الجزء 36: فقط عشق

كان يقود سيارته متجها بها إلي مؤسسته التجارية ، عندما إرتدت إلي عقله تفاصيل مكالمة صديقه مرة أخري ..

-و ده ايه اللي جابه ده ؟ عايز ايه ؟؟
سأل "عاصم" بخشونة عصبية ، فرد "زين" بنبرته الهادئة:
-ماعرفش يا عاصم ، هو جه و طلب يقابلك .. لازم تيجي فورا ، خلينا نشوفه عايز ايه !
صاح "عاصم" بتهور:
-انا لو شوفته قدامي هقتله مش هتكلم معاه.
علي النقيض .. إختلجت "هانيا" حين نطق "عاصم" بهذا ..
توترت من لهجته و طريقته العنيفة ، فإرتكزت علي مرفقيها ، ثم إعتدلت جالسة فوق الفراش و هي تحيط جسدها بالغطاء و تصغي لبقية المكالمة بقلب ملتاع ... :
-يا عاصم اهدا من فضلك و بلاش تهور في الكلام.
هكذا راح "زين" يهدئه ، و لكن بصوت حاد .. ثم أردف بدبلوماسيته المعهودة:
-تعالي شوفه عايز ايه ؟ مش هتخسر حاجة .. و هو طالما جه برجليه لحد عندك يبقي عمره ما هيفكر يعمل حاجة كده و لا كده .. يلا بقي تعالي بسرعة متتآخرش.
وافقه "علصم" علي مضض ، ثم أغلق الخط معه في وجوم ... :
-هو في ايه ؟؟
تساءلت "هانيا" بقلق ما أن أنهي "عاصم" مكالمته ..
فأدار إليها وجهه العابس ، و أجاب بلهجة حادة فشل في تغليفها بشيء من اللطف:
-مافيش حاجة .. بس محتاجيني هناك في الشركة ، لازم أروح دلوقتي حالا.
و لم ينتظر سؤالا أخر تطرحه عليه ، و غادر السرير ...


هكذا تركها "عاصم" في حيرة و عسر من أمرها ..
و ها هو ينطلق بسرعة جنونية بسيارته ، و بفضل تلك السرعة ، وصل إلي مؤسسته في خلال خمسة عشر دقيقة فقط ..
إن القلة القليلة بالشركة هناك هم من يعرفون "عاصم الصباغ" شخصيا ..
أما الغالبية العظمي ، فيعرفون عنه فقط أنه الرجل ذا الندبة ، المشوه ..
لذلك ، عندما دخل من البوابة الرئيسية الإلكترونية .. إنحنوا له رجال الآمن في تهذيب و هو يمر بينهم بخطواته الثابتة الواسعة ..
بينما لم يعرفه الكثيرون في الداخل ... و لكنه إستطاع أن يلمح بطرف عينيه حركة السير التي تباطأت فجأة من حوله ..
كما إستطاع أيضا أن يسمع أسمه بوضوح بين الهمهمات و الهمسات التي أخذت تتعالي ..
لم يبال "عاصم" بأي من هذا ، و إتخذ طريقه إلي المصعد ، ثم إلي غرفة الإستقبال التي تسبق مكتبه ..
قابله "زين" هناك .. فأقبل عليه مسرعا و هو يتمتم بصخب مختنق:
-عاصم ... اتأخرت كده ليه يابني ؟؟!
رد "عاصم" بغلظة ثائرا:
-و المفروض احضرله في الحال و لا ايه ؟ .. و بعدين مستعجل علي ايه ؟ ده هيبقي محظوظ لو خرج من هنا حي.
-طب خلاص خلاص اهدا ، ماحصلش حاجة لكل ده !
-هو فين ؟؟؟
-انا دخلته المكتب علي ما تيجي.
إتخذ "عاصم" خطوة نحو المكتب ، و قبل أن يأخذ الثانية .. قبض "زين" علي رسغه و حذره بلطف:
-انا مش هدخل معاك .. بس ارجوك ، لو سمحت ماتتهورش ، اسمع منه و انت ساكت لحد ما يقول كل اللي عنده .. و لو حصل اي حاجة انا موجود هنا مش هتحرك ، رن الجرس بس و هتلاقيني قدامك في ثواني.
إتشح وجهه بالوجوم مجددا و هو يجد نفسه مضطرا لتنفيذ نصائح صديقه ..
فتنهد في إستسلام ، و أومأ له موافقا ..
فتركه "زين" علي ذلك مطمئنا ...
ليندفع "عاصم" صوب غرفة مكتبه .. فتح الباب علي مصراعيه بحركة عنيفة ، وقف علي أعتابه برهة ، ثم ولج و أقفله بنفس العنف ..
تقدم نحو مكتبه الضخم الآنيق ، حيث يجلس هناك ذلك البغيض علي أحد المقاعد مسلفا إليه ظهره ..
مع كل خطوة من خطوات "عاصم" تجاهه ، كان يشد بقوة علي قبضتيه ليكبح رغبة ملحة تحثه علي إرتكاب جريمة بشعة الآن ..
لكنه تمالك نفسه بأعجوبة ... و ها هو الآن في هذه اللحظة ، يقف أمامه مباشرة ...
جثم صمت ثقيل لما يقرب دقيقة كاملة ، و كلاهما لا يزال يحدق الواحد في الأخر ..
كان "جاسر" علي طبيعته الفظة الساخرة .. حيث لم يقف ليصافح "عاصم" فقط أخذ يمرر عينيه عليه في تقييم متكبر متعجرف ..
بينما يحدجه "عاصم" بنظرات نارية ... و لكن سرعان ما أفتر ثغره عن إبتسامة باردة ..
أعقبها بجلوسه في المقعد المقابل له مباشرة ، إذ أنه ليس بحاجة لأن يجلس خلف مكتبه برسمية الآن ..
وضع "عاصم" ساقا علي ساق و هو يقول ببرود:
-خير !


بالرغم من حياد لهجته ، إلا أن آذن "جاسر" لم تخطئا تمييز الرنة العنيفة فيها ، فتآجج الغضب بعينيه هو أيضا ، و إن لم يطفو علي صوته و يرد بنفس البرود:
-كل خير يا عاصم بيه !
نفذت عينا "عاصم" في حده إلي عينيه مباشرة و هو يتناول علبة سجائره المذهبة من فوق المكتب ..
دس سيجارا بين شفتيه ، ثم أشعله ببطء ... سحب نفسا متآنيا من السيجار ، ثم نفثه عموديا في إتجاه وجهه ..
لم يطرف جفن الأخير .. إنما آثارته أفعال "عاصم" ..
فأطلق لسانه أخيرا قائلا بلهجة خشنة:
-انا ممكن اكون راجل لطيف احيانا ، ممكن ابان ابن ناس و متربي .. لكن كمان ممكن اكون و** و ابن ستين *** زي ما انت اكيد فاهم قصدي !
إزداد العنف في عيني "عاصم" عندما تعمد أن يذكره بما إعتزم علي فعله مسبقا ، فرد بنبرته المتباطئة القاطعة كحد السكين:
-اخلص ياض انت و قول عايز ايه عشان ماتحصلش مجزرة دلوقتي.
رمقه "جاسر" بإبتسامة هازئة و هو يخرج من جيب سترته مظروف أبيض ، ثم يناوله إياه ..
فمد "عاصم" يده ، و شده بإحدي حركاته العنيفة ..
ثم أشاح بنظره المتجهم عنه ، و فتح المظروف ... ليري داخله مجموعة صور تضم شقيقه مع تلك الفتاة التي تقرب منها بشكل ملفت مؤخرا ..
عجز "عاصم" عن فهم ما يدور ، و رفع لـ "جاسر" بصرا حائر هذه المرة ..
فبادره الأخير بحدة:
-اللي قدامك في الصورة دي تبقي هاجر كمال الطحان ... اختــي !
لم ينكر "عاصم" وقع المفاجأة عليه ، و لكنه نجح في مواراتها خلف قناع من اللامبالاة .. و رد بإستخفاف:
-اختك ؟ .. طيب ، عايز ايه انت بقي مش فاهم !
-لأ انت فاهم كويس اووي ... انت بتردلي اللي عملته في هانيا ، او اللي كنت هعمله فيها .. بعت اخوك يلعب علي اختي بحجة انه زميلها في الجامعة عشان تنتقم للست خضرة الشريفة بتاعتك.
و هنا ، أطاح "عاصم" بسيجاره في الهواء ، و هو يصيح:
-اتكلم بآدب .. و بحذرك لأخر مرة تجيب سيرتها علي لسانك الو**.
ثم إستطرد و هو يبذل أقصي طاقة لتمالك نفسه:
-و لو خايف علي اختك اوي كده خلاص .. ايعدها عن اخويا.
هب "جاسر" واقفا و هو يهتف بقوة:
-قول لأخوك و حذره ... اختي خط احمر ، لو فاكر نفسه شاطر و مغامر و دونچوان .. يبقي من دلوقتي يا صباغ ، حضرله كفنه !
قفز "عاصم" في تلك اللحظة قفزة فهد عفي بعد أخر جملة نطقها تحديدا ، و أمسك بتلابيبه و هو يجعر و يزمجر بشراسة هائلة:
-لولا انك علي ارضي و اني راجل محترم كان بقالي معاك تصرف تاني .. بس سيبك انا اصلا مش محترم انا طول عمري متربي عالأرصفة ، و اذا كنت متخيل انك بتهددني فإسمع كويس و افهمني ..
من اللحظة دي ، لو حد قرب من اخويا او مس شعرة واحدة من راسه .. هيبقي ده اخر يوم في عمرك !
إنفتح باب المكتب بقوة في تلك اللحظة ، ليظهر "زين" من خلفه ..
تقدم صوبهما مهرولا ، و عبثا حاول أن ينتزع يدي "عاصم" عن "جاسر" ... فإستفسره بضيق عصبي:
-في ايه يا عاصم ؟ .. ماسك فيه كده ليه ؟ .. طب سيبه خلاص !
صاح "عاصم" في "زين" دون أن يحيد نظره الغاضب عن "جاسر":
-ابعد عني يا زين .. مالكش دعوة انت.
-طب سيبه ... سيبه دلوقتي .. سيبه بقي يا اخي.
و بصعوبة و تحت إلحاح "زين" .. أفلته "عاصم" ثم صرخ بوجهه:
-بـراااا ... و بحذرك بعد كده المح خلقتك قدامي و لو صدفة .. ماتلومش الا نفسك وقتها.
بتحد سافر ، حدجه "جاسر" ..


ثم عدل قميصه الذي تجعد في قبضته الشرسة ، و إستدار خارجا من المكتب ... :
-ايه اللي حصل يا عاصم ؟؟
قالها "زين" متسائلا ، بينما لم يسمعه "عاصم" ..
إذ كان غارقا في بحر أفكاره المتلاطم ، فلم يشعر إلا و هو يمد يده إلي جيب بنطاله و يخرج هاتفهه ..
هاتف شقيقه .. فما هي إلا ثوان و آتاه صوته:
-ايوه يا عاصم !
-انت فين ؟؟؟
سأله متجهما ، فأجاب بغرابة:
-انا في البيت ! .. ليه ؟؟!
-خليك عندك ، انا جايلك .. اوعي تتحرك من مكانك.

.............................................................

غادر "جاسر" الشركة كلها و هو لايري أمامه من فرط غضبه و عصبيته ..
ظل يقسم و لم يتوقف عن القسم بأن يجعله يندم أشد الندم علي ما فعله به منذ قليل ..
صعد إلي سيارته ، و للحال أخذ يبحث عن هاتفهه داخلها حتي وجده ..
فتحه ، و راح يبحث في قائمة الإتصالات عن إسم معين .. ثم أجري إتصاله السري فورا:
-الو ... ستينج ؟ .. ازيك يا صاحبي ؟ ... عملتلي ايه في اللي طلبته منك ؟ ... لأ خلاص فكرت .. بكرة الزبون هيجي برجليه لحد عندي ... هنفذ بكرة ... مستنيك يا ستنيج !

***********************************

-انت تسمع كلامي من سكات .. مش عايز اسمع اسم البت دي هنا تاني ، تشيلها من دماغك خالص .. فاهم ؟؟؟
خرجت تلك الكلمات من "عاصم" صداحة قوية و هو يقف داخل بهو القصر الحديث التأثيث علي بعد خطوات من شقيقه ، الذي باغته بقوة مماثلة:
-لأ يا عاصم مش هسمع كلامك ، انا مابقتش عيل صغير .. و بعدين انا بحبها و هي كمان بتحبني ، و لا هو الحب بقي حلال ليك و حرام علي غيرك ؟؟!
-حب ايه يالاه ؟ .. هتعملي روميو يا حتت عيل انت ؟ .. اسمع يا شهاب ، انا مش هستني لما حد يقل عقله و يفكر يآذيك ... فمن فضلك بالذوق كده اسمع كلامي ، ماتضطرنيش استخدم معاك اساليب مش هتعجبك.
تفاقم فوران غليانه ، فإحتقن وجهه بالدماء و هو يسأله:
-يعني ايه يا عاصم ؟ قصدك ايه ؟؟؟
-اتمني ماتفهمش قصدي خالص يا شهاب عشان ماتضايقش ... اسمع كلامي انا اخوك الكبير و مش عايز الا مصلحتك و بعدين البنات مافيش اكتر منهم تقدر تحب الاجمل و الاحسن منها كمان و انت ماتترفضش يا شهاب ، انت ناسي انت مين ؟؟
-لأ !
هتف بتمرد ، و واصل معاندا إياه:
-انا مش هسمع كلامك .. انا كبير بما فيه الكفاية عشان اقرر انا عايز ايه .. و مش عشان اخوها جه هددك و انت جبت ورا يبقي انا كمان هقلدك و هخاف ، لأ يا عاصم .. انا مكمل في طريقي و ماليش دعوة بحد.
رمقه "عاصم" بنظرات مشتعلة ، ثم إقترب منه بخطوتين واسعتين و أمسك بياقتي قميصه و هو يهدر كالوحش:
-مين ده اللي جاب ورا يا شهاب ؟ .. عاصم الصباغ عمره ما خاف من حد ، عمره ما عمل حساب لحد .. و لا نسيت اخوك عمل ايه طول السنين اللي فاتت دي ؟ .. انا لو كنت متعود اوطي راسي لأي حد بيفكر يدوس عليا زي ما بتقول ماكنتش عملت و لا حاجة من اللي انت شايفها قدامك دلوقتي.
بــُهت "شهاب" ... إعتراه خجل شديد مما قاله في حق أخيه ، فإعتصم بالصمت ..
بينما تركه "عاصم" مبتعدا عنه بخطوات غاضبة ...


علي تلك الطاولة ذات المفرش المخطط بالبلاستيك الشفاف ..
وضعت السيدة "هويدا" أطباق الطعام أمام إبنتها ... ثم جلست علي مقعد بجوارها فقط لتؤنسها ..
فهي لم تعد تشعر بشهية للطعام منذ وفاة إبنة شقيقها ، و خاصة بعد أن علمت ما حل بها قبل الوفاة و الأسباب التي أفضت بها إلي الموت ..
ذرفت الدموع في هذه اللحظة رغما عنها ، فلمحتها "سمية" و قالت بكدر:
-في ايه بس يا ماما ؟ .. معقول هتفضلي كده علطول ؟ .. كفاية نكد بقي !
ردت "هويدا" بصوت مخنوق و الدموع تهطل بغزارة من عينيها:
-غصب عني يا ينتي ... المصيبة اللي حصلت تقطم الوسط ، ده الواحد لو كان جبل كان اتهد ... البت يا حرقة قلبي عليها كانت نسمة ، عملت ايه بس عشان يحصلها ده كله ؟ .. و لا امها اللي محدش عارفلها طريق جرة يا تري عايشة و لا ميتة ؟ ..
حسبي الله و نعم الوكيل في اللي عملوا في بنت اخويا كده ، حسيي الله و نعم الوكيل في اللي كانوا السبب ر بنا ينتقم منهم دنيا و أخرة.
إسشاطت "سمية" غيظا ، إذ حتي أمها تتعاطف مع "هنا" الآن و هي التي كانت تكرهها و تؤازرها عتدما تحقد عليها ..
و بغتة .. إنفجرت "سمية" قائلة:
-خلاص يا امي اللي حصل حصل و اللي مات مات .. الله يرحمها مطرح ما راحت بقي هنعملها ايه يعني ؟ هنموت نفسنا عليها ؟؟
هزت "هويدا" رأسها و هي تقول بآسي:
-يا بنتي حرام عليكي .. خلي في قلبك شوية رحمة ، البت ماتت خلاص .. معقول لسا بتكريهها يا سمية ؟ .. ده انا كنت فاكرة انها صعبت عليكي !
يا خسارة يا سمية قلبك حجر يا بنتي.
تآففت "سمية" ضجرة ، و تركت الطاولة و هي تتجه إلي غرفتها و تهتف بغل:
-مش واكلة يا امي عشان ترتاحي ، اياكش انا كمان اموت عشان تحزني براحتك !

*****************************************

يا له من عالم غير طبيعي ذلك الذي خطت فيه !
حين طاوعت قلبها ، و وافقت علي البوح له بحبها ..
و لكنها منذ فترة ليست بقصيرة ، أحست بقوة خفية تدفعها لإتخاذ هذا القرار القوي ..
علي كل ... هذه الحقيقة أقوي من إرادتها ، و ما كانت لتقدر أن تخفيها أمام حبه لها ، و رقته في التعامل معها ..
فقد أذابها حنانه ، و جعلها آداة طيعة في يده ... و ها هي تدرك الآن أنها منجذبة نحوه بكل عواطفها و مشاعرها ..
و لكنها تدرك أكثر ، أنها في خضم إثارة مؤقتة .. فقد قررت ألا تخون ذكري أبيها مهما حدث ، و في نفس الوقت قررت دون أن يتطرق إليها الشك بصدد مشاعرها نحو زوجها ، أن تعيش و تفكر للحاضر القصير ..
للحاضر فقط ، و أن تتمتع و تمتعه بكل دقيقة ..
إذ سيكون لهما العمر كله للحزن و الآلم بلا شك عندما يفترقا ..
و لكن بالتأكيد في المستقبل ، سوف تستعيد ذكريات الحاضر و سعادتها معه ..
نعم ستكون ذكرياتها سعيدة معه .. هي مُصرة علي جعل كل ذكري سعيدة لأجله و لأجلها ..................................

منذ عودته من الخارج ، و هو جالس فوق الآريكة تلك الجلسة الخرساء الجامدة !
فجلست هي إلي جانبه ، حاولت أن تستدرجه .. أن تعرف ما باله ؟ .. ما علته ؟ .. ما الذي يضايقه ؟ .. و لكن دون جدوي ..
كانت متيقنة أن المكالمة الصباحية لها اليد العليا في أسباب ضيقه و حزنه ... :
-يعني هتفضل ساكت كده ؟ .. ده انت حتي ماغيرتش هدومك من ساعة ما جيت !!
قالتها "هانيا" في ضيق متململة ، و أردفت:
-طب قولي مالك بس ؟ .. فيك ايه ؟؟!
و بعد صمت ثقيل جدا ... رد "عاصم" واجما كطفل أفاق من نومه رغما عنه:
-مافيش حاجة يا هانيا ... انا تمام.
قطبت حاجبيها مستاءة و هي تردد:
-لأ انت دمك بقي تقيل اوي !
ثم نهضت و تركته .. حتي أنه لم ينتبه إلي أين ذهبت ..
و بعد عدة دقائق قليلة ، عادت إليه ..
أمسكت بيده ، و حاولت بجهد أن تشده ليقف علي قدميه و هي تقول لاهثة:
-يلا قوم معايا .. مش عارفة اشدك ... انت تقيل اوي بجد ، قوووم بقي.
سألها منزعجا:
-اقوم اروح فين بس يا هانيا ؟؟!
-بس قوم معايا .. اسمع كلامي بقي !
تنهد "عاصم" مستسلما لرغبتها ، و نهض معها ، بل و تركها تقتاده إلي حيث تشاء ..
ليجد نفسه في اللحظة التالية داخل قاعة حمامه المعبأة بالبخار المائي ..
نظر حوله بإنبهار بالغ ... فقد أعدت له "هانيا" حماما ساخنا ليعيد إليه نشاطة و حيويته ..
حيث ملأت المغطس بالماء الدافيء ، و الصابون ذا الرائحة النفاذة المنعشة ، بالإضافة إلي مجموعة الشموع المعطرة و التي أشعلتها ، و قامت برصفها حول المغطس لتحمله علي الإسترخاء و التجلي حين يستنشقها و المياه الساخنة تغمره ..
نظر "عاصم" إليها في صمت لثوان ، لكن سرعان ما إنسابت إبتسامة هادئة علي وجهه و هو يسألها:
-انتي عملتي كل ده عشاني ؟؟؟
أومأت مجيبة بتبرم مصطنع:
-و لو انك ماتستهلش .. اهو عشان صعبت عليا بس.
ثم منحته إبتسامتها الحلوة ، و رفعت يديها إلي أعلي قميصه ..
أخذت تفك له الآزرار الواحد تلو الأخر حتي نزعته عنه تماما و بقي نصفه العلوي عاريا ..
إصطبغت وجنتاها بحمرة قانية ، و هي تتنحنح ، و تدير له ظهرها في حياء قائلة:
-يلا كمل انت بقي .. اقلع باقي هدومك و انزل في المايه !
جاء رده مشاكسا ، مداعبا:
-طب ما تكملي جميلك و لفي ساعديني.
-عـاااصم !
هتفت تحذره بصوت آجش ، فضحك بخفة ، و سمعت صوت حفيف باقية ملابسه علي جسده و هو ينزعها ..
و لم تلف له إلا حين سمعته يحتك بالماء ...
كان يحاول أن يسترخي عندما أقبلت عليه و جلست علي سور المغطس
أسقطت قدميها في الماء و هي تنظر إليه باسمة ..
أخذت تحرك قدميها في حركات مرحة ، ثم سألته بنعومة:
-مش هتقولي بردو مالك ؟ .. ايه اللي مضايقك ؟؟
أجابها بلهجة طبيعية دون أن ينظر إليها:
-صدقيني مافيش حاجة ، في شوية مشاكل في الشغل بس .. انا كويس.
-انا كويس !
قالتها تقلده بصوت غليظ ، ثم أطلقت قهقهة قصيرة ، و أردفت و هي تحدجه بتشكك:
-هعمل نفسي مصدقاك ، و لو ان مكالمة الصبح دي كانت مريبة شوية.
لم يرد ... بل و أنكث رأسه حتي لا تري الإجابات مسطره علي وجهه ..
تجهمت "هانيا" من حالته .. و شعرت أن آلما يشبه سهما حاد طويلا ، ينغرس في قلبها و يمر ببطء فتزداد آلامها ..
تنهدت بعمق ، و فكرت كيف تخرجه من تلك الحالة .. فتحركت بجسدها نحوه ، و بدأت في رفع الماء بكفها و سكبه علي رأسه و ظهره ، و تمرير أصابعها في شعره الكثيف ..
رفع رأسه إليها و هو ينظر لها بعين واحدة ، بينما يقفل الأخري ليحميها من قطرات الماء الممتزجة بالصابون ..
ضحكت "هانيا" علي شكله هذا ، و قالت مازحة:
-ايه ؟ .. بغلس عليك في حاجة ؟؟!
إبتسم "عاصم" في لطف ، ثم هز رأسه نفيا ..
فبادلته بسمته ... و أعترفت للمرة الثالثة:
-بحبك !
لمعت عيناه عشقا و هو يرنو إليها ، فمد يده و قبض علي معصمها ..
و بحركة خاطفة .. جذبها نحوه بقوة داخل المغطس ..
صرخت "هانيا" بصورة تلقائية من المفاجأة ، و أخذت تبقبق في الماء إلي أن أمسك بها و رفعها بمنتهي الخفة و المرونة لتقابله ..
عاتبته بشيء من الغضب و هي تمسح عن عينيها قطرات الماء الحارقة:
-ليه كده ؟ .. اقولك بحبك تقوم تعمل فيا كده ... طب بكرهك !
إبتسم لها بحب ، و قرص وجنتها بلطف و مودة قائلا:
-انا بحبك اكتر ... اكتر بكتييير يا جميلتي !
و هنا فقط ... هدأت ثورتها تحت تأثير نبرته الدافئة ، فغامت حواسها ، و تاهت عينيها في غياهب عينيه و هي تنظر مأخوذة إلي السحر البندقي فيهما ...
رفع "عاصم" يده ، و أمسك بخصلات شعرها الذهبية المبتلة ، يرتبها علي كتفيها ، و يزيحها عن وجهها ليراها بوضوح ..
رفعت يدها بدورها ، و وضعت كفها علي ندبته دلالة منها علي حبها الخالص له ، و عدم نفورها من هذا التشوه المثير ..
قرب "عاصم" وجهه من وجهها ، و طبع شفتيه علي شفتيها بمنتهي الرقة ..
و لكن ما لبث قلبه يطالبه بقبلات أكثر حرارة .. ليقربها منه أكثر و يقبلها بنهم محوطا ذراعيه حول خصرها ، يشدها أكثر و أكثر ..
لم يعرفا كم بقيا من الزمن و هما علي تلك الحالة ، فقد تبادلا الأحاسيس و المشاعر دون أن يعارض أحدها الأخر ...
و ما أن إرتد وجهه بعيدا عنها قليلا ، و لفحت أنفاسه الحارة وجهها ، حتي أدركت أنه يطالبها بالمزيد ..
فإبتسمت يمكر و تجاهلت الرغبة المستعرة في عينيه ..
أدارت جسدها فقط ، بحيث جلست علي حضنه ملصقة ظهرها بصدره ، ثم تمتمت:
-انت بجد ارق بكتير من الانطباع الاول اللي خدته عنك اول ما شوفتك .. انت ... مش وحش ابدا .. عاصم ... انا فعلا بحبك !
و تخاذل صوتها في أخر عبارتها ، فإكتفت بالصمت داخل أحضانه و هي تقرر من جديد ..
لا مزيد من الحزن الآن ، فليس وقته .. يجب أن تغتنم السعادة في كل لحظة ، و أن تشعره بالحب بلا توقف لتمنحه ذكريات تمده بالبهجة في المستقبل عندما تكون قد غادرت حياته بلا رجعة …



إعدادات القراءة


لون الخلفية