الجزء 20: إنفطر القلب

كانت صفحة الليل سوداء ،،
مرصعة بالنجوم ، و السكون يخيم علي ذلك القصر الضخم و المعزول نسبيا عن العالم الخارجي و الناس ..
أما النسائم الرقيقة ، فقد أثقلها آريج الأزهار و الورود علي إختلاف أنواعها و هي تتسلل إلي أنف "عاصم" من خلال شرفة مكتبه المفتوحة ، حيث كان يقف أمامها شاردا في بحر من الأفكار ..
لقد كانت جذوة الأمل بقضاء يوم لا ينسي غدا قد خبت في أعماقه بسبب ما فعله توا مع صديق عمره الوحيد "زين" ..
لقد أهانه بدرجة كبيرة ، و هو نادم أشد الندم علي ذلك ، منذ رحيله قبل قليل ، لم ينفك "عاصم" عن التفكير في كيفية مرضاة صديقه ..
و لو أنه غير واثقا من جدوي تفكيره .. فأي إعتذار ذلك الذي يمكن أن يجعل "زين" ينسي أو يتناسي ما قاله "عاصم" .. فقد كان كلامه قاسي و خارج عن المألوف بصورة كبيرة ، لدرجة جعلته هو نفسه يشعر بالذهول من ذاته.. فكيف فعل ذلك مع "زين" ؟؟ كيف ؟ ..
أفاق "عاصم" من تفكيره مغموما و هو يشد علي يديه بقوة مغمضا عينيه .. من الواضح أن الأمر سيطول قليلا حتي يجد حلا لتلك المشكلة ..
إنتقل "عاصم" بتفكيره بصورة سريعة إلي أسيرته الفاتنة .. "هانيا" ..


كل الأمور التي كانت تشغل تفكيره طوال هذا الوقت ، إحتار في إتخاذ قراراته بشأنها ، عدا الأمر الذي عزم بكل قوته علي تنفيذه ، كان محسوما و بشده ..
إذ يجب أن يتم زواجه بها و غدا كما وعدها ، حتي و لو تم ذلك رغما عنها ، فقد بات الأمر خارج عن إرادته ، إنها إرادة قلبه الأن ..
قلبه الذي لم يذق للحب طعما منذ ولادته حتي إلتقي بها ، كان قدره أن يقع في غرامها ، من دون جميع الحسناوات اللائي كان بإمكانه أن يتخير أجملهن و يتخذها ملكا له بأمواله ، إلا أنها وحدها من إستطاعت أن تنتزع الوجه الأخر للشيطان اللئيم بداخله ..
أنها الأن حبيبته ، رغم معارضتها لذلك ، رغم كرهها و نفورها منه .. إن الحب جنون منذ القٍدم ، و قد إعتاد التعقل في تصرفاته ..
لكنها غيرت فيه الكثير دون أن يدري كيف إستطاعت أن تفعل ذلك !
إنها حقا تراه وحشا ، و لكنها أيضا بإستطاعتها أن تخضع هذا الوحش لإرادتها وقتما تشاء ، فقط إذا سايرته و لبت له رغباته بطواعية .. عند ذلك لن يتردد في تقديم أي شيء تطلبه أو تتمناه ، فقد تاقت نفسه إليها ، و يريد بشدة أن ينال حاجة قلبه و عقله منها .. :
-عاصم بيه !


تناثرت فجأة أفكار "عاصم" أشلاء علي درب الواقع لدي سماعه صوت الخادمة .. إلتفت إليها بقامته المديدة الجامدة ، و سألها عابسا:
-في ايه ؟؟
أجابت الأخيرة بخفوت منكثة رأسها:
-هانيا هانم كان بقالها شوية بتخبط علي باب اوضتها و عايزة تخرج ، انا سيبتها لما هديت خالص و جيت ابلغ حضرتك ، مارضتش افتحلها الباب زي ما حضرتك امرت.
هز "عاصم" رأسه ، و بصوته الأجش قال:
-طيب .. روحي انتي دلوقتي.
أطاعته الخادمة بتهذيب ، و إنسحبت في هدوء ..
بينما ظل "عاصم" ساكنا للحظات ، ثم إتجه للخارج قاصدا حجرة "هانيا" ...

 


إتجهت "حنة" صوب باب الشقة بوجه مشرق و هي تتبختر في خطاها ، و تختال بنفسها في غنج داخل المنامة الحمراء المثيرة التي كشفت عن أغلب أجزاء جسدها ..
و مع إستمرار دق الجرس ، هتفت بمزيج من الدلال و الرقة:
-ايوه يا حبيبي .. ايوه جاية اهو.
و فتحت "حنة" الباب ..
فصعقت من هول ما رأت .. فقد كان من يقف أمامها علي بعد إنشات قليلة ليس سوي شقيقها و زوجها ..
لقد قضي عليها لا محالة ... لوهلة ، تحجرت عيناها أمامها مضروبة بالذهول و الفزع ..
تلاحقت أنفاسها في رعب وجل ، ثم فجأة و بحركة سريعة منها ، حاولت أن تغلق الباب في وجهيهما ، و لكن عبثا فشلت محاولتها ..
إذ كان "عبيد" أسرع منها ، حيث مد قدمه يمنع إكتمال إغلاق الباب ، لم تجد "حنة" بداً من المقاومة ، فإستدارت و إندفعت للداخل و هي تصرخ و تصيح في هلع ..
إلا أن شقيقها "سالم" طوي الأرض بخطوات واسعة و وصل إليها مسرعا .. إمتدت يده بسرعة البرق و قبضت علي حفنة من خصيلات شعرها ، ثم إجتذبها بقوة وحشية إلي الوراء ..
كانت لتسقط لو أنه تركها ، بينما واجهها "عبيد" وجها لوجه في هدوء مريع و هو يحدجها بنظرة باسمة كلها شماتة ، و لم يدم صمته طويلا ، إذ ردد بصوت كفحيح الأفعي:
-اهلاااا بحبيبة قلبي و مراتي الغالية .. وحشتيني يا حنة.
ظلت "حنة" تحدق فيه بعنين جاحظتين تشعان جنونا مفزعا ، فيما إنطلق صوت أخيها الخشن أخيرا بقوله:
-اه يا فاجرة يا **** .. كنتي فاكرة اننا مش هنعرف نوصلك ؟ كنتي فاكرة انك هتفضلي هربانة منا طول العمر ؟ و ديني و ايماني لاكون دبحك بإيديا و جايب خبرك يا ******.
تثلجت أطرافها و شحب وجهها حتي البياض ، و هي تتلفت بعينيها الجاحظتين المرتعبتين يمينا و يسارا ، تاركة لسانها يهذي بكلمات غير مفهومة ..
كانت حالتها مزرية لدرجة جعلت الإبتسامة تتسرب في لحظات إلي شفتي "عبيد" و أساريره تنفرج و عيناه تلمعان ببريق النشوة و فجأة لفت نظره ما ترتديه من ملابس مثيرة لم تفكر أن ترتديها له يوما و هو زوجها ، فسألها مبتسما:
-بس ايه الحاجات الحلوة اللي انتي لبساها دي يا حنة ؟ ماكنتش اعرف انك بتليقي اوي كده و بتبقي مزة في الحاجات المقطعة !
تحولت إبتسامته إلي ضحكة كبيرة مخيفة أعقبها بأن هوي علي صدغها بصفعة هائلة جعلتها تصرخ بمنتهي الآلم ، ثم قبض بقوة بإبهامه و سبابته علي صدغيها ، و قد جاء صوته العنيف يهدر بشراسة:
-بتخنيني انا يا حنة ؟ .. نفسي اعرف ، نفسي افهم ازاي جاتلك الجرأة تعملي كده ! يا بنت الريف و الناس الغلابة الطيبين .. بقي واحد زي ابن ال *** ده يضحك عليكي ؟ يخليكي عاملة زي صندوق الزبالة ؟ .. عشمك بإيه ؟ قالك هايديكي ايه ؟ ما تنطقي و قولي طاوعتيه و سلمتيله نفسك ليه ؟ هربتي معاه ليه ؟؟
و نزل بالصفعات العنيفة علي وجهها حتي تورم تماما ، و برزت منه الكدمات بمختلف ألوانها ..
الحمراء ، الزرقاء ، و الصفراء .. شعر "عبيد" أنه فرغ فيها شحنة لا بأس بها من شحنات غضبه و غيظه ..
فقبض علي رسغها و راح يجرها جرا تجاه طاولة ربض فوقها هاتفهها المحمول ، فيما كان "سالم" شقيقها لا زال قابضا بكفه علي شعرها ..
إلتقط "عبيد" هاتفهها و فتحه ، أخذ يبحث عن رقم "مروان" حتي وجده .. أجري الإتصال به ، صوب نظراته المظلمة الغاضبة إليها و هو يحذرها بقوله:
-خدي .. كلمي الباشا و استعجليه ، قوليله يجي دلوقتي حالا و اياكي تحسسيه بأي حاجة.
و وضع الهاتف علي أذنها ، و ما هي إلا لحظات حتي أتاها صوت "مروان" العذب:
-ايه يا حبيبتي .. عاملة ايه ؟ وحشتيني جداا.
نظرت "حنة" إلي زوجها بخوف ، فيما رمقها بنظرة محذرة ، فجاهدت كي تقول بصوت عادي و هادئ:
-كويسة يا حبيبي .. و انت كمان وحشتني اوي ، آو اومال انت فين كده ؟؟
-انا جاي يا قلبي في الطريق اهو ، المهم بس قوليلي الاول .. لبستي البيبي دول اللي جبتهولك و لا لأ ؟؟
في تلك اللحظة ، لم تستطع "حنة" إلتزام الصمت أكثر ، فصرخت فيه فجأة:
-ماتجيييش يا مرواان ، اوعي تيجي علي هنا ، امشي ، اهرب.
و هنا .. أسرع "عبيد" بغلق الخط و هو ينظر إليها بغضب مدمر ، ثم إنقض عليها بالضرب المبرح و قد إنضم إليه "سالم" ..
فما كان منها سوي أن راحت تطلق صراخاتها المتتالية و التي ضعفت حتي خبت تدريجيا ...

 


علي الطرف الأخر ..
إستطاع "مروان" أن يسمع تحذير "حنة" .. فدب الذعر في قلبه ، و راح يفكر ، تري ما الذي يحدث معها ؟
إزدحم عقله بأفكار عديدة جميعها سيئة ، أبرزها فكرة تمني ألا تكون صائبة ، أزاد من سرعة سيارته بدرجة كبيرة ، و قد حولها علي الفور إلي آلة مجنونة مثله راحت تلتهم الطرقات بوحشية و هي تصدح بأعلي صوتها المسعور ، حتي أنه في أقل من عشرة دقائق كان يقتحم مدخل العمارة التي يقطن بها مع عشيقته .. "حنة" ..
إندفع "مروان" مباشرة نحو الدرج ، فلم يتخذ المصعد ، إرتقي الدرجات قفزا ، إثنتين إثنتين ..
حتي وصل إلي طابق شقته لاهثا .. كان باب الشقة مواربا ، فقفز "مروان" جريا صوبه و دفعه بقوة ..
دلف للداخل ليجد الآتي .. "حنة" ملقاة أرضا ومتكومة علي نفسها تحت أقدام زوجها و شقيقها و قد إنسابت الدماء من كل أجزاء جسدها بسبب الضرب الذي تعرضت له علي أيدي كلا من "عبيد" و "سالم" ..
جن جنون "مروان" جراء هذا المنظر ، فركض نحوهم و هو يزعق بأعلي صوته كالمجنون ..
إنتبه الإثنان إليه ، فتركا "حنة" مكانها و إندفعا نحوه ، دارت العركة بين الثلاثة لمدة قصيرة ، إستطاع فيها "سالم" و "عبيد" أن يتفوقا علي "مروان" و أخذا يتناوبا عليه بالضرب هو الأخر ...

 


عندما فشلت "هانيا" في الخروج من الآسر الجديد الممثل في غرفتها ، و الذي إنتقلت له بعد محاولتها الإنتحار ..
قررت أن تأخذ حماما ساخنا علها تخرج منه بأفكار مثمرة ..
سارعت بتحضير بعض الملابس ، و دلفت إلي الحمام ..
وقفت تحت صنبور الماء بلا حراك ، تاركة المياه الساخنة تنساب علي جسدها ..
راحت تفكر .. لو لم تجد حلا فعالا في أسرع وقت ، سينفذ سجانها وعده و يتزوجها غدا رغما عنها ..
سيتزوجها دون إرادتها ، و لن تحظ هي بحقها في الإختيار كإنسانة لها عقل و مشاعر ، و إن يكن .. فأين عقلها و مشاعرها ؟ .. لقد مسخ هذا الوحش مشاعرها بأحقر وسيلة ، و فضلا علي هذا ..
إنتهك كرامتها ، و سرق طهارتها ..
سلب منها كل شيء ، و لم يترك لها أي شيء .. و لكن ماذا ستفعل ؟ .. ستغالبه بالتأكيد ، ستغالبه بأشد ما تملك من قوي ..
فإذا كان هذا مسلك الحيوان ، فما بال الإنسان في مثل ذلك الوضع ؟
عليها أن تستعيد شجاعتها و روحها المتمردة المتكبرة ، عليها أن تحشد كل قواها كي تستطيع مواجهته ، بل و التغلب عليه أيضا ..
فرغت "هانيا" من حمامها .. لفت المنشفة الزرقاء العريضة حول جسدها ، و شقت خطاها حافية القدمين وسط البخار المائي الذي عبأ قاعة الحمام الفسيحة المترفة ..
إتجهت نحو المرآة الضخمة التي كانت بطول و عرض الحائط ، و إقتربت منها أكثر ..
راحت تعاين تفاصيل وجهها و جسدها بدقة و هي تتساءل .. تري هل حقا جل ما يجذبه إليها هو وجهها و جسدها ؟
و إن كان صحيح ، فلماذا هي بالتحديد ؟ .. كان بإمكانه أن يتخذ من أكثر منها حسنا و جمالا ، رغم أنها شديدة الحسن و الجمال أيضا ، و لكن بالتأكيد هناك جميلات كثيرات مثلها ، يستطعن أن يقدمن أنفسهن له بكامل إرادتهن بل و يعملن علي إرضائه و سعادته مقابل أمواله طبعا ..
تساءلت "هانيا" مرة أخري ، ماذا يري فيها تحديدا ؟ .. ما الذي يعجبه بها إلي هذا الحد ؟ .. إنها تكرهه و تنفر منه ، و دائما ما تصرح له بذلك ، لن تستطيع منحه السعادة التي ينشدها ، أم أنه يتطلع إلي الإثارة عن طريق إذلالها ؟ .. هل هذا ما يريده ؟ .. هل لمقاومتها و رفضها له سببا في تمسكه بها ؟ هل هدا شيئا جعل منها تحدي يريد الفوز به ؟؟
كل تلك التساؤلات كانت تكمن فيها الإجابات كلها .. أطرقت "هانيا" رأسها هما و حزنا ، و عادت إلي الغرفة مجددا ..
إرتدت ملابسها الداخلية ، و قميص نومها القطني الرقيق علي جلدها ، و زحفت تعبة تحت الأغطية ..
و عبثا حاولت أن تنام ، و لكنها لم تقدر .. رغم إجهادها و تعبها ، ظلت تتقلب و تغير أوضاعها فوق سطح الفراش ، تحاول أن تجد وضعا تستدعي من خلاله النوم ..
و بعد ساعة تقريبا ، كانت لا تزال مستيقظة ، و لكنها أغمضت عينيها لتتظاهر بالنوم ، خاصة عندما سمعته يفتح الباب ..
نعم ، فقد باتت تحفظ تحركاته و تصرفاته عن ظهر قلب ، حتي صوت أنفاسه ، بات شيء تستطيع تمييزه بسهولة ..
كان من الصعب عليها أن تنظم تنفسها و هي تنصت إلي تحركاته الهادئة ، و لكنها بقيت بدون حركة في منتصف السرير ، عندما صعد هو و جلس إلي جانبها علي حافته ..
مرت لحظات الترقب في تقديرها دهرا ، تخشي ما يضمر لها في قرارة نفسه ، و في نفس الوقت ، تخشي لو فتحت عينيها تضع نفسها في مواجهة معه ، فهي الأن ليست مستعدة ، و ليست بوضع يشجعها علي مواجهته ..
شعرت بحرارة طفيفة تقترب من وجهها دون أن تعرف ماهيتها ، و لكنها لم تكن سوي يد "عاصم" إمتدت إلي وجهها لتربت برقة علي وجنتها الناعمة ..
بجهد جهيد ، إستطاعت "هانيا" أن تبقي هادئة ، و لم تبدي أي إشارة تعلمه من خلالها أنها لا زالت مستيقظة و تشعر به ..
لمسة يده كانت مهدئة علي نحو يبعث الطمأنينة ، و لكن بالنسبة لها كانت مفزعة تبعث الذعر ..
سمعته يتنهد بثقل ، ثم يقول بصوت خفيض هادئ:
-عمري ما اتمنيت في حياتي حاجة اد ما اتمنيت انتقم من ابوكي ، مش بس عشان نصب علي ابويا و خد منه كل حاجة و شردنا .. لكن كمان عشان اللي عمله فيا .. بسببه انتي مش قابلاني دلوقتي ، و لا حتي حد قبلك كان بيقبلني.
صدمت "هانيا" من جملته الأخيرة ، و أرادته أن يسترسل في حديثه ، و بالفعل ، تابع كلامه و لكن بصوت خشن هذه المرة:
-ابوكي هو اللي كان سبب في موت ابويا .. و هو بردو السبب في صورة الوحش و المسخ اللي بتخافي منه و بتقرفي تبصي في وشه .. ابوكي هو السبب في كل اللي حصلي يا هانيا.
شعرت "هانيا" برجفة قوية في قلبها ، الأن و قد علمت لماذا في كل مرة يقول أن والدها كان سببا في أكبر المآسي في حياته ..
تركت "هانيا" أفكارها حاليا ، و أصغت إلي بقية حديثه ، فيما قال هو بقسوة:
-بعد ما قدرت اثبت نفسي ، و بعد ما جمعت ملايين .. كان بإيدي ارجع انسان طبيعي تاني .. كان ممكن اعمل تجميل للحرق و التشويه اللي في وشي .. بس انا رفضت ، مارضتش امحي العلامة اللي فضلت معايا سنين كل مرة كنت ببص فيها للمرايا و أشوفها ، بفتكر ابويا اللي مات بحسرته و ابوكي اللي نصب عليه و استحل فلوسه ..كان عايش حياته عادي و لا كان عنده ذرة احساس بالندم .. ابوكي يستاهل كل اللي حصله ، و اللي حصله كمان كان قليل جدا عليه.
ثم أضاف بشيء من التحدي و التصميم:
-و انتي ليا يا هانيا .. انتي ملكي انا لوحدي ، انتي المكافأة اللي لازم اخدها بعد كل اللي شفته في حياتي ، و هاخدها.
كان هناك شيء أقرب إلي التهديد في نبرته الهادئة علي نحو شرس ، و أخيرا عاد يقول بنعومة:
-انما في الحقيقة .. انا بحبك يا هانيا .. بحبك و اوعدك هحافظ عليكي و هفضل احميكي لاخر نفس في عمري ، سواء رضيتي او رفضتي ، طول ما انا عايش علي وش الدنيا .. مش هسمح لمخلوق يقرب منك او يآذيكي ، و لا حتي انا.
في تلك اللحظة .. تداهمت الأفكار و تدفقت مجددا إلي عقل "هانيا" و فقدت الإحساس تماما بكل ما يدور حولها ، حتي أنها لم تشعر بالقبلة العميقة التي وضعها علي وجنتها قبل خروجه من الغرفة ..
الأن إتضح لها بعضا من كلامه المبطن ، و في لمحة ، ومضت بمخيلتها ذكري صورته و هو يقول لها بلهجة تحذيرية " كلامك مأثرش فيا ، إنما إستفزني من ناحية معينة .. و نصيحتي ليكي لو مش عايزة تتصدمي اوي في ابوكي بطلي تستفزيني " ..
منذ قليل ، كانت لا تستطيع النوم ، أما الأن فهي متيقنة أنها و حتي الصباح ، لن تذق طعم النوم ..

 


إستعاد "مروان" وعيه تدريجيا ، و فتح عينيه بتثاقل علي أثر ضربات خفيفة علي خديه كان مصدرها كف "عبيد" الخشن ..
تأوه بآلم ، و جاب بنظره أرجاء المكان ، ليجد "عبيد" و "سالم" يقفان علي بعد خطوات منه ، و "حنة" المسكينة لا زالت ملقاة علي الأرض بلا حراك ..
فقط كان حديثها الوحيد له بالأعين ، فقد تعلقت عيناها بعينيه في حسرة و آلم يمزقان القلب ، حتي إنسابت دموعها غزيرة ..
لم تكن نظراتها إليه مجرد نظرات ذات دلالة واهية ، بل كانت نظرات ناشدته من خلالها الإستغاثة .. الإستغاثة من مصيبتها ، من صدمتها ..
راحت دموعها تزداد غزارة علي خديها ، حتي نشبت البرودة في جسدها ..
في تلك اللحظة ، هب "مروان" من مجلسه ، و لكن عبثا ثمة شيء أعاق حركته بالكامل ..
نظر إلي نفسه ، فإكتشف أنه مقيد بحبل سميك في أحد المقاعد الخشبية ، تشنجت عضلات جسده إنفعالا ، و أحمر وجهه غضبا و هو يتنقل بنظراته بين "سالم" و "عبيد" الذي تقدم نحوه في هدوء و بإبتسامة باردة ، شامتة تعلو وجهه ..
زمجر "مروان" بعنف من خلال فمه الدامي ، أثر اللكمات العنيفة التي تلقاها:
-هتدفعوا انتوا الاتنين تمن اللي عملتوه في حنة و فيا ، مش هسيبكوا ، مش هرحمكوا.
و كان رد "عبيد" عليه ضحكة مجلجلة و هو يغرس في عينيه نظرته الثاقبة الباسمة ، ثم يقول:
-كلامك وسع منك اوي المرة دي يا مروان باشا.
و إستحالت تعابير وجهه إلي الغضب و الغيظ ، كما إكتسبت نبرة صوته رنة حقد مكثفة و هو يضيف:
-انا اللي مش هاسيبك .. انا اللي مش هرحمك ، لا انت .. و لا هي .. هخلص عليكوا انتوا الاتنين بإيديا دول.
بصيحة جبارة من "مروان" حذره:
-لو مديت ايدك القذرة عليها انا مش بس هقتلك ، انا هقطع من لحمك حتت و ارميه لكلاب الشوارع ترمرم فيه.
عاد "عبيد" برأسه إلي الوراء و قهقه بقوة يسخر من "مروان" ..
ثم إلتفت إلي "حنة" و سار نحوها ببطء ..
رمقه "مروان" بنظرة قلق و توجس ، و قد سرت قشعريرة في بدنه ، بينما إنحني "عبيد" بجزعه و قبض علي ذراعها ، و إقتلعها من فوق الأرض وسط صراخها الضعيف ..
إنقلب توجس "مروان" خوفا ، وصاح به:
-نزل ايدك من عليها يا كلب ، سيبها ، حسابك معايا انا مش معاها .. بقولك سيبها.
شعر "عبيد" و للمرة الثانية بنشوة عجيبة أطفأت نيران صدره المتآججة نسبيا ، فقد حقق نصف إنتقامه ، و هو معاناة كلا من "حنة" و "مروان" ..
علي الجانب الأخر .. تقدم "سالم" من "عبيد" و قال بلهجة قاطعة:
-انا اولي بدم اختي يا عبيد ، انا اللي لازم اغسل عاري بإيديا.
ثم أشار برأسه نحو "مروان" و أضاف:
-ممكن تعمل في الباشا ده كل اللي انت عايزه .. لكن اختي دي تخصني انا ، انا اللي هقتلها بإيدي.
نظر إليه "عبيد"صامتا لدقيقة كاملة ، و كأنه يفكر في الأمر ..
و بالفعل ، إستقر رأيه في النهاية علي "مروان" ..
فترك "حنة" لشقيقها ، و وقف أمامه مباشرة .. دس يده في جيب بنطاله الرث ، و أخرج آلة حادة أقرب إلي السكين في الشكل ..
ثم قال متشفيا و هو يلوح بها أمام وجه "مروان":
-شفت يا مروان بيه ؟ .. شفت ؟ .. عمرك كنت تتخيل ان نهايتك تكون علي ايد واحد زيي ؟؟!
و هنا ، إنتبه "مروان" إلي صوت "حنة" المتحشرج و الممتزج بدموعها ، و هي تقول:
-مروان .. بحبك يا مروان ، و عمري ما حبيت في حياتي حد ادك ، و مش ندمانة اني حبيتك.
أثارت كلماتها غضب أخيها العارم و الدفين حتي تلك اللحظة ، فلم يشعر بنفسه إلا و هو يخرج من جيب بنطاله هو الأخر تلك الآلة الحادة كالتي في يد "عبيد" تماما ..
و بحركة عنيفة ، ضغط علي كتف شقيفته حتي سقطت أرضا علي ركبتيها ، ثم إجنذب رأسها من خصيلات شعرها الخلفية ..
و بدون تردد و بمنتهي القوة ، غرس النصل الحاد بعنقها ، بداية من وريدها الأيمن و حتي الوريد الأيسر ..
كادت الصدمة تذهب بعقل "مروان" .. تقلصت قسمات وجهه .. و جحظت عيناه جحوظا مخيفا .. و إرتعش فكه السفلي و هو يحملق بها غير مصدق !!!
فما كان منه إلا أن أطلق لسانه و صوته في الرجلين إطلاقا مجنونا هستيريا و هو يحاول أن يتحرر من قيوده بلا جدوي:
-لأااااااااااااااا ، لأااااا .. حنة .. حنة لااااااا ، يا ولاد الـ *** يا ****** يا ولاد الـ *** ، ليييييه ؟ ليييه ؟ حنة .. حنة لاااا !!!

ترك "سالم"شقيقته تسقط أرضا و هي تنزف دما غزيرا من عنقها ملأ الأرض حولها ببقعة عميقة ، ظلت تتلوي و تتشنج قليلا ، حتي خبت حركتها تماما ، و غابت أنفاسها إلي الأبد ..
إتسعت إبتسامة "عبيد" لهذا المنظر الوحشي ، ثم إلتفت إلي "مروان" و قال مبتهجا:
-منظر حلو .. صح ؟؟
كان "مروان" لا يزال علي شفير الإنهيار العصبي ، يكاد يجن من هول المنظر ، بينما تابع "عبيد" بغبطة:
-ماتقلقش .. انت مش هتموت بنفس الطريقة دي.
و أشار إلي "سالم" حتي يأتي ليعاونه ، و بحركة بسيطة من الآلة الحادة التي يحملها في يده ، قطع الحبل عن "مروان" و فك أسره ..
فيما أمسكه "سالم" من كلا ذراعيه و أوقفه علي قدميه في مقابلة "عبيد" الذي قال بخشونة:
-انا هصفيك عالأخر .. هسيبك تفضل تنزف كده مع نفسك لحد ما تموت .. هتموت بالبطيء يا مروان بيه.
و بعنف ، غرس الآلة الحادة عميقا بمنتصف معدته مباشرة .. أطلق "مروان" آنة مختنقة ، خافتة .. فباغته "عبيد" بطعنة أخري بمعدته أيضا و هو يردد بضحك:
-و الله و نولت شرف قتلك يا مروان بيه .. حتي لو دخلت السجن ، حتي لو اتعدمت ، اديني نضفت الدنيا من وساختك و جبروتك .. و ابوك المسكين توفيق بيه ، اللي رفعت عليه قضية الحجر ، اكيد هيشكرني اني قتلتك .. اومال ايه ، مش ريحته من ابن عاق ، عاصي و رجعتله فلوسه اللي نهبتها منه و دورت تتسرمح بيها و تضحك علي عقول بنات الناس.
و هنا .. كانت أعصاب "سالم" قد أُتلفت تماما ، فحث "عبيد" بصوت مرتجف نسبيا:
-يلا يا عبيد .. خلص بسرعة خلينا نمشي قبل ما حد يجي يظبطنا.
إقترب "عبيد" بفمه من أذن "مروان" و همس شامتا:
-لما تبقي تشوفها في جهنم .. ابقي سلملي عليها .. الزانية ، الخاينة !
و سدد له الطعنة الثالثة و الأخيرة في جنبه الأيسر ... !!!!



إعدادات القراءة


لون الخلفية