الجزء 3

في صباح اليوم التالي ..
إستيقظت " هانيا " من نومها القلق باكراً ، ثم إنتصبت نصف جالسة علي الفراش الصغير ذا الليونة القاسية و هي تشعر بوخز آليم بعمود ظهرها الفقري نتيجة لنومها بفراش غير مريح إطلاقاً ، مقارنة بفراشها العريض الوثير ذا الوسائد و الألحفة الناعمة ..
تركت " هانيا " الفراش متأوهة لشعورها بآلم متفرقة بجميع أنحاء جسدها ، ثم إتجهت نحو نافذة الحجرة و مدت يديها و فتحتها علي مصراعيها ، فغمر ضوء الشمس الحجرة الصغيرة ذات الأثاث القديم المتآكل ، بينما راحت " هانيا " تتآمل المكان من موضعها ..
نظرت بإزدراء إلي تلك الأبنية العشوائية المكونة من طابقين أو ثلاثة طوابق علي الأكثر ، ثم إلي هؤلاء الباعة من الناس الذين أفترشوا الأرض لبيع و عرض سلعهم لكسب رزقهم اليومي ، أثار إشمئزازها أن ترى الطعام و الخضروات معرضة لذلك الجو الملوث ، كما أثار غثيانها مرآى القاذورات منتشرة في كل مكان ، بالكاد محجوبة أسفل مجموعات من ذباب ..


شعرت أنها علي وشك التقيؤ ، فأغلقت النافذة بسرعة و إستندت إليها بظهرها ، ثم راحت تنظم سرعة أنفاسها حتي إنتظمت شيئا فشئ ، حاولت جاهدة أن تتناسي تلك المناظر الغير مألوفة بالنسبة لها ، فإتجهت نحو حقيبة ملابسها الكبيرة الموضوعة فوق آريكة بمؤخرة الحجرة ، و فتحتها ، ثم إنتقت ملابس لها كما أخرجت منشفة نظيفة ، و خرجت من الحجرة قاصدة طريق الحمام ..
و بينما كانت تعدو الطرقة الصغيرة الضيقة ، قابلتها السيدة " قوت القلوب " فإبتسمت لها بود قائلة :
- صباح الورد يا حبيبتي ، ها يا ست البنات ! نمتي كويس ؟؟
أهدتها " هانيا " الإبتسامة عينها ، ثم ردت لها تحية الصباح في هدوء :
- صباح النور يا داده ، اه الحمدلله نمت كويس و داخلة اخد دوش عشان اروح المشوار اللي قلتلك عليه.
- ماشي يا حبيبتي ، علي ما تخلصي حموم الفطار هيكون جاهز.
عندما دلفت " هانيا " إلي الحمام المتواضع ذا القاعة شديدة الضيق و التي بالكاد تتسع لفرد واحد ، لم يخطر لها أبداً أن يأتي اليوم و تتحسر علي الحمام الضخم المترف الذي خلفته وراءها ..
حمامها ذي الأرضية الرخامية بلون الفيروز ، و المغطس العاجي ذي الحنفيتين المصممتين علي شكل ثعبان و اللتين يتدفق منهما الماء الدافئ بلا إنقطاع ، و الرفوف المكتظة بسوائل الإستحمام الفاخرة و الكريمات المرطبة و الكثير من أدوات التجميل باهظة الثمن ، و السجادة السميكة الحمراء كوهج الشمس التي كانت تغوص فيها حتي كاحليها ..
كل تلك أشياء تحسرت عليها في تلك اللحظة ، و حقدت علي من ينعم و يهنأ الأن بثروتها ، لكنها أقسمت بأغلظ الإيمان أنها سوف تكتشف دهاليز الحكاية حتي تصل إليه و تثأر منه ...



كانت " رضوى " تنظر للمرة المئة إلي محتويات ذلك الطرد الذي وصلها منذ ليلة أمس ..
تلك السلسلة الفضية التي تدلي منها قرص معدني علي شكل قلب صغير ، و ذلك الفستان الليلي الحالم باللون الأسود الذي إرتدته يوم زفافها ، و أيضاً ذلك الخاتم الذهبي الذي حُفر بداخله إسم حبيبها و زوجها السابق !
تساءلت بقلب واجف و أطراف باردة ، هل عاد ؟ و إذا عاد ، ما الذي يريده منها بعد أن إنفصلا عن بعضهما ؟ بعد زواج دام حوالي ثلاثة أعوام و بعد قصة حب دامت لخمسة أعوام !
لماذا قد يرسل إليها هدياه القديمة التي أعادتها إليه كي تتخلص من ذكراه إلي الأبد ، بعد أن طلب منها دون خجل أن تعمل علي مجارية أحد رؤسائه بالعمل ، عندها شعرت بصدمة شديدة ، كانت تود لو لم تصدق كلامه ، و لكنه أبدى جديته بوقاحة جعلتها تصفعه بقوة ، بينما لم يكتفي هو برد الصفعة لها ، بل أنه إنهال عليها بالضرب المبرح حتي أدمى جسدها ..
أغمضت " رضوى " عينيها بشدة في محاولة لمنع ذكرياتها من الإسترسال بعقلها ، ثم عضت علي شفتها السفلى بقوة و هي تغالب نشيجاً حاراً أوشك علي الإنفجار ، ثم تنفست بعمق لتهدئ ثورة مشاعرها المتضاربة ، فهي تحبه و تكرهه بنفس الدرجة في آن ..
تذكرت أول لقاء لهما ، فتنها منذ البداية ، كانت فتاة في التاسعة عشر من عمرها ، يافعة في سن المراهقة ، إستطاع أن يجذبها إليه بسهولة ، بتصرفاته و لباقته الزائفة ..
كانت تشعر بالإرتباك كلما تراه ، كما كانت لا تستطيع ضبط أنفاسها ، أو السيطرة علي آلم معدتها مما كشف لها مدى سرعة وقوعها في غرامه ، بينما راح يتودد إليها شيئاً فشئ ، حتي أوهمها أنه مفتون بجمالها و جاذبيتها ، كما أنه يحبها و يريد أن يتخذها زوجة له لينعما بالسعادة و الهناء ، و بالفعل ، تزوجا بعد مدة قصيرة ، و ما لبثت " رضوى " إكتشفت خباياه و نواياه ، فبعد مرور أشهر قليلة من زوجهما إعتادت منه صفات و آفات جديدة لم تعهدها فيه من قبل ..
فقد كان كثيراً ما يعود من صالات القومار إلي المنزل في ساعة متأخرة من الليل ، كما أن شراب الكحول كان شئ مقدس يقوم به مساء كل يوم ، غير قائمة النساء التي إكتشفتها مع مرور الوقت ..
أحياناً كانت تتذرع بالصبر لأنها تحبه ، و أحياناً أخرى تستعمل معه طريقة الصمت الغاضب إلي أن يأتيها ببقات الأزهار التي تحبها كثيراً ، فيستعيدها إليه من جديد دون عناء ، يمنحها نظرات مشحونة بالحب و العاطفة فتذوب برقته و عذوبته و كلماته المعسولة ..
و لكن سريعاً ما مزقت حقيقته فؤادها حين بدا لها أنه شخص وضيع لا يضيره أو يعيبه إذا دنس شرفه بيده ..
تنهدت " رضوى " بثقل ، ثم همست واهنة :
- فينك يا بابا ، اجيبك منين دلوقتي ؟؟



كان ظهراً باردا يحيط بقصر " عاصم الصباغ " عندما دلف " زين " إلي المكتب الواسع صائحا في تساؤل :
- ايه يا عاصم في ايه ؟ جايبني من الشغل علي ملا وشي ليه ؟؟
تطلع إليه " عاصم " و العبس الممزوج بالغضب يملأ أركان وجهه ، ثم أجابه بصلابة مشيراً إلي بعض الأوراق فوق مكتبه :
- انت مش شايف ان الورق ده ناقص ؟؟
قطب " زين " حاجبيه مستغرباً ، ثم إتجه نحوه حتي وقف إلي جانب مقعده ، و إنحني بجزعه قليلا ليتفحص الأوراق ، ثم سأله :
- ورق ايه ده يا عاصم ؟؟
- مش واضح و لا ايه ؟؟
سأله محتداً ، فنقل " زين " بصره بين صديقه و بين الأوراق في شيء من الإضطراب ، ثم قال بتركيز و عيناه لا تزالان علي الأوراق :
- ده ورق حجج و ملكيات ، دي حاجات مصطفى علام صح ؟؟
- قصدك حاجات طايع الصباغ .. ابويا.
صحح " عاصم " كلامه بجمود ، فأومأ " زين " رأسه ، ثم إستدار حول المكتب و جلس فوق المقعد الجلدي قبالة صديقه ، ثم سأله :
- طب ايه اللي ناقص في الورق يا عاصم ؟ ما انت بيعت كل حاجة لنفسك بالتوكيل اللي عملناه و اللي وجيه عليان رجعهلنا بأمضة مصطفى علام !
- فيلا المنصورية.
- فيلا المنصورية !!
ردد " زين " جملته في إستغراب حائر ، فتابع " عاصم " :
- بيتنا .. بيتي اللي اتولدت فيه ، و اللي انطردت منه انا و عيلتي من عشرين سنة.
عند ذلك صاح " زين " متذكراً :
-اااه افتكرت .. بس يا عاصم البيت اتهد من سنين و اتحول لمخزن و انت عارف كد ...
- انا عارف انه تحول لزفت.
قاطعه " عاصم " منفعلا ، ثم أردف بشيء من الهدوء :
- بس بما اننا ضمينا كل الاملاك لينا ! فين عقد او حجة الارض دي ؟؟
- اللي اعرفه وقت ما تممنا الموضوع كله ان مصطفى علام كان كاتب لبنته حتة ارض ممكن تكون هي اللي اتبنى عليها المخز ..
- بنته !!
هتف " عاصم " مشدوهاً ، ثم سأله مقطباً :
- هو عنده بنت مش ولد ؟!!
- اه عنده بنت ، مش صغيرة اوي و لا كبيرة اوي يعني في العشرينات كده.
- ازاي تبقي عارف حاجة زي دي و ماتقوليش ؟؟
سأله غاضباً ، فأجفل الأخير في توتر قائلا :
-انت ما سألتنيش .. و بعدين ايه اللي يهمك في كده يعني ؟!!
لم يجبه " عاصم " بل صمت يفكر لثوان ، ثم نظر إليه واجماً و قال :
- يعني قصدك تقول ان مصطفى علام كتب الارض اللي اتبنى عليها المخزن بأسم بنته قبل ما احنا نبيع لنفسنا كل الاملاك ؟؟
وافقه " زين " بقوله :
- تقريبا كده.
- انا عايز الارض دي يا زين ، دي ارضي انا.
هتف " عاصم " بصرامة ، بينما سأله " زين " بشيء من الإنفعال :
- و دي هناخدها ازاي يا عاصم ؟؟
- انا عايز اشوف البت دي ، هتهالي هنا و انا هتصرف معاها.
عند ذلك نظر إليه " زين " فاغراً فاهه ، ثم قال مستنكراً :
- بقي عايز تشوفها ؟ انت بتتكلم جد ؟؟
رمقه " عاصم " في بلادة ثم هتف بقوة :
- ايوه .. انا عايز اشوفها.



أدار " رشدي " المفتاح في القفل ، ثم دفع الباب و تقدم خطوتين داخل شقته داعياً في حفاوة حارة صديقه للدخول :
- اتفضل يا توفيق .. خش ياخويا بيتك و مطرحك.
خطى " توفيق " إلي الداخل و قد لاحت علي ثغره إبتسامة خفيفة متوترة ، فيما راح يتأمل المكان بهدوء ..
صحيح أن الشقة ليست فسيحة كمنزله ، لكنها بالتأكيد متسعة تماماً للرجلين اللذين سوف يتشاركانها ، كما أن أثاثها رغم قِدمه إلا أنه نظيف و مرتب .. :
- البيت بيتك يا توفيق ، خد راحتك عالأخر.
قالها " رشدي " في صدق باسماً ، بينما شكره " توفيق " ممتناً :
- متشكر يا رشدي ، انا مش عارف اقولك ايه ؟؟
أنبه " رشدي " قائلا :
- ايه متشكر دي يا توفيق ؟ عيب يا اخي مافيش بينا الكلام ده.
ثم أشار إلي غرفة ما :
- دي يا سيدي هتبقي اوضتك من انهاردة ، احسن اوضة عندي في الشقة ، كانت بتاعة امي الله يرحمها ، هي مش نضيفة اوي اكمنها مقفولة من سنين بس ماتقلقش الست دلال ساكنة قصادنا ، هديها قرشين و هتوضبهالك عالأخر.
- ايوه يا رشدي ، بس مش هنحرجها كده ؟ هي مالها الست و مال تنضيف بيوت الناس ؟؟
أجابه " رشدي " بإبتسامة بسيطة :
- دي شغلتها يا توفيق.
فرفع " توفيق " حاجبيه ذاهلا و سأله :
- معقول ! بتخدم في البيوت ؟؟
- نص نسوان الغورية زيها يا توفيق ، الناس هنا غلابة ، اومال هتصرف علي نفسها منين و هي وحدانية !
- ايوه بس ، خدامة !!
هز " رشدي " كتفيه قائلا :
- و ماله يا اخي ! شغلانة شريفة ماتعيبهاش.
ثم أضاف بلا إكتراث :
- المهم دلوقتي ، خش خدلك دوش و غير هدومك علي ما اندهلها توضبلك الاوضة.
أومأ " توفيق " رأسه باسماً ، ثم إتجه إلي الحمام متبعاً إرشادات صديقه ...



كان منزلا جميلا بحجارته الرمادية البارزة و نوافذه الواسعة و رواقه ذي الأعمدة الرخامية ، بينما صعدت " هانيا " عدة درجات تؤدي إلي الباب ، حيث ظلام خفيف يغطي المدخل المسقوف ، و بعد أن ضغطت زر الجرس عدة مرات ، فتحت لها الخادمة الشابة ذات الوجه البشوش ، ثم قطبت حاجبيها متسائلة :
- افندم ! اي خدمة ؟!!
منحتها " هانيا " نصف إبتسامة و هي ترمقها من خلال عينيها النصف مغمضتين ، ثم قالت مُعرفة نفسها :
- انا هانيا علام .. الاستاذ توفيق علام يبقي عمي.
عند ذلك صاحت الفتاة مرحبة :
- اهلا اهلا بحضرتك يا هانم .. معلش انا اسفة سامحيني ، بس ماتشرفتش بحضرتك قبل كده.
ثم أفسحت لها الطريق و دعتها للدخول قائلة :
- اتفضلي يا هانم ادخلي.
وقفت " هانيا " تتنهد في بطء ، ثم دلفت أخيراً إلي الداخل بخطوات ثابتة واثقة ، حتي وصلت إلي منتصف البهو الواسع ، فيما إنتبهت إلي صوت منبعث من خلفها ، فإستدارت علي عقيبتها و إذا بها تري " مروان " يهبط الدرج الخشبي بعد أن غادر العُلية الأولي الخاصة بالغرف ، بينما إتسعت إبتسامته الخبيثة بشدة حين وقع بصره عليها ، فأسرع الخطي نحوها ،فيما رمقته بإبتسامة باهتة هازئة و هي تتآمله في صمت ..
كان أنيق الملبس كعادته ، وسيم الطلة أيضاً يخطو بخفة و تفاخر تماماً كالطاووس المتغطرس ، فهو لديه كل المؤهلات الكفيلة بجذب أجمل إمرأة إليه ، إبتداء من حذاءه اللامع الثمين ، حتي نظارته الشمسية الداكنة و التي تحمل أسم أشهر الماركات العالمية بالإضافة إلي وسامته الطاغية .. :
- اهلا اهلا.
صاح " مروان " في ترحيب زائف عند وصوله إلي " هانيا " ، ثم تابع و البسمة الخبيثة لا تزال تملأ وجهه :
- اهلا بسليلة الحسب و النسب ، اهلا بيكي يا هانيا ، اهلا يا بنت عمي ازيك ؟؟
وجهت " هانيا " إليه نظرة باردة ، ثم شمخت بذقنها للأعلي في كبرياء قائلة :
- اهلا يا مروان ، انا كويسة اوي الحمدلله.
- بجد ! طب الحمدلله.
إنسكب صوته في أذنيها مرحاً متهكماً ، بينما أضاف فجأة متسائلا :
- بس يا تري اعصابك ازيها دلوقتي بعد ما عرفتي اخيرا ان عمي ، مصطفي بيه علام باع كل حاجة يملكها لرجل الاعمال عاصم الصباغ ؟؟
أصيبت " هانيا " بصدمة قوية لدى تفوهه بتلك الكلمات ، لكنها أخفت مشاعرها بسرعة كي لا تعطيه فرصة الشماتة من دهشتها البالغة ، و عوضاً علي ذلك سألته بلهجة جامدة ثابتة و هي لا تزال تشمخ بذقنها :
- و انت عرفت منين يا مروان ؟ ده انا لسا عارفة الموضوع كله امبارح ، معقول الاخبار لحقت تتسرب بالسرعة دي ؟!!
عاد " مروان " برأسه إلي الخلف ، و قهقه بقوة ثم عاد ينظر إليها مجدداً ، و أجابها بقسوة متعمدة :
- يا حبيبتي انا عارف الاخبار دي من فترة كبيرة قبل ماتعرفيها انتي او تتسرب برا.
لقد نجح " مروان " الأن في زعزعت تحفظها ، فطرفت بشيء من الإضطراب و هي تعي تماماً غطرسة وجهه الوسيم أكثر من أي وقت أخر ، ما أصعب الكلام في تلك اللحظة بالنسبة إليها ، لكنها إستعادت رباطة جأشها من جديد ، ثم إنتفضت في آنفة قائلة :
- حاجة غريبة فعلا انك تكون عارف كل حاجة قبل ما انا اعرف اي حاجة.
ثم ضيقت عينيها و سألته مترقبة :
- يا تري عارف حاجة تانية انا ماعرفهاش يا مروان ؟؟
- هوووه ، عارف حاجات يا حبيبتي.
رفعت حاجبيها متصنعة الدهشة ، ثم سألته :
- بجد ! طب ايه اللي تعرفه ؟؟


تنهد بثقل ، ثم إبتسم معبراً عن سروره بحالتها المزرية التي حاولت إخفاؤها خلف قناع الشموخ و الكبرياء ، ثم أجابها متشدقاً :
- اعرف مثلا ان ابوكي اتغدر بيه ، مابعش حاجة بمزاجه ، و لو هتسأليني مين اللي غدر بيه هقولك بجد ماعرفش ، و اعرف كمان انه كان بينه و بين عاصم الصباغ عداوة قديمة و بردو للأسف ماعرفش اسبابها !
قطبت " هانيا " حاجبيها و هي تفكر ملياً بكلامه ، ثم صاحت متسائلة :
- فين انكل توفيق ؟؟
- ما دي بقي الاخبار القديمة اللي المفروض تكوني عرفتيها.
- قصدك ايه مش فاهمة ؟!!
- افهمك يا ستي .. انا ، رفعت قضية حجر علي عمك.
أصيبت " هانيا " بصدمة أكثر قوة هذه المرة ، بينما إستطرد " مروان " غير مكترث بتعبيرها المصدوم :
- هو بقي زعل و ساب البيت و مشي.
ثم أضاف بتهكم مزدر :
- عارفة انا عملت كده ليه ؟ عشان ابويا بطيبة قلبه كان عايز يساعد ابوكي في المطب اللي وقع فيه و جابه الارض ، ابوكي اللي يوم ما اغتني فجأة بقدرة قادر مافكرش يمد ايده بالمساعدة لأخوه ، فتفتكري بقي دلوقتي اني كنت هسمح لأبويا يدي مليم واحد لأبوكي !!
لم تستطع إخفاء غضبها بعد سماعها كلامه الفظ ، بينما إستمر يتأمل محياها الغاضب و شفتيها الرتجفتين إنفعالا ، ثم إنطلق يقول بنبرة خبيثة خافتة :
- بس علي اي حال انا مستعد اساعدك يا هني ، شقتنا القديمة اللي في المهندسين فاضية ، ايه رأيك تقعدي فيها و ابقي اجي اقضي معاكي يومين كده كل فترة !
إشتعلت زرقة عينيها بغضب حارق ، فإندفعت إليه رافعة كفها الصغير لتصفعه علي وجهه .. :
- يا حيوان ..
و لم تستطع أن تكمل ، إذ أمسكها و جمدها دون جهد يُذكر ، ثم نظر إليها متفحصاً بجرأة قائلا بأسلوبه الوقح :
- ايه يا هني ! اهدي مالك بس يا حبيبتي ؟ انا بس صعبان عليا الجمال ده كله يتمرمط و يتبهدل في الشوارع و عالأرصفة ، يعني انا اولي يا حبيبتي فكري كويس و انتي معايا مش هتتبهدلي و هتبقي بكرامتك ، و بعدين مش بيقولوا جحا اولي بلحم توره
نزعت يدها من قبضته بشراسة قائلة :
- القذارة حاجة مش جديدة عليك يا مروان.
إبتسم " مروان " و كأنها أمتدحته بأطراء ، ثم أجفل يشكرها :
- الله يحفظك يا حبيبتي شكرا.
رمقته في إزدراء من أعلي إلي أسفل ، و همت بالرحيل إلا أن صوت السيدة " دينار " الناعم إستوقفها :
- معقول ! هانيا عندنا ؟؟
إلتفتت " هانيا " مرة أخرى لتواجه السيدة بإعتداد بالنفس ، بينما تابعت " دينار " برقتها المعهودة :
- اهلا يا حبيبتي ، عاملة ايه ؟ اسفة ماقدرتش اجي اعزي في المرحوم اصل في مشاكل عندنا هنا ، مشاكل كبيرة مالهاش حل.
- و لا يهمك يا انطي.
قالتها " هانيا " بصلابة ناعمة ، ثم أردفت :
- انا كنت جاية لأنكل توفيق بس اكتشفت انه مش موجود.
- لو عايزاه ضروري اتصلي بيه ، هو مابيردش عليا ، بس اكيد هايرد عليكي انتي.
نطقت أخر كلماتها بفتور ، فأومأت " هانيا " رأسها بإبتسامة مصطنعة ، ثم إستدارت مرة أخرى لترحل ، فإستوقفها " مروان " هذه المرة قائلا بتراخ :
- استني يا هانيا انا خارج هوصلك في سكتي.
إدارت " هانيا " رأسها إليه قائلة بحدة :
- سكتتا مش واحدة يا مروان.
ثم غادرت منزل عمها ، يتآكلها الغضب و الهوان ، بعد أن قابلها " مروان " بوقاحة و فظاظة و أهانها بقسوة كما توقعت ..
حاولت أن تتناسي ما حدث منذ قليل و ركزت علي أشياء أخرى ، عندما تصل إلي منزل مربيتها الخاصة بحي ( الوراق ) ستتصل بعمها ، فيجب أن يتقابلا بأسرع وقت ..
كان من السهل الوصول إلي المنطقة المنشودة ، و ذلك بإتباع خطوط وسائل النقل و المواصلات ، لكنها أسرعت الخطى لأن الليل كان قد بدأ يخيم برغم الشمس الغاربة التي كانت تعزز جمال السماء و الأرض ، و التي جعلتها تخف سيرها بالرغم منها لتفكر ملياً بمشكلاتها ...


عندما فرغ " توفيق " من الإستحمام و أرتدى ملابسه الثقيلة التي حتماً ستقيه البرد في تلك الأيام الشتوية القارصة ..
خرج إلي غرفة الجلوس المتواضعة ، فوجد " رشدي " قد أعد الشاي الساخن و بعض الوجبات السريعة لكليهما ، بينما صاح " رشدي " لدى رؤيته :
- ها يا سيدي ! خلصت اخيرا ، تعالي بقي اشرب الشاي معايا و كلك لقمة لحد ما الست دلال تخلص الاوضة.
لبى " توفيق " دعوة صديقه بكل سرور ، أذ جلس علي الآريكة إلي جواره و أمسك بكوب الشاي و بدأ يرتشفه ممتناً لدفئه الغامر ، بينما آتت السيدة "دلال " في تلك اللحظة قائلة و البسمة تعلو شفتيها :
- خلاص يا اسطى مجالات ، الاوضة بقت زي الفل.
إصطدم نظر " توفيق " بنظرها ، و لاحظ نظراتها المتفحصة له فأجفل مضطرباً ثم سعل في إرتباك ، بينما قال " رشدي":
- تسلم ايدك يا ست دلال.
ثم نهض متجها صوبها ، و مد لها يده ببعض النقود ، فنظرت إليه و قالت معترضة :
- لا و الله ماخد حاجة هو انا عملت ايه يا سي رشدي ؟ دي حاجة بسيطة.
أصر " رشدي " في حزم قائلا :
- معلش يا ست دلال خديهم عشان بعد كده اما اعوز منك حاجة ابقي اقولك.
إبتسمت " دلال " برقة ، ثم قبلت النقود قائلة :
- ماشي يا سي رشدي ، من يد مانعدمها ، تؤمرني بحاجة تاني ؟؟
- توشكري يا ست الكل.
ثم وجهت نظرها إلي " توفيق " قائلة بتمهل :
- طب عن اذنكوا بقي ، فوتكوا بعافية.
و غادرت الشقة أخيراً ، فزفر " توفيق " في إرتياح ، بينما عاد " رشدي " يجلس إلي جواره متسائلا :
- ايه يا توفيق ! مالك ؟؟
هز " توفيق " رأسه قائلا :
- مافيش ، مافيش حاجة يا رشدي.
ثم سأله مغيراً مجرى الحديث :
- مش هتقولي بقي ايه حكاية مجالات دي ؟؟
ضحك " رشدي " بخفة ثم أجابه :
- اقولك يا سيدي .. بقي انا زمان من ساعة ما امي اتوفت الله يرحمها ، سيبت شغلي و قعدت مكتئب في البيت فترة ، كانت حالتي زي الزفت ، اصل الحجة كانت ونيستي في الدنيا و كانت واخدة بحسي في البيت ، و لما ماتت حسيت بالوحدة ، المهم جيت في يوم و زهقت من القاعدة في البيت ، و في نفس الوقت حبيت يكون شغلي حر ، ففتحت ورشة حدادة هنا تحت البيت ، بقي يجيلي زباين ياما و منهم اللي كان بيسألني عن ورش لشغل تاني غير الحدادة فكنت بلم شباب المنطقة اللي متعلم فيهم اي صنعة كنت باخده هوا ، و زي ما بتقولوا عندكوا في الشركات وسعت نشاطي ، خدت محل تاني هنا في الحتة بردو و بقي عندي صنايعية كتير ، اللي حداد و اللي نقاش و اللي نجار و اللي مكيانكي و اللي حرامي.
- حرامي !!
هتف " توفيق " مشدوهاً ، فأومأ " رشدي " رأسه قائلا :
- اه حرامي بس شريف.
- طب تيجي ازاي دي يا رشدي ! حرامي شريف ازاي يعني ؟!!
- اقصد يعني واد جدع و ذكي و ايده خفيفة ، ما دي صنعة بردو ، بس ايه مابيسرقش عمال علي بطال كده لأ ، لما بيكون حد ناصب علي حد بنرجع الحق لاصحابه و كده يعني.
أومأ " توفيق " رأسه متفهماً ، بينما أضاف " رشدي " باسماً :
- بس يا سيدي ، و من ساعتها و انا شهرتي مجالات ، رشدي مجالات.
إبتسم " توفيق " بدوره قائلا :
- ماشي ياسطي مجالات.



أعدت السيدة " قوت القلوب " وجبة العشاء ، ثم وزعت الأطباق علي طاولة الطعام ، و قالت تخاطب إبنتها التي وقفت إلي جانبها تعاونها :
- يلا يا هنا ، روحي خبطي علي هانيا ، قوليلها العشا جاهز.
نظرت " هنا " إلي أمها مغتاظة ، ثم قالت متذمرة :
- انتي بتستفزيني يا ماما ؟ انا مش طايقاها اصلا تقومي تقوليلي روحي قوليلها العشا جاهز ! مش رايحة.
تركت الأم أطباق الطعام من يدها صائحة :
- كده يا هنا ؟؟
ثم إستطردت بحدة :
- ماشي ، افتكريها كويس الحركة دي.
غمغمت " هنا " كلمات حانقة ، بينما ذهبت السيدة " قوت القلوب " بنفسها كي تجلب " هانيا" إلي غرفة الجلوس ، حيث نُصبت طاولة الطعام المتواضعة ..
طرقت باب حجرتها ثلاث مرات ، و لكنها لم تلقى رداً ، فأدارت المقبض و دلفت لتجدها قابعة فوق الفراش الصغير ، منغمسة في تصفح حاسوبها المحمول ( اللاب توب ) .. :
- هانيا !
إنتفضت " هانيا " منتبهة علي صوت السيدة ، ثم إلتفتت إليها قائلة :
- نعم يا داده ؟ عاوزة حاجة ؟؟
- العشا جاهز يا حبيبتي.
ضغطت " هانيا " علي شفتيهابقوة ، ثم قالت :
- معلش يا داده ، مش هقدر اتعشي ، انا شبعانة.
- ايه اللي انتي بتقوليه ده يا بنتي ؟ انتي ماكلتش حاجة من الصبح نزلتي منغير ماتفطري و فضلتي طول اليوم منغير اكل لحد ما وشك بقي اد اللقمة و بقيتي عاملة زي ورقة الخص الدبلانة.
ضحكت " هانيا " لطرافة تشبيهاتها ، ثم عادت تقول بلهجة هادئة :
- بصراحة يا داده انا حاسة ان وجودي هنا غير مرغوب فيه ، حاسة اني تقيلة عليكوا يعني.
- مش عيب تقولي كده يا هانيا ؟؟
قالتها السيدة معاتبة ، ثم تابعت :
- ده لو ماشلتكيش الارض اشيلك في عيوني ، لا زعلتيني منك بجد.
ثم عبست بملامحها ، فنهضت " هانيا " و أمسكت بيديها قائلة :
- انا اسفة يا داده ماقصدش ازعلك.
ثم طرفت مضطربة و قالت :
- خلاص روحي انتي و انا هحصلك حالا.
أومأت " قوت القلوب " رأسها ، ثم خرجت دون أن تنبس ببنت شفة ، بينما عادت " هانيا " إلي حاسوبها مجدداً ، ثم تأففت في ضيق قائلة :
- معقولة ! معقولة راجل اعمال مشهور زيه مالهوش و لا صورة عالإنترنت ؟ ازاي؟!!
ثم فجأة تعالى صوت رنين هاتفهها ، فإلتقطته من فوق الطاولة الصغيرة قرب فراشها ، و نظرت إلي أسم المتصل ، فإذا هو السيد " شركس ناصف " المحامي ، فأجابت " هانيا " علي الفور :
- الو ! .. اهلا يا استاذ شركس .. مين ده اللي عايز يقابلني ؟ .. بتقول مييين
 



إعدادات القراءة


لون الخلفية