كان "شهاب" جالسا داخل قاعة الموسيقي الخاصة - بالكونسرفتوار - يداعب أوتار غيتاره و هو يدندن بصوته العذب:
-مالي كده حيران ؟
مش راسي علي واحدة !
جوايا مليان حنان .. يكفي 100 واحدة !!
مالي كده منحوس ؟
و حالتي مقلوبة !
و كل ما احب واحدة .. ألاقيها مخطوبة !!
الاولي كانت حنين .. حبيتها 4 سنين
مش بس طلعت عروسة .. دي مخلفة بنتين !
و التانية دي كانت رانيا .. جرحتني هي التانية آا ...
قاطعته فجأة موجات ضحك أنثوية متتابعة و صاخبة ، فإلتفت بوجه عابس ليري فتاة تقف خلفه مباشرة ..
كانت في نفس عمره تقريبا ، و كانت حسناء إلي درجة كبيرة أيضا بشعرها الطويل المتفحم الذي يتوافق مع بشرتها الناصعة و عينيها الرماديتين .. :
-انتي مين و عايزة ايه ؟؟
سألها "شهاب" بإنزعاج ، بينما إستطاعت الفتاة بعد جهد جهيد أن تهدئ من نوبة الضحك الهستيرية التي إجتاحتها ، ثم قالت برقة:
-انا اسفة اوي اني قاطعتك بالطريقة دي ، لكن الاغنية كانت ظريفة اوي .. دي بتاعتك ؟؟
و عادت تضحك بقوة من جديد ، فأحمر وجهه و هو يحدجها بغيظ حانق ..
هدأت مرة أخري بسرعة أكبر ، و تنحنحت ثم سألته بلطف باسمة:
-انت شهاب طايع الصباغ .. مش كده ؟؟
تنفس "شهاب" بشيء من العنف و أجابها بإيماءة خرساء مقتضبة و هو لا يزال يرمقها بنفس الحنق ..
تجاهلت الفتاة نظراته النارية و مضت إلي القول بجدية:
-انا هاجر كمال الطحان .. جايالك مخصوص من معهد التمثيل عشان ابلغك رسالة من دكتور حسن مختار رئيس قسم المسرح.
-خير ؟؟
سألها "شهاب" بفظاظة ، فعضت "هاجر" علي شفتها السفلي بقوة و أجابت:
-احنا هنمثل مسرحية اول الشهر الجاي علي مسرح الجامعة ، و دكتور حسن اختارك عشان تكون مغني الـ Team ( الفريق ) بتاعنا ، فبعتني انا اخد موافقة مبدئية منك .. لو موافق هو بيقولك تبقي عنده انهاردة الساعة 10 مساءً في مكتبه في المعهد هو هيكون سهران هناك مع باقي الشباب.
أومأ "شهاب" رأسه ، ثم قال واجما:
-اوكي .. انا موافق .. و هبقي اروحله انهاردة في الميعاد.
إبتسمت "هاجر" بإستحسان و إستأذنت منه بتهذيب ثم إستدارت علي عقبيها و رحلت ..
راقبها "شهاب" حتي توارت عن ناظريه ، ثم تنهد بثقل و إلتفت ليجمع حوائجه حتي يرحل بدوره ...
قضت "رضوي" النهار كله في ساحة الركض الخاصة بذلك النادي الرياضي الشهير ..
و بينما كانت تمر بين الطرقات المتفرعة لتسلك طريق قاعة الحمام و تبديل الملابس .. شعرت بيد فولاذية تقبض علي رسغها و تسحبها إلي بقعة فارغة ساكنة خلف إحدي البنايات
أطلقت شهقة مكتومة و إستدارت لتري من الذي تجرأ عليها و فعل ذلك !
لتتسع حدقتيها برعب عندما إشتبك نظرها بنظر "أكرم" .. زوجها السابق ..
حملقت في وجهه ذعرة و فتحت فمها و كادت تصرخ ، فكتم "أكرم" صرختها مطبقا بكفه علي فمها ، ثم قال بهدوء و تصميم و هو يحاصرها بينه و بين الجدار من خلفها:
-اهدي يا رضوي .. اهدي لاني مش هسيبك المرة دي الا اما تسمعيني و نتكلم.
رفعت إليه نظرا خائفا و هي تسحب أنفاسها من أنفها بعنف ، فسألها بصوت أجش:
-لو شيلت ايدي هتصرخي ؟؟
هزت رأسها نفيا ، فرفع يده ببطء و حذر .. و بالفعل لم تصرخ كما وعدته ، لكنها صاحت بحدة متوترة:
-انت عايز مني ايه تاني ؟ بتطاردني ليه ؟ احنا مش اتطلقنا و نهينا كل اللي كان بينا ؟ .. عايز مني ايه تاني بقي ؟ .. سيبني في حالي لو سمحت و امشي ، كل اللي بينا انتهي من زمان خلاص.
و عندما لم يتزحزح من مكانه ، رفعت يديها بلا وعي إلي صدره لتدفعه عنها ..
و لكن ما أن شعرت أصابعها بعضلات صدره القاسية تحت القميص القطني الرقيق حتي أحست تيارا عنيفا يسري في أوصالها علي شكل إنتفاضة قوية ..
أنزلت يديها بسرعة بعيدا عنه ، و عادت تلتصق بالجدار و قد أحالها الرعب إلي قطعة منه ..
شعر "أكرم" بتلك المشاعر المتضاربة و العنيفة التي أيقظها بداخلها ، فإقترب منها كثيرا و قال بصوت مثير و هو يمرر أنامله علي وجهها برقة:
-انا عارف انك مش طايقاني و بتخافي مني من ساعة اللي حصل بينا قبل ما نتطلق .. بس انا عايزك تديني فرصة اتكلم معاكي .. انا بس عايز اقولك كل اللي عندي و انتي قرري.
لم تحرك "رضوي" ساكنا ، فتنهد بسأم و عاد يقول:
-شوفي .. انا عارف اني كنت ندل و واطي و مش راجل كمان .. لاني كنت بطلب طلبات ماينفعش الراجل يطلبها من مراته .. انا مش عارف انا كنت عايز اخليكي تعملي كده ازاي ! .. مش عارف ازاي كنت هرضي الوث شرفي بإيدي .. جايز ماكنتيش انتي فارقة معايا وقتها .. جايز ماكنتش بحبك .. بس يا رضوي انا اتعاقبت ، ربنا انتقملك مني و بنفس الطريقة.
و هنا نظرت إليه "رضوي" في تساؤل ، فأومأ رأسه و قد بدت علي وجهه ملامح الغضب و العنف التي تعرفها جيدا ثم تابع:
-بعد ما سيبنا بعض بكام شهر .. لاحظت ان مديرة القسم عندي في الشركة بتحاول تتقرب مني .. انا ماصدتهاش ، بالعكس اتجاوبت معاها لحد ما لاقيتها في يوم بتعرض عليا الجواز .. اتجوزنا فعلا بعد فترة قصيرة جدا .. و تخيلي اكتشفت انها بتخوني و احنا في شهر العسل ، و مع مين .. مع نفس الشخص اللي طلقتك عشان مارضتيش تطاوعيني و تخليني اسلمك لي بإيديا.
حدقت به "رضوي" مشدوهة ، فيما تابع بلهجة متهدجة:
-بعد ما طلقتها كنتي انتي اول حاجة جت في بالي .. قلت ده ذنبك و ده عقاب من ربنا .. حسيت ان القلم اتردلي في كرامتي و رجولتي.
و ضحك بمزيج من المرارة و الإستهزاء و هو يقول:
-قال يعني انا كنت راجل اوي قبل كده و عندي كرامة لما كنت عايز ابيعك و اقبض التمن.
ثم صمت قليلا ، و أضاف متوسلا وهو ينظر إلي عينيها مباشرة:
-انا طول الـ3 سنين اللي فاتوا دول و انا بغالب نفسي عشان ماوركيش وشي تاني .. ماكنتش عايز اقرب منك و الوثك تاني بإيدي الوسخة دي .. بس كل يوم كان بيعدي عليا كنت بحنلك اكتر من اللي قبله.
ثم قال بعينين أطل الصدق و الندم منهما:
-انا بحبك يا رضوي .. جايز قلتلك الكلمة دي كتير قبل كده ، لكن المرة دي بقولهالك و انا حاسسها طالعة من جوا قلبي بجد .. انا لو لفيت الدنيا كلها عمري ما هلاقي واحدة زيك اقدر أئتمنها علي شرفي و كرامتي في غيابي .. انا ضيعتك من ايدي مرة .. بس اوعدك لو ادتيني فرصة هشيلك جوا عنيا و مش هزعلك ابدا.
لم ترد ، فقط ظلت ترمقه بصمت غامض فأمسك يدها و رفعها ملاصقة لفمه و هو يغمغم بحرارة:
-قولي انك موافقة يا رضوي .. قولي انك موافقة ترجعيلي و انا اوعدك انك مش هتندمي ابدا .. صدقيني انا اتغيرت .. حتي كل الفلوس اللي عملتها دلوقتي عملتها بجهدي و عرقي .. قولي انك موافقة نرجع لبعض تاني يا رضوي .. اديني فرصة واحدة .. قوليها.
-لأ !
هتفت "رضوي" صارخة ، ثم إنتزعت نفسها بقوة منه و قالت بعينين دامعتين وصوت بحت نبرته:
-لأ مش هرجعلك .. انت عايز ترجعلي عشان تقدر تئتمني علي شرفك بس انا مش هقدر أئتمنك تاني علي نفسي ، انت عارف كويس انا كنت بحبك اد ايه و عارف بردو اني استحملتك عشان الحب ده ، و دي نقطة ضعفي اللي استغلتها فيا .. مهما كنت تزعلني كنت بتبقي واثق و متأكد اني هسامحك لو رجعت تصالحني تاني .. ده في الوقت اللي كانوا كل عيلتي رافضين ارتباطنا انا وقفت قصادهم كلهم و اتمسكت بيك لحد ما اضطروا يوافقوا ، انا بجد كنت بحبك اوي .. بس انت فعلا اللي هديت الحب ده بإيدك يوم ما سمحت للفكرة القذرة دي انها تيجي علي بالك اصلا.
و صمتت للحظات مطرقة ، ثم رفعت إليه وجهها الغارق بالدموع و قالت:
-مش هرجعلك يا اكرم .. مش هقدر ابص تاني في عنيك زي زمان .. مش هقدر اشوفك جوزي المسؤول عني و عن حمايتي .. اللي عملته معايا صعب انساه طول عمري .. انا مابقتش اشوفك غير في كوابيسي .. بقيت اخاف من منك و من لمستك ، مش هقدر اتعامل معاك بطبيعية زي الاول ، مش هينفع نرجع تاني خلاص .. انساني .. انساني و يا ريت تبعد عن طريقي و ماتخلنيش اشوفك تاني ابدا.
كاد "أكرم" يحرك لسانه الثقيل و يتكلم عله يثنيها عن رأيها فسارعت هي بالمغادرة ، إذ أولته ظهره و هرولت بعيدا عنه و هي تمسح دموعها بظهر يدها ...
*******************************
-يعني الدهب اللي اختارته معاكي عجبك ؟؟
قال "إياد" تلك العبارة متسائلا و هو يخاطب "هنا" الجالسة في المقعد المجاور لمقعد القيادة بسيارته ..
إبتسمت "هنا" إبتسامة لم تصل إلي عينيها و قالت بلهجة هادئة:
-اه .. عجبني اوي.
قطب "إياد" مستغربا ، فسألها بإهتمام و هو يهتم للطريق أمامه في الوقت ذاته:
-مالك يا هنا ؟ .. انتي مش مبسوطة و لا ايه ؟ .. يا تري في حاجة ناقصة ؟؟
تطلعت "هنا" إليه في الحال و هزت رأسها نفيا و هي تقول:
-لأ ابدا مافيش اي حاجة ناقصة و انا مبسوطة جدا علي فكرة.
و إصطبغ اللون الأحمر علي خديها فجأة ، فإبتسم "إياد" بخفة و إستوضحها و هو ينقل نظراته بينها و بين الطريق:
-اومال مالك طيب ؟ .. مسهمة كده ليه من ساعة خرجنا من بيتكوا ؟؟
ضغطت علي شفتيها بكدر ، و أجابت:
-ماما مش مخلياني عارفة اركز في حاجة خالص.
-ليه كده ؟ .. اوعي تقوليلي عشان البنت اللي حكيتولي عنها ! .. انا علي يدك كلمت عمها و طلعتله اذن بتفتيش بيت الراجل اللي اتهمه بالخطف و روحت بنفسي مع القوة لكن الموضوع طلع كفتة.
لفظ جملته الأخير بطريقة تهكمية فكاهية أضحكتها ، فإبتسم قائلا:
-اضحكي اضحكي .. ده انا من ساعتها بقيت حديث الداخلية كلها ، كانت اول طلعة خايبة اطلعها في تاريخي البوليسي كله .. بس مش مشكلة ، انا عشان عيونك ممكن اطلع المريخ لو تحبي.
أجفلت "هنا" في خجل باسمة ، و قالت برقة ناقضت طبيعتها الجلفة عادة:
-انا اسفة اني اتسببتلك في ده بس بجد و الله احنا متأكدين ان الراجل ده هو اللي خطفها.
ثم أضافت بشيء من الندم:
-انا ماكنتش بستلطف البت دي خالص .. كنت دايما بكرهها و عمري ما حبيتها لانها كانت بتشاركني في حب امي .. ماما هي اللي ربيتها من و هي طفلة صغيرة بعد ما والدتها اتوفت لكن كمان حبيتها و يوم ما اتولدت انا سميتني اسم مقارب لاسمها من كتر حبها فيها .. و رغم كل ده .. لما ماما حكيتلي اللي حصلها حسيت لاول مرة اني بكنلها شوية مشاعر اخوية جوايا .. مش عارفة ازاي بس حسيت كمان بالندم لاني كنت بعاملها وحش و لاني كنت عايزة امشيها من بيتنا لما كانت قاعدة عندنا.
كان يستمع "إياد" لحديثها برحابة صدر ، و ما أن إنتهت حتي قال بلطف:
-انتي بتحبيها اصلا يا هنا .. من اول ما كلمتيني عنها في التليفون و انا استنتجت ده .. لكن جايز حب مامتك الزيادة ليها خلاكي تحقدي عليها شوية ، بس زي ما انتي قولتي لما شوفتيها في خطر حقيقي حسيتي بالندم .. اهو الندم ده بقي هو حبك ليها ظهر فجأة زي ما اختفي فجأة ورا غيرتك منها.
علقت "هنا" علي كلماته موافقة:
-ممكن فعلا .. انا بجد نفسي ترجع سليمة و زي ماهي .. بدعيلها و الله انها ترجع منغير ما تكون مكسورة.
مد "إياد" يده و أمسك بيدها ثم شد عليها برفق و هو يقول مطمئنا:
-ماتقلقيش .. ان شاء الله هترجع قريب .. و هترجع زي ما هي.
*******************************
داخل غرفة "عاصم" ، دقت ساعة الحائط التاسعة و النصف مساءً ..
كانت الأرض مكسوة بالسجاد الأزرق السميك ، و الجدران مغطاةمن الأرض حتي السقف بستائر بيضاء مزينة بعقد حريرية ..
فيما سائر الجدران بعض أقسامها مغطاة بألواح من خشب الجوز و بعض أخر ذي لون أبيض و محاط بأطر خشبية داكنة ..
أيضا كان لهب النار الذهبي يتوهج خلف سياج من الحديد المليف الغامق أمام موقد من الحجر الأبيض اللماع قائم عند منتصف جدار جانبي مضفيا علي الغرفة جوا حميميا دافئا
قبالةالموقد ، كانت هناك آريكة واسعة ذات غطاء مخملي أحمر عززت إحمراره تلك الوسائد البيضاء الناصعة ، و علي جانبي الموقد مقابل الآريكة مقعدان وثيران بجانبهما طاولة مستطيلة منخفضة تنعكس نار الموقد علي سطحها اللامع ..
أما بمنتصف الغرفة من الجهة الأخري .. إنتصب سرير عريض ضخم و متين .. في هذا الوقت ، تململت "هانيا" بمكانها فوقه و هي تقاوم نداء وعيها الداعي للإستيقاظ
إذ كان يلفها شعور النعاس الثقيل و يغريها بالغط في النوم وقتا أطول ، لكنها شعرت بشيء يهمس بعقلها و يدفعها إلي وجوب الإستيقاظ الأن ..
و في الأخير .. إنفتح جفناها تلقائيا .. فتركزت نظراتها علي السقف العالي ..
قطبت "هانيا" مستغربة جو الغرفة و هوائها ، بينما أحست بشيء غريب يحدث .. أو ربما حدث لها بالفعل !
و بدون وعي ، إرتفعت يداها إلي صدرها فهالها ما إكتشفته ..
غطاء أبيض من الحرير كان جل ما يسترها !!
تساءلت بذعر .. من الذي نزع عنها ملابسها ؟؟
جف حلقها و تلاحقت أنفاسها برعب حين طرأ علي ذهنها أخر مشهد عاشته قبل أن تفقد وعيها ، و بخوف .. أمالت رأسها إلي جانبها ..
فإنتفض جسدها و هبت نصف جالسة علي الفراش و هي تتشبث بالغطاء حولها ، فيما شعرها الأشقر الطويل يحيط بوجهها و كتفيها العاريتين كالشلال ..
كان "عاصم" مستلقيا إلي جانبها علي وجهه دافنا ندبته في عمق الوسادة تحت رأسه ، فظهر لها جانب وجهه السليم المنحوت ..
حدقت "هانيا" بعينين ذعرتين إلي ظهره العاري و هي لا تريد أن تفسر الوضع بالبديهة المعروفة في مثل تلك الظروف ..
هزت رأسها بإستنكار فوقعت عيناها علي الشراشف و الأغطية الملوثة بدماء عذريتها !!
و هنا .. إرتفعت إلي حلقها ألف صرخة آلم و إحتجاج و رفض علي ما حدث لها ، إنما لم تقدر أي منها أن تهرب من بين الشفتين المطبقتين بشدة و خيل إليها أن رأسها فرغ من الأفكار و أنها علي وشك أن تفقد صوابها ..
تجمعت دموع القهر و المرارة في عينيها ، فقلصت أصابعها و غرزت أسنانها في قبضتها بقوة ، ثم أخيرا أطلقت صرخة كصرخة حيوان جريح شقت ظلمة الليل ..
إستيقظ "عاصم" في الحال علي إثر صرختها و فتح عينيه واسعا ..
جلس في مكانه و هو ينظر إليها بإضطراب شديد ، حركته الفجائية هذه أسقطت الأغطية عنه و كشفت صدره العضلي الأسمر
حاول أن يمسح عن وجهه آثار النعاس .. فيما إمتد الصمت بينهما و تنامي ، فأسدلت "هانيا" أهدابها لتغمض عينيها .. فالآلم في داخلها كان حادا جدا و إلي درجة لم تستطع معها أن تتحمل رؤيته .. :
-هـ هانيا !!
قال "عاصم" بصوت خفيض و هو يحاول أن يقترب منها .. و لكنه عدل عن رأيه حين صرخت "هانيا" مرة أخري دون سابق إنذار و هي تقول بصوت مختنق مزقه نشيجها المرير:
-ليييه ؟ .. ليه كده ؟ .. ليه عملت فيا كده ؟ .. حرام عليك انا عملت فيك ايه عشان تعمل فيا كده ؟؟!!
أجفل"عاصم" بتوتر ثم مد يده و لمس كتفها العاري و هو يقول بلطف هادئ:
-ممكن تهدي طيب ؟ .. اسمعيني !
لمسة يده وقتئذ بعثت فيها حياتها الجديدة الثائرة و المفعمة بالكراهية ، فإنتفضت بعنف و هي تصرخ فيه بهستريا:
-اوعي .. ماتلمسنيش يا حيوان .. اياك تقرب مني تاني .. حرام عليك وسختني .. قضيت عليا و علي حياتي .. سرقت مني كل حاجة .. سرقت مني ابويا و بيتي و كل حاجة كانت ليا .. و في الاخر سرقت الحاجة الوحيدة اللي فضلتلي ! .. ليه كده ؟ .. ليييه لـ ..
و بترت كلامها فجأة ، إذ لم تستطع مقاومة موجة الغثيان التي جرفتها فتقيأت بقوة فوق فراشه ..
إقترب "عاصم" منها و هو ينظر إليها بجزع ثم أمسك خصلات شعرها الأمامية ليبعدها عن وجهها ، فدفعت يده و قد إزدادت حدة تقيؤها ..
راعي "عاصم" موقفها ، فتركها و شأنها حتي تستعيد بعضا من تماسكها ..
و لكن حين إلتفتت أخيرا لتواجهه لم تآبه بتاتا لشحوب وجهه المتقلص و لا للعذاب العميق في عينيه ، بينما قال هو بصوت رقيق:
-هانيا .. ارجوكي اهدي .. انا هتجوزك و انا قلتلك الكلام ده قبل كده ، عنادك هو اللي خلاني ألجأ للتصرف ده.
هزت رأسها بعنف و هي تصرخ بصوت متحشرج:
-انا مش هتجوزك ، مش هتجوزك .. و اقسم بالله طول ما فيا نفس مش هخليك تقرب مني تاني ، مش هتلمسني مرة تانية بالغصب الا و انا ميتة.
و أحكمت وضع الغطاء ملفوفا حول جسدها العاري ، ثم نهضت من الفراش ..
و قبل أن تتخذ خطوة بعيدا عنه خفضت بصرها إلي الأرض فوجدت ملابسها الممزقة متناثرة تحت قدميها ، فكتمت آناة مريرة و ركضت صوب الباب تاركة تلك الغرفة التي شهدت نهاية عذريتها بأبشع صورة ممكنة ..
كانت تعدو بين الغرف مهرولة و هي تسمع همهمات بعض الخادمات صادرة من الطابق السفلي حتي وصلت إلي غرفتها .. فأغلقت الباب من خلفها و تركت الغطاء يسقط عن جسدها ..
إتجهت بآلية نحو حمامها الخاص ، ثم وقفت تحت الصنبور لتعرض جسدها لنافورة المياه الدافئة ..
قضت وقتا طويلا تستحم بينما كانت في إستحمامها دموع قهر علي حالها إختفت مع قطرات الماء التي راحت تطهر جسدها من ذنبه ...
*******************************
إنفلت فنجان القهوة من يد "توفيق" عندما كان يجلس إلي جوار "رشدي" أمام ورشته الصناعية ..
إلتفت الأخير إليه و سأله بإهتمام:
-ايه يا توفيق ! .. مالك ؟.. انت كويس ؟؟
تطلع إليه "توفيق" بضيق و كدر ، ثم أجابه بنبرة خافتة:
-مش عارف يا رشدي .. حاسس ان هانيا حصلها حاجة !!
قطب "رشدي" بشيء من القلق ، لكنه لوح بيده قائلا:
-لأ يا اخي ماتقولش كده .. هايجرالها ايه يعني ! .. ان شاء الله هتكون بخير.
لم يرد "توفيق" .. بل نظر أمامه للاشيء و شرد بفكره في واحد فقط ..
تري ماذا فعل لها ذلك المتجبر ؟؟
عادت "هانيا" إلي غرفة نومها و هي ترتدي روب الإستحمام القصير و سارت إلي السرير الذهبي الغطاء ..
كان إتساعه الخالي يغري بالإستلقاء فوقه لساعات طويلة ، لكنها إنطرحت علي الغطاء و أخذت تبكي بحرقة لتخرج من صدرها كل تلك التعاسة التي تغرق نفسها ..
إنخرطت في البكاء لدرجة أنها لم تسمع القرع المستمر علي باب الغرفة و الذي تبعه دخول "عاصم" ..
إقترب "عاصم" منها ببطء و هو يرسل إليها نظرات قلقة .. إنحني إليها و هزها بيده بلطف هامسا بإسمها:
-هانيا !
بدت و كأنها لم تشعر بوجوده أصلا ، فسمع هو بعد قليل صوتها المكتوم في الوسادة و الممتزج بنحيبها المرير يقول:
-انا ضيعت خلاص .. انا انتهيت .. كل حاجة راحت مني.
ثم تأوهت بيأس قائلة:
-آاااااه .. انا لازم اموت .. لازم احصل بابا .. لازم اعمل زيه عشان ارتاح من كل ده.
إتسعت حدقتاه في رعب ، فقبض علي كتفيها و هتف بها:
-لأ يا هانيا .. لأ انا مش هسمحلك تعملي كده .. اوعي تفكري تعملي كده سامعة ؟ اوعي !
إنتفضت بقوة حين إكتشفت وجوده معها ، فقفزت من الفراش مرتاعة و هي تنظر إليه بمزيج من الحدة و الخوف ..
عادت القهقهري بخطوات سريعة عندما رأته يقترب منها ، ثم صاحت به و الدموع تلمع بجفنيها:
-انت عايز مني ايه تاني ؟ .. ماتفتكرش انك هتقدر تاخدني مرة تانية غصب عني .. لأ .. مش هتقدر .. فاهم ؟؟!
إستمر في الإقتراب منها و هو يقول بخشونة:
-انتي من دلوقتي ماينفعش تتسابي لوحدك .. تعالي معايا.
و مد لها يده ، فهزت رأسها بقوة و هي تتلفت حولها في يأس باحثة عن منفذ تهرب منه ..
لم يكن هناك سوي باب الغرفة ، و لكن وقوفه بينها و بينه كعمود ضخم جعل هروبها مستحيلا ..
و فيما كانت تلهث جراء خوفها منه .. وقعت عيناها علي باب الشرفة المفتوح ..
ركضت بسرعة صوبه و إعتلت السور .. تبعها "عاصم" علي الفور و قلبه يخفق ذعرا .. وقف علي مقربة منها ثم حذرها مزمجرا بعنف:
-هانيا .. انزلي .. اوعي تعملي كده .. انزلي بقولك ، لو مانزلتيش انا هـ ..
قاطعته صارخة:
-هتعمل ايه ؟ .. هتعمل ايه تاني اكتر من اللي عملته ؟ ها ! .. ما تنطق و قولي هتعمل ايه ؟؟
إبتلع ريقه بتوتر و هو يجيبها بهدوء:
-مش هعمل حاجة .. بس اهدي و انزلي .. اوعدك اني مش هآذيكي تاني ، مش هعمل اي حاجة تضايقك تاني .. كل اللي انتي عايزاه هيحصل.
هزت رأسها للجانبين و دموعها تحرق خديها الناعمين ، بينما تابع يقول بنفس الهدوء و التركيز و هو يقترب منها بخطوات بطيئة حذرة:
-كل اللي انتي عايزاه هيحصل !
و بدهاء .. إندفع كلمح البصر و أمسك بها و أنزلها من فوق السور ..
قاومته كقطة برية هذه المرة .. إذ راحت تركله و تضرب رأسه بذراعيه حتي تمكن هو من إعتقال يديها بقبضته الحديدية ..
و فيما هي تركل ساقيه ، حاولت أن تنشب أسنانها في يده ، لكنه كان متيقظ لحركاتها فلم يعطها الفرصة ..
و في الأخير عجز عن ترويضها ، فأطلق رسغيها و أحاط خصرها بيديه ثم حملها تحت ذراعه كمن يحمل كيسا من الخضروات و سار خارجا من غرفتها ..
إستمرت "هانيا" تصرخ بإهتياج دون توقف رغم أن صوتها قد جُرح و بح تماما ..
و لكن "عاصم" لم يآبه لها أو لمقاومتها الشرسة المتواصلة و لا حتي لقرفها منه ، و لم ينزلها علي الأرض إلا داخل غرفته ..
تركها هناك و أغلق الباب من خلفه بالمفتاح ثم إتجه نحو سور الدرج و هتف بأسم إحدي الخادمات التي صعدت إليه بسرعة رهيبة ، إذ كانت تتنصت هي و زميلاتها علي ما يحدث بين سيدهم و بين تلك الفتاة الغريبة عن البيت .. :
-تحت امرك يا عاصم بيه !
قالتها الفتاة و هي تنحني بتهذيب لـ"عاصم" الذي أمرها واجما بصوت أجش:
-تدخلي انتي و كام واحدة من الخدم اوضة الانسة هانيا خطيبتي و تلموا اي حاجة ممكن تآذي بيها نفسها ، الصور المتعلقة عالحيطة فازات الورد حتي المرايا شيلوها و ابعتي لواحد من الحرس يطلع يقفلي البلكونة و الشبابيك بتاعة الاوضة خالص.
أثناء كلامه .. كانت "هانيا" تضرب باب غرفته بقوة عصبية و هي تصرخ بإنهيار و هستريا ، بينما أومأت الخادمة رأسها قائلة بإنصياع:
-حاضر يا عاصم بيه .. اوامرك.
و إنحنت مرة أخري ثم ذهبت لتلبي أوامره ..
فيما زفر "عاصم" بضيق و آرق و هو يستدير عائدا إلي غرفته ..
فتح باب الغرفة ، فتراجعت "هانيا" للوراء تلقائيا و هي تهتف بإعياء واهن:
-لأ .. مش هتعمل فيا كده تاني.
بدا وجهه مقدودا من صخر ، كرجل إعتاد تحمل التعذيب بصبر كبير و صمت ..
لكنه أعلن بصرامة:
-اطمني .. انا مش هلمسك !