الجزء 39: هزيمة نكراء

إختلج قلب "توفيق" لحظة وقعت عيناه عليها ..
و للحال ، هرول صوبها ملهوفا ... فأمسك بكتفيها و هو يرهف النظر فيها بمنتهي الحبور و الإشتياق ، ثم يقول:
-هانيا .. يا حبيبتي ... ياااااه ، انا مش مصدق عنيا ! ... كنت فاكر اني مش هشوفك تاني .. بس ماتقلقيش ، انا معاكي دلوقتي و هاخدك من هنا .. محدش هيقدر يبعدك عني او ياخدك متي تاني.
لم تكن تسمعه ... كانت لا تزال ترمق "مروان" شزرا ، فقد آثار منظر "عاصم" الواهن الدامي جنونها ، حيث كان فاقدا الوعي الذي جاهد ليكتبسه خلال تلك المحنة القاسية ، بينما تركوا الثيران البشرية جسده يتردي ليسقط مصطدما بالأرض ..
أزالت "هانيا" عنها يدي عمها ، و إنطلقت نحو إبنه كالرصاصة و هي تجآر بصوتها في غضب:
-ايه اللي بتعمله ده يا مروان ؟ .. جايب لمين البلطجية دول ؟ .. و ليه ؟؟؟
حملق "مروان" فيها مشدوها من هذا الهجوم الشرس الذي شنته ضده فجأة ، و ردد ذاهلا:
-البلطجية دول انا جايبهم عشانك يا بنت عمي .. عشان اخرجك من هنا و اخدلك حقك من الكلب ده !
و أشار برأسه نحو جسد "عاصم" الساكن فوق الأرض ، ثم سألها:
-ابقي غلطان ؟؟؟!
-اه غلطان !
هتفت غاضبة و هي تستقبح عذره البغيض ، و أردفت بسخرية:
-دلوقتي اصلا افتكرت اني بنت عمك ؟ .. كنت فين من الاول ؟ ... انا مش جيتلك قبل كده و لجآتلك ؟ .. عملتلي ايه ؟ و لا حاجة .. بالعكس انت كنت انسان ابعد ما تكون عن ابن عمي او الغريب حتي ... فاكر ؟ .. فاكر قولتلي ايه يا مروان ؟؟؟


-عارفة انا رفعت علي ابويا قضية الحجر ليه ؟ ... عشان بطيبة قلبه كان عايز يغرف من فلوسنا و يساعد ابوكي في المطب اللي وقع فيه و جابه الارض ..
ابوكي اللي يوم ما اغتني فجأة بقدرة قادر مافكرش يمد ايده بالمساعدة لاخوه ... فتفتكري بقي دلوقتي اني كنت هسمح لابويا يدي مليم واحد لابوكي ؟؟؟
لم تستطع إخفاء غضبها بعد سماعها كلامه الفظ ، لكنه إستمر يتآمل محياها الثائر و شفتيها المرتجفتين متلذذا ..
ثم قال بنبرة خبيثة خافتة:
-بس علي اي حال انا مستعد اساعدك يا هني .. شقتنا القديمة اللي في المهندسين فاضية ، ايه رأيك تقعدي فيها و ابقي اجي اقضي معاكي يومين كده كل فترة ؟؟
إشتعلت زرقة عينيها و هي ترمقه بنظرات نارية حارقة ، فرفعت كفها و همت لتهوي به علي خده و هي تهدر بعنف:
-يـا حيـوااا ...
و لم تستطع أن تكمل ..
إذ أمسك بمعصمها ، و جمدها دون جهد يذكر .. ثم نظر إليها بعينين واسعتين متفحصا إياها بجرأة و هو يقول بإسلوبه الوقح:
-ايه يا هني ! .. مالك بس يا حبيبتي ؟ انتي زعلتي و لا ايه ؟ ... انا مش قصدي و الله ، بس صعبان عليا الجمال ده كله يتبهدل علي اخر الزمن او يتمرمط في الشوارع و علي عالرصفة .. يعني انا اولي يا حبيبتي ، مش بيقولوا جحا اولي بلحم توره ؟؟!
دفعته عنها بعنف ، و هي تحدجه بنظرات مشتعلة من الغيظ و الإحتقار ، و صاحت:
-القذارة حاجة مش جديدة عليك يا مروان !
أفتر ثغره عن إبتسامة مرحة و كأنها إمتدحته بإطراء ، فشكرها قائلا:
-الله يحفظك يا حبيبتي شكرا.


أجفل "مروان" مطرقا رأسه في خجل عند إستذكاره ذلك الموقف المخزي ، فقال بخفوت نادما:
-حقك عليا ... انا غلطت ، و اديني اهو قدامك مستعد اكفر عن غلطتي و اعمل اي حاجة عشانك.
و أدار وجهه نحو "عاصم" مستكملا بشراسة:
-هاجيبلك حقك من ابن الـ*** ده .. الليلة دي مش هتعدي بالساهل عليه ، هشرب من دمه !
و كان رد "هانيا" ساخرا منه مرة أخري و هو تواجهه بكراهية شديدة:
-تشرب من دم مين ؟ ... الراجل اللي انت جاي تتشطر عليه و جايبله بلطجية بتتحامي فيهم ماعمليش حاجة .. مآذنيش طول الفترة اللي عيشتها هنا في بيته ، كان بيعاملني بمتتهي اللطف و الاحترام ... عمره ما قالي كلمة قذرة من كلامك اللي قولتهولي يا مروان !
ضربه الذهول من دفاعها الغير متوقع و الغير مبرر عنه ، فسألها مزمجرا بغضب متفاقم:
-انتي بتدافعي عنه ؟ ... بتدافعي عن الراجل اللي سارقك و رماكي في الشارع ؟ .. بتدافعي عن اللي خطفك و حبسك و اتجوزك غصب عنك ؟ ... بتدافعي عن الحيوان ده اللي اتسبب في موت ابوكي يا هانيا ؟؟؟
رمقته بنظرات محتقنة للحظات ... ثم إلتفتت إلي عمها ، و إقتربت منه ببطء مرددة:
-انكل توفيق كان عارف نص الحكاية ... اما النص التاني ، فعرفته انا بالصدفة من عاصم الصباغ.
كانت قد وقفت أمامه مباشرة ، فواصلت بتهكم مرير:
-للآسف اكتشفت ان ابويا هو اللي كان حرامي ... هو اللي سرق و نهب حق مش حقه ، هو اللي دمر حياة عيلة كاملة يا عمي ... بس عشان هو ابويا و انا بنته من صلبه ، عملت حساب انه مهما عمل هيفضل الراجل اللي رباني و كبرني ، هيفضل له فضل عليا في كل حاجة ... حياتي مع عاصم الصباغ مستحيلة انا عارفة ، و عارفة اني لازم اسيبه و ابعد عنه .. لكن عمري ما هفكر آذيه .. و لا هسمح لحد يآذيه !
لم تقل دهشة "توفيق" عن دهشة إبنه و الحاضرين من إسلوب "هانيا" و معتقداتها الجديدة .. فلم يتفوه بكلمة ، لينوب عنه "مروان" و يخطو نحوها مسرعا ، ثم يقبض علي رسغها بقوة صائحا فيها بخشونة:
-ايـه الكلام الفـارغ ده ؟ .. انتي اتجننتـي ؟ ... انا عايز اعرف الكلب ده عمل فيكي ايـه ؟ .. ازاي قدر يغيرك بالشكل ده ؟ ازاي قدر يبدلك كـده ؟ ... قوليلي عمل فيكي ايـه ؟؟؟


و هكذا إستمر يصرخ بوجهها بكل جنونه و إنفعاله ... فإذا بصيحة جبارة تصدر عنها و هي تشد يدها من قبضته بقوة:
-عمل فيا اللي لا قدر و لا هيقدر حد غيره يعمله ... خلاني احبه يا مروان !
كان "توفيق" هو أول من صعق لتصريحها هذا ..
فتابعت بنفس الإسلوب ، و اللهجة الشديدة و صدرها يعلو يهبط بسرعة:
-ماعرفش ازاي بس اهو حصل .. حبيته ، حبيته اوي ... و صعب عليا امشي و اسيبه ، بس للآسف مافيش قدامي حل تاني.
-طب يلا !
و أخيرا ، نطق "توفيق" .. فإلتفتت إليه ثانيةً ، و تساءلت:
-يلا ايه يا انكل !!
بوجه قاتم ، و لهجة حادة أجابها:
-يلا هنمشي من هنا.
-علي فين يعني ؟؟!
تدخل "مروان" هنا ، فقال مستهجنا:
-هو ايه اللي علي فين ؟ .. علي بيتنا طبعا ، سيادتك هتيجي تقعدي عندنا.
إعترضت "هانيا" علي ذلك بقوة قائلة:
-لأ .. مش هينفع ، انا لازم اختفي في مكان مايقدرش يوصلي فيه !
طمئنها "توفيق" بصلابة:
-ماتقلقيش ... من اللحظة دي محدش هيقدر يهوب ناحيتك ، و انا هعرف اشوفلي صرفة معاه ، و عن قريب هتكوني حرة تماما ... و هنبقي نتناقش في موضوع كده !


ثم هتف بصرامة:
-يلا بقي.
أجفلت "هانيا" و هي تزدرد ريقها بتوتر ، و حارت في أمرها ..
نظرت إلي جسده المتهالك فوق الأرض ، فحداها الشعور بالقلق .. بل الهلع عليه ..
في نفس اللحظة ، و عندما لم تبدي حركة .. أمسك "مروان" بذراعها ، و هم يشق طريقه بها إلي خارج المنزل ..
فحاولت الإبطاء من سرعة سيره و هي تدير رأسها إلي وصفيتها "سناء" و تقول لها بسرعة:
-سناء .. كلمي اي حد يجي يشوف عاصم بيه ، كلمي شهاب او الاستاذ زين ، خليهم ييجوا دلوقتي حالا يا سناء ، و انتوا حاولوا تفوقوه !
إستطاعت أن تشعر بيد "مروان" تزداد ضغطا حول ذراعها ، و معها أدركت كم هو غاضب الآن ..
لكنها لم تآبه لغضبه البتة ... إذ كان هو كل ما شغل بالها و قلبها في هذه اللحظة ..
و تمنت لو كان بإستطاعتها المكوث إلي جواره حتي تطمئن عليه علي الأقل ..
و لكن بدت لها هذه الأمنية في الوقت الراهن و هي تمشي بين عمها و إبنه تقريبا شبه مستحيلة ...

***********************************

في إحدي القري الريفية ..
تحديدا داخل ذلك المنزل البسيط ... كان "زين" يجالس أبويه في غرفة المعيشة المطلة علي الشرفة الواسعة ..
أشارت الساعة القديمة ذات البندول الثقيل الذي يحدث حشرجة ثقيلة كل حين ، إلي منتصف الليل ..
كان الجو لطيف ، و كانت الرياح الربيعية تهب محملة برائحة الخضرة و النباتات المعطرة ..
بينما كان "زين" يحتسي فنجانا من الشاي و هو يسترخي فوق مقعده بآريحية بالغة ..
فقد باتت أعصابه هادئة الآن ، و بوسعه أن يبث همومه و متاعبه إلي هذا المكان ذا الطبيعة البدائية الخلابة ليعود بعد ذلك إلي المدينة الحديثة في كامل نشاطه و حيويته ...
صدح فجأة هاتف "زين" بنغمته الصاخبة ، ليتآفف هو في ضجر و يضطر أن يرد:
-الو !
هكذا أجاب "زين" الإتصال بلهجة فاترة ، ليجيب الطرف الأخر للحال:
-زين بيه .. معاك مآمون القناوي ، حارس البوابة في قصر عاصم بيه !
عقد "زين" حاجبيه في غرابة و هو يقول:
-ايوه .. ايوه يا عم مآمون ، ازيك ؟ .. خير في حاجة ؟؟!
-في كوارث يا بيه .. القصر كان هيتهد فوق دماغتنا كلنا !
هب "زين" من مجلسه عند ذلك هاتفا به:
-في ايه يا عم مآمون ؟ .. ايه اللي حصل عندكوا ؟؟؟!
حكي له المدعو "مآمون" كل ما حدث .... ثم واصل في وجل:
-عاصم بيه مش حاطط منطق من ساعتها .. مش عارفين نفوقه !
سأله "زين" بنبرة منفعلة:
-و هو شهاب فين ؟؟؟
-شهاب بيه مش موجود و بنتصل بيه تليفونه مقفول ... اتصرف بالله عليك يا بيه ، دي الست هدي هي كمان قلقانة اوي و عمالة تسأل علي عاصم بيه و شهاب بيه و محدش فينا عارف يقولها حاجة !!
رد "زين" بنفس الإسلوب الإنفعالي ، و إن أضاف له شحنة غضب و عصبية:
-اتصرف ازاي انا دلوقتي ؟ .. انا في كفر الزيات ، قدامي ساعات علي ما أوصل القاهرة ، بالكتير علي بكرة الصبح.
و بجهد جهيد ، إستطاع أن يدعي الهدوء في نبرة صوته و هو يقول:
-اسمع يا عم مآمون .. تخليك ورا شهاب لحد ما يرد عليك ، و انا هلبس و هحاول اجيلكوا بسرعة ، بس خدوا بالكوا انتوا كويس من عاصم !

*********************************

في الصباح الباكر ...
وقف "إياد" أمام مرآة غرفة نومه ... كان يرتدي ملابس رسمية ، ليرتدي فوقها حزام الكتفين الخاص بالآسلحة النارية ..
ثم إرتدي سترة سميكة ليواريه خلفها .. فهو عاقدا العزم بقوة أن يثآر لها اليوم من جميع الأوغاد الذين شاركوا في نحر عنقها بسكين بارد ..
أقسم بأن ينتقم لها شر إنتقام و إن كانت فعلته ستودي به إلي الموت ، هو علي آتم الإستعداد ، و بصدر رحب سيستقبل الموت ..
و لكن ليس قبل أن يثآر لها ..
دوي صوت جرس باب منزله في تلك اللحظة ، فإستدار متجها للخارج بخطي واسعة ..
و دون أن يتعرف علي هوية الزائر ، فتح من فوره .. إذ كان متعجلا للسعي من أجل إتمام مخططاته الإنتقامية ..
وقف وجها لوجه أمام زميله "وليد" ... فأجفل مستغربا و هو يردد:
-وليد ! .. خير يا وليد في حاجة ؟؟
مرر "وليد" عينيه علي جسد صديقه من أعلي إلي أسفل في تقييم سريع ... ثم أطلق تنهيدة حارة ، و سأله:
-لابس كده و رايح فين يا إياد ؟؟!
تجهم وجهه فجأة ... لكنه أجاب:
-رايح مشوار يا وليد ... قولي انت ايه سبب الزيارة ؟ .. في حاجة ؟؟
-اه فيه ... اتفضل تعالي معايا دلوقتي حالا !
-علي فين ؟؟!
-يسري باشا بنفسه طالب يشوفك.
إبتسم هازئا ، و قال:
-و معاليه طالب يشوفني ليه ؟ .. انا سيبت الخدمة خلاص ، و لا هو لسا في حاجة تاني ؟؟!
-إياد ! .. ماتبقاش حمقي كده ، الراجل عايزك في موضوع مهم ، و كلفني انا شخصيا افوت اجيبك و اوصلك عنده بنفسي ... تعالي شوفه عايز ايه ، مش هتخسر حاجة.
نظر له "إياد" برهة مفكرا ... فضغط شفتيه ببعضهما دلالة عن نفاذ صبره ، ليبتسم "وليد" و هو يقول بلطف:
-يلا .. يلا يا إياد !

***********************************

لم يذق "شهاب" للنوم طعما منذ ليلة أمس ...
منذ تم إختطافه و وضعه قسرا عنه في تلك الغرفة الموحشة ، ذات الرائحة العفنة ..
كان مكبلا في هذا الكرسي من جميع أطرافه وسط الغرفة ، و التي هي كناية عن غرفة نوم ، و لكنها غرفة نوم سيئة جدا ..
بخلاف رائحتها البشعة ، فالديكور مهترئ و متسخ ، و هناك صور يذيئة مقززة معلقة علي الجدران ، بعضها لفروج لنساء عاريات ، و البعض الأخر لرجال عرايا أيضا ..
حاول مرارا أن يفك آسره بنفسه ، و لكنه كان مكبلا بسلاسل حديدية أعاقته بصورة كلية ..
حيث ربطوا يديه إلي جانبي الكرسي الخشبي الثقيل ، و شدوا وثاق رجليه ، فلم يعد يستطع أن يحرك شيئا في جسده ..
كان يشعر بالجوع و الظمآ ، مما سبب له بعض الإرهاق و الدوار ..
و بالرغم من من ذلك ، لم يكن قلقا سوي عليها هي ..
و أخذ يتساءل .. تري كيف هي الآن ؟ .. و ماذا فعل بها الشيطان شقيقها ؟؟؟
لاحت أيضا صورة "عاصم" بمخيلته ، فإبتسم في شيء من الآلم و هو يتخيله في هذه اللحظة ..
فتساءل مرة ثانية ... تري هل إكتشف أمر غيابه عن المنزل ؟ .. ماذا سيفعل إذن لو حدث له مكروه ؟ ... كيف سيتصرف مع "جاسر" ؟ .. و هل سيؤذي "هاجر" إنتقاما له ؟؟؟
و لكنها بريئة منه ... ليس لها ذنب فيما حدث ...
و بغتة .. قطع وصلة أفكاره ، إنفتاح باب الغرفة ، يليه دخول الرجلان اللذان جلباه إلي هنا بالأمس ..
وقفا عند جانبي الباب .. ليظهر "جاسر" من بينهما فجأة !
شعر "شهاب" أنهما علي وشك الإنحناء تبجيلا و تعظيما له ..
إذ كان ظهوره المتغطرس يوحي بسطوة هائلة يهاباها هذان الإثتان رغم القوة الوحشية البادية عليهم بمنتهي الوضوح ...
تقدم "جاسر" منه ، و أخذ يدور حوله بخطوات متباطئة واضعا يديه في جيبي سرواله ..
إلي أن بدأ الكلام أخيرا ... فقال بهدوء و برود تـام:
-اتمني الاقامة في وكرنا المتواضع تكون عجبتك يا مايسترو .. انا كنت حريص جدا و الله علي راحتك ، و حتي وصيت الرجالة محدش فيهم يقربلك ... اومال ايه ، ده انت ضيفنا.
كان واقفا خلفه مباشرة ، فربت علي كتفه بخفة ، ليرد "شهاب" محتدا و هو ينظر للفارغ أمامه:
-اوعي تكون فاكرني خايف منك ! ... انا مابخافش الا من اللي خلقني ، ده غير اني متآكد انك مش هتعرف تعمل معايا حاجة.
عند ذلك ... سمع "شهاب" صوت قهقهته العالية ، تعلو أكثر أكثر و تتردد عبر أركان الغرفة الصغيرة ..
بينما كان "جاسر" لا يزال يضحك بقوة ، بقوة كبيرة و بدا من العسير عليه أن يتوقف عن الضحك في الحال ..
و لكنه حاول ..
في اللحظة التالية .. كان يجلس أمامه في كرسي مجاور ... ضحك المجنون مكشرا عن أنيابه ، و قال:
-عارف ؟ .. انت عندك حق ، انا مش هعرف اعمل معاك حاجة فعلا ... بس مش بالظبط اوي يعني !
حدجه "شهاب" متبرما ، ليبتسم الآخير و يقول بمرح:
-لو هتسآلني يا جاسر ايه اكتر حاجة بتتمناها دلوقتي ؟ .. هقولك بتمني اطلع روحك في ايدي ... بس انا فكرت ، لاقيت اني ممكن اعيشك منغير روح اصلا لحد ما تموت نفسك بنفسك و بالبطيء .. و هتصيب يا صباغ يا صغير مش هتخيب.
و إستحالت نبرته فجأة لتصبح أكثر عنفا حين أردف:
-انا روحت لأخوك و قولتله يحذرك و يقولك تبعد عن اختي ، عملت اللي عليا يعني .. لكن شكله ماصدقنيش ، او ممكن يكون حب يغامر معاك ... و انا مش هحرمكوا من المغامرة دي ، انا راجل چنتل اوووي يا شهاب.
و آشار لأحد الرجلين من خلفه ، ليآتيه بصندوق طبي صغير ..
تناوله "جاسر" من يده ، و أثناء ما كان يفتحه .. راح "شهاب" يراقبه في فضول قلق ..
لتتسع عيناه في محجريهما لدي رؤيته تلك السموم التي كادت تدمره مسبقا ، و الذي أقلع عنها بصعوبة بالغة ...
و هنا ، إبتسم "جاسر" في شر و هو يعاين قسمات وجهه المتقلصة ، و بإستهزاء لاذع قال:
-مالك يا وحش ؟ .. بلمت كده ليه ؟ ... هو انا هديك حاجة بطالة ؟ .. لا وحياتك ، ده من الصنف اللي يعجبك اووي.
ثم قرب وجهه منه و هو يضيف بفحيح كريه:
-انت مش كنت مزجاجنجي قديم بردو و لا ايه ؟؟؟


خرست أصوات الكون في تلك اللحظة ... و الآن أدرك "شهاب" نيته القذرة ، فشحب وجهه بصورة مرعبة ، إبتسم "جاسر" علي إثرها بغبطة شديدة قائلا:
-انا عارف انك مدمن متعافي ... و عارف كمان ان اخوك بقاله سنتين بيصرف عليك ببذخ لحد ما قدر يعالجك و يخليك تبطل .. بس العبد لله بقي هيرجعك تاني لساحة المعركة اقوي من الاول ان شاء الله.
و أخرج من الصندوق سرنجة طبية ، حقنها بذلك المسحوق الأبيض الممتزج بسائل الحامض ، و طلب معاونة الرجلين في الإمساك بـ"شهاب" ..
فإندفعا نحوه للحال ، و أمسكا به ... إرتعدت فرائصه ، و بدأ يقاوم و هو يصرخ فيهم بقوة:
-اوعـووووووا ... سيبـووووني ، نزل ايـدك انت و هـو .. اخويـا مش هيسبكـوا ، انا مش هسيبكـوا ، اوعـووووووووا ، سيبووووووووني !
و من وسط القهقهات من حوله ، رآي "جاسر" يقترب منه ، ثم يجثم عليه و هو يشمر له كم قميصه حتي ظهرت عروق معصمه البارزة ...
ثبت أحد الرجلين ذراعه بيده جيدا لئلا ينكسر السن الحاد فيه ..
فضرب "جاسر" علي معصمه ضربتين متتاليتين قبل أن يغرس النصل المدبب الرفيع بجلده ...
كان "شهاب" يتصبب عرقا ، و يتنفس بصعوبة عندما بدأ يشعر بتلك المادة اللعينة تسري مجددا مع دمه في عروقه لتصل من فورها إلي عقله فتخدره ..
و تدريجيا ... خيل إليه أن الظلمة إجتاحت المكان فجأة ، و أحس أنفاسه تضيق شيئا فشئ ، و شعر أنه يكاد يفقد وعيه ..
حاول أن يري في العتمة القاتلة صورة أخيه ... صورة أمه .. بيته ..


أي شيء مألوفا له ، إذ كان خائفا جدا خلال تلك اللحظات ، أراد أن يطمئن بأي شكل ..
لكنه فوجئ برؤية شخصا أخر ... والـده .. والده الذي مات عندما كان طفلا رضيعا لا يعي شيئا ، و الده الذي لم يراه في حياته و لو لمرة واحدة ..
كان يقف أمامه وسط العتمة ... كان واضحا ، و يبتسم له في هدوء و حب ..
فحاول "شهاب" أن يمسك بأي شيء يمكنه أن يؤكد له أنه ما زال حيا ..
و لكن غيبوبة الخدر ، لم تفتح له مجالا لرؤية شيء ..
فإستسلم لترهات و خيالات المخدر دون أدني مقاومة هذه المرة ...


حين إنتهي منه ... وقف يفرد قامته بشموخ ، مزهوا بإنتصاره ، مغتبطا لتلك الهزيمة النكراء ..
ليقول لرفاقه بتنبيه شديد اللهجة:
-ماتنسوش يا رجالة ... كل 4 ساعات لازم ياخد حقنة زي دي لمدة يومين كده علي ما اقولكوا الخطوة التانية هتكون ايه !!



إعدادات القراءة


لون الخلفية