إنضمت "هنا" في تلك اللحظة إلي أمها ، و تساءلت بوجه عابس:
-ماما ! في ايه ؟؟
تجاهلتها السيدة "قوت القلوب" و عادت تسأل الضابط في توجس:
-هي عملت ايه يابني ؟ عايزينها ليه ؟؟
صاح بها الضابط بفظاظة:
-مالكيش دعوة يا ست انتي ، جاوبي علي اد السؤال و بس ، هانيا مصطفي علام قاعدة عندك هنا ؟؟
و قبل أن تنطق "قوت القلوب" بحرف ، أتت "هانيا" من خلفها بخطي ثابتة و وجه متجهم متصلب ، ثم أجابته بصوت مرتج:
-انا هانيا مصطفي علام يا حضرة الظابط .. خير ؟؟
صوب الضابط ناظريه نحوها .. عاينها للحظات قبل أن يقول:
-مطلوب القبض عليكي يا انسة .. اتفضلي معايا بهدوء لو سمحتي.
علت نبرة "قوت القلوب" و هي تسأله مستنكرة:
-ليه يا باشا ؟ هي عملت ايه بس ؟؟
أجابها الضابط بإقتضاب حاد:
-و الله ماعرفش يا ست ، كل اللي اعرفه ان معايا امر بضبط و احضار الانسة و لازم انفذه.
-طب ممكن اغير هدومي الاول ؟؟
قالتها "هانيا" بجمود ، فأومأ الضابط رأسه قائلا:
-اتفضلي بس بسرعة.
إستدارت "هانيا" علي عقبيها ، و إتجهت إلي غرفتها ..
بدلت ملابسها بآلية و هي تفكر بقلب واجف .. تري ما طبيعة الفخ الذي نصبه لها "عاصم الصباغ" ؟؟
كان "عاصم" يحتسي الشاي في ركنه المفضل بحديقة قصره ، عندما أقبل "زين" عليه بخطي واسعة ..
و بدا أن إحتقان وجهه غمر وجه "عاصم" بالرضا ، إذ أنه إبتسم بقوة ، و قال بعد أن جلس صديقه في مقعد قبالته:
-ها ! طمني ايه اللي حصل ؟؟
رد "زين" بإقتضاب حانق:
-حصل اللي انت عايزه بالظبط ، و زمانها في القسم دلوقتي.
إزدادت إبتسامة "عاصم" إتساعا ، و هو يرفع عينيه نحو سماء النهار مرددا بإنتصار:
-وقعت في المصيدة .. و محدش ممكن يحررها غيري .. دلوقتي هتنفذ اوامري كلها بالحرف ، و مش هتقدر ترفع عينها فيا حتي.
قطب "زين" متعجبا و هو يسأله:
-ليه بتعمل كده يا عاصم ؟ ذنبها ايه البنت في العداوة اللي كانت بينك و بين ابوها ؟؟
نظر له "عاصم" صامتا لبرهة ، ثم أجاب بصوت هادئ و ملامح عدوانية:
-ذنبها انها بنته .. بنت الراجل اللي دمرني و دمر عيلتي .. انا انتقمت لابويا منه خلاص و خدت تاره .. لكن حاسس اني لسا مارتحتش يا زين.
و أردف في شر مطلق ، و عيناه تقدحان نارا:
-بنته هي اللي هاتريحني .. هي اللي هتشفي غليلي ، هي اللي هاتبرد النار اللي قايدة جوايا من 20 سنة.
نظر إليه "زين" في ريبة ، و عاد يسأله:
-انت ناوي علي ايه تاني يا عاصم ؟؟
قست تعابير وجهه ، و هو يجيبه بصرامة:
-ناوي اخد بتاري.
هز "زين" رأسه في يأس ، بينما أتي فجأة أحد أفراد الحرس ، ثم قال بهدوء و هو يدنو من "عاصم":
-عاصم باشا ، في واحد جه برا بيقول انه صاحب شهاب بيه و عايز يدخلله.
سأله "عاصم" متجهما:
-فتشتوه ؟؟
-ايوه يا باشا و نضيف.
تغضن جبين "عاصم" بعبسة متململة ، لكنه أعطاه الأذن بإقتضاب:
-خليه يدخل.
أنحني الحارس لسيده ، و إنسحب في هدوء ..
فيما عاد "عاصم" يهتم بجلسته مع صديقه ، فقال له و هو يشير إلي وعاء الشاي البلوري:
-هعزم عليك بالشاي و لا ايه ؟ ما تصب لنفسك يا اخي !
مال النهار إلي الإنتصاف ..
عندما وصلت "هانيا" إلي نقطة الشرطة برفقة الضابطين اللذين كُلفا بإحضارها ..
راحت تتلفت يمينا و يسارا متفحصة المكان و الجدران ذات الرائحة المقززة ، و تلك الطرقات التي تعج بالسارقين و المجرمين ، كان المكان وقتها كالطوق الذي يزيد ضيقه إختناقها ..
حتي إنحرف بها الضابط المسؤول يمينا ، و أدخلها حجرة مكتب السيد "وكيل النيابة" ..
كان رجلا في منتصف الثلاثينات ، يجلس خلف مكتبه مشغولا ببعض الأوراق ، إلي أن أنتشله صوت الضابط الشاب من أوج تركيزه:
-تمام يافندم ، هانيا مصطفي علام حضرتك.
رفع الأخير رأسه عن الأوراق ، و تبادل مع "هانيا" النظرات في صمت ، ثم قطع نظراتهما بقوله:
-ماشي يا احمد .. اتفضل انت دلوقتي و ابعتلي عادل عشان يكتب المحضر.
أدي الضابط "أحمد" التحية العسكرية أمام رئيسه الأعلي رتبة ، ثم إستدار علي أعقابه ، و غادر المكتب ..
بينما راحت "هانيا" تفرك بكفيها في عصبية قبل أن يأتيها صوت الضابط الهادئ:
-اتفضلي اقعدي يا انسة.
و أشار لها أن تجلس بمقعد قرب مكتبه ..
تقدمت "هانيا" بضع خطوات حتي وصلت إلي المقعد ، فجلست فوقه مرتعدة الأوصال ، ثم تطلعت إليه في ريبة متسائلة بنبرة مختلجة:
-اقدر اعرف انا هنا ليه يا حضرة الظابط ؟؟
كانت تحاول إستعجال الأمور ، فكلما تلقت المصائب تباعا بصورة سريعة ، كلما كانت الصدمات قليلة
قاطعهما فجأة دخول شاب عشريني نحيل ، يرتدي قميصا و سروالا لا ينتميان إلي زي الشرطة الرسمي ..
ألقي علي الضابط تحية الصباح ، ثم تقدم نحوه ، و أخذ مكانه في مقعد بجوار المكتب مباشرة ..
بينما نظر الضابط إلي "هانيا" صامتا لبضع دقائق ، يتأمل هيئتها الأرستقراطية ، ثم غرق في كرسيه ، و أخذ ينقر بقلمه فوق سطح مكتبه قائلا:
-قوليلي الاول يا انسة هانيا .. يا تري عندك علم بمخزن في المنصورية كان ملك لوالدك قبل ما يكتبه بإسمك ؟؟
إزدردت ريقها مرتابة ، و حاولت أن تبلل شفتيها اليابستين بلسان جاف و هي تقول بصوت خرج منها بصعوبة:
-ايوه .. يا تري في مشكلة ؟؟
إعتدل في جلسته و هو يجيبها:
-في بلاغ اتقدم فيكي انهاردة الصبح بإنك بتستعملي المخزن كوسيلة في تجارة و ترويج المخدرات.
هنا هبت "هانيا" واقفة غير قادرة علي الجلوس من هول ما سمعته ، فهذه التهمة كانت بعيدة تمام البعد عن تصورها .. فصاحت مذعورة:
-مخدرات ايه ؟ مستحيل ! ايه الكلام الفارغ ده ؟؟
هتف الضابط بصرامة:
-من فضلك يا انسة اقعدي ، انا لسا ماخلصتش كلامي.
و بدت "هانيا" و كأنها رفضت ، لكنها عاودت الجلوس محدقة فيه بقوة ، بينما فتح هو أحد أدراج المكتب ، و أخرج كيسا شفافا يحوي مادة بيضاء اللون ، ثم نظر إلي "هانيا" قائلا بهدوء:
-الكيس ده كان من ضمن مجموعة اكياس كتير جوا صناديق في المخزن بتاعك يا انسة هانيا .. و اعتقد انتي خمنتي ايه اللي جوا الكيس ده !
صمتت "هانيا" تحت تأثير الصدمة القاتلة ، فسألها الضابط:
-لو ليكي شركا اعترفي عليهم .. الكمية اللي لاقيناها كتيرة ، و لو اعترفتي ده هيكون في صالحك.
تابعت "هانيا" صمتها مكتفية بشعور الرعب الذي أخذ يتعاظم بداخلها ..
تنهد الضابط في تكاسل ، و وجه بصره إلي مساعده قائلا بعد أن فقد الأمل في إنتزاع الكلمات الدفاعية منها:
-اكتب يابني .. اُقفل المحضر في تاريخه .. عقب إثبات ما تقدم .. و قررنا نحن .. طارق الحُسيني .. وكيل النائب العام .. أولا .. حبس المتهمة .. هانيا مصطفي علام اربعة ايام علي ذمة التحقيق .. علي أن يراعي التجديد لها في الميعاد .. ثانيا .. يتم إستدعاء .. فريق مشكل من أعضاء هيئة الطب الشرعي لفحص المضبوطات .. قبل إتخاذ النيابة أيا من قراراتها .. و أخيرا .. يتم أخطارنا بمحضر الاجراءات.
في تلك اللحظة ، نطقت "هانيا" بصوت مبحوح بعد أن غص الريق في حلقها حتي كادت تختنق به:
-ممكن اعمل مكالمة ؟؟
لم يصدق "شهاب" عينيه حين رأي صديقه يدلف إلي غرفته ..
فقفز من فوق فراشه ، و هرول نحوه ، بينما أغلق صديقه باب الغرفة مسرعا و هو يرتعد خوفا:
-شادي ! اتأخرت كده ليه ؟؟
هتف "شهاب" منفعلا بنبرة متهدجة و قد أصابه الرشح ، كما كان يتعرق بقوة رغم برودة الجو ، مما يوحي بأعراض إنسحاب المواد المخدرة من جسده ..
إلتفت "شادي" إليه ، و أجابه بصوت أقرب إلي الهمس:
-شششش يا عم هتفضحنا .. ده انا قبل ما ادخللك اتفتشت تفتيش ذاتي ، كان ناقص يقلعوني البوكسر.
قبض "شهاب" علي رسغه بقوة و هو يسأله بأضطراب شديد:
-يعني ايه ؟ ماجبتش اي حاجة ؟؟
إبتسم "شادي" و هو يتطلع إلي صديقه مستمتعا بحالته المزرية تلك ..
فقد إستحوذت عليه المخدرات بشكل كامل ، و قد إستولي عليه الضياع بعد أن كان نعم الشباب و أفضلهم في المستوي الإجتماعي و الثقافي ..
تنهد "شادي" مسرورا لتحقيق مآربه ، و هو إفساد واحدا من بنو الطبقة الرفيعة المترفة ، فعل ذلك إنتقاما للطبقة المعدمة التي ينحدر منها ، و حقدا علي شخص يحيا حياة لطالما كان يتمناها بلا أمل ..
بينما خلع ساعة يده ، و فك إطارها المعدني مخرجا منها لفافة بلاستيكية صغيرة .. لمعت عينا "شهاب" لمرأي تلك اللفافة ، فمد يده بسرعة البرق و خطفها من بين أصابع "شادي" الذي صاح مذعورا:
-بتعمل ايه يا محنون ؟ دول جرامين ، استني انا هاديك نص جرام علي ادك.
أحاط "شهاب" اللفافة بيديه مبتعدا عن صديقه و هو يقول بأنفاس متلاحقة:
-انا هاخد الجرامين يا شادي .. انا محتاجهم اوي ، انت ماتعرفش انا استنيتك تيجي و تجيبهملي اد ايه !
-يابني كده مش حلو .. الجرعة هتبقي شديدة اوي عليك ، و ممكن تموت Overdose بـ(جرعة مُفرطة).
-انا مش هاضرب التذكرة كلها.
حاول "شهاب" أن يقنع صديقه بلا جدوي ، فتوجه نحو أحد أدراج خزانته ، و عاد إليه من جديد ، ملوحا له بالمال الذي سال له لعابه ..
أخذ "شادي" المبلغ المالي من "شهاب" و نصحه للمرة الأخيرة بعدم الإفراط في التعاطي ، ثم رحل في حذر و توجس ..
بينما جلس "شهاب" خلف طاولة مستطيلة منخفضة توسطت غرفته الفخمة الواسعة ، و أفرغ محتوي اللفافة فوق اللوح الزجاجي للطاولة ، و بعد أن أعد كل الطقوس و الوسائل اللازمة ، دنا برأسه ، و راح يستنشق بشراهة تلك المادة البيضاء حتي أنهي الجرامين بالكامل ..
ثم عاد بجسده يسترخي متهالكا فوق الأريكة الجلدية البيضاء و قد بدا منتشيا إلي أقصي حد ..
إنتابت " توفيق" حالة من الذعر و القلق الهستيري فور تلقيه مكالمة "هانيا" ..
لم تقل له هي سوي أنها محجوزة بقسم الشرطة لإتهامها بالإتجار في المخدرات ..
و في الحال قفزت صورة "عاصم " أمام أعينه ، و تذكر مخاوف إبنة شقيقه من تهديداته .. لم يعرف "توفيق" كيف إرتدي ملابسه بسرعة جنونية ، و كيف إنطلق كالسهم إلي القسم الذي أحتُجزت به "هانيا" منذ الصباح ..
توجه مسرعا إلي مكتب وكيل النيابة بعد أن سأل عنه أحد العساكر ، بينما إستوقفه بحدة ذاك العسكري الشاب الذي وقف أمام مكتب وكيل النائب العام ليحرسه:
-رايح فين يا استاذ انت ؟؟
أجابه "توفيق" بنبرة متوترة جراء المجهود الخرافي الذي بذله في المجيء إلي هنا بأقصي سرعة ممكنة:
-انا توفيق علام ، عايز اقابل وكيل النيابة ، بنت اخويا محجوزة عندكوا هنا من الصبح ، من فضلك ادخل اديله خبر اني عايز اقابله.
تغضن وجه العسكري و هو يقول بجفاف:
-طيب .. استني هنا و ماتتحركش من مكانك.
أومأ "توفيق" رأسه موافقا ، بينما طرق الأخير باب المكتب ..
دلف ، و غاب للحظات ، ثم عاد و سمح له بالدخول .. فإندفع "توفيق" إلي الداخل بسرعة
فيما بدا أن السيد "طارق" وكيل النائب العام كان جالسا في إنتظار قدومه ..
إذ أنه نهض واقفا علي قدميه ، و مد يده عبر المكتب الفاصل بينهما ليصافحه قائلا بلهجة رسمية مؤدبة:
-مساء الخير ، اهلا بيك يا توفيق بيه.
مد "توفيق" يده بدوره و صافحه قائلا بصوت مرتجف ممزوج بشيء من العصبية:
-مساء النور ، اهلا بحضرتك .. فين بنت اخويا يا باشا ؟؟
هز "طارق" رأسه و هو يقول بهدوء:
-اتفضل اقعد الاول يا توفيق بيه.
رمقه "توفيق" بعبسة متململة ، و جلس علي مضض ..
عاود المحقق "طارق" الجلوس بدوره ، و بدأ حديثه قائلا:
-اولا انا عايز حضرتك تعرف و تفهم كويس ان الموضوع مش بسيط نهائي .. انتوا عيلة معروفة و اشهر من نار عالعلم ، لكن بنت اخو سيادتك تهمتها مش بسيطة ابدا .. انهاردة الصبح جالنا بلاغ انها متحفظة علي كمية كبيرة من المخدرات في مخزنها اللي علي طريق المنصورية .. و لما بعتنا قوة تتحقق من الكلام ده اتضح انه مظبوط.
و أخرج "طارق" الكيس الذي أراه إلي "هانيا" ، و وضعه فوق سطح المكتب أمام "توفيق" متابعا بقوله:
-كيس البودرة ده جبناه من جوا المخزن يا توفيق بيه .. و للأسف في منه كتير جدا ، و دي قضية مش سهلة زي ما انت عارف ، اقل حكم فيها 25 سنة .. و جايز اعدام.
حدق "توفيق" فيه كالأخرس ، و بعد أن تدارك معني كلماته ، هتف منفعلا:
-مستحيل ، الكلام ده مش مظبوط ، هانيا دي لسا بنت صغيرة بتدرس ماتمتش 22 سنة ،و هي اصلا عمرها ما انضمت لشركة والدها و لا اشتغلت في البيزنس من اساسه ، ده غير انها حاليا افتقرت ماتحتكمش علي و لا مليم ، يبقي ازاي بتاجر في المخدرات و بالكمية الكبيرة اللي حضرتك قلت عليها دي ! مش معقول !!
هز الضابط "طارق" رأسه آسفا و هو يقول:
-للأسف يا توفيق بيه كلام حضرتك ده لا هيقدم و لا هيأخر .. المخدرات إتظبطت جوا المخزن ، و المخزن ملك الانسة هانيا ، يعني بأسمها و الضرر كله واقع عليها لوحدها مش علي حد تاني ، حضرتك مش هتقدر تعملها حاجة.
صر "توفيق" علي أسنانه غاضبا لشعوره بعجزه الذي لم يشعر به إلا الأن و هو يري إبنة شقيقه تكاد تسقط في هوة بلا قرار ، بينما لم يستطع هو أن يفعل لها شيئا ..:
-انا عايز اشوف بنت اخويا لو سمحت.
هتف "توفيق" بصلابة ، فأومأ الأخير رأسه مرارا ، و في هدوء رفع سماعة الهاتف و تحدث بالآتي:
-ايوه يا ماهر .. هاتلي الانسة هانيا علام علي مكتبي من فضلك .. بسرعة.
و لم تمر دقيقة إلا و دلف الضابط الأقل رتبة و معه "هانيا" التي ركضت صوب عمها فور رؤيتها إياه
بينما إنتصب "توفيق" واقفا ، و إحتوي إبنة شقيقه بين ذراعيه ..
إستأذن "طارق" و غادر المكتب ليعطيهما بعض الخصوصية
فيما تفجرت الدموع من عيني "هانيا" و هي تجهش بالبكاء المُر فوق صدر عمها .. فأخذ "توفيق" يربت علي شعرها بلطف ، و يمسد ظهرها في محاولة لتهدئتها دون فائدة .. فقال يطمئنها بصوته الدافئ:
-بس يا هانيا .. ماتخافيش يا حبيبتي انا مش هاسيبك ، هخرجك من هنا و الله ماتخافيش.
أصدرت "هانيا" أنينا متشنجا قبل أن ترد بصوت مخنوق من شدة البكاء:
-مش هتقدر تعملي حاجة يا انكل .. انا خلاص ضيعت .. هو دمرني زي ما دمر بابا .. ماكنتش متخيلة ابدا انه ممكن يعمل فيا كده ، ده مش بني ادم ، مستحيل يكون بني ادم.
أطلق "توفيق" لعنة مختنقة ، لكنه عاد يُطمئن "هانيا" بصوت أجش هذه المرة:
-ماتخافيش يا هانيا .. وثقي فيا .. ثقي في عمك ، مش هاسيبك تتحبسي في السجن و لا يوم صدقني.
صمت "هانيا" أذنيها عن كلمات عمها المطمئنة ، و تابعت نحيبها المرير ، فضاق "توفيق" ذرعا بذلك ، و أمسك بوجهها الصغير بين كفيه الكبيرين ، ثم رفعه لينظر إليها في قوة ، قائلا بعزم:
-و رحمة ابوكي .. و حياتك عندي لهخرجك من هنا.
سألته "هانيا" واهنة و هي تمسح دموعها بقبضة متقلصة:
-هتعمل ايه يا انكل ؟؟
إلتحفت عيناه بالغموض ، و تقلص فمه واجما حين لاحت صورة "عاصم الصباغ" بذهنه ، و ما نوي أن يفعله بعد خروجه من هنا ..
بينما رأت "هانيا" في عيني عمها وعود صادقة طمئنتها و أخافتها في آن ...
***************
قطع دوي رنين الهاتف حديث "عاصم" و "زين" ..
فإلتقط "عاصم" هاتفهه من فوق الطاولة أمامه ، و نظر إلي أسم المتصل ، و إبتسم ، ثم أجاب:
-الو .. اهلا يا طارق بيه ، ها طمني ، ايه الاخبار ؟؟
أجاب الطرف الأخر بقوله:
-كله تمام يا عاصم باشا .. ماشيين علي تعليمات حضرتك بالظبط ، و عمها لسا واصل من شوية و قاعد معها جوا في مكتبي دلوقت.
أومأ "عاصم" رأسه مهمهما ، ثم سأله و قد برقت عيناه بترقب:
-حالتها .. عاملة ازاي يا طارق بيه ؟؟
-بصراحة البنت منهارة عالأخر و أعصابها مدمرة.
إتسعت إبتسامة "عاصم" الخبيثة لسماع ذلك التصريح من الضابط المحقق الذي جنده للعمل لصالحه ، فيما عاد يقول منبها:
-مش هاوصيك يا حضرة الظابط .. المعاملة لازم تكون كويسة ، و الضيافة لازم تكون كريمة ، الموضوع كله مش هياخدله يومين زي ما الاستاذ زين فهمك.
-اه طبعا طبعا يا باشا انا فاهم .. احنا من اول ما جبناها و هي قاعدة عندنا معززة مكرمة ، ده انا حتي وصيت العساكر ينقلوا الستات القلق من الحجز لحد ما الموضوع يخلص عشان مايتعرضولهاش.
-حجز !!
صاح "عاصم" بغضب ، و تابع بصوت عنيف إستنكاري و كأنه يتوعده:
-انت نزلتها الحجز يا حضرة الظابط ؟؟!
تلعثم "طارق" مرتبكا و قد شعر بإضطراب شديد من لهجة "عاصم" السافرة ، فإن إثارة غضب واحدا مثل "عاصم الصباغ" لن تكون أبدا نقطة في صالحه
فهو يعلم جيدا إلي أي مدي نفوذه واسعة ، كما أن أمواله طائلة ، يستطيع أن يفعل من خلالها ما يحلو له عن طريقه أو عن طريق ممن سواه أيضا ..
لهذا إنطلق صوته المرتبك يقول ملطفا في حذر:
-يا باشا ننقلها في احسن حتة عندنا في القسم حالا و لوحدها ، و لا تضايق نفسك اوامر معاليك علي راسنا.
بوجوم و خشونة رد "عاصم":
-انا بنفسي هاجي اشوفها بكرة .. و يا ريت ألاقيها كويسة و مش متبهدلة.
-اكيد يا باشا ، انا تحت امرك.
و أغلق "عاصم" الخط معه متنهدا ، بينما سأله "زين" مترقبا:
-ها ! قالك ايه طارق الحسيني ؟؟
أجابه "عاصم" بترفع و إنتصار:
-عمها معاها في القسم دلوقتي.
ثم إشرق وجهه قريرا راضيا ، فقد حاكي جيدا رداء التهمة فوق جسد "هانيا" بحيث إستطاع بسلطته الطاغية ، و وسائله الملتوية أن يخلق لها مأزق وهمي ليجعلها ترضخ له و تنفذ كافة أوامره .. :
-طب وبعدين يعني ؟ ايه اللي هيحصل دلوقت ؟؟
وجه "زين" تلك التساؤلات إلي "عاصم" الذي صمت لبرهة ، ثم هز كتفيه بخفة و أجابه ببرود:
-و لا جاجة .. اكيد عمها هيشرفنا انهاردة في اي لحظة .. و انا مستعد للمقابلة دي اوي .. اما هي.
و أضاف متشفيا بعد تنهيدة عميقة:
-هاروحلها بكرة القسم زي ما سمعت من شوية .. و هشوف بقي دماغها هاتوديها علي فين !
و هنا آتي أحد أفراد الحرس مهرولا و هو يقول لاهثا بوجه شاحب:
-عاصم باشا ، الحق يا باشا شهاب بيه !
هب "عاصم" واقفا كما العاصفة و هو يهتف بقلق محتد:
-ماله شهاب ؟؟
في إرتباك و وجل أجاب الحارس:
-شـ شوقي دخل يوديله الغدا فـ فـ ..
-فـ ايه انطق ؟؟
صاح به "عاصم" في عنف أجاب الحارس علي إثره مرتعد الأوصال:
-فلاقاه مرمي عالأرض و قاطع النفس خالص يا باشا.
إتسعت حدقتاه في رعب مطلق ، و بسرعة البرق ، إجتاز "عاصم" حديقة قصره ركضا يتبعه "زين" و من ثم صعد الدرج المؤدي إلي العُلية الأولي إثنتين إثنتين قفزا حتي وصل إلي غرفة شقيقه ..
دفع باب الغرفة الموارب ، و ولج إلي الداخل ..
كان صدره يعلو و يهبط ، و يتسرب من بين شفتيه صوت لهاث و هو يبحث عن أخيه بعينيه .. إلي أن وجده ملقي فوق الأرض الرخامية بجوار فراشه ، و بجانبه لفافة بلاستيكية شفافة و ورق نحاسي صغير ..
علت الصدمة وجه "عاصم" و هو يري من موضعه لون بشرة شقيقه تزداد شحوبا و إصفرارا ، كما رأي تلك الرغوة البيضاء منبعثة من جوفه تسيل علي جانب فمه
فأسرع نحوه ، و جثا إلي جانبه ، ثم قام بجس نبضات معصمه .. فوجدها ضعيفة و بطيئة للغاية ..
شعر "عاصم" بخوف بارد يدب في قلبه ، و غمره إحساس مألوف بالفقد أثقل صدره بوطء مفزع لأمر لم يقع بعد و هو يري وجه أخيه و قد غارت الدماء منه حتي إعتراه الشحوب التام
إلتقط"عاصم" اللفافة البلاستيكية و لوح بها في الهواء ، و هو يهدر بصوت كالرعد في وجوه حرس القصر الذين إجتمعوا دفعة واحدة داخل غرفة "شهاب" فور سماعهم بالكارثة التي وقعت:
-المخدرات دي دخلت لأخويا ازااي ؟ الزفت ده وصلله ازاااي ؟ انتوا كنتوا فين يا شوية *****
هدئه "زين" بصرامة قائلا:
-اهدا يا عاصم مش وقته التحقيق ده ، هنتصرف معاهم بعدين ، المهم دلوقت نلحق شهاب.
و بسرعة أخرج هاتفهه ليطلب سيارة إسعاف ، بينما تكلم أحد أفراد الحرس لإقصاء الذنب عن نفسه ، و مدافعا عن باقي زملاءه:
-يا عاصم باشا اكيد صاحب شهاب بيه اللي جه من شوية هو اللي اداله الحاجات دي ، مش ممكن احنا اللي هندخلهاله من ورا حضرتك يعني.
أكفهر وجه "عاصم" في تلك اللحظة و بدا قادرا علي القتل ، فقد كان عذر الحارس أقبح من ذنبه ، فهو من المتفرض أن يقوم بتفتيش كل من يدلف إلي القصر و إلي غرفة "شهاب" بالأخص تفتيشا دقيقا ، إذن كيف وصلت تلك السموم المخدرة إلي شقيقه ..
قال "عاصم" و هو يصدح بصوته العنيف:
-معني كده ان سيادتك خيال مآته ! اي حد ممكن يغفلك و يدخل القصر بأي حاجة.
كاد الحارس يتكلم ليدافع عن نفسه مجددا ، فقاطعه "عاصم" مزمجرا بشراسة:
-و ديني و ما اعبد لو اخويا حصله اي حاجة لهدفنكوا كلكوا بالحيا.
****
وصلت سيارة الأسعاف في وقت قصير ، و حُمل "شهاب" علي السرير النقال من غرفته إلي العربة ..
بينما إنضم "عاصم" إلي سيارة " زين" و إنطلقا بسرعة ليلحقا بسيارة الإسعاف المتجهة إلي المشفي العام بقلب المدينة ...
علي الطرف الأخر ..
ترجل "توفيق" من سيارة الأجرة التي أوصلته أمام قصر "عاصم الصباغ" ..
دفع الأجرة للسائق ، ثم إتجه صوب البوابة المفتوحة ، فإعترضا طريقه رجلان ضخمان الجثة ، و سأله أحدهم:
-علي فين يا استاذ انت ؟؟
رد "توفيق" بخشونة:
-عايز اقابل الاستاذ عاصم الصباغ.
أجابه الحارس الثاني:
-الباشا مش موجود ، خرج.
تجهم "توفيق" فصاح بهما محتدا بصوته الجهوري:
-يعني ايه خرج ! انا مش ماشي من هنا الا اما اقابله.
هتف الحارس في لطف حازم:
-يافندم بقول لحضرتك خرج ، لسا خارج حالا راح المستشفي ورا شهاب بيه اخوه عشان تعب فجأة.
أجفل "توفيق" غير مصدق أقوالهم ، لكنه إستدار علي عقبيه ليغادر ..
فأستوقفه صوت الحارس قائلا:
-لما يرجع الباشا .. اقوله مين سأل عليه يافندم ؟؟
وقف "توفيق" ثم أدار جانب وجهه الأيمن قائلا من فوق كتفه:
-انا هبقي اجيله تاني.
و غادر "توفيق" و نيران الغضب تتأجج بداخله ...
إقتحمت سيارة الإسعاف فناء المشفي العام ، ثم توقفت بالساحة الرئيسية أمام بوابة الدخول الأمامية ..
بينما أسرع "عاصم" في أعقابه "زين" نحو "شهاب" المحمول علي السرير النقال ..
رافقاه حتي ولج إلي حجرة الكشف مع طبيب الإستقبال الجالس متأهبا للحالات الطارئة ..
هتف الطبيب الثلاثيني منفعلا بالممرضة التي إنضمت إليه لتساعده و هو يكمل فحصه لحدقة عين "شهاب" المسجي فوق الفراش الطبي:
-قيسيلي ضغط الدم بسرعة.
و بينما شرعت الممرضة في تنفيذ الأوامر .. كان "عاصم" يقف أمام باب حجرة الكشف و عضلات وجهه منقبضة بقوة ، فيما عيناه تلمعان بنزف حارق خائفا من أن يتجرع مرارة الفقد مرة أخري ..
و في تلك اللحظة ، إنطلقت بغتة الذكريات داخل رأسه و قد حالت دون إهتمام بما يحدث ..
أبيه يوم أن شب الحريق بمصنعه فإنتهي بموته متفحما .. تشوه جزء من معالم وجهه .. تشرده هو و أمه و أخيه الرضيع .. نضوجه المبكر .. تصميمه علي إعادة المجد له و لعائلته الصغيرة و لإسم والده أيضا .. جمعه الأموال الطائلة أولا بهدف تحقيق الإنتقام الذي عاش ينشده ، و ثانيا لتأمين حياة الرغد و الترف إلي شقيقه الذي رأي فيه نفسه .. شقيقه !!
عاد إلي أرض الواقع مجددا ، فأنتفض مذعورا لفكرة خسارته ..
فإن خسارة شقيقه الوحيد تعني نهاية المطاف بالنسبة له ، قد تتبدد آماله ، و تخبو أحلامه التي حُرم من تحقيقها إذا رحل "شهاب" ..
قد ينتهي كل شيء ..
قد يغدو الكد و الإجتهاد و الجهد الذي بذله بالحياة العملية بلا منفعة ..
الأن تلك الإمبراطورية الضخمة التي بناها مهددة بالإنهيار ..
إندفع "عاصم" صوب باب حجرة الكشف دون أن يتوقف إنفعاله لهنيهة و هو يبحث عن شقيقه بعينيه من خلال الزجاج الدائري الصغير المرفق بالباب المعدني ..
إقترب "زين" منه ، و مد يده و ربت علي كتفه بلطف مواسيا إياه بقوله:
-ماتقلفش يا عاصم .. ان شاء الله سليمة ، ماتخافش هيبقي كويس.
تجعدت قسمات وجه "عاصم" بألم عصبي و هو يحاول أن يري ما يجري بالداخل دون فائدة ، فتحرك في مكانه كالنمر الحبيس وضرب الحائط بقبضته مغمغما:
-غبي .. ليه بيعمل فيا كده لييييه ؟ نقصه ايه ؟ انا قصرت معاه في ايه ؟؟
وضع "زين" يديه علي كتفي "عاصم" و هو يقول مشفقا علي حالته:
-اهدا يا عاصم مش كده.
أغمض "عاصم" عينيه بقوة ، ثم أطلق تنهيدة حارة و قال بصوت متحشرج من فرط إنفعاله:
-ليه اخويا بيعمل فيا كده يا زين ؟ ليه ؟ .. ده هو مستقبلي .. هو احلامي و هو طموحي .. انا عملت كل ده عشانه .. من صغري و انا ماسبتش شغلانة متعبة و لا مهينة الا و اشتغلتها عشان اقدر اقف علي رجلي و احقق الثروة دي .. كل اللي معايا بتاعه و ملكه .. يبقي ليه بيعمل في نفسه كده ؟ ليه عايز يحرمني منه ؟؟!!
قطب "زين" متأثرا بكلمات صديقه ، و مط شفتيه متأسفا علي ذلك الوضع الصعب ..
خرج الطبيب أخيرا من حجرة الكشف و هو يتنفس الصعداء ، فأقترب منه "عاصم" متسائلا بصوته الخشن:
-اخويا عامل ايه يا دكتور ؟ جراله حاجة ؟؟
منحه الطبيب إبتسامة بسيطة ، و قال يطمئنه:
-الحمدلله بقي كويس.
زفر "عاصم" بإرتياح مستندا إلي الجدار البارد من خلفه ، بينما تابع الطبيب كلامه بجدية:
-لو كنتوا اتأخرتوا شوية كان وصل هنا متوفي ، لكن الحمدلله انكوا جبتوه بسرعة ، ظبطنا معدل ضغط الدم لكن للأسف في خراريج و إلتهابات في الكبد لو ماتعلجوش صمامات القلب هي كمان هتلتهب و هنا الخطر هيبقي اقوي.
فغر "عاصم" ثغره و قد تلقي صدمة أعنف هذه المرة ، بينما أضاف الطبيب متنحنحا:
-التحاليل كشفت انه اتعاطي جرعة هيروين مفرطة كانت كفيلة انها تموته في الحال .. بس واضح انه مش بيتعاطي من فترة طويلة اوي لان نسبة الهيروين في جسمه مش عالية بدرجة كبيرة ، و ده يبين انه بيزود الجرعة في كل مرة عشان يوصل لدرجة النشوة اللي حققها في اول مرة اتعاطي فيها .. انا انصحكوا انكوا تودوه مركز اعادة تأهيل للمدمنين ، هناك هيقدموله العلاج الصحيح و العلاج النفسي كمان هيبدأوا معاه من الاول خالص بس اهم حاجة دلوقتي اننا نعالجله الأعضاء المتضررة.
-اعمل اللازم يا دكتور .. و انا هاتصرف في الباقي.
قال "عاصم" هذه الجملة واجما ، بينما أومأ الطبيب رأسه موافقا ، ثم إستأذن منهما ليرحل ..
شكره "عاصم" قبل رحيله ، فيما نظر إليه "زين" و سأله بإهتمام:
-ناوي علي ايه يا عاصم ؟؟
أجاب "عاصم" بفم متقلص و ملامح ثائرة:
-شهاب هيرجع البيت و هيكمل علاجه بجد المرة دي .. و طقم الحراسة كله هيتغير بس بعد ما اعرف شغلي معاهم واح واحد و اعرفهم ان الغلطة معايا بفورة خصوصا لو كانت حاجة تخص اخويا.
ثم تابع بشراسة:
-اما الواد صاحبه ده اللي جاله انهاردة انا هاجيبه و هاوريه هو غلط مع مين.
-عمرك ما كنت مؤذي كده يا عاصم !
قالها "زين" ممتعضا ، فرمقه "عاصم" بنظرة ثاقبة و هو يهتف بقوة:
-ده اخويا يا زين .. اخويا اللي ماليش غيره.
و أضاف يتحدث بشراسة إلي "زين" أو ربما إلي نفسه:
-و يا ويله اللي يقرب منه او يمسه بالشر .. يا ويله.
أمام قسم الشرطة ..
وقفت "هنا" تستجدي أمها بإسلوب إنفعالي قائلة:
-يا ماما احب علي راسك يلا بينا نرجع البيت ، احنا مالناش فيه ما تتحبس و لا تولع بجاز احنا مالنا !!
نهرتها "قوت القلوب" بقسوة قائلة:
-اخرسي يا بت انتي ، احترمي نفسك بقي و اياكي اسمع منك كلمة زيادة ، انا اصلا ماكنتش عايزاكي تيجي معايا انتي اللي شبطي فيا.
ردت "هنا" في سخط إستنكاري:
-كنتي عايزة تدخلي القسم لوحدك ؟؟!
-و ايه يعني ياختي هايكلوني و لا هايكلوني ! و بعدين اتهدي و اسكتي خليني ادخل اطمن عالبت ، ده انا اللي ربيتها من يوم ما امها اتوفت الله يرحمها و من كتر حبي فيها سميتك اسم مقارب لأسمها في الاول ماكنتش بعرف انطق اسم هانيا ده ، و الله ما كان هيغمدلي جفن لو ما كنتش عرفت فين اراضيها لولا اتصلت بعمها الاستاذ توفيق ماكنتش هعرف انها محجوزة هنا.
و نظرت إلي بوابة القسم الحديدية ، و هي تبتهل قائلة:
-منه لله اللي كان السبب.
ثم خطت إلي الداخل تتبعها "هنا" علي مضض ..
توجهت نحو أقرب مكتب بالرواق الأقل إزدحاما في تلك الساعة ، حيث غربت شمس النهار ليحل محلها الليل الحالك ..
ثم سألت بتلقائية ذلك الضابط صاحب رتبة - أمين الشرطة - :
-لو سمحت يابني ، في واحدة محجوزة عندكوا هنا من الصبح اسمها هانيا مصطفي علام .. اعمل معروف دخلها الاكل ده احسن دي ياعيني علي لحم بطنها من ساعة ماجبتوها هنا.
و رفعت سلة الطعام الصغيرة ، ثم وضعتها فوق سطح المكتب قائلة:
-و لو انها تقالة لو قدرت تخليني اشوفها و اطمن عليها يبقي كتر خيرك.
باغتها الأخير في عنف و هو يلوح بيده بقوة:
-شيلي الحاجات دي من قدامي يا ولية انتي ، انتي فاكرة نفسك فين !!
عند ذلك ، تدخلت "هنا" قائلة و قد إرتفعت نبرة صوتها بقدر جذب الإنتباه نحوها:
-ولية مين يا حتة نطع انت ؟ انشالله يولولو عليك ، ما تحترم نفسك و اتكلم بأدب.
إكتست ملامح الضابط بذهول إستحال إلي غضب متقد و هو يقول مستنكرا:
-انتي اتجننتي يا بت انتي ؟ بتكلمي مين كده ؟؟
إهتاجت "هنا" و هي تصب سبابها فوق رأسه:
-بت في عينك يا قليل الادب ، لم نفـ ...
كممت "قوت القلوب" فم إبنتها قبل أن تكمل عبارتها و هي تقول محاولة التمويه عن رعونة إسلوب "هنا" الدفاعي:
-معلش يابني سامحها هي ماتقصدش و الله.
حاولت "هنا" تخليص فمها من كف أمها المطبق عليه لتكمل سيل لعناتها دون فائدة ، بينما نظرت إليها "قوت القلوب" و زجرتها بغضب قائلة:
-اتأسفي للباشا يا هنا.
و بقوة أزاحت "هنا" يد أمها عن فمها قائلة بعصبية:
-مين اللي يتأسف لمين ؟ ده انا ممكن اعملله محضر دلوقتي و انزله من عالمكتب اللي فرحان بالقاعدة فوقيه ده.
إبتسم الضابط في تهكم ، و إسترخي فوق مقعده ، ثم صمت لثوان قبل أن يقول بهدوء خبيث:
-بمناسبة المحاضر .. انا عندي هنا في درج المكتب شريطين برشام محتار اوديهم فين ! .. تاخدي واحد ؟؟
شهقت أمها و همست لها متوسلة:
-يابنتي بالله عليكي انكتمي ليلبسك تهمة بجد و انتي واقفة.
إلتمعت عينا "هنا" بالغضب و هي تحدق بذلك البغيض عاجزة عن الرد عليه ، حتي شنف سمعها من خلفها صوت رجولي يقول:
-ايه الدوشة دي ؟ ايه اللي بيحصل هنا ؟؟