الجزء 44: نهاية الأسطورة( الأخيرة )

في دار القضاء العالي ..
داخل قاعة المحكمة الجنائية ، التي إكتظت بالجماهير العريضة الذين كادت تفتك بهم دهشتهم ، و كادوا يتفجرون سخطا و غضبا و نقمة علي أغرب و أبشع جريمة شهدها مبني المحكمة منذ تم إنشائه ..
و من حول الجماهير ، إحتشدت وسائل الإعلام متسابقة في تسجيل وقائع محاكمة هؤلاء المجرمين التسعة داخل قفص الإتهام .. و من خلف منصة الدفاع ، وقف المحامي الذي وكله "إياد" يستصرخ بصوته المجلجل الهادر الذي يكاد يزلزل قاعة الجلسة ضمائر هيئة المحكمة للقصاص من هؤلاء المغتصبون ..
الذين هتكوا عرض فتاة طاهرة مسكينة بأبشع صورة ممكنة عرفتها البشرية منذ وطيء الإنسان الأرض ..
عذبوها بقلب بارد ، إستنزفوها .. إمتصوا روحها اليانعة ببطء و عنف حتي ذبلت و ماتت !
مضي المحامي يصرخ و يصرخ بإنفعال و عصبية مناشدا هيئة المحكمة بتطبيق أقسي العقوبات علي هؤلاء السفلة حتي يكونون عبرة لأمثالهم ، و حتي ترتاح جميع القلوب التي تآذت و توجعت من بشاعة هذا الجرم البغيض ..
و أثناء صراخ الدفاع ، كانت تنفلت بين الحين و الأخر الصيحات من الجماهير و بعض السباب موجها لهؤلاء القتلة ، و كان لأهالي المذنبون نصيبا في الصياح و الصراخ المعترض ليسكتهم القاضي بحزم حتي يكمل الدفاع مرافعته ..
إنعكس كل هذا علي الواقفين وراء قفص الإتهام بالذعر و الرعب ..
فبعضم من إلتزم الصمت الواجم ، و البعض الأخر إنهالت مدامعهم و هم في إنتظار مصيرهم الأسود ..
فرغ الدفاع من مرافعته ، و جاء دور هيئة المحكمة ..
و بعد المداولة ، هتف المنادي بصوته الجهوري:
-محكمــــــة !


لحظات ... و بدأ القاضي ينطق بإسم المحكمة ، فطفق يقول بصوت آجش صارم و مرتفع حتي يصل إلي مسامع الجميع:
-بعد الإطلاع علي المستندات ، و سماع المرافعات ... و حيث أن المحكمة هي صاحبة السلطة في صياغة تطبيق العقوبات بشكل صحيح غير قابل للتحيز أو التسويف .. إلا أننا اليوم أمام جريمة من أغرب و أبشع الجرائم التي شهدها القضاء المصري علي الإطلاق ..
بخلاف إختطاف أنثي ، و إنتهاك و إهدار شرفها و حياتها ..
لهذا .. و يقينا من هيئة المحكمة أن صلاح المجتمع أساسه تطبيق العدل في أتم صوره .. يتوجب عليتا إتخاذ حكما رادعا ، و باترا ضد هؤلاء المجرمون و غيرهم ممن تزجه نفسه لإرتكاب مثل هذا الجرم المشين المنافي تماما للطبيعية البشرية و الفطرة التي فطرنا عليها الله سبحانه وتعالى ..
لذلك ... و إعمالا للمادة 267 و 290 من أحكام قانون العقوبات ..
حكمت المحكمة حضوريا ، و بإجماع الآراء .. علي كلا من ..
إسلام صادق رشوان ، كريم نبيل صلاح ، عمر حسين عبد الظاهر ، شوقي عزت أبو رجيله ، طارق فوزي الملاح ، حسين يسري رجب ، شكري عبد الحميد عوض ، عادل عبد الله السيد ، علي بهجت جابر ... - بالإعـــــدام شنقــــا - !
في تلك اللحظة ، إنفجرت القاعة دفعة واحدة بصراخ الفرحة ، و تعالت الهتافات المنتصرة ، و الصياحات السعيدة ..
بينما صدر صراخ من نوع أخر عن المغتصبون التسعة و عائلاتهم ..
حيث كانوا في قفص الإتهام و في هذا الرداء الأبيض الخاص بالمساجين قيد المحاكمة ، تماما كطيور الدجاج ..
يتقافزون بين بعضهم ، معترضون علي مصيرهم ..
عند ذلك .. وقف "إياد" في مكانه يملي عينيه من هذا المنظر الذي لطالما حلم به و إنتظر رؤيته ..
إبتسم منتشيا لمرآي الذعر في أعينهم ، و التشنجات العصبية التي إحتلت أجسادهم ، كما كانت صراخاتهم الصادحة موسيقي جميلة لآذنيه المعذبتين ..
ظل "إياد" واقفا يتايع هذا كله ، في نفس الوقت أمطروه زملائه و رؤسائه وابل من التهنئات الحارة ، إستقبلها كلها بإبتسامة هادئة ، و ملامح مرتاحة لم ترتسم علي وچهه منذ مدة طويلة ..
إستأذن "إياد" من الجميع و أسرع إليها ..
وصل عندها ، وقف أمام قبرها ..
فقال مبتسما:
-خلاص يا حبيبتي .. حقك رجع ، و قريب اوي هترتاحي يا هنا ، انا وفيت بوعدي ... جبتلك حقك ، كل اللي عذبوكي و آذوكي كانوا انهاردة زي الفراخ جوا القفص ، آاااه لو كنتي شوفتيهم .. حاسس ان ناري بردت شوبة يا هنا.
و إلتمعت عيناه بالدموع و هو يستطرد:
-لأ .. عمرها ما هتبرد ، طول ما انتي بعيد عني يا حبيبتي !
و غلبه حزنه ... فهطلت دموعه رغما عنه ..

*********************************

مرت عليها فترة أخري ..
طويلة ، دون أن تراه ، دون أن تسمع عنه شيئا ..
عاشت في كآبة شديدة ، خالت أن ليس لها علاج طالما هو بعيدا عنها ..
حتي جاء هذا اليوم ...
عندما دعاها "مروان" لتناول العشاء بأفخم مطاعم المدينة ، وافقت لكي تريح أعصابها فقط ..
و حيث أنها لم توافق علي مرافقته إلا حين أبدي تحولا ملحوظا خلال الأيام الأخيرة في كافة تصرفاته الفجة و الفظة معها ما كانت لترافقه أبدا لولا ذلك ..
و لكن بالرغم من كل هذا ، لم تستطع أن تخفي إرتيابها من أن يستغل فرصة وجودها معه بمفردها حتي يفتح مواضيع لن تقوي علي مجادلته فيها ، خاصة و أنها إكتشفت للتو أنهما يجلسان داخل المطعم وحدهما !
علي النقيض .. كان "مروان" يراقبها باسما ، إلي أن قال أخيرا بنبرة هادئة:
-مالك يا هانيا ؟ .. متوترة كده ليه ؟ فكي شوية ، ده انا جايبك هنا مخصوص عشان تروقي اعصابك !
أجفلت "هانيا" بإبتسامة مضطربة و هي تقول:
-انا كويسة يا مروان .. بس المطعم !
-ماله ؟؟
-مافيهوش حد غيرنا !!
إتسعت إبتسامته أكثر ، ليرد بحبور خبيث:
-ما ده جزء من الخطة !
خفق قلبها وجلا عند نطقه بها ، فجف حلقها و هي تسأله:
-خطة ايه ؟؟؟


ظل يحدجها بنظرات صامتة هادئة للحظات ... قبل أن ينحني عبر الطاولة قليلا ، و يقول ببطء و خفوت:
-انا عارف انك ممكن تكوني شايفاني بني آدم سافل و مش محترم و لا راجل كمان ... جايز عندك حق ، بس يا هانيا لازم تعرفي بردو ان عندي قلب و بحس ، يعني اقدر احس بشعورك و اعرف اذا كنتي مدركة تصرفاتك فعلا و لا لأ.
و تابع بخشونة جلفة:
-انا خلاص ماعدتش عايز منك حاجة .. بس لازم تعرفي اني لما فكرت اتجوزك ، كنت بفكر فيكي انتي مش في نفسي .. كنت عايز انقذك بجد و اخدلك حقك ، كنت بحاول اتغير و اصلح حاجات كتير فيا كانت غلط.
و صمت قليلا ، ثم أضاف بمرارة:
-بس كالعادة فات الآوان .. لكن المرة دي بقي ، انا متأكد اني يعمل الصح و في الوقت الصح !
حدقت به في إستغراب ، فإبتسم مجددا و قال:
-عن اذنك .. هروح الحمام ، مش هتأخر عليكي ... ممكن تطلبي انتي العشا بقي علي ما اجي.
و نهض من مجلسه متجها نحو الحمام ..
هزت "هانيا" كتفيها بلا إكتراث ، و تناولت قائمة الطعام ، و أخذت تتفحص الأصناف المتوفرة لديهم ..
و في أوج إنهماكها في إختيار الأطباق المناسبة ، أحست فجأة بيد قوية تحط علي كتفها من الخلف و تقبض عليها بمنتهي اللطف و اللين ..
إنتفض جسدها بعنف في بادئ الأمر ، إذ شعرت غريزيا بوجوده خلفها مباشرة ..
أرادت أن تكذب نفسها ، و لكنها عجزت عن ذلك تماما ..
فأدارت رأسها ببطء لتنظر وراءها ..
توسعت عيناها بصدمة عندما رأته ماثلا أمامها ..
إشتبكت نظراتهما طويلا ، حتي لمست أصابعه خدها برقة ، و قال بصوته الدافئ:
-وحشتيني يا جميلتي !
أغمضت عينيها بقوة لتمنع دموعا كادت تتدفق من مآقيها ..
و لوهلة ، أعتقدت بأنه حلم ، أو خيال .. فتمتمت:
-انت ... انت بجد هنا ؟؟!
هكذا ألقت بالسؤال من فوق كتفها و ذقنها يرتجف بشدة ..
و بعد لحظة .. كانت يداه تمسكان بذراعيها ، و توقفها و تديرانها برفق لتواجهه ..
ظلت "هانيا" تتطلع إليه غير مصدقة أنها و أخيرا تراه مجددا ، أنها و أخيرا بين يديه مجددا !
أجابها "عاصم" مبتسما:
-انا هنا يا حبيبتي .. انا رجعت خلاص ، و عمري ما هسيبك تبعدي عني تاني ابدا.
ترقرقت الدموع بعينيها و هي تحاول أن تقول:
-عـ .. عا ... عاصم !
و ألقت برأسها علي كتفه باكية ..
فعانقها بحرارة المرة تلو المرة و هو يهمس في آذنها بأنفاس ساخنة متقطعة:
-هانيا .. يا حبيتي ، وحشتيني ... وحشتيني اووي !
كانت لا تزال تبكي ، فتركها "عاصم" تبكي علي سجيتها مكتفيا بتآرجحها في لطف بين ذراعيه و فمه فوق شعرها الأشقر ..
و لما هدأت ، أبعدها عنه قليلا ليراها أفضل ، ثم قال و عيناه تحدجانها بنظرات إشتياق ملتهبة:
-آااه يا هانيا .. يا معذباني من يوم ما عرفتك ، ماتتصوريش اشتقتلك اد ايه !!
إصطبغ محياها البض بحمرة جميلة ، و هي تنظر في عينيه بخشوع هامسة:
-انت وحشتني اكتر يا حبيبي ... كده ؟ .. كده تسيبني طول المدة دي و ما تسألش فيا ؟ ده انا قلت مش هيعدي عليا يوم و هلاقيك جاي تاخدني و ترجعني للقصر تاني !
جذبها نحو صدره ثانية ، فنسيت عتابها و الأسئلة التي أرادت أن تطرجها عليه ..
إذ كانت فرحة و سعيدة أن تكون من جديد بين ذراعيه ..
إلا أنه أجابها:
-احساسك كان في محله يا حبيبتي ... انا فعلا كنت هاجي ارجعك في ساعتها ، بس لو عرفتي اللي حصل هتعذريني !
سألته بفضول عصبي و هي تضغط علي صدره بكفيها:
-ايه اللي حصل يا عاصم ؟ .. و سافرت باريس فجأة ليه ؟ ليـه ؟؟؟
تنفس بعمق ، ثم راح يسرد عليها الحكاية كاملة ، و لكن بإختصار دون ذكر تفاصيل مفصلة ..
فشهقت بفزع و هي ترد:
-و شهاب بقي كويس و لا لأ ؟؟
-الحمدلله بقي كويس.
-و انت ازاي ماتقوليش ان الحيوان ده كان بيهددك و بيهدد اخوك ؟؟!
-يعني كنتي هتعملي ايه يا هانيا !
-انا كنت شاكة انها اخته .. لما قالت اسمها بالكامل قدامي في اول مرة ، كنت عايزة اقولك و احذرك ، بس ساعتها حصلت حاجات نستني خالص.
و علي حين غرة .. لاحت صورة "مروان" أمام عينيها ، فتذكرت أنه هنا ، فصاحت بوجل:
-عاصم .. مروان ، مروان ابن عمي هنا ، يلا نمشي بسرعة قبل ما يرجع !
و أمسكت بيده و كادت تتحرك به في إتجاه باب الخروج ..
لكنه أوقفها بقبضة قوية و لطيفة في آن و هو يقول بإبتسامة واثقة:
-ابن عمك مشي يا هانيا ... هو بصراحة انقذ نفسه مني ، انا كنت نازل مستحلفله .. بس اتفاجئت بيه بيكلمني اول ما رجعت ، اعتذر لي و هو اللي اتفق معايا اني اجي هنا دلوقتي عشان اخدك و ارجعك لبيتي !
و لامس عنقها الطويل برفق متمتما بنعومة:
-قالي انك مش مبسوطة و انتي بعيد عني .. و انك عايزة ترجعيلي ، و انهم حاولوا يخلوكي تنسيني و تكرهيني زي الاول ، و كمان حاولوا يجبروكي علي رفع دعوة الطلاق بس ماقدروش !
كان الوهج الذي يشع من وجهه دافئا قويا ، و نعمت "هانيا" بالنظر إليه ..
فعادت لها تلك السعادة القديمة المفقودة مجددا و لكن بقوة مضاعفة ..
لتقول موافقة:
-مروان ماكدبش عليك .. انا فعلا كنت و لا حاجة منغيرك ، كنت ضعيفة و حاسة اني لوحدي .. جايز ربنا عمل فينا كده عشان نتأكد و مانشكش تاني للحظة اننا بنكمل بعض و ماينفعش نبعد عن بعض يا عاصم !
و حولت شفتيها إلي يده لتطبع قبلة في كفه المفتوح ، فأحني "عاصم" رأسه و عانقها بدوره ..
بقيت بين ذراعيه ... تنعم بدفء عناقه ، و سري لحن رائع في عروقها ، لحن عشقه ..
و عندما رفع رأسه أخيرا ، بدت علي فمه إبتسامة ساحرة خففت من ملامحه الخشنة ..
ملامحه الخشنة ؟ .. رددت "هانيا" في سرها ، لتصرخ فجأة و هي تمد يديها و تتلمس وجهه:
-عــاصم ! ... فين ندبتك ؟؟؟؟؟


أفتر ثغره عن إبتسامة مرحة ، و ردد:
-انتي لسا واخدة بالك ؟ .. ده انا قلت اني ماتغيرتش كتير لدرجة انك مالاحظتيش وجودها !
تقلصت ملامحها بحزن غاضب ، لتقول بصوت مختنق:
-انت عملت ايه ؟ .. ليه شيلتها ؟ انا كنت بحبها !!!
رفع حاجباه متسائلا في ذهول:
-معقول ؟ .. يعني انا كده مش عاجبك بعد ما رجعت لشكلي الطبيعي !
ردت بنبرة حزينة:
-انت عاجبني دايما و في كل الاحوال .. لكن انا زعلانة عشان بوظتلي الاسطورة الخيالية اللي كنت عايشاها.
-اسطورة خيالية ؟ مش فاهم !!
إبتسمت و هي تجيبه:
-الجميلة و الوحش !
-الجميلة و الوحش ؟ .. طيب انتي الجميلة ، دي عرفناها .. انما انا بقي كنت الوحش ؟؟؟!
أومأت رأسها قائلة بحماسة منطفئة:
-ايوه .. بضخامة جسمك دي ، و وشك اللي كان نصه محروق ، كنت صورة مثالية عنه.
ثم زمت شفتيها بغضب طفولي مرددة:
-تبقي بوظتلي حكايتي بقي و لا لأ ؟؟؟
قهقه "عاصم" من قلبه في مرح و هو يقرص وجنتها بلطف و مودة ..
إبتسمت له بحب ، ثم رفعت كفها إلي وجهه الوسيم و الخالي من التشوه الآن ، و قالت:
-بس انت ... طلعت حلو اوي ، اوي !
بادلها نفس الإبتسامة ، لتقول في اللحظة التالية في شيء من التردد:
-في حاجة تانية .. عايزة اقولك عليها.
-قولي يا حبيبتي !
أمسكت بكف يده ، ثم وضعته أسفل بطنها و هي تعلن له خجلة:
-انا حامل !
ظلت عبارتها معلقة في الهواء للحظات طويلة ، ثقيلة ... قبل أن يعبس "عاصم" و يقطع الصمت بسؤال خافت:
-قولتي ايه ؟؟؟
برقة و هدوء .. أعادت نفس العبارة مرة أخري علي مسامعه:
-بقولك .. انا حامل !
أجفل "عاصم" مضطربا و كانت الدهشة واضحة في عينيه و هو يحول الجملة إلي شبه سؤال:
-انتي بتتكلمي بجد ؟ ... ، ابن عمك ماجبليش سيرة .. يعني ، يعني انتي حامل فعلا ؟؟؟
أومأت قائلة بتآكيد:
-ايوه يا عاصم بتكلم بجد .. انا حامل في الشهر التالت ، يعني كمان 6 شهور و هجبلك توآم شبهك كده بالظبط !
تضاعفت صدمته ، ليصرخ:
-توآم !!
كاد يجن من فرط سعادته ، لكنه عاد يسألها بشك:
-هانيـا ! .. انتي متأكدة ؟؟
ضحكت بقوة ، و أجابته بتآكبد مرة أخري:
-طبعا يا حبيبي متأكدة .. زي ما انا متأكدة انك عاصم حبيبي و واقف قدامي دلوقتي !
ضحك هو الأخر بسعادة ، ثم جاءت قبلته الحارة علي شفتيها تضع نقطة الإطالة لهذا الحديث .. لتذوب هي بين ذراعيه طائعة مختارة ، فأخيرا وجدت ملاذها ...

.........................................................

بعد مرور ثلاثة أشهر ..
كانت تجلس علي حضنه ، مريحة رأسها علي صدره ..
تشاهد معه فوق الفراش عملية ولادة قيصرية عبر هاتفهها و هي تقضم بأسنانها اللؤلؤية ثمرة تفاح طازجة ... :
-ايه ده ؟ .. هما هيعملوا فيكي كده ؟ هيفتحوا بطنك كده ؟؟!
هتف "عاصم" بجزع و هو يشاهد التفاصيل الدقيقة لعملية الولادة ، فأجابته:
-ايوه يا عاصم هيعملوا كده طبعا ، اومال هيطلعوا الولاد ازاي !
-ده انا كنت اقطع خبرهم كلهم .. يفتحوا بطنك كده و اسيبهم ؟؟!
ردت ضاحكة:
-ما لازم يعملوا كده يا حبيبي .. هي دي الولادة القيصرية.
ضاح متذمرا:
-بلاش تولدي كده طيب !
-يا ريت .. بس كله كان قدامك ، الدكتور نصحنا بالولادة القيصرية عشان الانميا اللي عندي ، لو ولدت طبيعي مش هبقي قوية كفاية و مش هقدر.
مسح علي شعرها بحنو قائلا بلوعة:
-انا خايف عليكي .. ازاي هتستحملي كل ده ؟؟؟!
رفعت إليه وجهها الرقيق ، و أجابته بإبتسامة أرق:
-انت جمبي .. يبقي هستحمل اي حاجة ، و كل حاجة هتهون !
ربت علي وچنتها بلطف ، ثم دني برأسه قليلا ليقطف قبلة صغيرة من ثغرها ..


حان موعد الولادة ..
في صبيحة يوم مشمس معتدل ، ساعد "عاصم" زوجته علي إرتداء ملابسها ، بعد أن أعد لها حقيبتها و حقيبة الطفلين ..
غادرا الغرفة ، و بينما كانا يهبطا الدرج ، راح "شهاب" يشيع مرحه المعتاد ، لتضحك "هانيا" بصعوبة و تقول:
-بس كفاية يا اخي حرام عليك .. هتولدني قبل آواني !
و تمسكت أكثر بذراع "عاصم" الذي كان يسندها جيدا و هو منتبها لها و لمواطئ قدميها أثناء هبوط الدرج ..
ليرد "شهاب" بنفس المرح:
-قبل آوانك ايه بقي ؟ انتي هتمثلي ؟ ما انتي رايحة تولدي اهو ، اديني بساعدك الحق عليا !
تدخل "عاصم" في تلك اللحظة قائلا:
-خد يا شهاب الشنط دي وديها عالعربية بسرعة ، و اطلع قول لماما اننا ماشيين و يعدين حصلنا .. يلا !
تناول "شهاب" الحقائب من أخيه و هو يغمغم عابسا:
-هات يا سيدي .. ما انتوا هريتونا 6 اشهر روح يا شهاب ، تعالي يا شهاب ، هات دي يا شهاب ، ودي دي يا شهاب تعبتونـ ...
-إخلص يا شهاب !
هكذا قاطعه "عاصم" محتدا ، فإمتثل الأخير لآمره و ذهب ينفذ ما قال له ..
فإستوقفته "هانيا" وهلة قائلة:
-متتآخرش عشان هتصور الولادة زي ما قلتلك !
-كمان هشتغلكوا photographer !!
علقت بصوت متقطع:
-اومال عايز تبقي انكل كده و خلاص و لا ايه ؟؟
ثم إجتازت مع زوجها أروقة المنزل حتي وصلا إلي الباحة ، ففتح السيارة و أجلسها في الكرسي المجاور له ، ثم إستدار و إستقل بدوره خلف المقود ..
فسألته "هانيا" و هي تضغط بلطف علي بطنها الممتليء:
-كلمت انكل توفيق يا عاصم ؟؟
أجابها بشيء من التوتر و هو يشغل المحرك:
-ايوه يا هانيا و
، و هيحصلنا علي المستشفي.
ثم إنطلق بسيارته في إتجاه المشفي الخصوصي ..


في خلال نصف ساعة ..
تم تجهيز كل شيء ، و حضر الطبيب ، كما تم إعداد "هانيا" لعملية الولادة ..
و بناء علي طلبها ، دخل "عاصم" معها هو و شقيقه بعد التعقيم و إرتداء الملابس المعقمة طبعا ..
وضعت إحدي الممرضات ستارا شمعيا يفصل نصف "هانيا" السفلي حتي لا تري ما سيحدث لها ..
بينما كان "عاصم" واقفا إلي جانبها ، ممسكا بيدها بقوة ..
و كان "شهاب" يصور كل هذا و يوثق تلك اللحظات من بدايتها كما أوصته زوجة أخيه ..
بدأت العملية ..
و تم حقن "هانيا" بمخدر نصفي ..
إنتظر الطبيب حتي سري بجسدها ، ثم شرع في عمله ..
أحدث جرحا مستقيما أسفل بطنها ، ما أن رآي "عاصم" هذا حتي إلتفت إلي "هانيا" و سألها بوجه شاحب مذعور:
-هانيا .. انتي مش حاسة بحاجة يا حبيبتي ؟؟
خاطبته بسهولة مبتسمة:
-لأ يا عاصم مش حاسة بحاجة .. ماتقلقش انا كويسة ، و هبقي كويسة !
و أخذت تطمئنه بين الحين و الأخر بإبتسامة هادئة ..
حتي إنتزع الطبيب الطفل الأول .. و كان صبيا ..
آتي المساعد الأخر ، و تولي أمر الطفل الثاني .. و كانت فتاة ..
في هذه اللحظة ، إبتسمت "هانيا" بقوة لدي سماعها صراخ طفليها ، و كذلك إبتسم "شهاب" و هو يهتف بفرح:
-الف مبرووووك ياخويا .. مبروك يا نونا انا شايف ولد هتاك اهو ، بقيت عمو يا ناس !
أما "عاصم" فكان إهتمامه كله منصبا عليها ، راح يمسح علي شعرها و هو يهمس قرب آذنها:
-حاسة انك كويسة ؟ .. مش تعبانة يا هانيا ؟؟
أمسكت بيده و ضغطت عليها بلطف لتؤكد له صدق قولها:
-انا كويسة اوي يا عاصم صدقني ... ماتقلقش يا حبيبي !


إنتهت الولادة ..
و إنتقلت "هانيا" إلي غرفة خاصة للعناية بها و بالطفلين حين قرر الطبيب أنهما ليسا بحاجة للمكوث بالحضانات ..
حضر السيد "توفيق علام" و "زين" أيضا ، فإمتلأت الغرفة بالزوار ، و تصاعدت الضحكات الفرحة ..
إلي أن إقترح "شهاب" إسم أحد الطفلين:
-ماليش فيه ، انا هسمي البنت .. اه انا عمها ولازم اسميها ، ايه رأيك يا عاصم .. ممم في جمالات ؟؟
صرخت "هانيا"بإستنكار:
-نعم ! .. مين ؟ ايه جمالات دي يا سي شهاب ؟؟
-ماله بس ؟ .. طب ده حتي Sexy خالص ، جمالات .. الله !
تدخل "زين" موبخا إياه:
-Sexy في عينك يا بعيد ! قال جمالات قال .. ذوقك بقي بيئة اوي يا واد !
-طب خلاص ماتزعلوش .. نسميها آاا ..
قاطعه "عاصم" بصرامة:
-هانيا اللي هتسمي البنت خلاص اهمد بقي.
-و مين هيسمي الولد ؟؟
أجابه واثقا:
-انا.
-ماشي يا عم حقك بردو.
سألته "هانيا" بفضول:
-و قررت تسميه ايه يا عاصم ؟؟
بإبتسامة خفيفة ، أجابها بتآن:
-بيجــاد !
عبست مستفسرة:
-يعني ايه بيجاد ؟؟
-اسمه معناه القوة و الصلابة .. زي ما هتبقي شخصيته كده بردو ان شاء الله !
وافقه "توفيق" بإبتسامة قائلا:
-ان شاء الله .. مبروك عليكوا ، يتربوا في عزكوا !
قليلا .. و إنفض الزحام ، و بقي "عاصم" وحده مع عائلته الصغيرة داخل الغرفة ..
تمدد بجوار "هانيا ، و سألها و هو يفرك فروة رأسها بأصابعه:
-ماقولتليش هتسمي البنت ايه ؟؟
رفعت "هانيا" يدها و أزاحت عن جبينها بعض خصلات من شعرها ، و أجابته بصوت خفيض:
-بعد اذنك يعني .. هسميها علي اسم مامتي.
رد برقة:
-سميها براحتك يا حبيبتي ، انا بسألك بس !
أخذت نفسا عميقا ، قبل أن تقول:
-سيليـن !
إستخدم نفس عبارتها ، و سألها:
-يعني ايه سيلين ؟؟
-يعني قمر باللاتيني يا عاصم.
-قمر ! .. حلو .. حلو اوي ، خلاص .. بيجاد و سيلين !


لم يمر وقت طويل .. بضعة أشهر فقط ..
و الحياة باتت أجمل .. من كان يصدق أصلا أن يحدث معهما كل هذا ؟؟
بعد هذا الصراع العنيف بين الحب و الوفاء ؟ .. بين الثأر و الإنتقام ؟ ..
بين البغض و التوق ؟ .. بين الضعف و القوة ؟ ..
من كان يصدق أن يتجاوزا معا كل ذلك و يعشا معا بحب و سلام ، بلا قيود أخطاء حدثت في الماضي ..
لقد نست "هانيا" ... نست تماما أنه عدوها ، فكيف بعد كل ذلك أن يكون ؟؟
لقد قدم لها كل شيء ، حتي نفسه .. عاشت معه هنا في هذا القصر كملكة ..
لم تشعر يوما بإنها أقل من ذلك ..
و ما أزاد متانة رباط حبهما ، هذين الطفلين اللذين بعثا الفرح و الأمل في قلبيهما ، و اللذين ورثا لون شعر أمهما الذهبي ، و عينا والدهما البندقيتين ..
لن تتركه أبدا بعد الآن ، لن تترك حبيبها و زوجها ، و والد طفليها ..
بخلاف أنه لن يسمح أساسا لمطلق شيء أن يفرقهما ...
وقف "عاصم" في الشرفة ..
و قد لف ذراعا حول خصر "هانيا" .. و من جديد رأي زرقة السماء الصافية ، متمثلة في عينيها العميقتين اللتين رفعتهما الآن نحو وجهه في حب ..
شردت "هانيا" بدورها في عينيه البندقيتين ، كما إزدادت إلتصاقا به ..
أحست أنها تحبه كثيرا كثيرا .. الوحش العزيز المسيطر .. الجاسر الباسل ...
الذي واجه موجات الفقر و القهر و المهانة في السادسة عشر من عمره ، و رغم ذلك لم يقهر ، و لم يهان ، و لم يذل ..
و حتما سيرث أبناؤه عنه شجاعته و جرأته و عزة نفسه و قوته ..
بدا الحب العميق واضحا في عينيه و هو يضمها إليه ، و يتنهد إعترافا بجميلها و إمتنانا لكل ما فعلته من أجله ..
و لم يتركها إلا عندما سماعا صراخ مجلجل لأحد الطفلين مما يعني أن وجبة غداء الصغيرين حان موعدها ...



إعدادات القراءة


لون الخلفية