوصلها حتي بيتها بسيارته ..
أصر أيضا أن يمر علي متجر الزهور ، ليبتاع لها بعض الورود ..
نزل من السيارة ، و غاب داخل المتجر لحوالي عشرة دقائق ، ثم عاد إليها بباقة جميلة من الورد الأبيض و الأحمر الفاتح .. قدمها لها قائلا:
-فكرت اصالحك ازاي ؟ .. مالقتش انسب من الورد يعبرلك عن اسفي و حبي في نفس الوقت.
تقبلت "هاجر" الباقة بوجه متورد ، فتعمق سروره و إستشعر في زهو من إرتباكها دليلا علي وقوعها في سحره اللطيف ..
تركها تشتم آريج الأزهار بهيام ، و عاد يتابع القيادة يتركيز ..
توقف "شهاب" بسيارته للمرة الثانية أمام متجر حلوى .. إستأذن منها مرة أخري و نزل من السيارة ..
لم يغب كثيرا هذه المرة ، و حين عاد كان يحمل علبة فخمة من الشوكولاه ...فقدمها لها و قال مداعبا بإبتسامته الحلوة:
-الشوكلت دي عشان انا عارفك طفسة و كل شوية بتجوعي ، فقلت اهي حاجة تسد يعني.
ضربته علي صدره بخفة ، ثم أخذت من يده العلبة و هي تهتف بفرح:
-شهاب .. انت تجنن يا حبيبي .. ربنا يخليك ليا.
ثم شكرته بإبتسامة عذبة:
-شكرا يا شهاب.
أومأ بإستحسان ، و شغل محرك السيارة مرة أخري و إنطلق ..
و خلال الطريق ، وجد نفسه يبتسم مستغربا هذا التحول المجنون في مشاعره ..
فهو كان اليوم صباحا يكرهها و يحقد عليها بشدة ، إنما منذ قليل عندما إلتقيا و كلا منهما فاض للأخر عن مكنونات صدره دون مشاحنات أو مشاجرات ..
بديا متفهمان لأقصي حد ، و ها هو يحتويها بدفء و مودة و كأنهما لا لم يعرفا الخصام في أية لحظة من اللحظات ..
أوقف "شهاب" سيارته بصورة تدريجية أمام ڤيلا ( الطحان ) .. فإستدار إليها قائلا:
-خليكي قاعدة معايا هنا بقي لحد ما السواق يجبلك عربيتك .. انا اديته العنوان بس تلاقيه تايه فيه شوية .. زمانه علي وصول.
أومأت رأسها بعفوية فرحة ، بينما ظل يرمقها بنظرات متفحصة جريئة ..
فأشاحت عنه خجلة و قالت:
-اخبار اخوك و مراته ايه ؟ .. لسا مش حامل ؟ لسا مافيش بيبي جاي في السكة يقولك يا انكل ؟؟
هز رأسه نفيا و قال:
-هما لحقوا ؟ .. بقالهم شهر واحد تقريبا متجوزين .. بس ممكن فعلا تكون حامل ، مين عارف .. عاصم اكيد هيفرح اوي لو حصل.
و ساد الصمت مرة أخري للحظات ، فبحثت عن شيء أخر يناقشاه ، فقالت:
-خلصت الحان الاغاني يا شهاب ؟ .. المسرحية باقيلها عشرين يوم بالظبط.
-خلصتهم يا هاجر .. هبقي اروح اعرض النوتات علي الاستاذ حسن و لو عجبوه هنبتدي بروفات علطول.
-يا سلام ! .. مش هتسمعني انا الاول يعني ؟ لازم اكون اول واحدة اقولك رأيي .. و لا انا مش مميزة بالنسبة لك ؟؟
إبتسم بخفة ، و قال:
-حاضر يا هاجر .. اوعدك هتكوني اول واحدة تسمعيني و اما بغنيهم.
ردت "هاجر" إبتسامته بإحسن منها ، و فيما كانت عيناه تحوم علي محياها كريشة لا تود الإبتعاد عنه .. وجدته يقرب وجهه من وجهها بغتة ..
لفحت أنفاسه الساخنة فمها ، قبل أن تسقط شفتاه علي خدها ..
كانت قبلته عفيفة ، دافئة .. كاللتي يمنحها لأمه في كل صباح ..
تصلبت "هاجر" تماما ، لم تتحرك إنشا واحدا و كأنها ترحب بملاطفته .. مما شجعه ..
فإقترب أكثر و عانقها بحرارة .. تولد لديها إنطباع غائم بإنه كان يقاوم مشاعر لم يعرف لها من قبل مثيلا ..
و فجأة .. تراجع "شهاب" عنها مبهور الأنفاس ، فتشابكت عيونهما للحظات طويلة قبل أن يعلن بهدوء:
-السواق وصل .. عربيتك وصلت !
كانت تلك هي المرة الثانية في هذا القصر يغمي عليها ..
عندما إستعادت "هانيا" وعيها .. كانت مستلقية بسريره الدافيء ، متدثرة بغطاءه السميك الناعم ..
فتحت عينيها بتثاقل علي إثر ضربات خفيفة علي وجنتيها ، فوجدت الضوء الخافت للغرفة ما زال مضاء ..
و "عاصم" منحنيا فوقها يحدق فيها بعينين قلقتين ..
كان ممسكا بكتفيها بيدين دافئتين ثابتتين عندما تآوهت تعبة ، فزفر "عاصم" بإرتياح لما رآها و قد عادت إلي وعيها ..
فسمعت هي صوته القلق يقول:
-حرام عليكي .. نشفتي الدم في عروقي ، كنت هموت من الخوف عليكي !
ثم أردف محتدا:
-انتي ازاي ماتفطريش و لا تتغدي طول النهار ؟ .. يعني عاجبك لما وقعتي من طولك كده ؟؟!
تآملته "هانيا" علي الضوء الخافت و عن كثب .. خصلات شعره الداكنة تهدلت فوق جبهته .. صدره الأسمر المعضل لا زال عاريا .. الندبة في وجهه أقل شحوبا و أكثر إحمرارا مما يعني أنه منفعل بطريقة ما ..
قالت بخفوت:
-كنت قاعدة جمبك .. مين يعني اللي كان هيعالجك غيري ؟؟!
إنتابته العصبية ، فصاح:
-انشالله اولع بجاز ياستي .. مالكيش دعوة بيا .. من هنا و رايح لو شفتيني بموت قدامك ماتسأليش فيا ، اهم حاجة انتي.
ثم أفتر ثغره عن إبتسامة كشفت أسنانه البيضاء و هو يسألها بسخرية مريرة بعض الشيء:
-عايزة تفهميني ان قلبك عليا ؟ .. كنتي خايفة عليا يعني ؟؟
ترقب جوابها بلهفة خفية ، و كانت عيناه تلتمعان و هما تتآملان عينيها كيف إتسعتا بعاطفة متصاعدة حتي بدت زرقتهما المتآلقة ..
بينما أيقظتها كلماته و تآملاته من البلادة التي كادت تغزوها ، فقالت بإختصار مقتضب:
-لا ابدا ماكنتش خايفة و لا حاجة .. انت بس .. صعبت عليا مش اكتر.
-صعبت عليكي ؟!
ردد بخيبة و أضاف متنهدا:
-ماشـي .. طيب قومي عشان تاكلي ، خليت الخدم يعملولك اكل مخصوص و انا كمان اللي هآكلك بإيدي !
نظرت "هانيا" إلي الطاولة الجرارة بجانب الفراش ، فوجدتها مكتظة بالأطعمة الشهية .. إلا أنها لم تكن تشعر بالجوع ، حقا لم تكن تشعر بالجوع فقالت:
-لأ .. انا مش جعانة ، مش عايزة آكل.
ضحك "عاصم" في شر مصطنع و هو يقول:
-هتاكلي غصب عنك .. انا لازم انتقم بعد ما آكلتيني شوربة زعانف السالمون بتاعتك ، هآكلك الاكل ده كله مش هخليكي تسيبي فتافيت صغيرة علي طبق واحد.
حجب البكاء عن عيني "إياد" رؤية الطريق بوضوح و هو يقود سيارته ..
كما أنه كان ينظر بين الحين و الحين إلي "هنا" عبر مرآة السيارة الأمامية ..
حيث كانت ممدة في الخلف ، فيما إزاد هو سرعة السيارة و قاد بجنون في إتجاه المشفي العام بمدينة القاهرة ..
علق في الإزدحام اليومي الروتيتي قليلا مما ضاعف من عصبيته و توتره ، لكنه وصل إلي المشفي في الأخير ..
ولج من الباب الرئيسي ، ثم من باب الطوارئ و الإستقبال و هو يحمل "هنا" بين ذراعيه ، و دموعه تهطل من عينيه غزيرة و قميصه ملطخ بدمائها ..
دبت حالة من الذعر من قبل العاملين في قسم الطوارئ لدي رؤيتهم نزيف "هنا" ..
فأقبل عليه ثلاثة من طاقم التمريض و قادوه إلي غرفة الفحص ..
وضعها "إياد" هناك فوق السرير الطبي ، في نفس اللحظة آتي الطبيب من خلفه مهرولا بعد أن تم إستدعاؤه لحالة طارئة ..
وقف "إياد" جانبا يتابع ما يجري حوله بقلب واجف و أنفاس لاهثة ..
بينما تفقد الطبيب النبض أولا بيده .. ثم إستخدم السماعتين ليتأكد من شكوكه .. و تأكد !
فإستدار مطرق الرأس نحو "إياد" و قال:
-انا اسف .. انت اتآخرت اوي ، دي ميتة بقالها فترة.
تقلصت ملامح وجهه بصدمة آليمة ، صدمة كادت تذهب بعقله ، فإندفع صوب الطبيب و أمسكه من معطفه الأبيض صائحا بعنف:
-ايه اللي انت بتقوله ده ؟ .. هنا .. هنا مامتتش ، انت مش عارف تشوف شغلك ، انا جايبها هنا في احسن مستشفي عشان تقولي ماتت ؟ .. مش عارفين تعالجوها ؟ انا هاخدها لأي مستشفي تانية و هاوديكوا في ستين داهية.
حاول الطبيب أن يهدئه ، فأمسك بيديه و قال بلطف:
-اهدا يا استاذ .. دي مهما كانت اعمار و ربنا عايز كده ، اهدا و اذكر ربك و ادعيلها .. البقاء لله.
هدر "إياد" بجنون:
-بـس اسكـت .. مـاتقوليـش كده .. هنا مامتتش.
و ركض صوبها ، ثم ركع بجانب السرير الذي رقدت فوقه .. أخذ يصرخ صراخا مدويا و هو يقول:
-هنـا .. قومي يا هنا ، قومي نمشي من المستشفي دي .. قومي يا حبيبتي ، انا مش هسيبك و الله ما هسيبك .. هفضل جمبك طول عمري.
و راح ينهال عليها بالقبلات و الأحضان ، و يحاول أن يفتح عينيها بأصابعه المرتجفة و هو يقول:
-فتحي عنيكي .. قومي بصي ، انا بحضنك و ببوسك اهو .. مش هتقومي تزعقيلي و لا ايه ؟ مش هتضربيني بالقلم طيب زي ما قولتي قبل كده ؟ .. قومي يا هنا ماتتعبنيش اكتر من كده .. طيب اتكلمي طمنيني عليكي بس.
و حاول أن يفتح فمها أيضا دون جدوي .. كان يرجوها بشتي الطرق ، فأخذ يستجديها بصوته اللاهث و هو يعانق وجهها بكفيه الباردين:
-اصحي يا هنا .. اصحي يا حبيبتي .. فتحي عنيكي عشان خاطري ، هنا .. فرحنا بعد اسبوعين يا هنا.
بكي بقهر متآوها و هو يدفن وجهه لدي عنقها البارد ، و بغتة .. مر شريط ذكرياته القصيرة الجميلة معها أمام عينيه ..
فعاد مرة أخري يصيح بنوبة بكاء حادة هستيرية:
-لأ .. لأااا .. مش هتموتي يا هنا ، مش هتسبيني لوحدي ، انا ماليش حد في الدنيا غيرك .. لا اب و لا ام و لا اخوات انتي كل دول .. قومي يا هنـااا ، اصحــي !
في تلك الأثناء .. إستدعي الطبيب بعض المساعدين له من طاقم التمريض ، و بصعوبة ..
إستطاعوا جميعهم أن يقتلعوا "إياد" من فوق "هنا" ..
بينما راح يصرخ فيهم ، و فيها ، و في نفسه ..
حتي شعر بشيء حاد جدا ، و رفيع جدا .. ينغرز في كتفه ..
ثم فجأة .. هدأت ثورته ، و ثقل لسانه .. فوجد الطبيب يظهر أمامه ، و يقول بهدوء و آسف:
-معلش .. اضطريت اديلك حقنة عشان تقدر تهدا شوية و الا هيجيلك انهيار عصبي .. ماتقلقش هتبقي كويس !
و بصورة سريعة ، غاب "إياد" عن وعيه ...
دلفت "هاجر" إلي غرفة نومها ، فطرحت نفسها علي السرير و رأسها يدور هائما كالمروحة في أحداث الليلة ..
لقد شعرت بحب غامر يطغي علي كيانها ، و بنبضات متسارعة تدق عروقها ..
كانت قد فقدت الأمل في عودته لها .. و لكن ها هو القدر يبتسم مجددا و يمنحها إياه ..
"شهاب" .. لاحظت إزدياد لطفه و سحره في هذه الليلة بالذات .. أرجعت هذا لإعترافه الصريح بحبه لها ..
أبتسمت بعشق عندما دوت بأذنيها كلماته التحببية ، فرفعت باقة الزهور إلي أنفها ، و إستنشقت العبق النفاذ بعمق ..
لينفتح فجأة باب غرفتها بعنف ، فتهب من فراشها مذعورة ، و تكتشف دخول شقيقها ..
وقف "جاسر" علي أعتاب الغرفة يحدجها بنظرات شريرة فتاكة لأول مرة تشهدها عليه في حياتها ..
نظرت إليه في توتر و قلبها يهفق وجلا ، و إنتظرت في رعب خطوته التالية .…