الجزء 16: زمجرة ضارية

فوجئت "هانيا" من حدة ذكاؤه .. إذ كان بطريقة ما يقرأ ما يدور بخلدها ..
عليها إذن أن تضلله و إلا تبخرت آمالها سدي ..
قررت أن تغير الخطة ، فربما نجحت .. إشتبك نظرها بنظره الحاد ، فهمست قائلة:
-اكتشفت ان عرضك مناسب ليا اوي .. طالما هترجعلي اللي خدته من ابويا ، و هتنفذلي كل طلباتي .. انا مستعدة اديك اللي انت عايزه .. بس بعد الجواز طبعا.
-طبعا.
أجابها "عاصم" و هو يخفي إبتسامة عمقت الخطوط حول أنفه و فمه ، ثم زحلق بصره علي ثوبها الذي أبرز ثنايا جسدها بوضوح و أردف:
-مذهلة كالعادة .. تعالي.
ثم مشي بها و أجلسها فوق مقعد مجاور لمقعده ، و صادف أنها كانت تجاور "شهاب" أيضا ، فمال الأخير صوبها و هو يتمتم بنعومة:
-هو صحيح عاصم قالي انك حلوة .. بس بصراحة ماكنتش متخيل انك حلوة اوي كده !
إلتفتت "هانيا" إليه و ردت بإبتسامة رقيقة:
-ميرسي لذوقك.
أومأ "شهاب" بخفة ، ثم سألها:
-يا تري عاصم حكالك عني ؟؟
صمتت "هانيا" و هي ترمقه بحيرة ، فإبتسم قائلا:
-شكله ماحكاش .. طيب عموما انا اخوه الصغير مش صغير اوي ، يعني قفلت الـ20 سنة من خمس شهور و طالب في الكونسرفتوار و آا ...
-خلاص يا شهاب !
قالها "عاصم" بصرامة لينة و تابع:
-كفاية كلام دلوقتي ، بعد الغدا ابقي اتكلم معاها براحتك.
إنصاع "شهاب" لشقيقه بطواعية مرحة ، بينما تأهب الجميع لتناول الطعام بعد أن أتت الخادمة بالعصير الطازج و سكبته في كؤوس البلور التي تشعشع كلما حركتها الأيادي ..
و في أوج إنهماك البعض بالطعام .. رفعت "هانيا" رأسها بحذر و نظرت عبر المائدة للطرف المقابل ، فإلتقت عيناها بنظرة عابسة من "زين" تشير إلي إمتعاضه ..
عضت علي شفتها لتكبح عبسة منفعلة أوشكت أن تفسد صفاء تعابيرها المثالية ..و مع ذلك تورد وجهها قليلا حين قرأت لمحة الإزدراء في عينيه البنيتين المصوبتين إليها من فوق رؤوس الشقيقين الغافلين عن مراسلتهما البصرية و كأنه يقول لها .. ها قد خضعتي لإرادته !
خفضت "هانيا" بصرها و راحت تهتم بتناول وجبتها ، و لكن كان الطعام بالنسبة إليها كارثة ..
إذ لم تستطب مذاقه علي الرغم من طراوته و لذته ، وجدت نفسها تمضغه مجبرة و هي مشغولة الخاطر ..
كانت توضب في اضبارات ذهنها ما سوف تفعله كي تنفرد بـ"زين" ..
بعد الغداء .. جلس الجميع بقاعة الجلوس الدافئة ، فيما دارت الأحاديث بتقطع ، حتي بإقتضاب أحيانا ، إلي أن نهض "شهاب" فجأة و قال:
-طيب عن اذنكوا .. هطلع اشوف ماما عشان لسا ما شفتهاش من ساعة ما وصلت.
ثم دنا من "هانيا" و هو يقول مداعبا:
-احنا كلامنا لسا ماخلصش ها ! .. تعرفي لو ماكنتيش خطيبة اخويا انا كنت اتجوزتك وقتي منغير ما اضيع ثانية واحدة بعيد عنك.
نهره أخيه بحدة مصطنعة فقهقه "شهاب" بمرح ، ثم إستدار علي عقبيه و رحل ..
فوق الآريكة الصوفية السوداء ، جلست "هانيا" بالقرب من "عاصم" بينما جلس "زين" في مقعد مقابل لهما ..
مدد "عاصم" ذراعه علي ظهر الآريكة دون يلمسها ، بيد أنها تقلصت غريزيا و قد شعرت بنفسها تتآرجح علي حافة مصيدة مفتوحة ، فيما كان الحديث المتبادل بين "عاصم" و "زين" حول العمل ..
حتي إلتفت "عاصم" إلي "هانيا" و قطب بشيء من القلق عندما رآها تتكور داخل فستانها ، فسألها علي الفور:
-هانيا ! .. مالك ؟ فيكي حاجة ؟؟
أدارت "هانيا" رأسها نحوه ، و برجفة مصطنعة في صوتها و بدنها أجابت:
-مافيش .. بس بردانة شوية.
باغتها "عاصم" بعبسة حانقة:
-طيب و ماجبتيش شالك معاكي ليه ؟ كده ممكن تاخدي برد ، فوق اوضتك بتبقي دافية و الجو هنا بارد شوية عليكي.
و زفر بإنزعاج متبرم ، لكنه عاد يقول بلطف:
انا هطلع اجيبلك شالك.
إبتسمت "هانيا" في الخفاء و هي تراقبه يخرج من قاعة الجلوس ، فقد نجحت في خداعه دون أن يفطن هو لذلك ..
جعلته يتركها تختلي بـ"زين" ليناقشا خطة فرارها .. آه لو علم بذلك !!
هبت "هانيا" واقفة و إتجهت نحو "زين" .. جلست بمقعد قبالته و قالت هامسة:
-انت ! .. يا تري لسا عند وعدك ليا ؟ .. لسا عندك استعداد تهربني ؟؟
حدجها "زين" بنظرة تهكمية جامدة و قال:
-اهربك ؟ ليه ؟ .. ده انا حتي شايف ان في تطورات حصلت ، شايفك منسجمة اوي مع عاصم ، معقول عايزة تهربي بعد ما بقيتوا سمنة علي عسل ؟ و بعد ما قبلتي تبقي ملكه ؟؟!
و أشار إلي العقد الذي يطوق عنقها .. إستشاطت "هانيا" غضبا و ردت و هي ترفع إليه نظرات متوقدة:
-انا مش ملكه و لا ملك اي حد .. و عمر ما هيكون في تصالح بيني و بينه ابدا .. انا بكرهه.
نطقت كلمتها الأخيرة بشراسة مدمرة ، و أضافت بحقد سافر:
-لا يمكن انسي اللي عمله في ابويا و فيا .. ذنوبه معايا مش هغفرهاله لو حتي ركع تحت رجلي.
أجفل "زين" بإضطراب و قد لانت نظرته ، فعادت تسأله واجمة:
-ها .. هتساعدني اهرب من هنا ؟؟
في تلك اللحظة .. سمعا وقع خطوات تهبط الدرج في الخارج ، فأسرع "زين" يقول بصوت خفيض:
-انهاردة الساعة 11 بليل تخرجي من اوضتك و تنزلي من سلم الخدم و تستنيني في البدروم اللي تحت خالص هكون بشتغل انا و عاصم في المكتب بس هقدر اغفله شوية لحد ما اجي اطلعك من القصر من باب البدروم ، هو بيطلع علي برا القصر علطول المفتاح بتاع الباب موجود جوا بس انتي مش هتعرفي مكانه لوحدك ، المهم لما تخرجي هتمشي دوغري لحد ما تطلعي عالطريق و تشوفي اي عربية تاخدك للحتة اللي انتي شايفاها امان بالنسبالك ، بس خلي بالك اوعي حد من الخدم يشوفك و انتي نازلة عالسلم.
حفظت "هانيا" تعليماته عن ظهر قلب و عادت بسرعة إلي مجلسها فوق الآريكة ..
و هنا ظهر "عاصم" علي مقدمة القاعة و هو يحمل في يده شالها الحريري ..
أهدته إبتسامة رقيقة يشوبها توتر طفيف حمدا لله لم يلحظه "عاصم" ..
بادلها بسمتها بمثلها إلي أن وصل إليها .. إنحني فوقها و لف الشال بلطف و نعومة حول كتفيها و كأنه يقمط طفلا صغيرا ، ثم جلس إلي جوارها و راح يطالعها للحظات قبل أن يعود و يهتم بجلسته مع صديقه ...

-دي اكيد حاجة مهمة هي اللي خلتك تتعطفي و تتكرمي و تكلميني بنفسك.
قالها "إياد" مداعبا و هو يخاطب "هنا" عبر الهاتف ، بينما ردت "هنا" بإيجاب و هي تنظر إلي أمها الجالسة أمامها تحدق فيها بقوة:
-بصراحة اه .. في حاجة مهمة اوي.
-خير يا ستي ؟ .. يا تري ماماتك حددت يوم ننزل ننقي الشبكة فيه ؟؟
-لأ الموضوع مش كده خالص.
سألها "إياد" حائرا:
-اومال !
تنحنحت "هنا" و أجابته:
-هو بصراحة كده احنا عندنا مشكلة تخص حد معرفة ، محدش عارف يحلها خالص .. فأنا قلت لماما انك ممكن تتصرف يعني !!
إستوضحها "إياد" بإهتمام:
-طيب احكيلي ايه الموضوع ؟؟
راحت "هنا" تشرح له الوضع كما سمعته من أمها تماما .. :
-طب انتوا متأكدين انه خاطفها ؟!
قالها "إياد" متسائلا ، و تابع موضحا وجهة نظره:
-اصلها ممكن تكون معاه بمزاجها .. ممكن تكون اتجوزته و في الحالة دي ده مايبقاش خطف.
نفت "هنا" إعتقاده بقولها:
-لأ احنا متأكدين انه خاطفها .. اصل في بينهم مشاكل كبيرة اوي ، و كذا حاجة تمنع اي علاقة ودية ممكن تكون بينهم.
علي الطرف الأخر .. صمت "إياد" قليلا ثم قال:
-ماشي .. اديني عنوان عمها او رقمه و انا بإذن الله هتولي الموضوع ده و لو هو فعلا خاطفها و حابسها في بيته انا بنفسي هاروح ارجعها.

**************************

-انت اتجننت يا كلب !!
هتفت "دينار" بغضب حارق تخاطب إبنها الواقف أمامها في برود تام ، و تابعت بعنف:
-عايز تتجوز الخدامة يا حيوان ؟ و كمان و هي علي ذمة راجل تاني ؟؟
بلهجة هادئة رد "مروان":
-انتي هتساعديني يا ماما .. هتقنعي عبيد يطلقها.
-نعم ! لأ انت فعلا اتجننت !!
باغتها "مروان" بشيء من العصبية:
-انا ماتجننتش و لا حاجة .. قلتلك قبل كده اني بحبها و عايز اتجوزها ، و لو ماساعدتنيش هتصرف انا بمعرفتي.
إكتسب صوتها رنة هستيرية عالية و هي تستطرد:
-اخرس يا حيوان .. عايز تعمل ايه اكتر من اللي عملته ؟ هتهبب ايه تاتي ؟ ده جوزها لسا بيدور عليها و حالف يشرب من دمها و من دم اللي غواها .. و انت جاي تقولي دلوقتي اساعدك و اقنعه.
تأفف "مروان" قائلا:
-انا مابقتش صفير و قادر اتحمل نتايج تصرفاتي.
ردت و الوهن يرجف صوتها:
-انت ضيعت نفسك خلاص .. كنت فاكرة اني خلفت راجل عاقل و محترم .. لكن للأسف .. و يا خسارة ماطلعتش راجل يا مروان.. دايما كنت باجي في صفك و اديها جت علي دماغي انا ، لان انا السبب ، انا اللي عملت كل ده ، انا اللي خليتك تفتري ، انا اللي خليت مابقاش في حد عارف يقف قصادك .. بس زي ما بيقولوا العضو الفاسد لابد من بتره و انا رميت طوبتك و خلاص .. مش عايزة اشوف وشك تاني طول ما انا عايشة.
لم يرد عليها "مروان" .. بل حدجها بنظرة غاضبة و إستدار منصرفا من المنزل ، فصاحت بأعلي صوتها:
-في ستين داهية.


أسدل الليل ستاره الحالك ، و ساد الظلام في الأفق ..
بينما إجتمع داخل ورشة "رشدي" الصناعية بـ"حي الغورية" مجموعة رجال يرتدون زي العمل الرسمي و السخام الأسود يلطخ وجوههم و إيديهم ..
فيما صاح "رشدي" و هو يقف إلي جانب "توفيق" أمامهم:
-دلوقتي يا رجالة الانسة هانيا بنت اخو الاستاذ توفيق غايبة عنه ، و من الاخر مخطوفة .. في واحد ابن حرام خطفها و حبسها في بيته و مش راضي يحلها .. و انا لما فكرت مالاقتش غيركوا يسدوا في الموضوع ده.
هتف أحد الرجال بحماسة رجولية:
-احنا كلنا فدا الانسة يا عم رشدي.
و صاح أخر بغضب متقد:
-اللي تؤمر بيه انت و الاستاذ توفيق هيتنفذ يا عم رشدي ، كله الا عرض الولايا و الشرف مافيهوش هزار.
ضم فرد ثالث صوته إلي صوت الرجلين بقوله الحاد الحانق:
-و رحمة امي لو كان بسلامته ده مس شعرة من الانسة لاكون معلق راسه علي باب الحارة.
و تداخلت فجأة الصيحات المستنكرة و المتذمرة حتي هتف بهم "رشدي" بصرامة ليسكتهم:
-بـــس .. بس يا رجالة ، انا عارف انكوا جدعان و تقدروا تسدوا في اي حاجة عشان كده انا جمعتوا دلوقتي .. لكن لازم تعرفوا ان الجبان ده عايش في بيت طويل عريض و موقف عليه شوية تيران تحرسه .. اللي عنده استعداد يجي معانا و احنا بنرجع الانسة هانيا يقول عشان هنتحرك حالا !
صاحوا الرجال جميعا في صوت واحد:
-كلنا جايين يا ريس رشدي.
و هنا .. تصاعد رنين هاتف "توفيق" فأخرجه ليجد رقم غير معروف .. لكنه رد في الأخير:
-الو !
أجاب الطرف الأخر بلهجة متحفظة:
-الو مساء الخير .. الاستاذ توفيق علام معايا ؟؟
بوجوم رد "توفيق":
-ايوه انا .. مين حضرتك ؟؟
عرف الأخير نفسه بلهجة رسمية:
-معاك المقدم اياد راشد من مباحث امن الدولة.
أجفل "توفيق" مرتابا و هو يسأله:
-اهلا و سهلا يا سيادة المقدم .. خير في حاجة ؟؟
-حضرتك اكيد عارف مدام قوت القلوب !
-اه طبعا عارفها.


-انا و بنتها في بينا مشروع جواز ، و من خلال العلاقة اللي ربطتنا ببعض هما الاتنين حكولي علي المشكلة اللي واقعة فيها بنت اخو حضرتك ، انا مستعد اقدم مساعدتي لو تحب ، بس محتاجك تيجي تقدم بلاغ في المديرية و انا موجود عشان اقدر اطلع اذن و اخد قوة و اطلع بيها علي بيت الراجل اللي بتتهموه بالخطف ده.
أشرق وجه "توفيق"بالأمل و هو يسأله بلهفة:
-اجي امتي يا حضرة الظابط ؟؟
أجابه "إياد" علي الفور:
-لو حابب تعالي دلوقتي.
-جاي حالا.
قالها "توفيق" براحة و سرور و أنهي المكالمة ..
فسأله "رشدي" بإهتمام:
-ايه يا توفيق ؟ .. خير ايه اللي حصل ؟؟
أطلق "توفيق" تنهيدة من أعماق أعماقه و هو ينظر إليه بعينين لامعتين ...

***************************

طرق "شهاب" باب غرفة أمه مرتين ، ثم دلف مسرعا و هو يتحرق شوقا لرؤيتها ..
كالعادة كانت نصف ممدة علي فراشها ، لكنها حين رأته أمامها إستوت جالسة و هي تزقرق بجذل طاغ:
-شهاب ! يا حبيبي.
ضجت في أعمافه فورة عطف تجاه أمه ، فإندفع مهرولا صوبها و إنحني ليعانقها بقوة ، ثم جلس علي طرف الفراش إلي جانبعا و هو لا زال ممسكا بيدها ، ثم قبلها برقة متمتما:
-وحشتيني يا ماما .. وحشتيني اوي اوي.
بعاطفة أمومية مسحت علي شعره و هي تقول معاتبة:
-اه يا بكاش .. هو انا لو كنت وحشتك فعلا زي ما بتقول كنت هتغيب عني المدة دي كلها ؟ ايه يا شهاب اد كده كانت عجباك بلاد برا ؟؟
صمت "شهاب" لبرهة و هو يحدق فيها بشيء من الحزن:
-لو كانت عجباني ماكنتش رجعت .. بس اديني رجعتلك اهو و اوعدك اني مش هبعد عنك تاتي ابدا.
إبتسمت بمودة .. ثم سألته بحماسة عفوية:
-شفت خطيبة اخوك يا شهاب ؟؟
أومأ "شهاب" رأسه إيجابا و هو يقول مشاكسا:
-اه شفتها يا دودو .. دي حتة مزة انما اييه .. تحل من علي حبل المشنقة تضاريس ايه و آا..
قاطعته أمه بضربة خفيفة علي رأسه و هي تقول بحدة مصطنعة:
-بس يا ولد .. ماتقولش كده علي مرات اخوك عيب ، و بعدين دول لايقين علي بعض اوي و شكلهم بيحبوا بعض كمان.
-طب اولا هي لسا مابقتش مراته ، و ثاتيا هما مش لايقين علي بعض اوي .. يعني هي الصراحة جميلة جدا.
بإستياء متبرم قالت والدته:
-و ابني بردو زي القمر يا حبيبي.
قهفه "شهاب" بمرح ، ثم قال:
-ماشي زي القمر و كل حاجة .. بس اللي انا مستغربه ازاي واحدة في جمالها توافق ترتبط بعاصم و هو كده ! .. انا مقصدش اعيب في اخويا ، بس هما استنتاجين مالهمش تالت !
-و ايه هما بقي يا عبقري ؟؟
سألته السيدة "هدي" بإصغاء ، فأجابها باسما:
-اول استنتاج .. ممكن تكون بتحبه فعلا زي ما قولتي.
و تجهم وجهه قليلا و هو يتابع:
-و تاني استنتاج .. ممكن تكون طمعانة فيه و كلت بعقله حلاوة لحد ما خلته خطبها و هيتجوزها.
ثم صاح فجأة:
-هي صحيح فين اهلها ؟ انا نسيت اسأل عاصم ! ازاي قاعدة عندنا هنا و محدش سائل فيها !!
و قبل أن ترد أمه سمعا الإثنان دوي بوق صادح لسيارة طوارئ ، إرتعدت السيدة "هدي" بذعر و هي تردد:
-يا ساتر يا رب .. ايه ده يا شهاب ؟ روح شوف ايه ده !!


علي الطرف الأخر ..
كانت "هانيا" تنتظر بغرفتها منذ الساعة السادسة و حتي التاسعة مساءً .. و كم تمنت أن تمر عقارب الساعة بسرعة حتي توافي "زين" إلي المكان الذي إتفقا علي الإلتقاء به ، إلي الأن لم تكن "هانيا" مصدقة أنها ستستعيد حريتها أخيرا ..
فبعد مرور دقائق قليلة ستكون حرة طليقة و ستفر بلا رجعة من حياة سجانها المتجبر ..
إعترتها رجفة طفيفة جراء شعور نشوة الإنتصار الوشيك ، فيما أخذت تسترجع ما جري لها ذلك النهار و هي تشعر بالقلق نوعا ما ..
فهل يمكن لها أن تهرب حقا ؟ هل يمكن أن تفعل ذلك دون أن يراها أحد ؟ ..
فقد أوصاها "زين" بوجوب الحذر من الظهور أمام الخدم لئلا تفسد الخطة قبل أن تبدأ ..
مشت "هانيا" إلي نافذة غرفتها و نظرت من خلالها إلي خارج محيط القصر ، علي حسب قول "زين" إذا نجح في إخراجها من هنا ، عندها لم يكن أمامها سوي أن تجتاز فسحة صغيرة قبل أن تصل إلي الممر الذي تحجبه أغصان الشجر الكثيفة ..
و الذي يؤدي إلي مكان مرور السيارات علي الطريق الرئيسي السريع .. فكرت "هانيا" بعمق .. لن يكون ذلك سهلا ..
فقد تضيع طريقها في الظلام ، أو قد تنجرح ساقاها إذا تعثرت في شيئا ما ..
‘ لكنها تذرعت بالقوة و الأمل و هي تمني نفسها بالحرية الذي ظلت تنشدها طوال مدة إقامتها هنا ..
إندفعت "هانيا" نحو الخزانة و بدلت ثيابها ، فإرتدت ما يناسب المغامرة التي عزمت علي القيام بها .. ثم نظرت إلي الساعة ..
باقي من الزمن المتفق عليه نصف ساعة ..
رددت "هانيا" لنفسها بخفوت:
-مش مشكلة .. انا هنزل استناه النص الساعة دي !
و بعد أن موهت الفراش ، بحيث يظن الناظر إليه أنها نائمة فيه .. مشت علي رؤوس أصابعها إلي خارج الغرفة ..
كان قلبها يخفق إلي حد خافت أن يخرج من بين ضلوعها ،خصوصا عندما سمعت وقع أقدام خفيفة في الرواق ..فبسرعة إختبأت وراء ستارة الحائط حتي مضي الشخص من أمامها ، ثم خرجت متابعة مهمتها ..
إتجهت إلي سلم الخدم الذي ذكره "زين" و هبطت عليه بخفة و حذر حتي وصلت إلي نهايته التي تؤدي إلي ممر طويل مظلم ساكن ، و بارد أيضا ..
كان هناك الباب الحديد الضخم ، تماما كما وصفه "زين" ، إستطاعت أن تراه من خلال ضوء خافت جدا تسلل من أعلي الدرج إلي ذلك القبو الموحش.. إندفعت "هانيا" صوب الباب ، حاولت أن تفتحه دون جدوي ، حاولت أن تجد المفتاح الخاص به و لكن الظلمة لم تسعفها ..
فزفرت بضيق و وجدت أن خير طريقة تتبعها هي الإنتظار ..
ستبقي واقفة هنا بإنتظار قدوم "زين" ...

****************************
كان "زين" جالسا برفقة "عاصم" داخل حجرة المكتب يناقش معه بعض أمور العمل ..
إلي أن حانت من "زين" إلتفاتة نحو ساعة الحائط التي أشارت إلي الحادية عشر مساءً ..
نهض "زين" من مكانه فجأة ، فتطلع إليه "عاصم" بإستغراب و سأله:
-ايه يابني رايح فين ؟؟
بثبات أجابه "زين":
-هروح اغسل وشي عشان حاسس اني بسقط ، اصلي صاحي من بدري و كنت جاي من سفر زي ما انت عارف.
أومأ "عاصم" متفهما ، بينما غادر "زين" المكتب بخطي متمهلة إستحالت إلي خطي مهرولة ما أن أصبح بعيدا عن مرمي بصر صديقه ..
صعد الدرج بخفة و هو يتلفت حوله في توجس .. إجتاز الردهة العلوية و كاد يهبط سلم الخدم ..
إلا أنه إنتبه فجأة إلي صوت بوق مرتفع يدوي خارج القصر ، حتي أصبح صوته قريبا جدا مما يؤكد إقتحامه للقصر ..
توترت أعصابه و تشتت عقله .. فهل يتابع فعل ما جاء من أجله ؟ أم يعود أدراجه و يري ما يحدث بالخارج ؟؟
ضرب الحائط بقبضته بقوة و حسم أمره بسرعة ..
فإستدار عائدا من حيث آتي .. عند وصوله إلي البهو المقابل لباب المنزل ، رآي "عاصم" يقف أمام أحد أفراد الحرس و هو يهدر بأعلي صوته:
-محدش هيدخل القصر !
تقدم "زين" منه خلسة و إنضم إليه متسائلا:
-في ايه يا عاصم ؟؟
إلتفت "عاصم" إليه ، و كان فمه يرتعش من الغضب و تقاسيمه تشوهها إختلاجة عصبية ، فيما عينيه البندقيتين الصافيتين بصورة واضحة ، تملكتهما نظرة ذعر جامدة براقة و هو يجيب سؤال صديقه بإنفعال عاصف:
-قال بيقولك توفيق علام برا و جايب معاه البوليس و عايزين يدخلوا يفتشوا القصر.
-و هنفتشه يا عاصم بيه.
قال "إياد" تلك العبارة عندما إقتحم المنزل برجاله و معهم "توفيق" .. بينما تحفزت ملامح "عاصم" العدائية و هو يطلق زمجرة ضارية بقوله:
-محدش هيتخطي حدوده في بيتي يا حضرة الظابط.
حدجه "توفيق" بنطرات متشفيةبينما رد "إياد" متحديا بصوت صلب كالفولاذ:
-انا معايا مذكرة تفتيش و سواء حضرتك قبلت او رفضت القصر هيتفتش الا لو كنت عايز تقصر المسافات .. سلمنا الانسة هانيا مصطفي علام و احنا ننسحب بهدوء .. بس طبعا حضرتك هتيجي معانا ، تهمة اختطاف انثي مش تهمة بسيطة و هيلزمك محامي يواكبك اليومين الجايين دول.
نفرت عروق "عاصم" و أحمرت عينيه ، فهدر بإهتياج:
-محدش هيخطي خطوة واحدة جوا قصري !
و هنا .. آتي "شهاب" مهرولا و هو يتساءل بقلق:
-عاصم .. في ايه ؟ .. ايه اللي بيحصل هنا ؟؟

كانت لا تزال واقفة هناك بمنتصف القبو .. لا تعلم لماذا تأخر "زين" .. هل ممكن أن يكون نسي ؟ أو تعذر عليه المجئ لسببا ما ؟ .. و لكن مهما حدث .. فهي لن تعود إليه أبدا ، ستظل هنا و ليكن ما يكون ..
إشتدت البرودة من حولها ، فبدأت أسنانها تصطق بقوة ، بينما كل خلية في جسدها تتوق إلي التمدد تحت أطنان من الأغطية فوق السرير و إلتماس بعض الدفء ..
تلفتت حولها تتآمل المكان بعجز و دموعها تكاد تغلبها .. لماذا تحصل لها الأمور السيئة بإستمرار ؟ لماذا هي بالذات ؟؟
جلست فوق الأرض بضعف و هي تدلك ذراعيها علها تحصل علي بعض الدفء دون فائدة ..
حاولت تهدئة نفسها فهمست:
-هانيا .. خليكي قوية .. استحملي .. مش هترجعيله تاني .. بس استحملي .. زين ده هيجي دلوقتي و هيطلعك من هنا.
و مع تزايد إحساسها بالبرد ، كومت نفسها علي الأرض و تكورت علي جانبها الأيمن كالجنين في بطن أمه ..
و مع مرور الوقت بدأت تفقد شعورها بأطرافها كبداية ، ثم بدأ الخدر يتسرب إلي عقلها ..
لم تعرف كم مر عليها من الوقت عالقة داخل ذلك القبو فاقدة شعورها تماما .. حتي وصل إلي سمعها أصوات ضجيج …



إعدادات القراءة


لون الخلفية