الجزء 13: عروس بالإكراه

تلفت حوله في توجس يتأكد من عدم وجود "عاصم" بالقاعة ، ثم إقترب منها قليلا و قال بخفوت أقرب إلي الهمس:
-انا مستعد امشيكي من هنا .. ممكن اهربك !
إرتجفت "هانيا" فجأة بشكل لا إرادي و حدقت به في غضب ..
أخذت موجات الإستياء تجتاحها ، إذ طرأت علي الفور بذهنها فكرة إنتمائه الخالص لـ"عاصم" .. فعلي حسب ما قاله لها منذ لحظات ..
أنه صديقه المقرب ، و مستودع أسراره ، و رجله المخلص .. إذن فكيف يجرؤ علي تجاهله و مساعدتها ؟ لا شك أن تلك لعبة منهما معا للإقاع بها ..
كان الإحتقار يفوح من ملامح "هانيا" .. 

إحتقار الغرور و الإعتداد بالنفس ، و قد توصلت بإستنتاجها إلي أن الرجل الواقف أمامها يحدثها و علي وجهه إبتسامة متحمسة ، لم يكن يمثل فقط دور المتعاطف معها ، بل أنه أيضا وجدها فرصة سانحة للتمتع بمنظر إمرأة تخضع لظرف قاهر غصبا عنها ..
و هنا إرتسمت صورة "عاصم" في مخيلتها بوجهه الأسمر و ندبته الخشنة ، و بكل سطوته و قوة رجولته ..
و فجأة .. سرت في جسمها قشعريرة غريبة ، فكادت تنفجر غيظا ، إلا إنها ردت بهدوء ناقض تلك الشرارات الثائرة في عينيها:
-ممكن تهربني ! .. يا تري دي لعبة جديدة متفق عليها انت و صاحبك ؟ عايزين تعملوا فيا ايه تاني ؟ اصلا لسا في حاجة ماعملتوهاش ؟؟!


نظر "زين" إليها بدهشة ، ثم هز رأسه بنفي قائلا:
-انتي فاهمة غلط .. انا بجد عايز اساعدك و الله انا مش بكدب عليكي .. انا عارف ان ليكي حق تقلقي مني و تشكي في كلامي ، بس برغم ان انا و عاصم صحاب من زمان و زي الاخوات و يمكن اكتر كمان ، الا ان الوضع اللي انتي فيه مايرضيش حد ، و انا اخلاقي ماتسمحليش اشوف حاجة زي دي و اغفل عنها حتي لو اتصرفت عكس رغبة عاصم ، انا هكون بحميه اولا من اي ضرر ممكن يوقع نفسه فيه منغير مايحس ، و ثانيا هكون طلعتك انتي من حفرة مش بالساهل تخرجي منها .. و فكري كويس .. فرصتك الوحيدة و الاخيرة معايا .. لو عايزة تخرجي من هنا ، محدش غيري يقدر يخرجك من هنا.
قطبت حاجبيها و هي تنظر إليه بتشكك .. 

فقد كان في نبرته الهادئة و المنفعلة شيء كاد يجعلها تصدقه ، و لكنها لم تكن متأكدة من نواياه !
فإستدارت علي عقبيها و إتجهت إلي الدرج قاصدة غرفتها ..
بينما عاد "عاصم" في تلك اللحظة و هو يتابع خطواتها المبتعدة ، ثم نقل بصره إلي صديقه و رمقه في تساؤل ..
أجفل "زين" بتوتر و قد أربكته نظرات "عاصم" المباشرة له ، لكنه إستطاع أن يقول بثبات:
-كانت نازلة تدور عليك علي ما اعتقد ، لكن اول ما شافتني طلعت تاني.
و بإهتمام زائف تساءل مغيرا مجري الحديث:
-خير مين كان بيكلمك دلوقتي ؟؟
هز "عاصم" كتفيه قائلا و هو يتجه نحو أحد المقاعد بقاعة الجلوس:
-ده الدكتور اللي بيشرف علي حالة شهاب .. قالي انه بقي كويس و يقدر يقضي فترة النقاهة هنا في البيت.
إنفرجت أسارير "زين" ثم قال مبتسما و هو يجلس بمقعد قبالته:
-حلو ، ده خبر كويس جدا .. شفت مش قلتلك انه هيتحسن في المستشفي اسرع من هنا.
أجاب "عاصم" و هو يشعل تلك السيكارة الرفيعة بين أسنانه:
-بردو لو كان كمل علاجه هنا كان هيتحسن و يبقي كويس.
هز "زين" رأسه ضاحكا لعناد صديقه صعب المراس ، ثم نهض واقفا و قال:
-طيب انا همشي بقي ، عايز مني حاجة ؟؟
-خليك قاعد معايا شوية !
-معلش مرة تانية .. اصلي هسافر بكرة البلد اشقر علي ابويا و امي ، فلازم اروح احضر شنطتي و انام بدري.
سأله "عاصم" بإهتمام:
-هتتأخر هناك ؟؟
هز "زين" رأسه نفيا و أجابه:
-يومين تلاتة بالكتير و هرجع .. يلا تصبح علي خير.
أومأ "عاصم" مرددا بخفوت:
-و انت من اهله.


و رحل "زين" .. بينما سحب "عاصم" نفسا عميقا من سيكارته ، ثم إنحني و هو ينفث الدخان و أطفأها بالقداحة الرابضة فوق الطاولة أمامه ..
إبتسم "عاصم" فجأة حين لاحت صورة "هانيا" أمام عينيه ..
لقد رآها منذ قليل في ثوب قمحي اللون أبرز لون شعرها الذهبي و لون بشرتها الناصعة النضرة ..
إزدادت إبتسامته إتساعا و هو يفكر أنها بدأت تنفذ آوامره بطواعية حتي و أن كانت تنفذ بدافع الخوف .. هذا يروقه ..
نهض "عاصم" من مجلسه و عبر قاعة الجلوس ، ثم الردهة المؤدية إلي حجرة الطعام حيث كان الخدم يضعوا اللمسات الأخيرة للمائدة ..
وقف "عاصم" يتأمل التحضيرات برضي ، ثم تقدم من أفراد الخدم متسائلا:
-خلاص العشا جاهز ؟؟
إلتفتت إليه كبيرة الخدم ، و كانت إمرأة طويلة و بدينة قليلا ، و قالت:
-تمام يا عاصم بيه .. كله تمام.
أومأ "عاصم" رأسه بإستحسان ، ثم قال آمرا:
-طيب اتفضلوا انتوا علي اوضكوا .. و مش عايز اشوف حد الليلة دي خالص.
إنصاع الجميع لأمره ، بينما خرج هو من الحجرةو صعد الدرج ، و إتجه إلي غرفة "هانيا" ..
طرق بابها مرة ، إثنان ، ثلاث .. و لم يتلق ردا علي طرقه ، فأدار المقبض و ولج ..
جاب أنحاء الغرفة ببصره بحثا عنها حتي وجدها تقف بالنافذة و قد إنحنت خارجها بطريقة غريبة ..
تقدم منها "عاصم" دون أن تسمع له وقع أقدام بفضل السجادة السميكة التي إفترشت الغرفة ، بينما فاجأها بصوته الناعم الماكر:
-بتعملي ايه يا جميلتي ؟؟

إستدارت "هانيا" بسرعة و قد تلاحقت أنفاسها بغضب ..
نظرت إليه بحدة و رفعت وجهها تريد حماية نفسها من هجومه الوشيك ..
ظلا للحظات ثقيلة صامتين في مواجهة بعضهما البعض ، حتي قطع "عاصم" الصمت بينهما عندما قال برقة ساخرة:
-ايه ! .. كنتي بتختبري المسافة من الشباك للجنينة تحت ؟ اوعي تكوني بتفكري في حلول الافلام الابيض و اسود .. انك تجمعي ملايات السرير و تربطيها في بعض و تعملي منها حبل طويل تربطيه في الشباك و تنزلي عليه !!
عاد "عاصم" برأسه للخلف و قهقه بمرح ، ثم نظر إليها قائلا بتسلية:
-لأ يا جميلتي .. اوعي تعملي كده ، الطريقة دي خطر و ممكن الملايات تتفك عن بعضها و انتي في النص فتقعي علي الارض و تتكسر رجلك او ايدك .. لأ ماتعمليش كده .. انا مش هستحمل يجرالك حاجة و بعدين كده كده هتلاقي نفسك هنا في اوضتك تاني.
إبتسم بخبث معبرا عن سروره و سخريته و هو يتخيل "هانيا" تعاني و تجاهد كثيرا كي تخرج من القصر دون جدوي ..
بينما تآججت نيران الغيظ و الغضب بصدرها ، فضمت قبضتيها بقوة و هي تسمعه يطلق ضحكة أخري هادئة ، ثم يتقدم منهت أكثر و يمسك كتفيها بكلتا يديه و يقول مبتسما:
-ماتحاوليش تهربي مني يا هانيا .. انا لا يمكن اسيبك تبعدي عني ، مش هتعرفي تهربي اصلا .. هتلاقيني بمسكك في كل مرة قبل ما رجلك تخطي حدود القصر و هرجعك .. ارجوكي اقبلي نصيحتي و ماتتعبيش نفسك علي الفاضي.
بهذه الكلمات .. أطفأ "عاصم" شعلة الأمل في عيني "هانيا" التي حسبت أنها علي قيد شعرة من النجاح ، و لكنه أحبطها و إنتصر عليها كالعادة ..
غير أنه محق ، فحتي لو نجحت محاولتها الركيكة تلك ، فلم تكن لتنجح في تخطي حدود القصر دون أن يدري بها و يمسكها كما قال ..
نظر "عاصم" بساعة يده و أعلن بهدوء:
-الساعة 8 و العشا جاهز تحت .. يلا بقي ننزل قبل ما الاكل يبرد.


-يا ربي ! انا هلاقيها منين و لا منين ؟ اهدي يا بنتي يا حبيبتي و ماتخافيش .. الحيوان ده مش هيقدر يقربلك تاني اوعدك.
قالت "دينا" هذه الجملة بشيء من الضيق تطمئن إبنتها التي جلست فوق فراشها منكمشة علي نفسها و قد تهدلت خصلات شعرها الملساء حول وجهها ، فيما قالت بخوف جم و هي تعض علي أصابع يدها بقوة:
-لأ يا ماما .. ده رجع ، و مش هيسبني .. مش هيسبني.
إقتربت"دينا" منها و ضمتها إلي صدرها قائلة بهدوء:
-رضوي حبيبتي .. اكرم مايقدرش يعملك حاجة ، خلاص انتوا اتطلقتوا بقالكوا 3 سنين و مافيش اي حاجة بتربطكوا ببعض .. و كونه رجع و قابلتيه و حاول يكلمك ده مش معناه انك تخافي كده .. هقولهالك مرة كمان .. اكرم مايقدرش يعملك حاجة ، كبيره يطاردك فترة و انتي لازم تبقي قوية و تعرفي ازاي تتعاملي معاه.
و صمت لثوان ، و تابعت بتهكم مرير:
-لازم تعتمدي علي نفسك .. خلاص ، انا و انتي مابقالناش ضهر ، ابوكي و اخوكي في عالم تاني و مش سائلن فينا.
ثم أضافت تمدها بالقوة و الصمود:
-و انا مش هاسيبك يا حبيبتي .. هفضل جمبك و لا يمكن هسمح لأكرم او لغيره يآذيكي بأي شكل من الاشكال.
في تلك اللحظة .. سمعا طرق علي باب الغرفة ، أعقبه دخول الخادمة التي وقفت بمكانها و تنقلت بنظرها في توتر من وجه "دينار" إلي وجه "رضوي" الغارق بدموعها ، ثم قالت بإضطراب متردد:
-الـ .. الاستاذ اكرم .. طليق الست رضوي جه تحت ..


ثم رفعت يديها و أضافت:
-قال الشنط دي وقعت من الست رضوي في جراج المول انهاردة الصبح وهو جه يرجعها ، و كمان قال عايز يقابلها !
عند ذلك .. صاحت "رضوي" بذعر و هي تنتفض بعنف:
-شفتي يا ماما ؟ قلتلك ، قلتلك مش هيسبني.
هدئتها أمها بصرامة:
-يا بنتي اهدي .. قلتلك مش هيقدر يعملك حاجة !
ثم أدارت وجهها إلي الخادمة و سألتها بجمود:
-هو فين ؟؟
أجابت الفتاة بهدوء:
-انا قعدته تحت في الهول الصغير !
أومأت "دينار" رأسها ، ثم إلتفتت إلي "رضوي" و طمئنتها للمرة الأخيرة:
-ماتخافيش ، انا هنزل امشيه و راجعالك.
و غادرت الغرفة إلي الطابق الأرضي ، ثم إتجهت إلي قاعة الجلوس الصغيرة حيث جلس "اكرم" هناك فوق أحد المقاعد الوثيرة ..
نهض فور أن رآها تتجه صوبه ، بينما وقفت "دينار" في مواجهته بوجه قاتم متجهم ، و إنطلق صوتها الحاد يسأله بإستهجان:
-خير يا اكرم ؟ جاي هنا عايز ايه ؟؟
إبتسم "أكرم" بخفة قائلا:
-ازيك يا دينار هانم ؟ اخبارك ايه ؟؟
بلهجة عنيفة ردت "دينار":
-مالكش دعوة بيا و جاوب علي سؤالي احسن بدل ما انده البواب و الخدم كلهم يرموك برا.
كبح "أكرم" موجة غضب عارمة كادت تففده أعصابه إذا إنجرف وراءها ، ثم قال بهدوء:
-انا جاي لرضوي !
سألته بجفاف:
-و عايز ايه من رضوي ؟ انت مش طلقتها خلاص ؟؟!
-كانت اكبر غلطة في حياتي .. انا جاي انهاردة عشان اتكلم معاها و اقنعها ترجعلي.
بإستخفاف قالت "دينار":
-ترجعلك ! انت اكيد مش في وعيك يا اكرم .. انت ناسي انت عملت فيها ايه ؟ .. رضوي بتكرهك ، مابقتش تحبك زي زمان ، عمر اللي بينكوا ما هيرجع تاني و لا عمرها هتآمنلك.
إقترب منها "أكرم" خطوة و قال يستجديها بلهجة مهذبة:
-دينار هانم .. ارجوكي خليني اقابلها و لو خمس دقايق بس .. محتاج اكلمها في موضوع مهم ، انا متأكد انها هتسامحني و هتوافق نرجع لبعض.
قهقهت "دينار" بسخرية و قالت:
-كان عندي حق لما قلت انك مش في وعيك .. انت متخيل انك ممكن تآثر عليها بكلمتين !!
قطب "أكرم" غاضبا ، و قال و هو يضغط علي أسنانه بقوة:
-دينار هانم .. انا لازم اشوف رضوي ، لازم اكلمها ، لازم تسمعني.
صاحت به "دينار" بحزم:
-انت لا هتشوفها و لا هتكلمها .. و لو فكرت تقرب منها بس هاوديك في داهية و وقتها ماتلومش الا نفسك.
ثم بإقتضاب حاد:
-و دلوقتي اتفضل منغير مطرود.
وقف "أكرم" للحظات يحدجها بنظرات محتقنة ، ثم تجاوزها و سار خارجا من المنزل بخطي واسعة غاضبة ..
بينما زفرت "دينار" بإرتياح و صعدت إلي إبنتها مجددا ..
قفزت "رضوي" من فوق فراشها متجهة نحو أمها و سألتها بصوت مرتجف:
-اكرم مشي ؟ مشتيه ؟؟
أحاطت "دينار" وجه إبنتها براحتيها قائلة:
-مشي يا حبيبتي .. مشي اطمني.
ثم ضمتها إلي صدرها و راحت تمسد ظهرها بيديها و تهمس بأذنها كلمات طيبة حتي سكن روعها و هدأت تدريجيا ..


كانت نوافذ حجرة الطعام مغلقة ، و الدخان الخفيف ذا الشذي المعطر يتهادي من تلك الشموع الحمراء المثبتة في شمعدنات صغيرة عُلقت فوق الجدار ..
بينما حافطت "هانيا" علي الصمت طوال فترة العشاء أمام نظرات "عاصم" المتفحصة ..
كانت مشدودة الحنجرة ، و شعرت بصعوبة كبيرة في إبتلاع الطعام ، علاوة علي أنها لم تستطعم العشاء الفاخر الذي قُدم إليها ..
فقد كانت فكرة الهرب مستحوذة تماما علي ذهنها ..
إنتفض جسدها بقوة فجأة حين فتح "عاصم" زجاجة ما أحدثت فرقعة ، فإلتفتت إليه لتجد السائل الذهبي يفور من جوف الزجاجة و ينسكب علي جوانبها ..
و حينئذ رفعت بصرها إلي وجهه و لمحت ضوء الشموع يسكب ظلاله علي جانبي وجهه و وجنته اليمنة ذات الندبة الطولية المحتقنة ..
نظر إلي عينيها فجأة ، فأشاحت بوجهها عنه في الحال و تابعت تناول طعامها ، بينما قال لها بعذوبة و هو ينحني ليسكب في كأسها قليلا من شراب ( التيكيلا) :
-اشربي العصير ده يا هانيا .. هيخفف قلقك و اضطرابك شوية.
نظرت "هانيا" إلي الكأس بطرف عينها ، ثم هتفت بحدة:
-ايه ده ؟ خمرة ! .. مابشربهاش.
إبتسم "عاصم" بخفة و أجابها:
-ماتقلقيش .. خالية من الكحول.
باغتته بلهجة قاطعة:
-مابشربش الحاجات دي اصلا.


مط "عاصم" شفتيه مستغربا و قال:
-غريبة ! .. اللي اعرفه يعني ان ابوكي المحترم كان من رواد المشروبات دي و غيرها .. مش معقول ماعداش عليكي و لا صنف منهم !!
نظرت إليه صائحة بإنفعال و هي تتوقد غضبا:
-قلتلك قبل كده ماتجيبش سيرة ابويا علي لسانك .. مش كفاية كنت السبب في موته ، ربنا ينتقم منك.
إسترخي "عاصم" فوق مقعده و راح يتفحص ما في كأسها قائلا ببطء:
-ابوكي ده احقر انسان شفته في حياتي .. و نهايته دي كانت قليلة عليه جدا علي فكرة.
صرخت "هانيا" في وجهه:
-اخرس .. مش عايزة اسمع منك كلمة زيادة .. مافيش حد احقر منك و لا اجبن و لا اضعف منك ، كفاية انك حابسني هنا لانك متأكد اني لو حرة مش هاوطيلك راسي و لا هخضعلك .. اوعي توهم نفسك انك قوي لأ .. انت ضعيف و بتخاف تواجه فبتلجأ للطرق الإحتيالية بتاعتك .. في الاول سرقت املاك ابويا ، و بعدين خطفتني و حبستني هنا !
رفضت "هانيا" أن تهدئ من تهورها بالرغم من أن قلبها كان يخفق بشدة ، و لكن "عاصم" لم يكن خصما ضعيفا كما قالت ..
إذ رد بصوت كحد السكين:
-انتي اكيد مش مدركة تصرفاتك و لا كلامك .. انا هعتبر نفسي ماسمعتش كلامك ، بس بعد كده ماتبقيش تهاجميني بالكلام لان خبرتك قليلة.
لوت فمها بإبتسامة ساخرة و أجابت:
-لو كانت قليلة ماكانتش اثرت فيك كده.
رماها بنظرة قاتمة و رد:
-مآثرتش فيا و لا حاجة .. انما استفزتني من ناحية معينة ، و نصيحتي ليكي لو مش عايزة تتصدمي اوي في ابوكي بطلي تستفزيني.
كادت "هانيا" أن تدفع بكرسيها و تسرع عائدة إلي غرفتها ، و لكن "عاصم" أمسك بمعصمها و ثبتها بقوة في مقعدها و قال بلهجة الآمر:
-استني هنا .. رايحة فين ؟؟
رفعت نحوه عينيها الزرقاوين المشتعلتين و صاحت بحنق:
-هرجع الاوضة !
-مش دلوقتي.


قالها بإصرار ، و أضاف مشددا:
-قلتلك امي مستنيا تشوفك الليلة دي .. يلا اتفضلي معايا عشان ميعاد نومها قرب.
و فاجأها بحركة ذراعه السريعة التي إمتدت لتسحبها بعيدا عن الكرسي الذي جلست فوقه ، و قبل أن تستطيع التخلص من قبضته الحديدية علي ذراعها ، وجدته يدفعها أمامه عبر باب حجرة الطعام ، و عبر الردهة الطويلة المؤدية للدرج العريض ..
لم يزح يديه عن كتفيها و هو يتابع دفعها لتصعد الدرج ، و مرة حاولت أن تهرب من بين يديه ، لكنه أمسكها من خصرها و دفعها بخشونة أمامه حتي وصلا أمام غرفة والدته ..
حذرها قبل أن يدخلا بألا تتصرف بحماقة ما فقال:
-امي مريضة .. يعني لو فكرتي تتصرفي تصرف واحد ممكن يضايقها مش هتلحقي تندمي .. و يا ريت تبتسمي.
ثم أضاف بسخط:
-شكلك كده مش شكل عروسة فرحها قرب.
قالت من بين أسنانها بكل ما فيها من حنق:
-انت بني ادم مقرف ! انت ماتعرفش انا بكرهك ازاي.
منحها إبتسامة مواربة ساخرة ، و مد يده و طرق باب الغرفة مرتين ، و إنتظر لثوان ، ثم أدار المقبض و دخل متقدما "هانيا" أولا ..
إتجه صوب أمه النصف جالسة فوق فراشها الوثير ، ثم قال مبتسما و هو يدنو منها ليضع قبلة علي جبينها:
-مساء الخير يا ماما.
بادلته أمه بسمته العذبة و قالت بصوتها الدافيء:
-مساء النور يا حبيبي .. اومال فين عروستك ؟ مش قلت هتوريهالي انهاردة ؟؟
أومأ "عاصم" قائلا:
-ايوه يا حبيبتي ، هي جت عشان تشوفك.
ثم هتف عاليا بإسم "هانيا" .. فدلفت بحذر و هي تصوب نظرها تجاه "عاصم" و أمه ..
ثم تقدمت نحوهما ، بينما جلب لها "عاصم" مقعد صغير لتجلس إليه قبالة أمه ، فجلست "هانيا" بالفعل و هي تحدق في تلك السيدة الجذابة ..
إن نقاط الشبه متعددة بينها و بين إبنها بشكل ملحوظ جدا ..
الحدقتين البندقيتين المتألقتين ، الفم المكتنز و المائل صعودا ، الشعر الأسود الحالك و الأنف الدقيق ، الذقن القوي الدال علي العزم و البأس ..
كانت السيدة نحيلة و تضج بالجمال الهادئ ، و شعرها الذي تخلله الشيب حديثا بدا متناقضا مع ثوبها الأزرق ..
و بالرغم أن "هانيا" قدرت عمرها بين الخمسين و الستين ، لم يكن ظهرها محنيا ، و لم تظهر علامات الضعف أو العجز عليها ..
فقط هناك تجاعيد بسيطة ظهرت حول عينيها و علي جوانب فمها ... :
-ما شاء الله .. عاصم ماكدبش عليا لما قال انك جميلة !
قالتها السيدة مبتسمة في محبة و طيبة أجبرت "هانيا" أن تمنحها إبتسامتها الحلوة التي لم تمتحها لـ"عاصم" قط ، ثم شكرتها علي إستحياء:
-شكرا لحضرتك.
-انا اسمي هدي .. من هنا و رايح تقوليلي ماما هدي ، انا ماعنديش بنات و انتي هتبقي بنتي فلازم تقوليلي ماما.
لم ترد "هانيا" علي عبارتها التحببية ، فسألتها السيدة "هدي" بصوت لطيف:
-اسمك ايه بقي ؟؟
و هنا تدخل "عاصم" فقال مستوضحا:
-هو انا مش قلتلك اسمها يا ماما ؟؟
-عايزة اسمعه منها هي !
و نظرت إلي "هانيا" بترقب ، فأجفلت الأخيرة بتوتر و أجابت بصوت خفيض:
-اسمي هانيا.


قطبت السيدة بإستغراب و تساءلت:
-هانيا ! يعني ايه هانيا ؟؟
تنحنحت "هانيا" و هي تنتقل ببصرها بين الأم و الإبن المتشابهين بصورة كبيرة ، و للحظة أثارتها نظرة "عاصم" الساخرة ، و لكنها تجاهلته كي لا تفقد أعصابها و أجابت سؤال أمه:
-امي مش مصرية ، فرنسية .. و المكان اللي اتربت فيه في يوم إنفجر في وسطه منبع و إتشكل علي شكل بحيرة مايتها كانت عاذبة ، الاهالي هناك سموها هانيا .. هانيا بالفرنساوي اسم مشتق من مشتقات العسل يعني ، و امي كانت بتحب البحيرة دي فسمتني علي اسمها.
أومأت السيدة رأسها مهمهمة:
-هممم .. عموما عاشت الاسامي يا هانيا .. طب و عندك كام سنة ؟؟
-بعد شهرين هتم 23 سنة.
عند ذلك نظرت السيدة لإبنها و قالت:
-كده يبقي عاصم اكبر منك بـ13 سنة ! هو تم 36 سنة من شهر بالظبط.
ربت "عاصم" علي كتف أمه باسما ، فيما ساد الصمت للحظات قبل أن تقطعه السيدة بقولها:
-سيبني مع عروستك شوية يا عاصم.
تجهم وجه "عاصم" للحظات ، لكنه أذعن لرغبة أمه و نهض من جوارها ..
ألقي نحو "هانيا" نظرة تحذيرية عندما مر إلي جانبها ، بينما إنتظرت السيدة "هدي" حتي خرج إبنها و أغلق الباب من خلفه ، ثم عادت تنظر إلي "هانيا" بمودة و قالت بهدوء:
-عاصم قالي ان والدك و والدتك متوفين الله يرحمهم .. و قالي انك مقيمة هنا معانا لحد ما تتجوزوا.
ثم سألتها بمكر:
-يا تري سلوكه معاكي كويس ؟ بيضايقك يعني و لا محترم ؟؟
خفضت "هانيا" بصرها إلي الأرض ، و أجابتها بشيء من الخجل:
-هو لحد دلوقتي محترم.
بدأت المرأة تضحك بقوة و أخذت ضحكتها تتسع و ترن بمرح حقيقي ..
في الأخير ، توقفت عن الضحك بصعوبة و قالت:
-ماتتصوريش فرحتي عاملة ازاي ! اخيرا عاصم ابني هيتجوز ، انا كنت فقدت الامل .. لحد ما جالي و قالي انه قابل بنت حلوة و عايز يتجوزها .. بس ماتقلقيش انا هخليه يقدم ميعاد الفرح عشان اضمنلك انه يفضل محترم لحد ما تتجوزوا رغم اني متأكدة انه محترم و خجول كمان.
و عادت تقهقه من جديد ، فتضرج وجه "هانيا" بحمرة الخجل ، بينما نظرت إليها السيدة مليا قبل أن تقول بلطف هادئ:
-انا عندي ولدين .. عاصم و شهاب .. بس عاصم احن منه ماشفتش ، اخوه حنين بردو بس هو اكتر بكتير .. ابني طيب اوي و راجل اوي .. لولاه ، لولا اللي عمله من و هو صغير في سن الـ17 أو الـ16 كمان كنت اتشردت انا و هو و اخوه ..ساب تعليمه و اتفرغ للشغل ، مافيش شغلانة صعبة أو مهينة الا و اشتغلها لحد ما ردلنا اعتبارنا تاني .. انا مش بمدح و بشكر فيه عشان هو ابني لأ .. عاصم تعب كتير و آسي ، محدش كان حاسس بيه غيري ، دايما عينيه حزينة و مليانة مرارة و شجن ، عمره ما فرح .. عمري ما شفت عينه بتلمع من الفرحة الا لما جه و قالي انه عايز يتجوزك .. انا مسألتوش عليكي و ماقلتش اي حاجة .. كنت مكتفية بفرحته بس.
ثم صمتت لثوان ، و أوصتها بقولها:
-خلي بالك منه .. بالله عليكي ماتزعليهوش ، و انا بضمنلك انه عمره ما هيزعلك .. انتي اول واحدة في حياته ، هو ماعرفش حد قبلك و بعد اللي وصله ده كله من بين كل البنات الحلوين اللي زيك اختارك انتي .. مش هقولك لانه حبك ..افضل تتكشفي ده بنفسك.
نظرت "هانيا" إلي السيدة "هدي" ذاهلة ..
لم تعرف ماذا تقول لها .. فإن الرجل الذي وصفته كان غريبا تماما بالنسبة إليها ..
فهي عرفت "عاصم الصباغ" الرجل الذي كان مسؤولا بشكل غير مباشر عن موت أبيها ، و الذي سرق منها أملاكها ، و لطخ إسمها و إسم عائلتها بالسواد عندما زج بها بالسجن في تهمه كانت بريئة منها ..
و في الأخير أحضرها إلي هنا قسرا عنها و سجنها كي يضمن إستحالة فرارها منه لرغبته في إمتلاكها ..
حدقت "هانيا" بالسيدة في وجوم إستنكاري و هي عاجزة تماما عن تصديق أقوالها و شهادتها الطيبة بحق إبنها ..
دلف "عاصم" إلي الغرفة في تلك اللحظة ، فإلتفتت "هانيا" إليه لتجده يحمل بين يديه علبة مخملية تعرفها جيدا ..
شعرت بغصة في حلقها منعتها عن الكلام و هي تراه يتقدم منها و علي فمه إبتسامة ماكرة ، و في عينيه نظرة واثقة ..
مد "عاصم" يده و أمسك بمعصمها عندما وصل إليها ، و جذبها نحوه حتي أوقفها علي قدميها في مواجهته ..
كانت لا تدري ماذا تقول .. كانت تراقبه و هو يفتح العلبة فقط .. :
-عاصم وراني شبكتك .. هي عجبتني جدا ، بس المهم تكون عجبتك انتي.
قالت السيدة "هدي" ذلك باسمة ، بينما لم تتكلم "هانيا" كان نظرها مثبت علي وجه "عاصم" و نظراته المتحدية .. لا .. لا يستطيع أن يفعل ذلك .. لا يستطيع إن يرغمها علي الإرتباط به ..


لكنه فعل .. رأت بريق العقد الماسي يشع مجددا من خلال فتحة العلبة ، فيما راح "عاصم" يتباطأ في حركته متعمدا و هو يضع العقد حول عنقها ، كان بريق الأحجار الزرقاء التي تزينه رائعا مع زرقة عينيها القاتمة ..
بينما شعرت بالعقد باردا فوق بشرتها و كأنه حبل مشنقة يلتف حول عنقها ليخنقها ..
كانت مشدوهة .. تحاول أن تقنع نفسها بأن ذلك لم يحصل و لن يحصل ..
نظرت السيدة "هدي" إلي العقد حول عنق "هانيا" بإعجاب ، ثم إبتسمت إليها قائلة:
-ربنا يهنيكوا ببعض و يتمملكوا علي خير.
إبتسم "عاصم" بدوره و قال يخاطب أمه:
-قريب اوي يا ماما.
نظرت "هانيا" إليه بحدة ، لكنه إستقبل نظرتها بإبتسامة باردة ، ثم تناول كفها المرتعش و قال:
-لسا مالبستكيش الخاتم و الدبلة.
و رفع عينيه يراقب بتلذذ ردة فعلها الغاضبة و هو يخرج الخاتمين من العلبة و بيد ثابتة يضع المحبس حول بنصرها الأيمن .. ثم يضع الخاتم بالإصبع الأوسط ..
لم تعرف "هانيا" كم مر من الزمن إستمرت في حبس أنفاسها و هي تشعر بيديه الكبيرتين تحاصران كفها بتملك واضح ..
و أخيرا إنتهي ، فتنهد و قد ظللت فمه بسمة إنتصار و هو يقول:
-مبروك يا حبيبتي .. مش عارف ازاي هقدر اصبر لحد فرحنا عشان تبقي مراتي.
ثم رفع يدها إلي فمه و طبع قبلة حارة بباطن كفها دلالة علي تملكه التام لها ..
نظرت "هانيا" إليه شزرا ، و كم رغبت بأن تعبر له عن كرهها العميق ، و لكن وجود أمه التي كانت تراقبهما في فرح و سرور منعها .. فكبحت رغبتها بجهد بالغ …



إعدادات القراءة


لون الخلفية