الجزء 14: أين المفر ؟

إشتد هطول المطر مع هبوب العواصف الشديدة ..
بينما ظنت "هانيا" أن الإغتسال بالماء الساخن سيريح أعصابها ..
و لكنها خرجت من الحمام بأعصاب مشدودة كالأوتار ..
جلست أمام المرآة تسرح شعرها .. فوقع بصرها فجأة علي علبة المجوهرات التي أهداها "عاصم" لها حين أرغمها علي إرتداء ما تحتويه مستغلا وجود أمه بينهما ..
فتحت "هانيا" العلبة لتجد العقد المزين بأحجار الياقوت الأزرق ، داخل بطانتها الحريرية و حوله باقي القطع الثمينة التي تكمل الطقم ..
حدقت "هانيا" في المجوهرات التي سحرتها بجمالها ، فشعرت أنها تسخر منها ..
فأمسكت بالعلبة و أطاحت بها في الهواء بغضب .. هزتها دموع القهر ، و أحست بالغثيان لمجرة فكرة أن هذا الرجل يريد أن يلمسها ، أو يقترب منها حتي ..
عليها الفرار من هذا المكان ، بعيدا عن هذا الرجل الذي لا يعرف حدا للإذلال و الإهانة ..
لم تعد تفكر في ميراثها ، و لا حتي في الثأر لوالدها .. كل ما تتمناه هو الفرار و إنقاذ نفسها ..
هبت "هانيا" واقفة و إتجهت صوب خزانة الملابس ، إرتدت أول شيء صادفته يدها ..
و كان ثوب أحمر قاني ، سميك ، قصير ، و لكن أكمامه طويلة و رقبته مغلقة ..
إرتدته بسرعة و هي تفكر أن أفضل فرصة يمكن أن تغتنمها لإستعمال الهاتف الأن ، إذ أن جميع أفراد الخدم آووا إلي مضاجعهم ، غير أن الساعة متأخرة و هذا الوقت لا يتجول فيه عادة "عاصم" بالأرجاء ، و إذن فهذه كانت فرصتها الذهبية ..
و في الحال خرجت من الغرفة علي رؤوس أصابعها ، نزلت إلي الرواق ، و منه مشت بخفة إلي حجرة مكتب "عاصم" ..
فتحت الباب بحذر ، و أطلت برأسها من خلال الفتحة الصغيرة ..
كان المكتب خاوي ، فإرتاح بالها .. دلفت مسرعة و أغلقت الباب خلفها ، ثم إتجهت إلي الهاتف الرابض فوق المكتب ..
رفعت السماعة و ضربت رقم عمها علي الأزرار و بقيت علي قيد إنتظار الرد بأعصاب تالفة و جبينها يتصبب عرقا رغم برودة الجو ..


مرت اللحظات ثقيلة جدا ، حتي أجاب الطرف الأخر بصوت ناعس:
-الو !
باغتته "هانيا" بلهفة و هي تجاهد كي تبقي نبرة صوتها منخفضة:
-انكل توفيق ، انا هانيا !
و سرعان ما رد "توفيق" بصوت واع متزن لا يقل لهفة عن صوتها:
-هانيا ! انتي فين يا حبيبتي ؟ بتتكلمي منين ؟ انتي كويسة ؟ حد عمل فيكي حاجة ؟؟
قالت له "هانيا" و هي تطبق أسنانها و تقاوم الدموع:
-انا جوا قصره يا انكل .. و لحد دلوقتي انا كويسة ، بس مش عارفة بعد كده ايه اللي ممكن يحصل ! الحقني يا انكل ، خرجني من هنا بالله عليك.
و هنا بدأ باب المكتب ينفتح قليلا قليلا ..
فرفعت "هانيا" نظرها لتري رجلا ينتصب شامخا أمامها كتمثال قديم ..
تجمد الدم في عروقها و حل في حلقها جفاف رهيب ، و لما رأته يتقدم نحوها بخطي واسعة ، قررت أن تقول كلمتها مهما كلف الأمر ، فصاحت بعمها علي الطرف الأخر من الخط:
-انا بتكلم من المـ ..
و لم تقدر أن تكمل جملتها ، إذ أن يد "عاصم" الغليظة كانت قد أطبقت بقوة علي سماعة الهاتف في يدها ، بينما إنبعث صوت "توفيق" الهادر منخفضا من خلال السماعة:
-هاانيا .. هانيااا ردي عليا ! في ايه اللي حصل ؟؟!


أغلق "عاصم" سماعة الهاتف ، بينما إستولي عليها الخوف الشديد ، و لكنها تمالكت نفسها أمامه ..
فيما تصلب جسده الطويل الضخم ، و إرتسم غضب شديد في عينيه ، ثم تمتم بخشونة:
-يعني انتي فاكرة ان ممكن حد يجي ياخدك من هنا ؟ من بيتي ؟ .. الظاهر انتي لسا ماعرفتيش مين هو عاصم الصباغ يا جميلتي ، و مع ذلك ماعنديش مانع .. ممكن اعرفك عليا كويس اوي.
و إقترب منها و قد قست ملامحه بشكل لم تعهده فيه من قبل أبدا ، مما زرع الرعب في أعماقها و دفعها للتراجع ببطء و هي تتلفت حولها بحثا عن مهرب ..
بينما هتف بقسوة و هو لا زال مستمر في التقرب منها علي نفس الوتيرة البطيئة:
-عايزة تسيبيني و تهربي ؟ .. بعد كل اللي عملته عشانك ؟ .. بعد ما انقذت حياتك من شوية الكلاب اللي كانوا هيسرقوا شرفك و يرموكي ؟ بعد ما جبتك هنا في بيتي و حافظت عليكي و علي كرامتك ؟ بعد ما عرضت عليكي الجواز بمنتهي الذوق و الاحترام ؟ .. عايزة تهربي مني بعد كل ده ! .. مستحيل .. انا دفعت تمن غلطة ابوكي معايا طول السنين اللي فاتت و لسا ماخدتش المقابل .. 

و انتي المقابل يا هانيا ، انتي التعويض اللي لازم اخده ، مش ممكن تفلتي مني ابدا.
وجدت أطرافها ترتعش تكاد تصاب بالشلل .. ركزت بصرها علي باب المكتب القريب منها و فكرت بإنها إذا فاجأته فإنها ستتمكن من الهرب منه قبل أن يمنعها ..
و لكنه قرأ أفكارها ، فأمسك بها قبل أن تصل إلي الباب .. قاومته بشراسة و هي تصيح:
-اوعي سيبني .. سيبني انا مش عايزااك .. مش عايزة اقعد هنا ، انا بكرهك ، بقرف منك و من صوتك و من لمستك و كل حاجة فيك ، مستحيل هكونلك ، فاهم ؟ .. مستحيل.
برزت أوردته و أحمرت عيناه ، فغمغم بصوت قذف الذعر بقلبها:
-عارف انك بتكرهيني .. و بتكرهي تبصي في وشي .. بس للأسف ماعندكيش اختيارات تانية .. مضطرة تقبلي تعيشي عمرك كله مع المسخ اللي واقف قدامك ده.
صرخت بوجهه:
-مش هتجوزك !


فرد بصرامة لاذعة:
-في طرق تانية كتير ممكن تغنيني عن طلب الجواز منك كل شوية .. و ساعتها غصبا عنك هتوافقي علي الجواز .. و يكون في علمك انا صبري عليكي نفد خلاص.
عند ذلك .. راحت "هانيا" تتخبط بين ذراعيه بكل طاقتها لتتخلص منه و هي تنشج و تغص بريقها صائحة بهستريا:
-هقتلك .. هقتلك و هقتل نفسي قبل ما تقدر توصلي .. يا مجرم يا حرامي .. انت قتلت ابويا .. كنت السبب في موته .. هقتلك ، هقتلك.
لم تعرف "هانيا" كم بدت ساحرة بنظره في تلك اللحظة ، فراح يتفرس في ملامحها الرقيقة ..
و تحديدا في شفتيها الحمراء المنداة بدموعها ، كما شعر بنهديها النافرين منغرسين بقوة في صدره ، فأحس بغتة بالرجل في أعماقه يتمطأ ..
و بدون أن يعرف ماذا يفعل بالضبط .. أخذ يعتصر بدنها اللدن البض بين ذراعيه بعنف ، بينما أشاحت بوجهها عنه يمنة و يسرة و قد أقشعر بدنها من ملمس جانب وجهه المشوه لجلد عنقها الناعم ..
تلوت بين ذراعيه بجنون محاولة الإفلات منه و هي تصيح بيأس:
-سيبني .. انت مابتحسش ؟ ماعندكش قلب ؟ ابعد عني و كفاية بقي حرام عليك.
و بتصميم فجائي ، دفعته عنها بقوة ، فإرتخت ذراعاه و أصبحت حرة .. و بحركة تلقائية .. إرتفعت يدها و صفعته علي خده الصارم بعنف ..
رأت غضبه يتأجج ، فإستعدت برعب لمواجهة نقمته العارمة ..
و لم تشعر بعدها إلا بإنقضاضه عليها كمفترس علي فريسته .. شدها إلي جسده بعنف متعمدا معاقبتها و إيلامها ، فشعرت "هانيا" بالغرفة تدور من حولها ..
فغصت و شهقت كغريق صغير لا حول له و لا قوة ..
تملكها هلع غمر كيانها .. فراحت تلكم كتفيه بقبضتيها .. فأعتقلهما "عاصم" بشراسة ..
و بفم جائع متلهف .. كتم شهقاتها .. عجزت "هانيا" عن مجرد مقاومته حتي .. فقد كانت قبضته عليها محكمة جدا ..
فيما راح يلتهم شفتيها بقوة و عنف لدرجة شعرت بتمزقها بين شفتيه ..
يده الأخري تمسك برأسها .. لقد سيطر عليها كليا ، و من بين إمتصاصه و تقبيله لها بقوة و قسوة تمتم بحرارة:
-انتي ملكي.


تئن "هانيا" و تحاول الفرار ، أسنانه تنغرس أكثر و هو يمتص إحدي الشفتين و يشعرها بطعم الدماء ..
عند ذلك .. تفجرت الدموع من عينيها ، و تعالي صوت نحيبها المكتوم ..
كان هذا الشيء بمثابة الصفعة التي نبهت"عاصم" لما يفعله و جعلت وجهه يرتد للخلف مذهولا بوهن و إنهيار تلك الجميلة المتوحشة التي وقفت بوجهه و تحدته ..
إختفت قسوته بلمح البصر عندما رآي شفتها المجروحة المتورمة إثر قبلاته العنيفة ..
شحب وجهه و تركها مبتعدا و كأنها تحمل وباءا خطيرا .. بينما تهاوت "هانيا" علي الأرض و هي تبكي بحرقة ..
لم تع بعد ذلك ماذا حدث لها .. بالكاد إستطاعت أن تشعر بذراعي "عاصم" القويتين تحملانها حتي أوصلها إلي الفراش المريح ، و مددها عليه و ركز رأسها علي الوسائد الناعمة ..
ثم سمعت صوته و كأنه آت من مسافة بعيدة جدا ..
بدت الغرفة لناظريها سابحة في ضباب رمادي كثيف ، فرفعت يدها يائسة ، محاولة أن تمسك بأي شيء ، فأحست بيد تمسك يدها ، و سمعت صوت "عاصم" آتيا من بعيد البعيد ..
إستطاعت أن تميز أخر جملة همس بها بدفء لها:
-مش هآذيكي تاني . اوعدك !
فيما تلي .. غابت عن وعيها و هي في حالة ضعف و وهن لم تعرفها مطلقا في حياتها قبل أن تراه ...


-انت مش قولتلي انك هتقف جمبي لحد ما ارجعها ؟ مش قولتلي عندك رجالة ممكن يساعدونا ؟ هاتهم دلوقتي و يلا بينا.
قالها "توفيق" و هو يرتدي سترته علي عتبة باب المنزل ، بينما قال "رشدي" الذي كان يحوم حوله في إلحاح:
-يا توفيق هنعمل اللي انت عايزه ، لكن النهار له عنين ، انت عارف الساعة كام دلوقتي ؟؟
رد "توفيق" بإنفعال"
-ما انا مش هقعد حاطط ايدي علي خدي لحد ما النهار يطلع ، بقولك السكة اتقفلت فجأة قبل ما تكمل كلامها معايا !
-يا اخي عادي اكيد كانت بتتكلم من وراه و ممكن حست بحركة جمبها فقفلت السكة بسرعة ، انت ليه متوقع الاسوأ ؟؟!
زفر "توفيق" بضيق و قال:
-قلقان عليها اوي يا رشدي .. كان بتترجاني عشان اروح انقذها .. كانت بتستنجد بيا.
إقترب "رشدي" منه و ربت علي كتفه بلطف قائلا:
-هنرجعها بعون الله و الكلب اللي حبسها في بيته ده انا بنفسي هديله درس عمره ما هينساه ابدا !


في الصباح التالي ..
أنهت "هنا" محاضراتها الجامعية باكرا ، و عادت إلي المنزل مباشرة دون تلكأ ..
رأت سيارة فارهة فضية اللون تقف أمام منزلها ..
لم يقع عليها نظرها من قبل ، فتلك الأنواع الثمينة من السيارات لا يمتلكها ساكني حي "الوراق" البتة ..
شعرت بإنقباض في معدتها سببه ذلك الترقب الثقيل الذي إستبد بها ..
صعدت إلي شقتها .. وضعت مفتاحها الخاص بالقفل و دلفت .. ترامت إلي أذنيها الأصوات من حجرة الجلوس المغلقة بستار سميك يحجبها عن بقية أجزاء الشقة ..
سارت نحو الحجرة بخفة .. فتحت الستار بحذر .. ثم تجمدت بمكانها ..
لم تتبين معالم الزائر الذي كان يجلس موجها ظهره إليها. ، غير أن قلبها حدثها بهويته ..
خطر لها أن تدير ظهرها و تفر إلي مكان آمن تختبئ فيه ، و خطت تهم بالمضي نحو غرفتها ..
فسمعت والدتها تناديها و قد لمحت طيفها من خلال الستار الهفهاف:
-هنا ! انتي جيتي يا حبيبتي ؟ تعالي.
أجابتها "هنا" بقلب واجف:
-نعم يا ماما ؟؟
-تعالى عندتا ضبف.
إستدارت "هنا" مجددا ، و دخلت حجرة الجلوس ببطء شديد ..
أحست بالوهن يسترب إلي قدميها و الدماء تصعد إلي وجنتيها ، و حالما دلفت أستدار نحوها الزائر بوجهه الأسمر و عينيه البنيتين المراوغتين:
-ازيك يا انسة يا هنا ؟؟
تطلعت إليه بتوتر و ردت التحية بصوت مرتج:
-تمام يا حضرة الظابط ، كويسة.
إنه "إياد" .. تري لماذا جاء إلي هنا ؟ .. ما سبب زيارته المفاجئة .. :
-كويس انك لسا فاكرة حضرة الظابط يا هنا
قالتها أمها بمرح ماكر ، فحدجتها "هنا" بنظرة مستوضحة فأجابت أمها بإبتسامة عريضة:
-اياد باشا جاي يطلب ايدك مني .. و احنا اكيد مش هنلاقي احسن منه.
"إياد" و "قوت القلوب" .. كانا يراقبانها بصمت ، و كأن حجرة الجلوس البسيطة تشهد حدثا خارقا تنعقد أمامه الألسنة ، فيما أفاقت "هنا" من صدمتها وتساءلت مفغرة فاهها:
-جواز يعني ؟؟!


إبتسم "إياد" بمرح فظهرت أسنانه الناصعة ، و أطلقت أمها ضحكة خفيفة قائلة:
-اه طبعا يا حبيبتي جواز اومال ايه !
تنقلت "هنا" ببصرها بين أمها و "إياد" في دهشة .. إذ لم تتوقع أن يصل الأمر إلي ذلك الحد !
رفعت إليه وجها متوردا مستغربا و قد صعب عليها تصديق الأمر برمته ..
فإزدادت إبتسامة "إياد" إتساعا ، و قال موجها كلامه لأمها دون أن يحيد بنظره عنها:
-ممكن حضرتك تسيبيني مع هنا شوية ؟ عايز اتكلم معاها علي انفراد.
لم تبدي "قوت القلوب" إعتراضا و تركته معها علي حدة ..
ظلا للحظات في مواجهة بعضهما البعض بلا حراك ، حتي إنفرج ثغر "إياد" و هو يقول بنعومة:
-هتسبيني واقف كتير و لا ايه يا انسة هنا ؟ ده انا ضيفك بردو .. و الزوج المستقبلي لحضرتك كمان.
نطق جملته الأخيرة بخبث ، فعقدت حاجبيها و رمقته بشيء من الحدة و قد عادت إليها نزعتها العنيدة العدوانية ، لكنها تصرفت بحكمة علي غير عادتها و دعته للجلوس ، فعاد يجلس فوق مقعده من جديد ، فيما جلست قبالته ، ثم بدأت هي بالحديث ، فسألته بجمود:
-خير يا حضرة الظابط ؟ عايز ايه ؟؟
تنهد "إياد" بعمق و أجابها:
-اظن النوايا واضحة زي الشمس يا انسة هنا .. عايزك .. و لاني راجل مابحبش اللف و الدوران دخلت البيت من بابه زي ما بيقولوا.
أجفلت بإضطراب رغما عنها ، و تابعت سؤالها:
-ليه يعني ؟ ليه عايزني ؟ .. احنا ماشوفناش بعض الا مرة واحدة بس .. و كمان ساعتها انا هزأتك اوي !
ضحك "إياد" بخفة عندما ذكرته بمشهد لقاءهما الأول ، ثم قال برقة:
-هتصدقيني لو قلتلك ان طريقتك العنيفة اللي اتكلمتي بيها معايا هي اللي شدتني ليكي ؟ .. زائد شخصيتك القوية بردو .. بقالي كتير ماشفتش بنت بمواصفاتك .. جريئة ، مؤدبة ، بتاخدي حقك وقتي مابتستنيش عليه ، و حلوة كمان.
بطريقةغير مقصودة إطلاقا ، إستطاعت أن تفقده تماسكه العاطفي ، إذ بدا مبهورا و منجذب البصر إلي خديها المتوهجين كوردة ، إلي عينيها البنيتين ، و إلي فمها التاعم المرتجف بحيرة ..


إذ يوجه إليه لأول مرة ، إبتسامة خاصة به ، لكنها عادت تسأله بجدية و بصوت تراوح بين اللين و الحدة:
-طيب انا شايفة انك جاي بطولك .. فين الوالد و الوالدة يا تري ؟؟
حدقت إلي وجهه بمزيج من التوتر و الترقب ، فرأت فمه يفتر عن إبتسامة خفيفة ، ثم جاوب علي سؤالها بهدوء مكلل بحزن طفيف:
-الوالد و الوالدة اتوفوا من خمس سنين.
عضت "هنا" علي شفتها السفلي بحرج ، ثم قالت معتذرة:
-اسفة .. ربنا يرحمهم.
-امين !
قالها بلطف ، و تابع:
-انا بالبلدي كده مقطوع من شجرة .. عندي اهل اه بس كل واحد مشغول في حياته ، و انا حياتي مقتصرة علي شغلي و بس .. لحد ما شفت حضرتك بقي .. قررت استقر و اتجوز عشان اجيب ولاد يملوا عليا حياتي المملة دي.
-هتتجوز عشان تستقر و تجيب ولاد بس ؟؟
سألته بإستنكار ، فإبتسم بمكر و هو يجبها:
-ايوه .. مش بالظبط اوي يعني .. انا كنت مستني طول الفترة دي لحد ما الاقي البنت المناسبة ، اللي لما اشوفها ارتاحلها و قلبي يتفتحلها .. بس دلوقتي انا عايز اخد منك موافقة مبدئية .. انتي شايفاني مناسب ليكي ؟ .. ارتاحتيلي يعني ؟؟
خفضت "هنا" بصرها و لم ترد ، فإستوضحها "إياد" بمرح:
-اقدر افهم من كده ان السكوت علامة الرضا ؟؟
علي إستحياء .. أومأت رأسها دون أن تنظر إليه ، فإبتسم "إياد" بسعادة فائقة و قد بدا قريرا راضيا إلي أقصي درجة ..


تسلل ضوء النهار إلي الغرفة الفسيحة المترفة ..
فأستندت "حنة" علي مرفقيها و نظرت إلي جوارها فلم تجد "مروان" .. و لكنها سمعت في تلك اللحظة صوت رذاد ماء آت من الطرف المقابل للفراش ..
كان الباب المقابل للفراش المؤدي للحمام الخاص مفتوحا قليلا ، و كانت الأبخرة المتبعثرة تنطلق منه ..
نهضت "حنة" و مشت صوبه ، بينما إنفتح الباب فجأة و خرج "مروان" و قطرات الماء تبلل شعره ، ثم نظر إليها بعينين رماديتين ساحرتين ..
أمسك بها بيد ، و قبل أن تتحرك من مكانها ، جذبها إليه بيده الأخري ، و قال بعذوبة:
-صباح الخير يا قلبي.
و عانقها بخفة و رقة .. كانت مشغولة الفكر و لم تكن مستعدة لعناقه ، لكنها إستجابت له و هي تستنشق رائحة سائل الإستحمام الذي إستعمله ، بينما ضمها إليه و قربها منه و هو يحيطها بذراعيه ، ثم همس قرب أذنها:
-حبيبتي .. مابقتش اقدر ابعد عنك لحظة خلاص .. انتي عملتي فيا ايه ؟؟
ثم شدها إليه بقوة ، و لمس شفتيها بشفتيه في قبلة حارة ، بينما لم تمر ثوان قليلة حتي وجدت "حنة" نفسها تبادله قبلاته بنفس الحرارة و اللهفة ..
إستسلمت تماما لشفتيه اللتين إمتلكتا شفتيها و لم تبتعدا حتي قدرتا حاجتها إلي إلتقاط أنفاسها ..
أحست بتيار عنيف يسري في جسدها علي شكل إنتفاضة قوية ..
شعر "مروان" بذلك البركان الذي أيقظه بداخلها .. بالتأكيد ، فهو خبير بالتأثير علي النساء ، كما أنه يعرف جيدا مكامن الرغبة و الإثارة بالجسد ، بعكسها هي التي لم تعرف مشاعر مع زوجها يمكن أن تضاهي شعورا واحدا تحسه أو تجربه مع "مروان" مما جعلها تخر صريعة لرغباته و نزواته و تمنحه تفسها دون مقابل ، بل حتي دون خوف من العقبات .. :
-ايه يا حبيبتي مالك ؟؟


سألها "مروان" بصوت مثير ، فأسندت كفيها علي صدره و هي تتطلع إليه في تردد ، فألح يسألح بإهتمام:
-مالك يا حنة ؟في ايه ؟؟
ضغطت علي شفتيها بقوة ، و نطقت أخيرا فقالت بصوت خفيض:
-مخنوقة .. متضايقة !!
داعب "مروان" وجنتها بأنامله و هو يسألها:
-ايه اللي مضايقك يا حبيبتي ؟ قوليلي !
-البيت ده.
قطب "مروان" مستغربا و ردد:
-البيت ده ! ماله يا حنة ؟؟
زمت شفتيها قائلة:
-مش عارفة .. مش مرتاحة فيه خالص ، حساه كئيب رغم ان الشقة واسعة و فيها كل حاجة ، بس مش مبسوطة !
منحها "مروان" إبتسامة رقيقة و قال:
-خلاص يا قلبي .. من بكرة هننقل من هنا لمكان تاني ، و لا تزعلي.
أشرقت عيناها بفرح طفولي و هي تهتف:
-بجد ؟ .. بس انا مش عايزة اكون بتقل عليك في حاجة !
رفع يده و مسح علي شعرها بحنان قائلا:
-انتي تؤمريني امر يا حنة .. انتي لسا مش عارفة انا بحبك ازاي و لا ايه ؟ ماعنديش اغلي منك .. و علي فكرة قريب عاملك مفاجأة.
-مفاجأة ؟ ايه هي يا مروان ؟ ايه ايه؟!
إبتسم بعبث و قال:
-لالا يا حبيبتي ما انا لو قلتلك مش هتبقي مفاجأة.
-طب بس قولي انت و انا هتفاجئ.
قهقه عاليا ، ثم عاد يقول:
-اصبري .. ماتستعجليش و اوعدك المفاجأة هتعجبك.

 

أوقف "عاصم" سيارته بصورة تدريجية أمام ساحة قصره ..
ترجل أولا ، ثم دار حول السيارة و فتح الباب المجاور لمقعد السائق ..
فترجل شقيقه ببطء و تمهل و هو يعلق علي كتفه حقيبة ظهره المتوسطة .. أحاط "عاصم" كتف أخيه بذراعه بلطف أذهل "شهاب" لكنه مضي في إثره دون أن يتفوه بحرف ..
عبرا الردهة الداخلية ، ثم دخلا إلي البهو حيث إصطف جميع أفراد الخدم هناك في إنتظار وصول "شهاب" ..
إستقبلوه إستقبالا حارا ، و عبروا له عن سرورهم بعودته إلي المنزل أخيرا ..
شعر "شهاب" بغبطة شديدة و شكرهم بإمتنان .. بينما أصرفهم "عاصم" بلباقة .. ثم جلس و دعا شقيقه للجلوس .. :
-حمدلله علي السلامة !
قالها "عاصم" بصوته العميق ، فإكتفي "شهاب" بإيماءة خرساء من رأسه ، فتابع "عاصم":
-الدكتور قالي انك المرة دي ساعدته بنفسك في العلاج .. و قدرت تتخطي الازمة ، ماصدقتش نفسي.
صمت "شهاب" و لم يجب ، فسكن "عاصم" للحظات ، ثم نهض و إتجه صوب الآريكة التي جلس شقيقه فوقها .. فجلس إلي جواره ، و وضع يده علي كتفه ، ثم قال بجدية هادئة:
-انا ماعنديش استعداد اخسرك يا شهاب .. انت مش بس اخويا ، انت ابني و وريثي الوحيد .. مش ممكن هسمحلك تآذي نفسك تاتي و لا هسمح لمخلوق انه يآذيك و لو حد اتجرأ و عملها هيكون مصيره زي مصير الكلب ده اللي كان عامل فيها صاحبك.
عند ذلك .. تطلع إليه "شهاب" و سأله:
-شادي ؟ .. انت عملت ايه في شادي يا عاصم ؟؟
أجابه "عاصم" بفم ملتو:
-ماعملتش فيه حاجة .. هو خد جزاءه بس مش اكتر.
ثم أضاف بعزم:
-انت لازم ترجع زي الاول و احسن يا شهاب .. لازم ترجع لحياتك ، ترجع شهاب الفنان الجميل ..ايه ماوحشكش الجيتار ؟ المزيكا عموما ! .. الصدمات اللي مريت بيها لازم تكون قوتك ، و مش لازم ترجع تضعف تاني ، انا المرة دي حاسس اني اقدر اعتمد عليك ، و عايز اثق فيك.
حدجه "شهاب" بنظرة غامضة لثوان و قال:
-انا مش مصدوم من اللي مريت بيه و بس يا عاصم.
قطب "عاصم" مستغربا ، فإستوضحه:
-مش فاهم ! يعني ايه ؟؟
-يعني انا طول عمري مصدوم !
قالها "شهاب" بشيء من الإنفعال ، و تابع بمرارة:
-من يوم ما وعيت علي الدنيا و انا مش فاهم اي حاجة .. لما سألت علي بابا انت و ماما حكيتولي اللي حصله ، مافهمتش ليه حصل فيه كده ، و انت .. لما سألت علي اللي حصلك ..
و أشار إلي الندبة الغائرة بجانب وجه أخيه الأيمن ، و أضاف:
-حكيتلي و مافهمتش بردو ليه حصلك كده .. تجاهلتتي و نسيتني ، انشغلت في السوق و في صفقاتك و في الانتقام ، نسيتني.
رد "عاصم" بإستنكار ذاهل:
-انا نسيتك يا شهاب ؟ .. انا عمري ما نسيتك و يا ما عرضت عليك تيجي تشتغل معايا و اعلمك عشان تمسك انت الشركة و تديرها بنفسك لكن انت اللي ماوافقتش و دايما كنت بترفض.


-ايوه كنت برفض عشان ماكنتش محتاج و لا حاجة من دول .. انا كنت محتاجلك انت .. كنت محتاجلك تقف جمبي دايما و تفهمني .. انت مش بتقول انك بتعتبرني ابنك مش بس اخوك ؟ .. انا كمان بعتبرك اب ليا .. بس انت ماكنتش عارف تتعامل معايا صح.
هز "عاصم" رأسه بإنفعال متآثر و قال:
-انت مافيش حد بيحبك في الدنيا دي كلها اكتر مني .. كل اللي معايا ليك و بتاعك و انت عارف ده كويس.
أومأ "شهاب" قائلا:
-عارف يا عاصم .. بس انا بردو مش محتاج اي حاجة معاك .. انا محتاجلك انت.
مد "عاصم" يده و ربت علي شعره بلطف و هو يقول بعاطفة أبوية:
-انا جمبك يا شهاب .. علي طول جمبك.
في تلك اللحظة .. اتت إحدي الخادمات ، و أعلنت بصوت خفيض:
-عاصم بيه .. الفطار جاهز.
أومأ "عاصم" رأسه و سألها:
-طلعتوا الفطار للانسة هانيا ؟؟
-حالا هطلعوا انا بنفسي.
و إنسحبت الخادمة في هدوء ، بينما قطب "شهاب" متسائلا:
-مينالانسة هانيا يا عاصم ؟؟
إبتسم "عاصم" و تمهل قليلا قبل أن يقول:
-خطيبتي.
-هممم !
همهم "شهاب" متفهما ، لكنه سرعان ما أدرك معني كلمته ، فعاد يحدق به في قوة و هو يسأله مشدوها:
-مين ؟؟!



إعدادات القراءة


لون الخلفية