كان يقف كلا من "عاصم" و "إياد" في مواجهة بعضهما البعض كعدوين لدودين حتي صاح "إياد" في رجاله بحسم و تحد:
-فتشوا القصر كله .. سامعين ؟ كله.
في تلك اللحظة .. إنفلت عقال الغضب عند "عاصم" فإندفع كالوحش الضاري الهائج يتصدي لبعض الرجال بعدائية سافرة فتاكة ..
فإلتفت "إياد" نحو إثنين من رجاله و أمرهم بصوته الخشن:
-امسكوه !
هرولا الرجلين صوبه .. و بعد جهد بالغ إستطاعا أن يمسكا بـ"عاصم" من كلتا ذراعيه ، بينما ظل يغالبهم بهياج و هو يصرخ بتهور:
-اوعوا .. سيبوني يا شوية كلاب .. مش هيسبكوا .. هدفعكوا التمن واحد واحد.
باغته "إياد" بخشونة:
-حاسب علي كلامك يا عاصم بيه و اعرف انت بتكلم مين .. و يا ريت تهدا شوية ، الهيجان ده مش كويس عشانك احنا لو علينا ماعندناش مشكلة بس انت اللي هتتعب في الاخر .. وفر طاقتك الجبارة دي للجاي أحسن.
و هنا تدخل "زين" فقال بلطف:
-طيب يا حضرة الظابط القصر قدامك اهو فتشه زي ما انت عايز ، بس من فضلك خلي رجالتك يسيبوا عاصم.
هتف "إياد" بصرامة:
-مقدرش اخليهم يسيبوه و هو في الحالة دي ، لما ناخد اللي احنا عايزينه هنسيبه بشرط يجي معانا بهدوء.
تدخل "شهاب" بدوره عند ذلك الحد قائلا بإستنكار حاد:
-يجي معاكوا فين ؟ هو في ايه بالظبط يا حضرة الظابط ؟؟!
إلتفت "إياد" إليه و بهدوء قال:
-في ان الاستاذ عاصم الصباغ متهم بأختطاف الانسة هانيا مصطفي علام .. و احنا ببساطة جايين نرجعها و نقبض عليه ، يعني بنأدي واجبنا مش اكتر و من واجبكوا انتوا تساعدونا و لعلمكوا انتوا كمان هيتحقق معاكوا و لو ثبت ان حد فيكوا كان عارف بالجريمة اللي حصلت دي هيتحبس مع الاستاذ بإعتباره اتسطر و مابلغش.
حدق فيه "شهاب" مشدوها ، ثم إلتفت نحو أخيه و راح يرمقه بمزيج من الصدمة و الذهول ...
.......................................
علي الطرف الأخر ..
في القبو العميق البارد .. "هانيا" مستلقية منكمشة علي نفسها ..
ترجف بالبرد و الخوف بين ظلال الظلمة الموحشة ، في إنتظار المصير المدجج بالمرارة و الإنهزام ..
كانت تشهق و تزفر أنفاسها بضعف شديد ، و تأكدت من إقتراب مصرعها ، و ربما ذلك شيئا أراحها ..
فأي شيء يحول بينها و بين "عاصم" يرضيها و يسرها إلي أبعد حد ..
و تدريجيا ، بدأت "هانيا" تستسلم لشعور الغياب عن كل ما هو واقع ملموس ..
و من بعيد جدا .. إستطاعت أن تسمع صوتا غير مألوفا لديها .. كان لشخص يخاطب شخصا أخر:
-الاوضة دي شكلها البدروم بتاع الكراكيب يا عم .. و كمان دي ضلمة اوي ! يلا يلا نطلع ندور في حتة تانية.
ظنت "هانيا" أنها تهلوس و تتخيل تلك الأصوات ، و لكنها لم تعرف أنها كانت علي بعد خطوة من النجاة من مصيرها المحتوم ..
لم يتوقف "عاصم" لحظة واحدة عن مقاومة الرجلين اللذين إعتقلاه بأمر من قائدهم ..
بينما هبط "شهاب" الدرج برفقة ثلاثة عساكر و إتجهوا نحو "إياد" ..
هتف أحدهم:
-تمام يافندم .. فتشنا الاوض كلها و محدش فوق الا واحدة ست كبيرة.
في اللحظة التالية .. إجتمع باقي الرجال ، و صاح الذي يترأسهم:
-تمام يافندم .. فتشنا المداخل و المخارج الداخلية و الخارجية ، و مافيش حاجة خالص.
كان أول من صعق لهذه الأقوال "عاصم" ..
لم يجدوها ؟ .. كيف هذا ؟ .. ألح "إياد" في سؤاله:
-انتوا متأكدين ؟ فتشتوا كويس.
رد الرجال في صوت واحد:
-ايوه يافندم.
فهز "إياد" كتفيه في آسف ثم سحب نفسا عميقا قبل أن يطلق أمره لرجاله بصوتا جهوريا:
-اجمع كل القوة برا.
بينما تخلي "توفيق" عن تحفظه ، فإندفع يقول بنزق منفعل:
-يعني ايه ! يعني ايه يا حضرة الظابط ! .. فين بنت اخويا ؟ انا مش هتحرك من هنا الا و هي في ايدي.
حدجه "إياد" بصمت هادئ للحطات ، ثم نقل بصره نحو "عاصم" و آمر الرجلين اللذين حاصراه:
-سيبوه !
تجهم وجه "توفيق" فصاح بغضب:
-يسبوه ازاي ! .. يعني ايه يسبوه ؟؟!
-اهدا يا استاذ توفيق من فضلك.
هدئه "إياد" بلطف ثار "توفيق" علي إثره أكثر بقوله:
-اهدا ازاي ! .. اهدا ازاي و الحيوان ده واخد بنت اخويا من قدام عيني و انا واقف متكتف مش عارف اعمل معاه حاجة ! .. اهدا ازاي و انت بتقول لرجالتك يسيبوه ! يسيبوه ازاي يعني ؟؟!
أجابه "إياد" بشيء من الإنفعال:
-ما احنا فتشنا المكان كله قدام حضرتك اهو و محدش لاقي حاجة.
ثم عاد يقول بصوته اللطيف:
-احنا عملنا اللي علينا يا توفيق بيه .. و ماتلومش نفسك اكتر من كده .. الانسة هانيا مش موجودة هنا.
صرخ "توفيق" فيه بتصميم:
-لأ موجودة بس الجبان ده مخبيها .. هي كلمتني من وراه من كام يوم و قالتلي انه حابسها ، و هو بنفسه اعترفلي قبل كده لما جتله اول مرة انها عنده هنا.
تنهد "إياد" بسأم ، لكنه سايره بفتور قائلا:
-طيب هي فين يا توفيق بيه ؟ .. لو كان كلامك مظبوط كان زمانا لاقيناها هنا و لا هنا ، انما هي مالهاش اي اثر في البيت كله.
حول "توفيق" بصره إلي "عاصم" فرمقه بحقد و عداء ، ثم لوح بيده في حركة عصبية و هو يهتف:
-اوعي تفتكر ان الموضوع خلص لحد هنا .. لأ يا عاصم يا صباغ .. ده ابتدا ، و انا و انت و الزمن طويل.
و إستدار بغضب متجها إلي خارج المنزل ، بينما تنحنح "إياد" بشيء من الحرج قبل أن يقول بلهجة هادئة:
-انا بعتذر عن اللي حصل يا عاصم بيه .. ارجو تكون متفهم الوضع ، دي واجبات لازم كل ظابط يأديها.
و أعتذر منه للمرة الأخيرة و أمر باقي رجاله بالإنسحاب ثم تبعهم إلي الخارج ..
إنتظر "عاصم" حتي خلا المكان وإستدار ليواجه أهل بيته .. فصاح في الخدم بعنف:
،-هي فيين ؟ راحت فين ؟ .. ازاي مش موجودة في اوضتها و في البيت كله ؟ انتوا كنتوا فين ؟ ازاي محدش منعها ؟؟!
ردت إحدي الخادمات بشيء من التوتر:
-يا عاصم بيه احنا كلنا واخدين اوامر من حضرتك بمراقبة الهانم منغير ماتحس .. و احنا و الله ماقصرناش ، لحظة ما بتخرج من باب اوضتها كلنا بنحط عينا عليها ، مستحيل تكون خرجت من القصر .. انا بأكد لحضرتك .. مستحيل !
هدر "عاصم" بشراسة:
-يبقي تقلبوا البيت كله عليها .. دقايق و تجيبوهالي هنا.
إمتثل الجميع لأمره ، بينما برز صوت "شهاب" المتجهم فجأة:
-ماما عايزاك يا عاصم.
إلتفت "عاصم" إلي شقيقه و ملامحه تنطق بالغضب ، فقال بإقتضاب واجم:
-بعدين هبقي اروحلها.
باغته "شهاب" بسؤال:
-مش مصطفي علام ده بردو يبقي الراجل اللي قولتلي انه نصب علي بابا زمان ؟؟
حدجه "عاصم" بصمت لثوان ، ثم أجابه بإيماءة خرساء ، فإتشح وجه "شهاب" بالحنق و هو يقول بجزع:
-و انت بقي قررت تنتقم من بنته ؟ .. يعني ماكفكش كل اللي عملته فيه ! ذنبها ايه هانيا ؟ .. انا مش مصدق .. يعني انت فعلا طلعت خاطفها ؟ لأ و كمان عايز تتجوزها بالغصب !!
رد "عاصم" بإنفعال مشتعل:
-انا مش عايز حد يتدخل في الموضوع ده نهائي .. دي حاجة تخصني لوحدي ، و انا اللي هتصرف بطريقتي ..
-يا عاصم بيه .. لاقيناها .. هنا اهيه !
صاحت إحدي الخادمات بذلك ، فإندفع "عاصم" راكضا متبعا مصدر الصوت و في أعقابه يهرولا كلا "شهاب" و "زين" ..
هبط "عاصم" سلم الخدم الذي يؤدي في نهايته إلي غرفة الأغراض المهملة ..
..............................................
شعرت "هانيا" بإنها إنهزمت الأن و إنقضي الأمر ..
فتدفقت دموعها عندما تبين لها صوت "عاصم" من بين الأصوات الكثيرة حولها ..
حاولت أن تتحرك . فلم تستجب لها عضلاتها المتيبسة بفعل البرد ..
سقط قلب "عاصم" أمام مظهرها الواهن ..
كانت كالموتي دون أدني مبالغة ..
إذ أزرقت شفتاها المرتعشتان و شحب وجهها حتي البياض و أطل العجز التام من عينيها الزرقاوين النصف مفتوحتين ..
شتم "عاصم" بغضب ، ثم صاح بعصبية في من حوله:
-اوعوا .. وسعوا.
خرج البعض من القبو و تنحي جانبا البعض الأخر ..
بينما إنحني "عاصم" و مد ذراعيه و إقتلع "هانيا" من فوق الأسمنت البارد ..
غمر "هانيا" شعور من القهر و الهوان ..
فإستسلمت لتلك الإغماءة التي داهمتها في الوقت المناسب .. فقد تجشمت هذه المشقة بلا فائدة ..
و فشلها زادها تعبا و ضيقا و يأسا ..
صعد بها "عاصم" إلي غرفتها بمفرده ..
مددها بلطف ، و وضع فوقها الأغطية السميكة الناعمة.. دثرها جيدا ، ثم جلس علي طرف الفراش يتآملها ..
مد يده و أزاح خصلة تهدلت فوق جبينها .. قاوم مشاعر عنيفة متضاربة تختلج بنفسه و نهض من أمامها ..
إستدعي إحدي الخادمات لتسهر إلي جانبها طوال الليل و تعتني بها ..
و بعد تردد .. إتجه نحو غرفة أمه ..
طرق الباب مرتين ثم دلف بوجه متجهم .. :
-نعم يا امي ؟ شهاب قال انك عايزاني !
قالها "عاصم" متسائلا و هو يقف مباشرة أمام والدته ، فيما تطلعت هي إليه في إستنكار غاضب و سألته بلهجة حادة:
-البوليس اللي كان هنا من شوية ده كان جاي ليه يا عاصم ؟ .. صحيح اللي سمعته ؟ .. انت خطفت البنت دي ؟ و هي فعلا بنت مصطفي علام ؟ .. ما تنطق !!
بإنفعال مكبوت أجاب "عاصم":
-ايوه يا ماما صحيح .. هي تبقي بنت مصطفي علام و انا خطفتها فعلا.
هزت السيدة "هدي" رأسها في عدم تصديق و رددت:
-و ليهتعمل كده يا عاصم ؟ .. ليه يابني ؟ دي مش اخلاقك .. انت عمرك ما عملت حاجة وحشة في حد بإستثناء اللي عملته مع ابوها ، انا وافقتك عشان قلبي انا كمان كان محروق علي ابوك و كنت عايزة اجيبله حقه .. لكن البنت مالهاش ذنب ناخدها ليه بذنب ابوها .. حرام ربنا مايرضاش بكده.
كان يستمع إليها "عاصم" مطرق الرأس حتي يحجب عنها إنفعالاته الداخلية التي إنعكست علي صفحة وجهه ، بينما تابعت إمه متسائلة:
-البوليس اخدها و لا لأ ؟؟
و هنا رفع "عاصم " وجهه ، و تطلع إليها مجيبا بقوة:
-لأ !
إكتسب صوتها رنة عنف خفيفة و هي تقول:
-البنت دي لازم تمشي من هنا يا عاصم .. لازم تسيبها تمشي انا مش هسمحلك تآذيها.
زمجر "عاصم" بخشونة:
-انا مش هآذيها .. انا عايز اتجوزها.
-و هي موافقة تتجوزك ؟؟
حاصره سؤال أمه في خانة صعبة ، لكنه أجابها متململا:
-لأ مش موافقة .. بس انا هخليها توافق.
-و هتخليها توافق ازاي بقي.
إنفجر "عاصم" عند ذلك صائحا و قد خرج عن شعوره:
-هخليها توافق يا امي ، عندي مليون طريقة ، و مش هيسيبها حتي لو انتي فضلتي تزني عليا ممكن اخدها من هنا لمكان تاني و ارجعلك بيها و هي مراتي فالأحسن تسيبيني اتصرف بطريقتي و ماتكدرنيش.
ثم أولاها ظهره الغاضب و رحل مسرعا ..
قطبت السيدة "هدي" في حزن و قلة حيلة و هي تتضرع إلي الله أن يعصم إبنها من أي شر قد يهدده ، حتي و إن كانت تلك الفتاة التي إنتزعت منه وجها أخر لم تراه فيه أمه من قبل قط ..
***************************
في الصباح التالي ..
كانت السماء متجهمة و المطر ينهمر بغزارة كحراب من فضة ..
بينما تمطأت "هانيا" في فراشها بكسل متأوهة ، فقد شعرت بعدة وخزات متفرقة بإنحاء جسدها .
إزاحت جفنيها عن عينيها .. و إستغرقت دقيقة حتي تذكرت ما حدث ليلة أمس ..
لقد تركت غرفتها لتوافي "زين" بالمكان الذي وصفه لها ، لكنها ذهبت و لم تجده هناك ..
بل وجدت موجة من الإعياء إجتاحتها و جعلتها عاجزة عن مجرد تحريك إصبعها نتيجة الخدر البارد الذي إفترش جسدها .. هذا كل ما تتذكره ..
نهضت "هانيا" من الفراش بغضب و إتجهت صوب النافذة ..
أسندت جبينها الملتهب إلي الزجاج فشعرت ببرودة مريحة ، لا تشبه البتة تلك التي عصفت بها ليلة أمس ..
فكرت "هانيا" بإنزعاج فيما حدث .. و أنبت نفسها ..
ما كان عليها أن تثق به أبدا ، فقد تلاعب بها و خدعها .. أراد أن يتسلي قليلا فمارس تلك اللعبة المشينة و أسلمها إلي صديقه في النهاية ..
كان يجب أن تعرف أنه لن يبيعه إطلاقا و لن يجرؤ علي خسارته من أجلها ، فهما صديقان مقربان قبل كل شيء تماما كما قال "عاصم" مسبقا ..
علي كل حال .. هذه غلطتها ، هي التي واففت أن تنخدع .. وثقت به و آمنت له ..
بعصبية حانقة .. عادت "هانيا" إلي فراشها و لاذت بالدفء تحت الغطاء ، نظرت إلي ساعة التنببه الرابضة فوق الطاولة المجاورة للفراش ، فوجدتها التاسعة صباحا .. مازال الوقت مبكرا بالنسبة إليها ..
فهيأت نفسها للغط في النوم مرة أخري كي تهرب فيه من واقعها المرير ..
إلا أن طرقة علي الباب أثنتها عن عزمها ، فإنتصبت نصف جالسة في ترقب ، بينما إنفتح الباب فجأة و رأت "عاصم" يدخل بقامته المديدة المهيبة و يتجه نحو سريرها بخطوات متمهلة و هو يحمل بين يديه صينية الإفطار .. :
-صباح الخير !
ألقي عليها تحية الصباح بإقتضاب ، ثم سألها و هو يضع صينية الإفطار فوق الطاولة إلي جانبها:
-عاملة ايه دلوقتي ؟ حاسة انك احسن ؟؟
أومأت رأسها إيجابا دون أن تنظر إليه .. فساد الصمت للحظات قبل أن يقطعه "عاصم" مستوضحا بنبرة حادة:
-طيب بما انك احسن دلوقتي و الحمدلله .. يا ريت تقوليلي انتي وصلتي ازاي للبدروم اللي تحت ؟ مين دلك عليه ؟؟
أجفلت "هانيا" بإضطراب و لم ترد ، لتجده في اللحظة التالية جالسا أمامها علي حافة الفراش ..
أطلقت شهقة مكتومة ، فيما أمرها بخشونة:
-اتكلمي !
كلمة واحدة فقط منه ، إلا أنها حملت من السلطة ما أشعرها بالعجز الكامل أمامه ... لكنها وجدت نفسها تجيبه بثبات:
-محدش دلني عليه .. انا اكتشفته لوحدي.
-طلعتي مش سهلة يعني !
قالها بإستهزاء و هو يعاين تقاسيم وجهها بتركيز ، بينما حدقت بدورها إلي خطوط وجهه القاتمة بعصبية حائرة ..
لمحت نظراته الجائعة تنزلق من كتفيها العاريتين إلي الشيفون الأزرق الذي يغطي صدرها ..
أسرعت "هانيا" تحجب نفسها بالغطاء ، لكنها لم تفطن لتحرك يديه إلا عندما جذبها إليه بسرعة البرق ..
شهقت بذعر ، بينما غمغم بعنف و هو يضمها إلي صدره بقوة:
-للدرجة دي عايزة تسيبيني ! .. يعني بتفضلي الموت علي انك تبقي معايا ؟ .. انتي عارفة انك كنتي هتموتي امبارح !
قالت "هانيا" من بين أسنانها و هي تحاول جاهدة أن تدفعه عنها:
-ايوه .. اهون عليا اموت و لا اني ابقي معاك .. و اظن انك عارف كده كويس.
زمجر بشراسة:
-عارف يا جميلتي.
ثم ضمها بإحكام بإحدي ذراعيه ، و بيده الطليقة أزاح حمالة قميصها الرفيعة عن كتفها و أدار فمه ليلثم بعمق باطن ذراعها ..
تلوت بعصبية بين ذراعيه ، فأفلتها بحركة فوجئية و علي وجهه إرتسمت علامات الإمتنان ..
كانت حركته بطيئة ، كسولة تقريبا كما لو أنه ربح أكثر من نصف المعركة .
بينما تآججت عينيها بعضب مستعر و هي تهتفبإنفاس متهدجة:
-انت بني ادم مش محترم خالص و لا شميت ريحة الاحترام حتي .. بتهيني و بتستغلني ! .. يا حيوان.
بنبرة جامدة رد "عاصم":
-اتجوزيني و مش هيبقي اسمه استغلال و لا اهانة .. هتبقي مراتي.
لم تعد تحتمل المزيد ، فصرخت في وجهه بضراوة:
-لأ .. لأ مش هتجوزك .. و اطلع برا بقي مش عايزة اشوفك قدامي ، مابحبش ابصلك.
لدقيقة كاملة .. لزم "عاصم" الصمت .. و عندما تكلم ، قال بهدوء حمل في طياته تهديد مبهم خطير:
-انا صبري له اخر .. و مش كل شوية هطلب منك نفس الطلب ، فأحسنلك تقبلي الجواز مني بإرادتك الكاملة دلوقتي بدل ما تلاقي نفسك قريب مضطرة تقبلي غصب عنك .. و ساعتها اوعي تقولي اني ماحذرتكيش !
لم تعير كلماته آذانا صاغية و أشاحت بوجهها عنه علامة الرفض و اللامبالاة ..
سمعت صوت تنفسه الغاضب تلاه إنصفاق باب غرفتها العنيف .. عادت تنظر في إثره الفارغ أمامها و تساءلت .. إلي متي سيطاردها ذلك الوحش الذي يربض في أعماقه ؟ ..
ذلك الوحش الذي يزأر في الظلام بعينين بندقيتين تتآججان بالرغبة التي تحركها هي في أعماقه ، كلما تفرس قليلا في وجهها أو جسدها ..
لقد أصبح جمالها نقمة عليها منذ عرفته لدرجة كرهت النظر في المرآة حتي لا تري ما يراه هو فيها و ينظر إليه بعينين ملتهبتين ...
كان الضباب يذوب تدريجيا بفعل آشعة الشمس التي بدأت تطل من جهة الشرق ..
بينما خرجت "هانيا" إلي نزهة صباحية فور الإنتهاء من الإستحمام و إرتداء الملابس ..
موعد الفطور في تمام الواحدة ظهرا ، أي بعد ساعة من الأن ، لكنها لم تكن تشعر بشهية للأكل ..
فقد مضي عليها إسبوعا عصيبا منذ حادثة هروبها الخائب الذي أثقل عليها بفشله نفسها و جسدها و لم يترك لها مجالا لتناول الطعام أو الشراب ..
تسللت من الباب الأمامي بعد أن إرتدت معطفا ثقيلا ، ذلك لأن الهواء كان باردا بعض الشيء و مشبعا بالرطوبة ..
دست يديها عميقا في جيبي المعطف و إستدارت يمينا و سارت مطأطأة الرأس في الممر الطويل المحفوف بالأشجار علي الجانبين بدون أن تنتبه إلي الرجل الذي كان يراقبها من إحدي نوافذ البيت ..
أخذت الإتجاه الذي يمر خلف المنزل ثم يمتد مسافة ميل تقريبا و سارت دون هدف و دون أن تعرف إلي أين !
لم تعد "هانيا" تري سوي صورة "عاصم" أمامها .. بعد أن إكتشف ما عزمت علي فعله بالإسبوع الماضي سد جميع منافذ الهرب بوجهها و أوصي حرسه و خدمه بمراقبتها أينما حلت قدميها داخل القصر طبعا دون أن تشعر بأنها مراقبة ..
و لكنها تعلم ذلك جيدا ، تعلم أنها تحت المجهر في تلك اللحظة بالذات ..
لا مجال الأن للهرب منه و لن يترك لها المجال مرة أخري أساسا فهو رجلا يتعلم من أخطاءه و يحرص علي ألا يقع بالخطأ ذاته مرتين ..
و لكن ضرورة إبتعادها عن "عاصم" بدأت تتزايد يوما بعد يوم ، فخلال الإسبوع الماضي سألها مرتين أن تتزوجه ، فرفضت بشدة و قسوة ..
في المرة الثانية أرعبها غضبه الجليدي حتي خيل إليها أنه سيفقد عقله ، إلا أنه تمالك نفسه و بدا عازما علي تنفيذ قرار ما لم تفهم ماهيته ..
ذكري نظرته المخيفة آنذاك لازمت مخيلتها و أزداد شعورها بالخطر يوما بعد يوم ..الأفضل لها الأن أن تلجأ إلي غرفتها بأسرع ما يمكن قبل أن يفيق ..
إستدارت عائدة إلي البيت ، و عندما دخلت إصطدمت به مباشرة .. تجمدت بمكانها ، بينما قال هو بهدوء:
-صباح الخير !
إزدردت ريقها بشيء من التوتر ، لكنها ردت له التحية بهدوء مماثل:
-صباح الخير.
سألها بنعومة:
-كنتي فين ؟؟
إبتسمت بسخرية و هي تقول بفم ملتو:
-هكون فين يعني ! .. هو انا مسموحلي اروح في حتة برا المعتقل ده ؟ .. كنتي بتمشي في الجنينة.
أومأ رأسه ، ثم قال برقة بثت القلق فيها:
-الفطار جاهز .. يلا عشان نفطر سوا.
ودت لو ترفض عرضه ، لكنه كان لبقا معها و هي لا تريد أن تبدأ الخرب الأن ، أنها بحاجة ماسة إلي هدنة كي تستطيع تجميع نفسها من جديد لتفكر في حل قاطع للخلاص منه ..
تبعته إلي غرفة الطعام ، و كالعادة سحب لها المقعد المجاور لمقعده ، و بعد أن تأكد أنها تجلس جيدا ، سحب مقعده و جلس بدوره ..
تلفتت "هانيا" حولها برهة و وجهت بصرها إليه متسائلة:
-هو انا ليه حاسة ان البيت هادي اوي !
أجابها "عاصم" و هو ينحني ليسكب في كأسها عصير التوت الطازج:
-شهاب نزل كليته انهاردة ، و ماما بتروح المستشفي كل شهر بتقضي اسبوع هناك تحلل فيه و تاخد العلاج المكثف تحت اشراف الدكاترة و بعدين بترجع تاني.
سألته بإهتمام:
-مامتك بقت تقدر تمشي علي رجليها ؟؟
مط شفتيه بآسف و قال:
-لأ للأسف لسا .. انا بطلبلها عربية اسعاف تنقلها من هتا للمستشفي لما بيجي ميعاد الاسبوع اللي بتقضيه هناك.
أومأت رأسها متفهمة ، ثم إبتهلت بصدق:
-ربنا يشفيها.
-يا رب.
قالها "عاصم" بشيء من الحزن ، ثم نظر إليها و حثها علي تجرع كأس العصير:
-اشربي العصير.
إمتثلت لآمره في براءة و راحت ترتشف العصير المُر جزئيا بتلذذ .. راقبها "عاصم" في صمت حتي أنهت الكأس ، فإبتسم بظفر .. إذ كالعادة هوالمظفار .. هو المنتصر دائما ..
رفعت "هانيا" رأسها فجأة ، فإشتبك نظرها بنظره .. قطبت بإستغراب و هي تتساءل .. لماذا يراقبها كقط يترصد فأرا ؟ .. سألته متعثرة:
-في حاجة ؟؟
هز رأسه نفيا و هو ينظر إليها بقوة و تركيز ، بينما شعرت "هانيا" بثقل في رأسها فجأة فسألها:
-احطلك عصير كمان ؟؟
هزت رأسها بالرفض ، و شعرت بدوخة خفيفة و هي تقول:
-لأ .. انا .. انا عايزة اطلع الاوضة.
-بسرعة كده ؟ انتي حتي مأكلتيش و احنا لسا في اول النهار .. خلينا مع بعض شوية يا جميلتي .. لسا بدري.
لمست الوعيد الخفيف في صوته ، فتقلصت عضلاتها لإحساسها بأنه قد تخطي اللباقة إلي شيئا أخر !
فقد بدا كرجل يضع نصب عينيه هدفا معين لا تفهم دوافعه إليه ..
إذ هكذا هو أصلا .. حين يتوق إلي شيء لا يتواني عن تحطيم أي عقبة تمنعه عنه ..
زحفت يده الغليظة عبر المائدة و أمسكت بيدها الصغيرة .. إنتفضت "هانيا" و كأنها أصيبت بماس كهربائي ..
نظرت إلي عينيه و هالها ما رأته .. تملكها غضب و خوف ، فهبت من مجلسها و تراجعت بعنف و هتفت و هي تقاوم ذلك الدوار الذي طفي علي كيانها:
-انا عايزة اطلع الاوضة .. عن اذنك.
أحست بوجوب الهرب منه بأقصي سرعة ، فخطت مسرعة بعيدا عنه ، لكنها تعثرت قبل أن تتخذ خطوة واحدة ..
فإمتدت يداه كما البرق لتسندها ، و سرعان ما شدها إليه ، ثم تمتم و قلبه يخفق متسارعا:
-اعذريني .. لازم اضمن انك هتبقي معايا علطول .. لازم اضمن ان محدش هيجي ياخدك مني تاني.
إذن ظنها كان في محله .. إنه يخطط لشيئا ما ، إتسعت عيناها الزائغتين بيأس و هي تقول بصوت مخدر:
-اوعي .. نزل ايدك .. انت عايز مني ايه ؟؟
دفس نصف وجهه المشوه لدي عنقها و هو يهمس بحرارة:
-انا اسف .. انا اسف بجد علي اللي هعمله فيكي .. بس انتي ماسبتليش اختيار تاني !
لم تتأكد من قصده ،لكنها شعرت بشيء يتململ في داخلها ، كإشارة رادار تنذر من غزو محتمل ..
إشتد ثقل رأسها ، فغامت عيناها و حواسها .. كما دارت الدنيا من حولها فجأة ، فأرجعت رأسها للوراء و تراخي جسدها بين ذراعيه ..
كانت لتسقط لو أنه لم يمسك بها .. رفع "عاصم" وجهه و نظر إليها ، فتأكد من تأثير مفعول المخدر الذي وضعه لها بالعصير ..
إنحني و هو يلف ذراع حول كتفيها و يضع أسفل ركبتيها الذراع الأخري ..
رفعها بين ذراعيه بخفة و خرج من حجرة الطعام ..
متجها بها نحو غرفته .