الجزء 9: الكابوس

راح "توفيق" يذرع نطاق حجرة الجلوس جيئة وذهابا ، و هو في حالة نرفزة و إضطراب بينة ، كأن شيئا ما ينقصه ..
بينما تفجر سيل من الأفكار السوداء داخل رأسه دفعة واحدة .. إذ أين إبنة شقيقه الأن ؟ .. أهي بحوزة "عاصم الصباغ" ؟ أم قصدت مكانا أخر ؟ أم أن مكروها أصابها و هي لا زالت داخل القسم أصلا !
برزت أوردته و أحمرت أذنيه غضبا ، بينما نهض "رشدي" من مجلسه و تقدم صوبه قائلا بإعتراض متبرم:
-و بعدين يا توفيق ؟ هتفضل تهري و تنكت في نفسك طول الليل كده و لا ايه ؟ اهدا شوية امال.
قطب "توفيق" في إنفعال قائلا و هو لا يزال مستمر في المشي طولا و عرضا:
-اهدا ! اهدا ازاي يا رشدي ؟ اهدا ازاي و انا مش عارف بنت اخويا فين و لا ايه اللي حصلها ؟ انا هتجنن !
-مش الظابط قالك انها خرجت ؟ خلاص بقي بطل قلق و عصبية هي اكيد هتكلمك.
أجابه "توفيق" و أعصابه الثائرة ترجف صوته:
-و انا ايش عرفني اذا كانت خرجت و لا لأ ! مش يمكن حصلها حاجة و الظابط بيكدب عليا ؟؟!
-يا اخي ماتقدرش البلا قبل وقوعه ان شاء الله خير.
و هنا دق جرس الباب ، فإلتفتا الأثنان في نفس اللحظة ينظران إلي الباب لثوان دون حراك ..
حتي سارع "رشدي" بفتحه .. ليتسمر بمكانه لبرهة ..
فالطارق الواقف أمامه بوجه شاحب و أنفاس لاهثة .. لم يكن سوي "هانيا" ..
تهلل وجه "رشدي" و هو يهتف دون أن يحيد بنظره عنها:
-حمدلله علي السلامة يا ست البنات .. توفيق ، يا توفيق تعالي بسرعة.
آتي "توفيق" مهرولا .. و جمد بمكانه عندما رآها أمام عينيه ..
بينما تحطم ثباتها في تلك اللحظة و فرت الدموع الحبيسة من مقلتيها الزرقاوين و هي تقطع المسافة الفاصلة بينها و بين عمها ، لترتمي بأحضانه منفجرة بالبكاء ..
إحتواها "توفيق" بين ذراعيه بعاطفة أبوية دافئة ، و راح يمسد ظهرها بيديه ..
لم يتفوه بحرف ، فقط تركها تبكي علي سجيتها مكتفيا بتأرجحها في لطف بين ذراعيه و فمه فوق شعرها الأشقر ..
فيما تعالي صوت نشيجها المكتوم بمرارة حارقة فتتت قلب "رشدي" الذي وقف يراقبهما في صمت تام ..


كانت غرفة مكتب "عاصم" مظلمة .. لا يضيئها سوي نور خافت منبعث من ثريات بأعلي السقف المنحوت من الخشب و الذي أضفي علي الجدران البيضاء جوا من الهدوء لم يكن له صدي لدي الرجل الذي كان يذرع الأرض ذهابا و إيابا كالنمر الهائج ، بينما صاح و قد ألهب الغضب عينيه:
-وكيل النيابة الغبي .. سابها تمشي .. مستحيل تهرب مني .. مستحييل.
باغته "زين" منفعلا بقوله:
-انا عايز اعرف انت ايه اللي مضايقك دلوقتي ؟ انت مش خلاص عملت كل اللي انت عايزه و خدت منها المخزن و منغير ما تدفعلها و لا مليم كمان ! عايز منها ايه تاني بقي يا عاصم ؟؟!
عند ذلك ، إستدار "عاصم" إليه بوجه مظلم غاضب ، أضاءه نور المصباح الرابض فوق المكتب فألقي ظلالا من زاوية غريبة علي وجهه أظهرت شموخ وجنتيه ، و كانت الندبة الغائرة بجانب وجهه الأيمن داكنة وحدودها واضحة و محتقنة ، فيما رد بوحشية:
-عايزها .. عايزها هي يا زين .. و هجيبها هنا ، مافيش قوة هتمنعني عنها ، مش ممكن اسيبها تفلت من بين ايديا بالسهولة دي.
إستوضحه "زين" بلهجة صلبة:
-يعني ايه مش فاهمك ! قصدك ايه ؟؟
ثم رفع يده و هز بسبابته و هو يقول له محذرا:
-انا مش هسمحلك ابدا تأذي البنت دي .. انت صاحبي اه ، لأ و اخويا كمان .. لكن لو وصلت بيك افكارك الانتقامية لدرجة انك بتفكر تأذي واحدة مالهاش اي ذنب في اللي حصل .. بدل ما اكون معاك هبقي ضدك يا عاصم.
-انا مش هأذيها !
هتف "عاصم" بنزق منفعل ، ثم زمجر قائلا:
-انا عايزها جمبي بس .. عايزها تبقي تحت عنيا.
تغضن جبين "زين" بعبسة حائرة ، فسأله:
-و هتستفاد ايه من ده كله يعني ؟؟!
أجاب "عاصم" بصرامة و عيناه تتوهجان بعاطفة غامضة:
-انا عايزها جمبي و بس .. بعدين بقي ابقي اشوف هتصرف معاها ازاي.
ثم سأله بضيق و خشونة:
-هتساعدني و لا لأ ؟؟
حدجه "زين" في صمت ممتعض ، ثم تنهد بثقل و أطرق رأسه مذعنا ...


علي الطرف الأخر ..
تناولت "هانيا" فنجان الشاي من يدا "رشدي" بيدين مرتعشتين ، بينما مد "توفيق" يده و ربت علي شعرها بحنان ..
ثم إنتظر حتي إرتشفت القليل من المشروب الساخن و سألها بلطف و هدوء:
-طيب ماتصلتيش بيا ليه بعد ما خرجتي ؟ قلقتيني عليكي اوي يا حبيبتي .. كنت هنزل ادور عليكي في الشوارع.
بلهجة مرتجفة ردت "هانيا":
-كنت خايفة يا انكل .. و انا جاية في السكة كنت مرعوبة و جسمي كله بيتنفض .. متخيلة في اي لحظة هايوصلي و ياخدني لبيته بالعافية .. انا مش مصدقة اني قدرت اهرب منه بالسهولة دي ! طلع انسان مش سهل ابدا .. بس الحمدلله ربنا حماني منه و ان شاء الله هينساني و يحل عني.
إحتقن وجه "توفيق" بشدة لسماع ذلك ، فقال و أسنانه تصطك من الغضب:
-خليه يقرب منك الجبان ده تاني و انا و شرفي لهقتله .. علي جثتي انه يمس شعرة منك .. هو فاكرك مالكيش حد و لا ايه ؟؟!
-ماتقولش كده يا انكل .. انا محتاجاك دلوقتي اكتر من اي وقت تاني .. و ان شاء الله البني ادم القذر ده هيبعد عني.
ثم أعادت الفنجان إلي الصينية فوق الطاولة أمامها ، و نظرت إلي "رشدي" تشكره بإبتسامة بسيطة قائلة:
-شكرا يا انكل رشدي علي الشاي.
منحها "رشدي" البسمة عينها و قال:
-العفو يا ست البنات .. و لو اني كنت حابب اقدملك الشاي بعد العشا ، ده انا بعت صبي من صبياني اللي تحت في الورشة يجبلنا شوية مشويات وصاية من شارع الحاكم ، احلي اكل تاكليه من هناك و المحلات في الشارع ده مشهورة في الحسين كلها.
إبتسمت له "هانيا" بإمتنان قائلة:
-ميرسي اوي لذوق حضرتك .. بس انا للاسف مش هقدر اتعشا معاكوا لاني مجهدة جدا و عايزة انام.
هز "رشدي" رأسه و هو يقول برفض قاطع:
-لا لا لا مافيش الكلام ده .. هتتعشي معانا الاول و بعدين ابقي نامي براحتك.
-صدقني مش هقدر اكل لقمة و انا في الحالة دي .. كل اللي انا محتاجاه دلوقتي اني انام عشان اصحي بدري و اعمل شوية مشاوير مهمة.
تدخل عمها قائلا بإهتمام:
-هتروحي فين يا هانيا ؟؟
حولت "هانيا" بصرها نحوه و أجابته:
-هروح الجامعة و بعد كده هعدي علي داده قوت عشان اجيب من عندها شنطة هدومي.
-و هتروحي الجامعة ليه ؟ ريحي كام يوم و ابقي روحي براحتك.
ضحكت "هانيا" في آسي ، ثم قالت بفتور:
-انا مش رايحة ادرس يا انكل.
قطب "توفيق" و سألها حائرا:
-اومال رايحة تعملي ايه ؟؟
قالت بآسف:
-بما اني بقيت عالحديدة زي ما انت عارف يا انكل .. مش هقدر استمر في الدراسة ، فـهروح الجامعة بكرة الصبح و اسحب ورقي و بـ3 سنين اللي درستهم في الكلية ممكن ادور علي اي وظيفة و اشتغل عشان اقدر اصرف علي نفسي.
هز "توفيق" رأسه عابسا و هو يقول:
-و انتي تسيبي دراستك ليه ؟ ده انتي فاضلك سنة كمان و تتخرجي !!
-ما انا مش هقدر اكمل اساسا يا انكل .. هاجيب منين مصاريف السنة دي و السنة اللي بعدها ؟ ما انت عارف مصاريف الجامعات الخاصة عاملة ازاي.
-خلاص حولي.
أطرقت "هانيا" رأسها في خزي قائلة:
-مش هاينفع يا انكل .. بعد كل الفضايح اللي اتفضحتها مش هينفع اظهر وسط الناس تاني.
رفع "توفيق" أحد حاجبيه في دهشة مرددا:
-طب ما انتي كده كده هتظهري .. مش قولتي هتدوري علي وظيفة ؟؟
تطلعت إليه باسمة في مرارة و هي تقول:
-ما انت تدعيلي بقي يا انكل لما اروح اقدم محدش ياخد باله من شكلي و يتعرف عليا بعد ما صوري اكيد اتنشرت في الجرايد و سيرتي بقت علي كل لسان.
تنهد "توفيق" آسفا علي حالها ، ثم قال بلهجة لطيفة:
-خلاص يا حبيبتي .. اعملي اللي انتي شايفاه صح و انا معاكي .. مش هاسيبك ابدا.
أهدته "هانيا" إبتسامة رقيقة و قد عاد شعور الأمل يغزو كيانها ..
و خلال بقية الحديث .. شعرت "هانيا" تجاه "رشدي" بنوع من عرفان الجميل للإهتمام الذي يحمله إلي عمها و إليها ..
بينما كان يستعمل هو سحره بسعادة أشعرتها بإسترخاء الدفء العائلي الممتع ، كأنها تشاطر عمها المهتم بمشاكلها و الذي يدير لها آذانا صاغية .. كان هذا شعورها نحو "رشدي" ..
دقت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ، فتثاءبت "هانيا" بتهذيب و سألت علي إستحياء عن مكان نومها ..
فنهض "توفيق" و قادها إلي غرفته كي تنام فيها وحدها ، بينما يتدبر هو حاله بأي وسيلة أخري ...


-يعني ايه مش موجودة في الفيلا من الصبح ؟ هتكون راحت فين يعني ؟؟
قالها "عبيد" هادرا بصوت عصبي ، فأجابته "دينا" بمزيج من الإرتباك و الحدة:
-و انا هعرف منين هي راحت فين ؟ انت جوزها و انت اللي المفروض عارف عنها كل حاجة .. و بعدين وطي صوتك و انت بتتكلم معايا ماتنساش نفسك.
أجفل "عبيد" مضطربا ، و أعتذر منها بلهجة هادئة قليلا:
-انا اسف يا هانم .. ماقصدش سامحيني .. بس انا هتجنن .. هتكون خرجت راحت فين لحد الساعة دي ؟؟!
ردت "دينار" بخشونة حازمة:
-و الله ماعرفش حاجة زي كده .. كل اللي اعرفه قولتهولك .. هي خرجت من الصبح و لحد دلوقتي مارجعتش اكتر من كده ماعنديش كلام تاني اقوله.
هز "عبيد" رأسه مغمغا:
-هتكون راحت فين بس ؟ .. راحت فين ؟؟!
تنهدت "دينار" بتوتر ناقض صوتها الثابت الصلب عندما إنطلقت تسأله:
-طيب انتوا مالكوش قرايب هنا في القاهرة ؟ ممكن تكون راحت تزور حد منهم !
أجابها عابسا:
-مالناش اي حد هنا .. كل ناسنا و اهلنا في البلد.
عند ذلك .. دلفت "رضوي" إلي حجرة الجلوس ، و وقفت تتنقل ببصرها بين "عبيد" المتخشب و أمها المتوترة ..
ثم تقدمت ببطء صوبهما و هي تتساءل بقلق:
-ماما ! خير في حاجة حصلت ؟؟
زجرتها "دينار" بنظرة محذرة و قالت:
-مافيش حاجة يا رضوي .. عبيد بس عنده مشكلة كبيرة شوية.
ثم إلتفتت إلي "عبيد" و سألته بشيء من الإضطراب:
-انت ناوي علي ايه دلوقتي بقي ؟؟
بنصف ذهن حاضر أجابها "عبيد" و هو يفكر:
-لو مارجعتش بكرة الصبح هروح اعمل بلاغ في القسم.
إبتلعت "دينار" غصة في حلقها كادت تخنقها ، بينما إستأذن "عبيد" و أولاها ظهره و إنسحب في هدوء ..
بينما تهاوهت "دينار" علي أقرب مقعد و هي تلهث إعياءاً ، فسألتها "رضوي" بترقب:
-ايه اللي حصل يا ماما ؟؟
لم تجبها في الحال .. صمتت لثوان ، ثم قالت في شحوب شاخصة بعينيها:
-هيحصل .. هيحصل يا رضوي .. المصايب و الكوارث واقفة علي بابنا .. اخوكي هيضيع.
هتفت جملتها الأخيرة بصوت متحشرج ، ثم غطت وجهها بكفيها و راحت تنتحب بمرارة ..
تأففت "رضوي" بضيق ، ثم قالت منفعلة:
-انا نفسي اعرف انتي بتضغطي اوي كده ليه علي اعصابك ؟ روحي لبابا و خليه يتصرف معاه .. محدش هيعرف يحل الموضوع ده غير بابا.
أوقفت "دينار" نحيبها و تطلعت إلي إبنتها في صمت للحظات ، ثم أومأت رأسها قائلة بصوت خفيض:
-هروحله .. فعلا لازم اروحله.


في صباح اليوم التالي ..
أوت "هانيا" إلي الفراش ليلة أمس منهكة و قد أحست بخشونة الأغطية حين إندست بينها ..
و لكن كان ذلك الفراش أكثر دفئا و راحة مقارنة بالفراش الذي كانت تضطجعه بمنزل مربيتها البسيط ..
و هكذا عندما غاصت أكثر في عمق الفراش و أثقل النعاس جفنيها .. إنتابها إحساس بأنها تطير في الفضاء محمولة علي سحابة طرية ..
نامت ملء جفونها لفرط إرهاقها و تعبها .. و عندما إستفاقت في الصباح ، كان شعاع الشمس يغمر الغرفة الصغيرة النظيفة ذات الأثاث العريق بنور ذهبي ..
و فوجئت "هانيا" بعمها يقف بجانب فراشها و يحمل بين يديه صينية كبيرة .. :
-انكل توفيق !
قالتها "هانيا" بصوت متخدر بعض الشيء إثر حالة النعاس التي لا زالت مسيطرة عليها ..
بينما تغضن وجه "توفيق" بإبتسامة عريضة ، ثم قال و هو يجلس أمامها علي حافة الفراش:
-صباح الخير يا حبيبتي .. يلا قومي بقي عشان تفطري.
-هي الساعة كام دلوقتي يا انكل ؟؟
سألته "هانيا" و هي تتثاءب و تتمطأ بالفراش كقطة رقيقة ناعمة ، فأجابها "توفيق" و هو يضع الصينية بجوارها:
-الساعة داخلة علي عشرة تقريبا يا حبيبتي.
هتفت بتكاسل و هي تغمض عينيها نصف إغماضة بطريقة عفوية مثيرة:
-يا خبر ! ده يا دوب اقوم بسرعة عشان الحق مكتب شئون الطلبة.
باغتها "توفيق" بلهجة قاطعة:
-مش هتتحركي من هنا الا اما تفطري .. انتي ما اكلتيش حاجة من امبارح.
لم تكن "هانيا" شديدة الحماس لملاقاة ذاك النهار ..
و لكن برغم كل ما كان يخالجها من شعور بالقلق .. وجدت الخبز الساخن الذي أحضره عمها لذيذ المذاق و تناولته بشهية ..
بينما نهض "توفيق" و سألها بإهتمام و هو يحوم حولها:
-بعد ما تسحبي ورقك من الجامعة .. قررتي هتشتغلي فين بالظبط ؟؟
إرتشفت "هانيا" بعض القهوة ، ثم أجابته و هي ترجع الفنجان إلي الصينية:
-هادور يا انكل .. هلف علي الشركات و المكاتب لحد ما الاقي وظيفة مناسبة لمؤهلاتي.
و ظلت ساكنة لبرهة ، ثم دفعت صينية الطعام جانبا و شكرته ..
إحتج "توفيق" قائلا و هو ينظر إلي الطعام الذي لا يزال كما هو تقريبا:
-مأكلتيش حاجة !
-الحمدلله شبعت يا انكل ، و بعدين قلتلك لازم انزل حالا عشان الحق شئون الطلبة.
خضع "توفيق" لرغبتها و أخذ صينية الطعام و خرج من الغرفة ..
نهضت "هانيا" من الفراش متجهة إلي المرآة الصغيرة و المرتكزة فوق منضدة الزينة ..
راحت تتفحص ملامحها و ملابسها عابسة ..
لقد نامت طوال الليل بثوبها الذي لم تغيره منذ يومين ..
هزت رأسها بقوة و هي تنظر إلي نفسها بإنزعاج .. فكيف ستخرج بتلك الهيئة المزرية ؟ كيف ستذهب إلي جامعتها التي تعج بمن هم ينحدرون من عائلات رفيعة الطبقة ؟؟
قررت في النهاية أنها ستتسلح بالثقة .. نعم ، فإن كانت واثقة من نفسها حتي و لو إرتدت ثيابا بالية أو إنتعلت حذاءً رثا ، ستجبر الجميع ان ينظروا لها بإحترام و تقدير ..
و في تلك اللحظة .. تساءلت بمرارة:
-و هو معقول محدش هيبصلي بإحتقار و شماتة بعد كل اللي حصلي ؟؟!
نفضت "هانيا" كل الأفكار عن رأسها و إلتقطت منشفة كانت ملقاة فوق كرسي صغير بزاوية الغرفة ، ثم توجهت إلي الحمام ، إذ وجدته بسهولة حيث كان أمام باب الغرفة مباشرة ..
ولجت إليه و غسلت وجهها جيدا ، و راحت تهندم ملابسها قدر المستطاع ، ثم خرجت و أحضرت حقيبة يدها من الغرفة ، و غادرت المنزل بعد أن ودعت عمها الذي أصر أن يعطيها بعض النقود التي بالتأكيد ستحتاج إليها طوال غيبتها في الخارج ..
وصلت "هانيا" إلي الطريق الرئيسي ، و إستوقفت سيارة أجرة .. إستقلت في المقعد الخلفي و هي تخبر السائق الوجهة التي تقصدها ..
كانت فارغة الصبر ، لكن السائق لم يكن مسرعا في الإقلاع .. لسوء حظها وقعت في سائق بطيء !
و أقلع أخيرا .. فإسترخت "هانيا" نوعا ما و إختفت التجاعيد عن جبينها ..
بعد نصف ساعة تقريبا ، وجدت نفسها في بهو الجامعة الذي يعج بالطلبة ..
فيما إنتبهت "هانيا" أثناء سيرها أنها إستقطبت أنظار جميع الطلاب مما أزعجها ، و لكنها نجحت في تجاهل نظراتهم مرتدية قناع الكبرياء و الثقة بالنفس ..
كانت علي وشك الدخول إلي مكتب شئون الطلبة .. حين سمعت فجأة صوتا مألوفا يناديها ..
تسمرت بمكانها للحظة .. ثم إستدارت لتجد أمامها "جاسر" .. نعم هو "جاسر" ..
الشاب الوسيم بشعره الأسود الفاحم و عينيه الخضراوين ..
كان زميلها بالصف ، و كان يفتنها أيضا رغم انه مغرور و بدون اخلاق و لا نفع منه ..
لقد لاحقها بدوره منذ أول لقاء لهما ، و قد نجح في إذكاء جذوة الحب بينهما .. وقتها لم تستطع "هانيا" مقاومة كلامه المعسول ، لم تحاول منع نفسها من الوقوع في حبه ..
إلي أن صدمها ذات مرة بطلب مشين منافي للعرف و التقاليد و الأخلاق !
عندما طلب منها إقامة علاقة غير شرعية بينهما .. لم تصدقه في باديء الأمر ، ظنت انه يمازحها ..
لكنه اكد لها بجدية صدق قوله .. فما كان بها إلا أن صفعته بكل ما أوتيت من قوة و أنهت علاقتها به بعد ذلك .. :
-جاسر !
كانت تتمتم بغيظ .. فالمفاجأة غير سارة بالنسبة إليها ، لم تتوقع أن تلتقيه اليوم ، فهو كان أبعد ما يكون عن تفكيرها ، غير أنها لم تكن لتفضل أن يراها و هي علي تلك الحالة ..
فيما إقترب منها بخطي وئيدة و هو ينظر إليها نظرة إعتداد بالنفس و قد بدا مغرورا أكثر منه وسيما ، و وقف أمامها مباشرة ، ثم قال بنعومة ماكرة:
-لسا فاكراني ! هايل بجد.
تطلعت إليه بترفع و تحد قائلة:
-في ناس كده بيبقوا امثلة ، للخير او للشر .. او للقذارة و قلة الادب .. و انت مثال حي و قوي لحاجة من دول يا جاسر.
ضحك ضحكة مجلجة هازئة ، و عاد يقول بجفاف ساخر:
-و انتي بقي اي مثال في دول يا هني ؟؟
إغتصبت إبتسامة باهتة و أجابته بكبرياء:
-عديت بمواقف كتير اوي في اليومين اللي فاتوا .. و من خلال كل موقف .. تقدر تحطني في المثال اللي يعجبك .. باي يا جاسر.
دارت علي عقبيها ، و قصدت مكتب شئون الطلبة بوجه متجهم غاضب جراء حوارها الثقيل مع "جاسر" ..
أنهت مهمتها سريعا و غادرت الحرم الجامعي بأكمله أخيرا ..
إستوقفت سيارة أجري للمرة الثانية و أرشدت السائق إلي وجهتها الجديدة ..
قبل أن تذهب إلي بيت السيدة "قوت القلوب" لكي تحضر حقيبة ملابسها و باقي أغراضها ، عليها أن تذهب إلي مكان أخر أولا ..
بعد بضع دقائق .. أنزلها السائق أمام طريق ساكن و خاوي .. لا حركة فيه و لا صوت .. فقط الصمت المميت ..
إنها المقابر .. المنازل الأخيرة للبشر .. ذات السكون الموحش ، و رائحة الموت الذي يقترب من صاحبه اكثر يوما بعد يوم ..
مال ميزان النهار إلي الإنتصاف عندما شقت "هانيا" طريقها وسط المقابر حتي توقفت أمام مقبرة والدها ..
راحت تنظر إلي اللوح الرخامي الذي كُتب عليه أسمه و تاريخ وفاته ..
ثم بدأت تتكلم و كأنها تراه أمامها و تخاطبه:
-ليه يا بابا ؟ ليه سيبتني لوحدي ؟؟


قالتها بوهن جم و قد غشت الدموع عينيها الزرقاوين ، ثم تابعت منتحبة بصوت متحشرج:
-محدش رحمني .. كلهم داسوا عليا و ذلوني من بعدك .. اتبهدلت و اتفضحت .. سيرتي بقت علي كل لسان .. مابقتش قادرة ارفع عيني في اي حد زي زمان .. نفسي انكسرت يا بابا .. كل حاجة ضاعت مننا و انت اخترت تسيبني لوحدي و ارتحت من كل ده .. ليه يا بابا ؟ ليه مافكرتش فيا قبل ما تعمل كده ؟ ليه ؟؟
و اخذت تنشج بقوة و قد أصبحت علي شفير الإنهيار .. لم تستطع أن تتوقف عن البكاء أبدا ..
إلا عندما سمعت صوت محرك سيارة منبعث من خلفها ..
مسحت دموعها بظهر يدها و أستدارت لتجد سيارة "لكسز" فارهة تقف أمامها ، بينما ترجل من السيارة ثلاثة رجال و تقدموا نحوها في بطء ..
فيما تمكنت "هانيا" من خلال موجة الغبار الشديدة التي أحدثتها إطارات السيارة أن تتبين ملامح احدهم و الذي كان يسير في المقدمة ..
لقد كان "جاسر" ..
بصورة تلقائية .. تراجعت "هانيا" خطوة إلي الوراء و هي تهتف بريبة محتدة:
-جاسر ! ايه اللي جابك هنا ؟ انت ماشي ورايا ؟ بتراقبني ؟؟
إستمر "جاسر" وحده في الإقتراب منها بوجه عابس مظلم ، و أدركت "هانيا" من البريق الغامض في عينيه أنه ينوي بها شرا ..
فتراجعت عدة خطوات أخري للوراء و هي تقول بحدة أكثر إذ كانت خائفة .. حقا خائفة:
-عايز مني ايه يا جاسر ؟؟
قال "جاسر" و هو يجتاز المسافة بينهما بخطوات واسعة:
-عايز منك ايه ؟ .. اللي انا عايزه منك مايتقلش يا هانيا ..حالا هتعرفي انا عايز منك ايه !!
في تلك اللحظة إستدارت "هانيا" محاولة الفرار بعيدا ، إلا أنه لحق بها ..
أمسك بخصرها بقوة بذراعيه .. فأخذت تصرخ بذعر و هي تضرب الهواء بقدميها ، بينما قهقه عاليا ، ثم قال شامتا:
-صرخي زي ما انتي عايزة يا هني .. مين هنا هيسمعك غير الميتين ؟ و احنا اصلا في حتة مقطوعة.
ثم ادارها في مواجهة مقبرة أبيها و هي لا تزال سجينة بين ذراعيه و قال بتهكم لاذع:
-او اقولك .. خلي ابوكي المحترم مصطفي بيه علام يطلع من التربة و ينقذك .. لكن في كل الاحوال عايزك تعرفي ان لو الجن الازرق طلعلي هنا انا مش ممكن هسيبك الا اما اخد حقي منك تالت و متلت.
قاومته بشراسة و هي تصيح:
-مالكش حقوق عندي يا جاسر .. و سيبني احسنلك و الا آا ..
قاطعها ساخرا بقوله:
-و الا ايه ؟ هتعملي ايه يا حبيبتي ؟ خلاص زمنك عدا و راح .. دلوقتي بقيتي و لا حاجة ، علي حسب ما سمعت ابوكي انتحر بعد ما فلس و انتي اتشردتي من بعده لأ و كمان طلعتي مش سهلة و بتاجري في المخدرات .. دلوقتي مش هتقدري تعملي اي حاجة .. خلاص انهارت نفوذك و مابقالكيش ضهر و لا كبير ، لا هتقدري ترجعي مجدك تاني و تبقي هانيا علام الانسة الجميلة المغرورة ، و لا هتقدري ترفعي عينك فيا اصلا بعد اللي هعمله فيكي دلوقتي حالا انا و الشباب.
و إلتفت ينظر بخبث إلي صديقيه قائلا:
-ماحبتش اتمتع بيكي لوحدي فجبت الشباب معايا و هنعمل حفلة عليكي و هنا .. قدام قبر ابوكي.
تلوت "هانيا" بعنف بين ذراعيه و هي تصرخ كالمجنونة:
-اياك حد يلمسني او يقرب مني يا حيوانات يا كلاب.
رد عليها بضحكة كبيرة ساخرة و هو يجرها جرا نحو صديقيه .. فلم تلبث "هانيا" أن إستردت وعيها مدركة معني ما يجري ..
فتحت فمها مرة أخري تهم بالصراخ ، و لكنه أسرع بخنق صوتها بقبضته العنيفة ..
قاومته "هانيا" بكل قواها .. راحت تلكم بيديها و ترفس بقدميها دون فائدة ..
بينما امسك "جاسر" اطرافها بإحكام و ألقي بها أرضا كخرقة ممزقة ..
حاولت "هانيا" النهوض لكنه لم يسمح لها و لو بالحركة البيسطة و أنقض عليها ..
امسك شعرها بيد و مزق ثيابها العلوية باليد الأخري .. ضربته بعصبية و رفسته بغضب ، و لكنه بدا قويا جدا و غير آبه بما تفعله ..
عندما تأكدت "هانيا" من عدم قدرتها علي الخلاص منه ، توسلته بوهن:
-جاسر .. ارجوك كفاية .. ماتعملش فيا كده.
قهقه "جاسر" بخشونة و قال بقسوة:


-مش رفضتيني قبل كده و عملتي فيها خضرة الشريفة ؟ هتشوفي بقي دلوقتي ايه اللي هيحصلك يا مزة.
ثم لكمها بقوة علي فمها مما أدي إلي جرح شفتها ، و صرخ فيها بوحشية:
-ده عشان القلم اللي اديتهولي قبل كده ..
و سدد لها لكمة عنيفة اخري صائحا:
-و ده مني انا فوق البيعة .. احسنلك بقي تتعاوني معانا بدل ما تتآذي اكتر من كده و جمالك ده يتشوه.
دارت الدنيا حول "هانيا" و تشوشت رؤيتها علي إثر لكماته لها ..
لم تكن تعي ما يقوله حتي .. كانت تسمع صوته بعيدا و هي تعجز عن رؤيته من خلال عينيها اللتين أغشتهما الدموع ، أدركت "هانيا" في تلك اللحظة و هي تذرف دموع القهر و الذل بأن حياتها شارفت علي الإنتهاء .. فبعد لحظات سينتزعوا منها روحها و يتركوها حطاما ..
و لكنها سمعت بعد قليل أصوات ضجيج ، ثم توالت الأصوات المختلفة .. إلي أن ساد الصمت فجأة .. و أحست بيدين قويتين تمسكان بها ..
شهقت بذعر و وجدت القوة لتصرخ:
-سيبووني .. محدش يلمسني .. سيبوووني حرام عليكوا.
سمعت صوتا مالوفا يقول لها بدفء:
-ماتخافيش .. انتي رجعتيلي خلاص و بقيتي معايا .. محدش هيقدر يقربلك تاني .. اطمني.
تنازعت قلبها مشاعر مضادة متناقضة .. فمن ناحية كانت خائفة مذعورة لأن الصدمة التي خلفتها محاولة "جاسر" الشريرة كانت لا تزال قوية في نفسها ..
و من ناحية أخري ، أرادت أن تنجو من المصير المؤلم ، لذا تراخت و تركت نفسها لتشعر بقوة محدثها و حمايته التي تحتاج إليها الأن بصورة يائسة ..
ثم غابت عن وعيها تدريجيا و هي تشعر به يحملها بلطف صارم بين ذراعيه …



إعدادات القراءة


لون الخلفية