لم تري "هانيا" أمامها في وجوه الحاضرين سوي نظرة مستنكرة لصمتها تناقلوها جميعهم بين الدهشة و الإستغراب ..
و لكن كان "عاصم" بعكسهم تماما .. صحيح أنه ينتظر ردها بصبر نافذ ، إلا أنه ظل في الظاهر مترقبا في هدوء و برود أعصاب ..
بينما إنفرجت شفتاها إستعدادا للكلام لكي توقف هذا الزواج و تنقذ بقايا كبريائها بأي وسيلة ..
و لكن بدلا من ذلك ، وجدت نفسها تقول بصوت صارم:
-ايوه .. اقبل !
عند ذلك ، شرع المأذون في إتمام باقية المراسم بقوله:
-إذن ، رددي من بعدي.
و تابع بصوت قوي مسموع:
-اني استخرت الله العظيم.
برأس منحن ، و جفنين مسدلين ، رددت "هانيا":
-اني استخرت الله العظيم.
-فأزوجك نفسي.
-فأزوجك نفسي !
-انا هانيا مصطفي علام.
-انا هانيا مصطفى علام.
-البكر الرشيد.
-البكر الرشيد !
-علي كتاب الله و سنة رسوله.
-علي كتاب الله و سنة رسوله.
-و علي الصداق المسمي بيننا.
-و علي الصداق المسمي بيننا !
طوال هذه المدة كانت عينا "عاصم" تتابعان تحركات شفتيها المضطربة ، و هي تعاهده بخشوع علي الحب و الإخلاص كزوجة ..
ثم بعد ذلك ، جاء دوره هو ليعلن قبوله للزواج ، فأحست صوته الرنان يتماوج في داخلها و هو يردد خلف المأذون الذي قال:
-قل يا ولدي .. و انا قبلت زواجك علي ذلك.
-و انا قبلت زواجك علي ذلك !
عند نطقه تلك الجملة الأخيرة ، رفعت "هانيا" رأسها لتنظر إلي وجهه ..
لم تكن قد وجهت إليه نظرة واحدة منذ تلك اللحظة التي وعت فيها أن لا أمل لها بالفرار منه ، و أن الوقت قد فات ..
لكنها نظرت إليه الأن ، فكان وجهه ذا تعبير جدي و مشوب بشيء من الحذر ..
و هنا جاء صوت المأذون يختتم المراسم ، و كأنه يتكلم عبر مسافة شاسعة:
-بالرفاء و البنين .. زواج مبارك بإذن الله.
أسدلت "هانيا" أهدابها في تلك اللحظة لتغمض عينيها بشدة ، إذ كان الآلم داخلها حادا جدا و إلي درجة لم تستطع معها أن تتحمل رؤية بسمة النصر التي لابد أن تكون مرتسمة علي وجه "عاصم" الآن و هو يرنو إليها بغبطة شديدة ..
لم تشعر "هانيا" بعد ذلك بنفسها إلا و هي بين يدي "عاصم" الذي أمسك بيدها و أوقفها أمامه ليقبل جبينها بحب ، ثم يرفع كفها إلي فمه و يلثمه بعمق مطول ..
أحست "هانيا" أن قبلاته هذه ، لم تكن سوي إعلان صريح أمام الجميع يثبت مليكته الفعلية لها ..
و بحواس متخدرة ، تناهت إليها كلمات التهنئة ، التي كانت توجه إليها و إلي زوجها ..
و لكن لا التهاني و لا الفرحة الغامرة من حولها إستطاعا النفاذ إلي روحها التي خيل إليها أنها أصبحت جثة بلا حراك ..
أحني "عاصم" رأسه هنا ، و همس في أذنها:
-مبروك.
تطلعت "هانيا" إليه فاتحة عينين واسعتبن إندهاشا لما آلت إلبه حياتها ، و قالت:
-الله يبارك فيك !
حدجها "عاصم" بنظرة متسائلة ، و هو يقول:
-محضرلك مفاجأة برا في الجنينة .. تحبي تشوفيها دلوقتي ؟؟
للحظات ، إشتبك نظرها بنظره في إرتباك ، حتي أومأت رأسها و قالت:
-ماشي !
فإبتسم لها بعطف و محبة ، ثم مد ذراعه لتمسك به .. مدت يدها بدورها ، و لمست كم بذلته السوداء في توتر واضح ، و لكنها حاولت جهدها أن تبدو نشيطة واثقة ..
في اللحظة التالية ، كانت تتوجه معه نحو باب المنزل ، حيث خرج الجميع قبلهما لينتظروا قدومهما ..
و ما أن إجتازا العتبة ، حتي سمعا أصواتهم الحماسية ، و صيحاتهم المرحة ..
لقد أبلي "شهاب" حسنا ، إذ خطط بأن يأتي بمجموعة إضافية من أصدقائه ، ليفاجئ شقيقه و يجامله ..
إقترب "شهاب" من "عاصم" بوجهه الضاحك ، و صافحه ثم عانقه بقوة قائلا:
-مبرووووك يا عاصم .. و يا رب تكون مبسوط من المفاجأة بتاعتي ، انا قلت يعني بدل ما الفرح يبقي كئيب كده و مافهوش ناس ، اجيب العيال صحابي احسن .. اهو يعملوا منظر حتي.
حدجه "عاصم" بإبتسامة هادئة ، و قال بلطف:
-المفاجأة حلوه يا سيدي متشكرين.
ثم أضاف محذرا:
-بس بعد كده متبقاش تتصرف من دماغك ، او تعمل حاجة بدون ما ترجعلي.
بحركة مسرحية ، قال "شهاب":
-تمام يافندم.
ضحك "عاصم" من قلبه علي آداء شقيقه ، و علي كل ما يدور من حوله ..
فقدت بدت الآجواء ساحرة دافئة للغاية ..
و حين نظر إلي "هانيا" وجدها و قد تمكنت من الإبتسام بثقة كبيرة أدهشته كليا ، فيما إلتفتت إليه و سألته مصطنعة التشوق:
-هي فين المفاجأة ؟؟
قادها "عاصم " إلي الوجهة الخلفية للقصر ، حيث الحديقة الخضراء الشاسعة .. كان المشهد الذي واجهها هناك ذا جمال خرافي عنيف و مبهج ..
إذ وضعت المشاعل حول دائرة واسعة ، وسطها طاولة كبيرة بيضاوية الشكل ، فخمة .. و قد إصطف عليها أثمن الآواني الفضية و الزجاجية ، كما أنارتها أغلي الثريات الأثرية الرائعة ..
إضافة إلي كافة ما لذ و طاب ، من الكلاء و الشراب ..
تبادلت "هانيا" النظرات مع "عاصم"في صمت لمدة دقيقة .. حتي إنطلق صوته أخيرا يسألها:
-ايه رأيك ؟؟
تنفست بعمق و هي لا تزال محتفظة بإبتسامتها الرقيقة ، ثم أجابت:
-حلوه اوي.
إرتسم الإمتنان علي وجه "عاصم" و قد بدا أنه يحبس أنفاسه في تلك اللحظة و هو يتأمل جمالها في الفستان الأبيض ، و رأسها الملكي المكلل بشعرها الذهبي ..
بعد ذلك ، دعا "عاصم" الجميع للتوجه نحو المائدة المكتظة بالأطعمة اللذيذة ، فلبوا دعوته في سعادة و سرور ..
كانت الحركة مستمرة حتي الآن قربهم ، فالتحضير لهذه السهرة بدأ منذ ساعات عديدة ..
أخذ بعض الخدم الرجال ، ينحنون فوق موقد كبير حيث يوقد الحطب يحركون سياجا كبيرة تشوي من خلالها شرائح كاملة من اللحم الطازج ..
أما الخادمات النساء اللواتي لمعت عيونهن إثارة و حماسة ، فقد جلبن باقي الطعام الساخن الشهي إلي الطاولة الفاخرة ..
و بين كل هذا .. كانت "هانيا" تتآمل ما يدور حولها في شيء من التهكم و السخرية ..
إذ لماذا و لمن كل ذلك ؟ .. أصناف عديدة من الطعام ، أهرامات من الفاكهة و الخضار المنوعة .. و تلك القناديل المعلقة تحت الأشجار تضيء أوراق الشجر السميكة اللماعة ..
تساءلت مرة أخري .. هل صدق نفسه حقا ؟ .. هل آمن بصدق العلاقة بينهما ؟ .. أم أنه تغافل عن الحقبقة بمحض إرادته ؟؟
و لكن أيا كان الأمر ، فكلاهما سواء بالنسبة لها .. و ها هي تجلس هادئة ، رزينة ، متقبلة واقعها بشجاعة و صدر رحب ، و لن يحرك دهائه المزعوم ، أو قوته المخيفة مثقال ذرة من إرادتها في التحرر منه و القضاء عليه ..
علي الطرف الأخر .. كان الجميع جائعين ، و للحال شرعوا بتقطيع اللحوم ، ففاحت رائحة ذكية ، رائحة اللحم المشوي و قد عبق الجو بها ..
ثمة شيء سحبه من آوج نومه ، فأستيقظ حين شعر بحركة قرب فراشه الوثير الدافئ ..
فتح عينيه بتثاقل ، ثم راح يتلفت حوله بحثا عن مصدر الصوت .. لكنه لم يجد شيئا !
فنظر إلي جواره ليطمئن عليها ، و لكنه أيضا لم يجد لها أثر ..
أين ذهبت ؟ أين هي ؟ .. قال محدثا نفسه و هو يحاول أن يدفع جسده المنهك لينهض من السرير و يبحث عنها ، لكنه رآها فجأة علي أعتاب باب الغرفة تلتقط بكفيها عبرات فرت من جفنها المحموم ..
فنادي عليها .. لم تلتفت .. كرر النداء ، فإنصرفت إلي الخارج ..
غضب ، و قفز من مخدعه ليلحق بها كي يعنفها علي ذاك التجاهل ..
إلا أنه وجد خارج الغرفة ما أخمد عزيمته .. إذ كان هناك فوق الأرض آثار دماء ممتدة بداية من باب الغرفة ، و حتي بعد الردهة الطويلة المؤدية للصالون ..
خطي متبعا آثار الدماء بقلب واجف ، إلي أن وصل عند نقطة النهاية ..
لم يجد شيئا ، و لم يجدها .. إلي حدا ما إرتاح باله و قلبه ..
و لكن لم يطل الأمر .. فقد سمع صوت حشرجة قاسية آتية من خلفه .. إلتفت بسرعة ، فأرتفعت نبضات قلبه ..
أراد أن يتحرك و يندفع نحوها ، فلم تسعفه قدماه .. حاول أن يصرخ ، لكن لسانه قد عقد و ثقل ..
إنسابت الدموع الحارة من عينيه و هو غير قادر علي إنقاذ حبيبته التي همد جسدها فوق الأرض ، و قد سالت الدماء غزيرة من عنقها المجروح ..
و جل ما كانت قادرة عليه .. هو أن مدت يدها المرتعشة ، و أطلقت صوتا متحشرجا متقطعا لتستنجد به:
-مـ .. مر .. و ا .. ن .. الـ حـ .. قـ نـ .. ي !
.....................................................
علي أرض الواقع ..
هناك داخل غرفة الرعاية المركزة ، أفاق "مروان" من غيبوبته و هو يشق ظلمة الليل و الأجواء الساكنة بصرخة مدوية إجتمع علي إثرها جميع أفراد طاقم التمريض الخاص بالطابق داخل غرفة الرعاية ..
كان في حالة إنهيار شديد ، و لم يحس أو لم يعبأ بالآلم الجسيم الذي لابد و أن شعر به في تلك اللحظة بالأماكن التي أصيب فيها بالجروح العميقة ..
إذ ظل يصرخ دون إنقطاع ، و أكثر من مرة حاول أن يترك السرير الطبي ، و لكن عبثا ذهبت محاولاته ..
فقد أمسك به الممرضون جيدا ، فيما راحت تتعالي صيحاته و هو يهدر بإهتياج:
-اوعووووووا ، سيبووووني .. فين حــنة ؟ أنا عايز حنــــة .. هاتوهاااالي هناااا ، انا عايزهاااا.
في تلك اللحظة ، آتي "توفيق" إلي الغرفة ، و لكن دون زوجته أو إبنته .. فقد أصر عليهما أن يبقيا بالمنزل لحين عودة "مروان" إلي وعيه ..
و ها قد عاد "مروان" .. و ظل أبيه يحدق فيه بنطرات تراوحت بين الصدمة و الإشفاق و القلق ..
توجهت نحو "توفيق" إحدي الممرضات ، و طلبت منه أن يخرج من الغرفة .. فإنصاع إليها و خرج حزينا مهموما ..
بينما وصل الطبيب المشرف علي حالة "مروان" .. و عندما رأي ما يعانيه من إنهيار عصبي حاد ، قرر أن يحقنه بمخدر لئلا يلحق ضررا أبلغ بنفسه ..
و بالفعل ، قام بحقن المحلول المعلق فوق رأسه بمادة مخدرة ، سرعان ما سرت بعروقه ، و ذهبت به إلي عالم الظلمات مرة أخري ..
حيث هدأت حركته ، و إنقشع صراخه ، و خبت صيحاته تدريجيا ، حتي عاد الهدوء يعم المكان مجددا و كأن شيئا لم يكن ...
بعد منتصف الليل ..
كان الإحتفال لا يزال مستمرا داخل قصر "عاصم الصباغ" ..
فالرياح تهب بهدوء ، كما كانت المآدبة تدور بفرح و ضحك ..
علي النقيض الأخر .. لقد حرر الضجيج الصاخب "هانيا" من توترها تدريجيا ، و الآن هي تجلس في برود إلي جانب زوجها ، و تقضم بأسنانها اللؤلؤية ثمرة تفاح حمراء لذيذة المذاق ..
بينما كان إهتمام "عاصم" كله منصب عليها ، حتي و إن أراد أن يجعلها تعتقد غير ذلك لكي يساعدها علي الإسترخاء قليلا ..
و لهذا ، سألها بنعومة:
-ايه يا هانيا .. مابتكليش ليه ؟ الاكل مش عاجبك ؟؟
نفت "هانيا" قوله بقولها:
-ما انا باكل اهو !
و لوحت له بثمرة التفاح ، فرفع أحد حاجبيه بحركة ساخرة و هو يقلدها:
-ما انا باكل اهو ؟؟!
ثم تابع بجدية:
-و هي التفاحة دي بقت هي عشاكي ؟ لأ طبعا ماينفعش كده ، لازم تاكلي كويس.
قهقهت "هانيا" بدلال آسر قلبه ، و قالت:
-انا اصلا مش بتعشي .. لو اتعشيت بتعب و انا نايمة و بحلم بكوابيس.
-لا سلامتك !
تمتم بخفوت ، و لاحظت "هانيا" أن عيناه إنزلقتا إلي عنقها البض ، و كتفيها العاريتين بإغراء ، فتوترت مرة أخري ..
إذ لم ترق لها نطراته الجائعة ، و فكرت .. إلام ينوي ؟ .. ماذا يريد ؟ .. إن بينهما إتفاق و وعد لا يمكن أن يخل به ..
و لكن ليس تماما ، فلا أمان لوعيد الرجال ، هذه قاعدة أساسية منذ القِدم ، فضلا عن إنها لا تثق به من الأساس ، و في وضعها هذا بات الأمر مختلف .. فهي زوجته الآن ..
و إذا فقد السيطرة علي نفسه ، من بإستطاعته يمنعه أن يآخذها بالقوة هذه الليلة ؟ .. لا أحد بإمكانه أن يتدخل و يتقذها من - زوجها - .. محال بالطبع ..
إذ كما حدث من قبل و هي لم تكن زوجته ، يوم إعتدي علي كرامتها ، و لطخها بالدنس ، لم يدر به أحد ، و عل كل ، لا أحد يستطيع ردع هذا الرجل المتجبر إطلاقا ..
أفاقت "هانيا" من شرودها فجأة عندما شعرت به يضع كأسا باردا في يدها و هو يقول:
-طيب اشربي العصير ده .. وشك مرهق خالص.
إنصاعت "هانيا" لأمره ، و شربت كمية كبيرة لأن حلقها قد جف إلي درجة مؤلمة ..
إبتسم "عاصم" برضا و هو يتابعها بعينيه و كأنها طفلة صغيرة و لا من وصيا عليها سواه ..
لكنه حول بصره عنها فجأة ليكلم شخصا هتف بإسمه .. إنشغل عنها بالحديث مع بعض رفاق "شهاب" بينما بدأت هي تشعر بتوعك مفاجئ ، و صداع قاسي في رأسها أخذ وتيرة النبض البطيء الثابت ..
ظلت تعاني الآلم عدة دقائق في صمت دون أن تدع أحدا يشعر بها .. و لكنها لم تعد تحتمل أكثر ..
فمدت يدها ، و لمست يد "عاصم" .. إلتفت إليها في التو ، و حدق بيدها المرتاحة علي ظهر يده ، فغطاها بيده الأخري ، و سألها بلطف:
-مالك يا هانيا ؟؟
قالت له بصوت أجش و منخفض جدا مما إضطره إلي إحناء رأسه كي يسمعه:
-من فضلك .. عايزة اطلع اوضتي دلوقتي ، حاسة اني تعبانة شوية !
وافقها و هو يعاينها بإهتمام:
-ماشي ، زي ما انتي عايزة .. هنطلع حالا.
و فجأة ، وجدت "هانيا" نفسها واقفة علي قدميها دون أن تدري ما إذا كان قد ساعدها علي النهوض ، أم أنها إستطاعت ذلك بمفردها !!
لفتا الزوجان إنتباه الحضور ، فبرز صوت "شهاب" المتسائل بصخب:
-ايــه يا عم ! وخدها و رايح فين ؟ ما لسا بدري ؟؟
تعالت الضحكات المرحة بالمكان ، بينما أجاب "عاصم" بلهجة مهذبة و هو يلف ذراعا حول خصر "هانيا" و يحتضن يدها بيده الأخري:
-معلش يا جماعة ، مضطرين نستأذن دلوقتي .. هانيا تعبانة شوية وحابة ترتاح فوق ، كان يوم طويل .. طبعا البيت بيتكوا ، خدوا راحتكوا.
أحكم "عاصم" يديه عليها ، و خلال لحطات معدودات ، إبتعد بها عن الجميع و سار بإتجاه البيت ..
بعد حوالي خمسة دقائق .. كانت "هانيا" تجلس في الفراش الدافئ نصف واعية ، و قد إستندت بظهرها إلي حائطه المبطن بالقطن و الحرير ..
شعرت "هانيا" بإغماءة تداهمها ، و خشت لو كان قد وضع لها مخدر مرة أخري في العصير الذي قدمه لها قبل قليل بالأسفل ..
ذعرت لهذه الفكرة التي مرت بعقلها بمحض الصدفة ، فناضلت لمقاومة الإغماء ، إذ لا يعقل أن تغيب مرة أخري عن وعيها و هي معه وحدها ..
فربما ، بل من المؤكد أنه سيستغل الفرصة ، و يعاود الكرة مجددا .. سيقهرها ثانيةً !
أحست "هانيا" بعقم مقاومتها ، فإستسلمت للضعف الذي غمرها ، و أغمضت عينيها لتهرب من العقاب المحتوم ، الذي أحسته غريزيا يهم بالإنقضاض علي رأسها المصدوع ..
العقاب الذي تستحقه بسبب غبائها ، ما كان يجب أن تثق به و تأخذ من يده كأس العصير .. كيف غفلت عن مقصده الحقيقي ؟ ..
إنها إذن تستحق ما سيفعله بها ، فلم تتعلم الدرس من المرة الأولي ..
علي الطرف الأخر ..
كانت مستلقية بلا حراك ، و مشهدها يثير الشفقة حين أمسكها "عاصم" من ذراعيها ‘ راح يهزها بلطف و هو يهتف بإسمها في قلق و ملامحه تنطق بالذعر ..
و عندما لم تستجيب لندائه ، تناول كوب الماء البارد من فوق الطاولة قرب الفراش ، و وضعه علي حافة فمها .. حاول أن يجعلها ترشف القليل ، و بالفعل .. نجحت محاولته ..
بينما من خلال الضباب الرمادي الكثيف الذي غشي بصرها ، أحسته ينحني فوقها ، و سمعته يناديها بصوت أجش يدل علي خوف و إنفعال:
-هانيا ؟ .. هانيا انتي سمعاني ؟ .. فوقي يا هانيا !
ثم غمغم شيئا لم تفهمه ، إنما بدا مشتتا بشكل غريب ، فيما عاد إليها وعيها تدريجيا ..
فحدقت برعب إلي وجهه ، و لم تشعر بنفسها إلا و هي ترفع يدىها و تدفعه عنها بكل ما أوتيت من قوة و هي تصرخ:
-ابـعد عنـــي .. اوعي تقرب منــــي !
تجاهل "عاصم" ثورتها العنفية الفجائية ، و إقترب منها غير عابئ بلكماتها علي صدره ، راح يهدئها فقط و يطمئنها قائلا و هو يضغطها في حضنه:
-بـــس بس اهدي .. اهدي يا هانيا ، انتي في امان ، ماتخافيش .. مافيش مخلوق في الدنيا ممكن يآذيكي و لا يقرب منك طول ما انا عايش .. بــس متخافيش ، انا ماعملتلكيش اي حاجة اطمني.
كانت حقا منهكة جسمانيا و عقليا ، و إرتجفت في حضنه مثل عصفور مبلل ، بينما كانت نظراته و لمساته أبوية خالية من أي شهوة ..
و عندما أعاد جسدها للخلف كما كان ، و أراح رأسها فوق الوسادة اللينة .. كانت قد هدأت نسبيا ، و لكنها لا تزال تنظر إليه في خوف و توجس ..
فيما إبتسم لها بهدوء ، و راح يمرر أصابعه في خصلات شعرها قائلا:
-ايه بس ؟ جرالك ايه فجأة ؟؟
خرج صوتها مرتجفا و هي تجيبه:
-بصراحة خفت لما تعبت فجأة .. افتكرتك حطتلي منوم تاني في العصير !
أطرق "عاصم" رأسه ، فلم تستطع أن تتبين أفكاره أو تقرأها من تعبيرات وجهه حتي ..
بينما رفع رأسه بسرعة ، و قد نجح في إخفاء مشاعره تماما ، و عوضا علي ذلك ، قال بحب:
-قلقتيني عليكي.
ردت بصوت لطيف هذه المرة:
-انا كويسة .. بس مصدعة شوية و عايزة انام.
ضاقت عيناه في تلك اللحظة ، فتأكدت "هانيا" أنه لا يزال يقاوم شعورا عنيفا يتفاعل في نفسه ..
تفحصت وجهه قلقة ، فلم تجد سوي الرغبة .. رغبة الوحش الذي يزآر بداخله مطالبا بها منذ دخلت حياته ..
إنتفض جسدها بعنف ، و الآن فقط .. أدركت أنها ليست بغرفتها ..
أجل .. إنها غرفته هو ، ر هذا سريره الذي تستلقي فوقه .. سريره الذي شهد علي أكبر مآساة بحياتها ..
شهقت بخوف قائلة:
-انا ايه اللي جابني هنا ؟؟
هدئها "عاصم" مجددا و هو يقول بفتور:
-اهدي يا هانيا من فضلك .. مافيش حاجة تخافي منها بالشكل ده ، اولا انا ماجتش جمبك خالص من ساعة ما جبتك من تحت لهنا دلوقتي ، ثانيا احنا خلاص اتجوزنا .. يعني طبيعي ننام سوا في اوضة واحدة ، ماينفعش تبقي انتي في اوضة و انا اوضة تانية !
لا شعوريا ، قاومت يديه اللتين كانتا تمسكان بها ، فتردد "عاصم" قليلا ، ثم إبتعد عنها متمهلا ..
توقف قلبها عن خفقانه المذعور ، فتحاملت علي نفسها ، و قالت بشيء من التحد و هي تنهض واقفة بإرتخاء:
-انا ماتعودتش انام مع راجل غريب في اوضة واحدة.
وقف "عاصم" بدوره قبالتها ، و جادلها بإصرار قوي:
-بس انا دلوقتي مابقتش راجل غريب عليكي .. انا بقيت جوزك و انتي مراتي.
تذكرت "هانيا" خطتها الجهنمية في تلك اللحظة بالذات و كأنها قد نستها خلال تلك الساعات القليلة ، فعضت علي شفتها السفلي بإنزعاج ، و قالت:
-بس .. انت وعدتني !
تنهد بعمق قبل أن يجيبها:
-و لسا عند وعدي .. كل اللي بطلبه منك بس انك تنامي هنا معايا في الاوضة .. جمبي ، يا تري اللي بطلبه منك كتير ؟؟
أشاحت بوجهها عنه ، و أغمضت عينيها لتتمتم بهدوء مضطرة:
-لأ .. اللي بتطلبه مش كتير و لا حاجة.
ثم ألقت نظرة أخري معذبة نحو الفراش ، فطاردتها تلك الذكري الأليمة ، لكنها إستطاعت أن تتخلص منها و تقول له بجمود:
-طيب بس انا مش هنام جمبك بالظبط يعني.
قطب حاجبيه مستغربا ، فسألها:
-ازاي يعني مش فاهم ؟؟!!
شرحت له بنفس الجمود:
-يعني هنام عكس بعض .. راسك عند رجلي ، و راسي عند رجلك ، فهمت ؟؟
أدرك "عاصم" مقصدها ، فأبدي فتورا نحو ذلك ، لكنه قال:
-ماشي .. موافق.
ثم تابع مشيرا نحو الخزانة الضخمة:
-أنا قلت للخدم ينقلوا كل حاجتك من اوضتك الاولانية للاوضة هنا .. عايزك تاخدي راحتك خالص ، انا هدخل اغير في الحمام ، و هسيبلك الاوضة تغيري براحتك ، و مش هرجع الاوضة الا اما اخبط علي الباب و اسمع الاذن منك.
و إتجه نحو الخزانة ، و أخرج ثيابا له ، ثم توجه صوب الحمام الملحق بالغرفة ..
و بقت "هانيا" وحدها أخيرا .. تنهدت بثقل و هي تجوب أرجاء الغرفة بنظرها ، حتي وقعت عيتاها علي الباب المغلق الذي فرض عليها إن تبقي حبيسة داخله ..
تساءلت للمرة العاشرة .. تري هل أخطأت عندما رضخت لرغبته ؟؟
في صباح اليوم التالي ..
إستعادت "هاجر" أحداث الليلة الماضية كلها ، بكل تفاصيلها ..
كانت رائعة بحق ، و رفقة "شهاب" كانت أروع .. يا له من فتي ساحر و لطيف ، و خفيف الظل أيضا ..
لقد غابت البارحة في بيته نحو حوالي الخمس ساعات ، و مع ذلك لم تشعر بهم البتة ، لقد بدا لها الوقت مجرد لحظات فقط و هي معه ....
كانت تجلس تحت سماء النهار إلي طاولة بحديقة ڤيلا "الطحان" و قد وضعت أمامها ورقة ، و أمسكت بين أصابعها قلم ، ثم راحت تخط إسمه بخط منمق جذاب ..
كانت تكرره في كل مرة و هي تفكر .. ماذا دهاها ؟ .. ما كل هذا الإستسلام و الإستحواذ الكامل الذي مارسه علي قلبها و عقلها ؟ .. و كيف إستطاع أن يفعل ذلك خلال تلك الفترة القصيرة ؟
لقد لقد إنقللت مشاعرها و أحاسيسها إلي أعاصير أطاحت بعروش الطمأنينة في نفسها .. الطمأنينة التي لا تجدها إلي في حضرته ، معه فقط ..
و لكن لا .. يجب أن تكبح نفسها ، ستعيد السيطرة علي عواطفها مرة أخري ..
قالت هذا كله الآن ، و أرادت أن تطبقه ، لتجد نفسها رغما عنها تسحب ورقة أخري و تملأها بإسمه أيضا ..
إستمرت في نقش حروف إسمه و هي تردد بعشق:
-شهاب !
-و مين شهاب ده بقي ؟؟
كان هذا صوت "جاسر" الذي هم بخطف الورقة من تحت يدها بخفة رهيبة أذهلتها ..
فتخبطت "هاجر" في الورطة التي وقعت فيها الأن ، و تطلعت إلي أخيها و هي تطرف بتوتر ، ثم تحاول أن تقول دون تلعثم:
-آاا جـ جاسر .. شـ شهاب ده يبقي ، يـ يبقي ..
-يبقي الشاب اللي جه اخدك للفرح من هنا لليلة امبارح.
قاطعها ببرود ليقول ذلك ، و صمت قليلا .. ثم تابع و هو يطالع الورقة الممتلئة بإسم "شهاب" بإبتسامة ساخرة:
-انتي فكراني دق عصافير و لا ايه ؟ .. حتي يبقي عيب علي صياعتي طول العمر ده كله.
ثم أضاف متسائلا:
-بتحبيه يا هاجر ؟؟
جمدها بسؤاله ، كأنه سكب علي رأسها ماءً مثلجا . فهل هو جاد حقا فيما يقول ؟ .. أحقا يريد مناقشة الأمر معها دون أن يصعده إلي والدهما ؟ .. فهذه ليست إحدي مزايا شخصيته .. أنه عادة شديد و صارم ، و لا يقبل بتلك الأمور ، بل أنه لا يعترف بالحب أصلا ، و يعتقد بأن جميع الرجال علي شاكلته ..
يريدون شيئا واحد فقط من الفتاة ..
أدار "جاسر" وجهه إليها ، و أعاد سؤاله مرة أخري بنفس الهدوء:
-بتحبيه يا هاجر ؟؟
بصوت مرتجف خافت ، قالت "هاجر":
-بصراحة .. ايوه يا جاسر .. بحبه.
أومأ "جاسر" رأسه بإعجاب و قد إحترم شجاعتها ، ثم ألقي بالورقة فوق الطاولة قبل أن يستتب جالسا فوق مقعد إلي جانب أخته ..
سكن للحظات ، ثم صوب إليها نظرة رصينة ، و خاطبها بلهجة ودية:
-اتعرفتي عليه فين و ازاي ؟؟
غاص اللون من وجهها تماما ، و جف حلقها ، لكنها أجابته:
-هو .. هو مشترك معانا في المسرحية الجديدة اللي هنقدمها كمان شهرين .. هو اللي هيغني و يلحن الاغاني اللي فيها.
بهدوء أعصاب حسدته "هاجر" عليه ، وجه لها سؤالا أخر:
-و هو .. بيحبك ؟؟
بهتت "هاجر" في تلك اللحظة بصورة كلية ، فلم تعرف بماذا تجيبه و هي ليست متأكدة من مشاعر "شهاب" تجاهها ..
فهو لم يقل لها شيئا مماثلا حتي الآن .. أفاقت "هاجر" علي صوت أخيها المتسائل بإلحاح:
-ماقولتليش يا هاجر . هو بيحبك ؟؟
إزدردت ريقها بصعوبة قبل أن تقول بصوت مبحوح:
-ماعرفش.
رفع حاجبيه مستنكرا و هو يحتويها بعينيه الحالكتين في غضب دفين ، و قال مستهجنا:
-يعني ايه ماتعرفيش ؟ .. اومال بتقابليه ليه ؟ و خلتيه يجي لحد هنا امبارح و ياخدك يوصلك فرح صاحبتك ليه ؟؟
أطرقت رأسها خزيا ، و هي لا تعرف بماذا ترد على أسئلته ، بينما زفر بشيء من العصبية ، و إستغرق ثوان ليهدئ أعصابه ، ثم قال بصوت جاف:
-طيب .. بما انك ماتعرفيش اذا كان الافندي ده بيتنيل بيحبك و لا لأ ، يبقي مش عايزك تكلميه خالص ، و لو شفتيه في الكلية بتاعتك دي ماتحتكيش بيه نهائي ، مفهوم ؟؟
لهجته الجامدة أضعفت من عزمها علي مجادلته ، فوجدت نفسها تقول بإنصياع:
-حاضر.
هز أخيها رأسه في ضيق متآففا ، و قال برفق ليقنعها بوجهة نظره:
-هاجر .. انا اخوكي ، و اكيد انتي عارفة اني عايز مصلحتك .. انا راجل و اعرف كويس اوي الرجالة اللي زيي بتفكر ازاي ، انا خايف عليكي يا حبيبتي .. انتي لسا صغيرة و ماتعرفيش اي حاجة ، يعني صيد سهل ممكن الاستاذ ده يضحك عليكي بمنتهي السهولة .. صدقيني انا مش ضدك او ضد اي حاجة ممكن تسعدك ، لكن واجبي كأخ بيفرض عليا احميكي حتي من نفسك.
عذبتها خفقات قلبها و هي تتخيل معني كلماته ، و لكن رغم كل شيء ، رغم المشاعر التي راحت تتصارع بداخلها ، ردت "هاجر" علي شقيقها بثبات و بأس:
-انت عندك حق يا جاسر .. هو لحد دلوقتي ماصرحنيش بأي حاجة ، يبقي لازم ابعد عنه.
عندما وعت "هانيا" لنفسها بعد ساعات طويلة قضتها في النوم ..
شعرت بأصابع غليظة تتلمس ظهرها في ببطء و إستكشاف مثير لمعالمه ..
إذ كانت نائمة علي وجهها ، و في لمحة .. عادت إليها أحداث الليلة الماضية كلها ..
فإنقلبت بجسدها بعنف كقطة مذعورة ، فألحقت حركتها العنيفة ضررا بالغا بفك "عاصم" الذي راح يصيح متآلما بقوة .. فقد كان منحني بجسده فوقها لسبب أضرم النار بصدرها ..
كانت قد قفزت من فوق الفراش ، فتلاحقت أنفاسها و هي تنظر إليه بمزيج من الرعب و الإحتقار لأنه أخل بوعده ، و لو لم تكن قد إستيقظت بالوقت المناسب لكان تمادي أكثر ..
توهجت عيناها بغضب حارق و هي تهدر كما الريح العاصفة:
-انت كنت بتعمل ايه ؟؟
بينما كان "عاصم" دافنا رأسه في أغطية الفراش ليكتم صيحاته و آهاته ، لكنه رفع وجهه لها بسرعة ، و قال معاتبا:
-ايه ده يا هانيا ؟ .. حرام عليكي ، حتي و انتي نايمة متربصة بيا ؟؟!
بنبرة حادة ردت "هانيا":
-انا اللي متربصة بيك بردو ؟ .. انت كنت بتعمل ايه ؟؟
أجابها "عاصم" و هو يدلك فكه الذي لكمته عليه بكوعها:
-كنت بعملك ايه يعني ؟ .. ياستي ضهرك كان عريان فكنت بغطيكي .. ده جزائي ؟ هي دي شكرا بتاعتك ؟؟
هاجمته بلهثة لم تستطع ضبطها:
-بعد كده مالكش دعوة اذا كان ضهري عريان و لا مش عريان .. ماتلمسنيش خالص.
إختلجت شفتاه بإبتسامة خلت من المرح و حتي من السخرية ، و قال بهدوء:
-حاضر يا هانيا .. مش هلمسك خالص.
و تابع في إسثناء و هو ينزل من فوق السرير و يتقدم نحوها:
-بس ده لفترة مؤقتة زي ما اتفقنا.
كان هادئا ، و حاولت هي أن تبدو مثله هادئة الأعصاب ، رابطة الجأش ، فقالت بلطف:
-خلاص .. حصل خير.
إتسعت إبتسامته و هو يعرض عليها عرضا بصورة مفاجئة:
-تحبي تنزلي الـpool ( حمام السباحة) ؟؟
حدقت فيه بإستغراب ، و رددت:
-انزل الـpool في التلج ده ؟؟
-عندنا سخانات جواه ماتقلقيش.
صمتت قليلا تفكر بالأمر ، فرفع أحد حاجبيه متسائلا ، فأجابته:
-ماشي.