الجزء 32: ترويض الشرسة

أمام المشفي الخصوصي العام بقلب المدينة ..
دفعت "هويدا" آجرة سائق التاكسي ، ثم ترجلت مسرعة لتلحق بـ"قوت القلوب" التي هرولت فورا صوب البوابة الرئيسية ..
دخلتا إلي قسم الإستعلامات .. و كانت هناك فتاة تجلس خلف مكتبها ، فإتجهت "قوت القلوب" نحوها ، و سألتها بنبرة متهدجة إنفعالا:
-لو سمحتي يابنتي .. ماتعرفيش فين جناح ج ؟؟
تطلعت إليها الفتاة ، و إستفسرتها بلهجة رسمية:
-قصد حضرتك جناح معمل التشريح ؟؟
بُـهتت "قوت القلوب" .. فنقلت بصرها إلي "هويدا" و قالت متلعثمة:
-تـ تشريح ؟ .. تشريح ايه ؟ احنا مالنا بالكلام ده ؟ .. انتي متأكدة يا هويدا انه قالك جناح جيم ؟؟!
أومأت "هويدا" مؤكدة بقولها:
-ايوه يا قوت قالي جناج جيم و قالي اسألي عليه في الطوارئ و الاستعلامات.
إزاداد جزعها ، و لم تعد تطيق صبرا و تجلدا ، فصاحت بعصبية:
-طب ايه علاقة بنتي بمعمل الزفت ده يا هويدا ؟؟
تدخلت الفتاة في هذه اللحظة قائلة بلطف:
-بصوا يا حضرات ، جناح جيم هنا خاص بمعمل التشريح و تلاجات الحفظ .. الجناح في الدور التالت واخد الدور كله.
فزعت "قوت القلوب" لقولها ، فصرخت فيها:
-تشريح ايه و تلاجات ايه ؟ .. احنا مالنا بالحاجات دي ؟ انا عايزة اعرف بنتي فين ؟ بنتي وصلت امبارح عندكوا و كانت عاملة حادثة .. خطيبها هو اللي كلمني من شوية و قالي كده ، بس كويسة .. هو قالي كده بردو ، قوليلي بنتي فين ؟؟؟
أجابت الفتاة محتدة هذه المرة:
-ماعرفش حضرتك .. و بعدين اصلا قسم الحوادث عندنا ماستقبلش حالات خالص امبارح ، و كل اللي اعرفه قولتهولك اكتر من كده ماعنديش كلام تاني.
دارت الأرض بها فإلتفتت إلي "هويدا" .. سألتها بأنفاس مآخوذة ، ذاهلة:
-يعني ايه ؟ .. انا مش فاهمة حاجة يا هويدا !!
لم تقل صدمة "هويدا" عنها عندما ردت بنفس الذهول:
-و لا انا يا قوت !!
-مـ مساء الخير ! .. حضرتك مدام قوت القلوب ؟؟!
إلتفتت "قوت القلوب" إلي صاحب الصوت ، لتجد أمامها شابا يرتدي زي الشرطة الرسمي ..
أومأت "قوت القلوب" رأسها إيجابا ، و قالت بلهفة:
-ايوه يابني انا.
بإرتباك ظاهر .. قال الشاب:
-انا وليد بدر الدين ، زميل المقدم إياد راشد خطيب بنت حضرتك الانسة هنا .. هو باعتني اشوف حضرتك وصلتي و لا لسا ، اتفضلي معايا هاوديكي لي !

 


-الله يخربيتك يا سمية .. ودتينا كلنا في ستين داهية.
قال "إسلام" تلك الجملة ثائرا و هو يقف وجها لوجه أمام "سمية" داخل منزلها ..
فزجرته الأخيرة في غضب و هي تقول بعصبية مكتومة لئلا يسمعها الجيران:
-وطي صوتك يا بني آدم انت .. و بعدين انا مش فاهمة منك حاجة ، وضح كلامك .. داهية ايه اللي بتتكلم عنها ؟؟!
غدت عيناه كجمرتي نار و هو يقول بغلظة:
-انتي ماقولتليش ليه ان الزبونة خطيبها يبقي ظابط ؟؟
-و انت ايه اللي يهمك في كده ؟؟
رددت ببلاهة ، فإمتدت يداه ، و قبضتا علي رسغيها بقوة ، ثم هدر بعنف:
-يهمني كتير يا حلوة .. انا لو كنت اعرف كده ماكنتش وافقتك و طلعت الطلعة دي ، انتي خدعتيني يا سمية .. خطيبها مش هيسكت ، هيقلب الدنيا و هينخور ورا الموضوع لحد ما هيجبنا.
حاولت "سمية" أن تهدئه بقولها:
-ماتقلقش يا اسلام .. و هو هيعرف طريقنا ازاي بس ؟؟!
إبتسم "إسلام" بسخرية قائلا:
-هيعرف يا سمية .. امبارح و احنا طالعين نجري من البانسيون ، اكتشفت علي اول الشارع ان موبايلي وقع مني .. ادعي ربنا بقي مايكونش وقع في الاوضة اللي هببنا فيها العملة السودا دي.
إتسعت عينيها بشدة حتي لامست أهدابها قوس حاجبيها .. أصبح قلبها يخفق بسرعة رهيبة ، بينما أنذرها "إسلام":
-و يكون في علمك يا سمية لو الموضوع اتكشف و لاقيت نفسي مقبوض عليا مش هسكت .. هعترف عليكي ، ههد المعبد فوق دماغي و دماغك و عليا و علي اعدائي.

 


بدون نقاش .. تبعت "قوت القلوب" ذلك الشاب إلي حيث "إياد" و الخوف يغتالها ..
و ما أن وطأت قدماها طابق معمل التشريح و حفظ الجثث ، شعرت بالنظرات الحزينة المنكسرة إلي الأرض .. و الجفون المرتعشة في عصبية ..
النحيب الممزق للقلوب ، الأصوات الممزوجة بالبكاء من بعض الكبار و الأطفال الملتصقون بهم ..
كلها مناظر تحتاج عدسة غير عادية ، و آلات تسجل و تصور أكبر لوحة للحزن علي المفقودين ، و تحصر أنفاس و شهقات الآلم العميق و الخسارة التي لا يعوضها شيء ..
وصلت "قوت القلوب" عند غرفة خزانة الجثث .. و وجدت "إياد" يقف بجانب الباب مستندا بظهره إلي الجدار ، و منكس الرأس ، تواسيه دموعه و تغلفه أحزانه ، و تحيط به العديد من علامات الإستفهام بعد أن فشل في معرفة سبب ما حدث لها ..
فهي أطيب المخلوقات و أنقاهم علي الأرض ..
إنتبه لصوت زميله "وليد" .. فرفع وجهه الغارق بالدموع ..
صدمت "قوت القلوب" للحالة التي بدا عليها ، و إجتاحتها موجات الذعر ، فسارعت بسؤالها:
-بنتي فين يا اياد بيه ؟ .. هنا فين ؟؟
ضغط "إياد" شفتيه ببعضهما بقوة في محاولة لكبت و منع دموعه من الفرار من عينيه دون فائدة ..
تئز أسنانه ، و يئن قلبه .. فيخفض رأسه مرة أخري و يجهش ببكاء حار صامت ..
إرتجف قلبها ، و شحبت كليا بصورة سريعة ، فصرخت فيه:
-بنتـي فين يا إياد بيـه .. هنــا بنتي فيــن ؟؟؟
-البقاء لله !
قالها "وليد" بآسف شديد .. ليتردد صداها في آذني "قوت القلوب" ..
و لتصرخ "هويدا" في نفس اللحظة بأعلي صوتها و هي تلطم وجهها بكفيها ، و تنوح و تصيح قائلة:
-يـا حســرة قلبـي عليكـي يا بنتــي .. يا حسرة قلبــي .. يا حرقتـي علي شبـابك يـا هنــاااا .. آاااااه يـا بنـت اخويـاااا .. العوض عندك انت يا رب ، العوض عندك انت يا رب.
و إنكبت فوق رخام الجناح تتابع عويلها و نواحها لعظمة فجيعتها بالخبر الصادم ..
ما زالت "قوت القلوب" متسمرة مكانها ، لا تبدي حركة و لا إشارة ..
فقد تصلب جسدها ، و تحجرت الدموع في عينيها .. و لدقائق عدة ، حتي إستوعبت ما سمعته ..
صدحت بعنف:
-ايه اللي بتقولوه ده ؟ .. انتوا هتهزروا معانا و لا ايه ؟ .. مرة
تقولولي كويسة و مرة تقولولي ماتت !!
انا عايزة بنتي .. فين بنتي ؟؟؟
لم يرد "إياد" .. فقط إرتفع صوت نشيجه المكتوم بحرارة ..
و هنا .. تكلم "وليد" فقال بلطف هادئ:
-البقية في حياتك .. حضرتك هي بين ايدين ربنا دلوقتي ، مافيش في ايدينا غير الدعا.
إستدارت و صرخت بوجهه:
-لأااا .. بنتي مامتتش لأ .. ما ماتتش ، ازاي تموت ؟ .. مستحيل تموت ، انتوا بتهرجوا ؟؟
قال "وليد" بتظرة إشفاق:
-طب معلش .. تعالي معايا حضرتك عشان تتعرفي عليها بس !
و أخذ بيدها للداخل برفق دون أن تمانع هي ، و كأنها مسيرة لا مخيرة ..
داخل خزانة الموتي .. سكنت الأبدان ..
جميع الأجساد المستلقية تحت الأغطية البيضاء ، هامدة ..
فلا حركة ، و لا ضجيج ، و لا أنفاس ..
جالت "قوت القلوب" في صمت مع "وليد" أحتراما لقدسية الموت و حرمة الموتي ..
كانت أنفاسها الباردة تفوق البرودة المقيتة التي تحف في كل المشرحة ..
و فجأة .. توقف "وليد" أمام درج معين من الأدراج المعدنية ..
فمد يده إلي المقبض المرفق به ، و سحبه ببطء ..
رأت "قوت القلوب" هيئة جثة تحت ذلك الغطاء الأبيض ، فإنقبض قلبها ..
في الوقت ذاته .. أزاح "وليد" الغطاء عن وجه الجثة ، فظهر وجه "هنا" الشاحب حتي البياض ..
تلاحقت أنفاسها الفزعة مع إتساع بؤبؤي عينيها ، و بدلا من أن تنوح و تبكي مثل "هويدا" في الخارج .. هزت رأسها بقوة و هي تقول:
-لأ .. لأ دي مش بنتي ، دي واحدة شبهها .. دي مش بنتي .. بنتي مش موجودة هنا ، "هنا" مستنياني في البيت اه .. او يمكن لسا في الجامعة .. لازم اروح دلوقتي حالا عشان لما ترجع تلاقيني ، و كمان عشان الحق اعملها لقمة تاكلها ، بترجع من برا وشها اصفر و جعانة ، و بتزعل لما بأخر عليها الاكل.
ثم إستدارت علي عقبيها و ركضت إلي الخارج و هي تهتف بهسترية:
-دي مش بنتي .. مش بنتي .. دي واحدة شبهها .. هنا مامتش !
و ظلت تهتف بذلك حتي خرجت من المشفي .. بينما لا يزال "إياد" علي حاله هو و "هويدا" ..

***********************************

أشرف الوقت علي منتصف الليل ..
و كانت برودة الجو جميلة في هذا الوقت ، ليست حادة .. كانت بالغة اللطف ..
بينما كانت تجلس "هانيا" أمام منضدة الزينة شاردة بفكرها ..
فلم تشعر به إلا عندما أحست يديه علي شعرها .. أفاقت من شرودها ، و نظرت إلي إنعكاس صورته في المرآة ..
فرأته ممسكا بالمشط ، و يعتزم تمشيط شعرها بنفسه ..
رفعت حاجبيها بدهشة ، و سألته:
-بتعمل ايه ؟؟
إقترب منها أكثر و هو يقول بشغف:
-هسرحلك شعرك !
همست بتعب و هي تسدل أهدابها الكثيفة علي عينيها:
-من فضلك .. ابعد عني دلوقتي.
-اهدي بس .. مافيش حاجة.
قالها بلطف ، ثم راح يمشط خصلات شعرها الذهبية بمنتهي الرقة و العناية و كأنه يتعامل مع شيء ثمين للغاية ..
سمعته يتمتم بإعجاب:
-شعرك جميل جدا .. ناعم اوي و طويل ... و عارفة كمان ؟ .. له ريحة مميزة كده ، بتنعشني كل ما اقرب منك.
وترتها كلماته ، فهبت واقفة .. ثم قالت بصلابة محاولة إخفاء إضطرابها:
-شكرا ليك .. شعري متسرح مش محتاج.
و عندما مرت بمحاذاته لتخلد إلي الفراش ، قبض علي معصمها ، و أعادها لتقف أمامه ..
ثم عقد حاجبيه ، و قال دون أن يحاول الإقتراب منها:
-مالك ؟ .. في ايه ؟؟
أجابته عابسة:
-انا كويسة .. مافيش حاجة.
لم يقتنع بجوابها ، فتنهد بعمق و قال:
-طب تعالي .. تعالي نتكلم شوية.
حاولت أن تسحب يدها من قبضته الحديدية و هي تهتف بصرامة:
-انا عايزة انام .. مش قادرة اتكلم دلوقتي.
قال بنعومة:
-مش هناقشك في حوار طويل يا هانيا .. تعالي بس.
إيجباريا .. سارت معه حتي أجلسها فوق تلك الآريكة الحمراء في وسط الغرفة ..
طالعها مبتسما للحظات .. ثم بدأ حديثه في هدوء:
-حاسك متغيرة من الصبح !
لم ترد عليه .. بل تظاهرت بالبرود و إعتصمت بالصمت ، فواصل كلامه:
-الكابوس اللي شوفتيه الصبح و قمتي تصرخي منه .. انا كنت فيه ؟ .. انا اللي خليتك تصرخي ؟؟
رفعت عينيها الزقاوين إلي وجهه و نظرت إليه بقوة .. بقيت صامتة من المفاجأة ، بينما إبتسم بخفة و هو يحدجها بنظرة عميقة محاولا النفاذ إلي ذهنها و معرفة الجواب بنفسه ..
و للحال فطن لعزمها علي الهرب منه ، و قبل أن تتحرك من مكانها ، إقترب هو بسرعة البرق و إعتقل يديها قائلا بجدية:
-جاوبيني يا هانيا .. انا اللي خليتك تصرخي ؟ .. انتي لسا بتخافي مني ؟؟!
-انا مابخافش من حد !
قالتها بخشونة و هي تضاعف مقاومتها لتحرير يديها من قيضته دون جدوي ..
راقب تعابير وجهها العدائية بإبتسامة هازئة ، ثم قال:
-احيانا مابتعرفيش تكدبي.
قالت بصعوبة بعد أن لاحظت عينيه تتآملان وجهها و كتفيها العاريتين:
-طيب .. انا بكدب ، اللي انت شايفه .. سيبني بقي من فضلك.
رد بتصميم قوي، و لكن بنبرة خافتة هادئة:
-انا مش ناوي اسيبك الليلة دي يا جميلتي !
أشاحت بوجهها عنه و هي تقول بعصبية:
-امور جنانك دي ماتطلعش عليا دلوقتي .. سيبني بقي.
-اسيبك ليه ؟ .. انتي مراتي و حقي.
قالت و فمها يرتجف بشدة:
-انا مش بحبك !
رفع يدها اليمني إلي قلبه ، و ضغطها بقوة هامسا:
-بس ده بيحبك.
تآملت "هانيا" وجهه في تلك اللحظة .. و من جديد ، لمحت معاناة الوحدة علي ملامحه ..
و بغتة ، وقعت عيناها علي اليد التي ضمها إلي قلبه .. فلمحت الخاتم الذهبي الذي يؤكد حقوقه عليها ..
و لكنها إنتفضت في تمرد ، و صاحت بعناد:
-مستحيل .. انا بكرهك ، مش ممكن هحبك ابدا.
-بصراحة .. مابقتش اهتم ، كفاية انا بحبك و باخد بالي منك.
و نهض ثم رفعها بين ذراعيه بخفة و حملها كطفلة صغيرة متجها إلي الفراش ..
بينما كانت تلهث و تلبط الهواء بقدميها ، و لما عجزت عن الفكاك منه إلتجأت إلي الإهانات ، فهتفت و لا من مجيب:
-انت حيوان .. حيوان و غبي و متخلف .. بكرهك يا عاصم يا صباغ .. بكرهـــــك.
كان قد وضعها في الفراش و هو لا يزال يآسرها بين ذراعيه ..
ظلت ذراعاه حولها تطوقانها بشدة .. حتي تحولت الرغبة في المقاومة إلي الرغبة في المشاركة و الحب و الحنان ..
و للحظة عابرة .. أرادت "هانيا" أن تقاوم ذلك الإعتداء العاطفي علي حواسها ..
لكن لهفة حبه القوية و المقنعة سرعان ما محت أي إعتبار شخصي ..
ما عادت قادرة علي كتمان عاطفتها دقيقة أخري ، فبادلته مشاعره بطواعية و سكنت بين ذراعيه ..
و بعد فترة قصيرة .. همست بإنهزام لأول مرة تستلذه:
-حلمت اني قتلتك !
فغمغم بمرح ساخر و فمه لاصق بخدها:
-كنت فاكر ان انا اللي آذيتك في الحلم !



إعدادات القراءة


لون الخلفية