الجزء 15: الفرار !

كانت آشعة الشمس تخترق ستائر الغرفة بنورا بهيا ..
بينما إستيقظت "هانيا" علي إثر الضوء الذي ضرب عينيها ، كانت تشعر بألم في رأسها و لم تدر لأول وهلة سببا له و لا لتلك الكآبة التي غشيت كيانها !
لكن سرعان ما عاد إليها سيل الأحداث التي وقعت بالأمس ..
فتدفقت الدموع من عينيها في الحال ، و شعرت بها ساخنة حارة و مؤلمة ، ثم دفنت وجهها في الوسادة و إنفجرت منتحبة ...
كانت ما تزال غير مصدقة بأنه عاملها بتلك القسوة ، صحيح أنه شيطان متجبر ، و لكن لم تتوقع أن يكون مجردا من كل عاطفة آدمية بهذا الشكل !
و لم يعزها أن عمله إرتد عليه و أن خطته فشلت ..
بل شعرت "هانيا" بشكل لا يقبل الشك بالجهد الخارق الذي كان عليه أن يبذله ليبعد جسده المتآجج عن جسدها ، لكنه إنتزع نفسه إنتزاعا و هو في ذروة إستعداده لغزوها ..
لم تسمع "هانيا" قرع الباب في تلك اللحظة ، كما لم تسمع الصوت الذي ناداها و ظلت علي حالها .. حتي إنفتح الباب و دخلت الخادمة الشابة و هي تحمل بين يديها صينية الإفطار ..
بينما إلتفتت إليها "هانيا" و قد إنعقد لسانها و ملكها الخوف .. إذ بسبب الدموع التي منعتها عن الرؤية الواضحة ..
لم تدرك ما إذا كان الشخص الواقف أمامها "عاصم" أم لا ..
ثم أخيرا ، جاء الصوت الأنثوي إلي سمعها:
-صباح الخير يا هانم !
تجهم وجه الخادمة و هي تنظر إلي "هانيا" بفضول و تتمتم شيئا لم تفهم منه شيئا .. :
-في ايه ؟؟


سألتها "هانيا" بإنزعاج منفعل ، فهزت الخادمة رأسها بإرتباك و هي تقول متلعثمة:
-عـ عاصم بيه امرنا نطلعلك الفطار هنا !
و كادت تضع الصينية فوق الفراش .. إلا أن "هانيا" صاحت بها بعنف:
-شيلي الاكل ده من هنا و اطلعي برا.
أجفلت الخادمة بذهول ، و لكنها إنصاعت لأمرها و إندفعت خارجة بعد أن أغلقت باب الغرفة خلفها ..
هدأت "هانيا" قليلا عندما وجدت نفسها مجددا وحدها في غرفتها ..
و بتثاقل .. نهضت من فراشها و إتجهت صوب الحمام ..
ملأت الحوض بالماء البارد ، و غمست وجهها فيه مع إبقاء عينيها مفتوحتين حتي ترطبهما و تزيل الإحمرار عنهما ..
نظفت أسنانها ثم عادت إلي الغرفة و هي تنشف وجهها بالمنشفة البيضاء الصغيرة ..
تأملت صورتها في المرآة .. بدا كل شيء و لو في الظاهر علي ما يرام بعد أن غسلت وجهها و أزالت عنه معالم القهر و الوهن ، غير أن الشحوب الذي ملأ وجنتيها أفشي حقيقة أمرها ، و بدت عينيها الزرقاوين شديدتي الإتساع في وجهها الشاحب ، و حول فمها إرتسمت علامات الإرهاق الشديد ..
أطلقت تنهيدة من أعماق أعماقها .. فهي لم تكن تود أن يراها "عاصم" أو غيره في هذه الصورة التي توحي بالضعف و الإستسلام ..
زفرت في كدر و هي تتجه نحو خزانة الملابس لتبدل ثيابها ، و لكنها شعرت بحاجة قوية للإغتسال لتصفي ذهنها و لتلين عضلات جسدها المتيبسة ..
لذا أقفلت الخزانة ، و توجهت مرة أخري إلي الحمام ..


كان "عاصم" جالسا مترأس مائدة الطعام ، و أمامه كان يجلس "شهاب" يتناول الإفطار بشهية أراحت بال شقيقه ..
و بفخر راح "عاصم" يتأمل مسرورا خديه الصارمين البارزين ، و جسده الذي عاد إليه وزنه الطبيعي بعد صراع مع عادة خبيثة إستطاع أن يقلع عنها بضراوة و شجاعة .. :
-بس قولي بقي ! يا تري خطيبتك دي حلوة ؟!!
قال "شهاب" ذلك متسائلا و هو يمضغ لقمة كبيرة ، فأجابه "عاصم" بجفاف مصطنع:
-اه حلوة .. بس خد بالك ، دي هتبقي مرات اخوك يعني احترم نفسك.
قهقه "شهاب" بمرح و قال:
-ماشي يا عم هحترم نفسي .. رغم اني مش مصدق انك اخيرا هتعملها .. طيب انا هتعرف عليها امتي ؟؟
-انهاردة علي الغدا هعرفك عليها.
و هنا .. تناهي إلي سمع الشقيقين صوت "زين" الصاخب حين أقبل عليهما مهرولا:
-لما عاصم كلمني الصبح و قالي شهاب هيرجع البيت انهاردة سيبت الحاج و الحاجة و ركبت عربيتي و جيت جري.
إلتفتا إليه معا .. بينما رمقه "شهاب" بنظرة ضجرة مفعمة بالضيق .. فهو لم يكن راضيا يوما علي وجود "زين" المتطفل بحياة شقيقه ، إذ يعتبره "عاصم" فرد أساسي بعائلته ..

نهض "شهاب" متكاسلا ليصافح "زين" و علي وجهه إبتسامة باهتة ، فيما قال "زين" مبتهجا و هو يصافحه بيد قوية ثابتة ، ثم يجذبه إليه ليعانقه:
-حمدلله عالسلامة يا واد .. نورت بيتك اخيرا.
كان "عاصم" يراقبهما مبتسما و هو يرتشف قهوته الساخنة علي مهل ، بينما تخلص "شهاب" من "زين" و خو يكبت تأففه بجهد ، ثم رد عليه بإيجاز و بلادة:
-الله يسلمك .. شكرا يا زين.
و إلتفت إلي شقيقه متابعا:
-انا هطلع اخد دوش و اغير هدومي و هبقي انزل علي الغدا.
ثم عاد ينظر إلي "زين" و يسأله بإبتسامة مصطنعة:
-هتتغدا معانا اكيد يا زين !
أومأ "زين" بحماسة عفوية و هو يجيبه:
-اكيد ، انا انهاردة قاعد معاكوا لأخر الليل لازم نحتفل برجوعك بالسلامة.
أطلق "شهاب" ضحكة قصيرة مقتضبة ، و إستأذن منهما ، ثم إستدار علي عقبيه و غادر حجرة الطعام ..
بينما دعا "عاصم" صديقه للجلوس بإشارة من رأسه قائلا:
-اقعد يا زين .. اقعد افطر معايا.
لبي "زين" دعوة صديقه بكل سرور و سحب كرسي و جلس أمامه .. ثم سأله و هو يسكب لنفسه من تلك القهوة الطيبة:
-ها يا سيدي .. احكيلي بقي ! عملت ايه من ساعة ما سيبتك ؟؟
قطب "عاصم" و هو يستوضحه:
-عملت ايه في ايه مش فاهم !!


-قصدي علي النزيلة اللي اصريت تستضيفها في بيتك .. هانيا علام.
أومأ "عاصم" .. ثم تنهد بعمق و أجابه بهدوء بارد:
-ماعملتش حاجة جديدة .. عرضت عليها الجواز زي ما قلتلك قبل كده.
-و وافقتك ؟؟
سأله "زين" مترقبا ، فأجاب "عاصم" بضيق:
-هتوافق .. هتوافق يا زين.
خيم بعد هذه المبادلة بالحديث صمت ثقيل قطعته الخادمة بدخولها المفاجئ و هي تقول بشيء من التوتر:
-عاصم بيه .. هانيا هانم رجعتني بالفطار .. مارضيتش تاخده مني !
تجهم وجه "عاصم" للحظات قبل أن يقول بلهجة آمرة جامدة:
-طيب هاتي الفطار و تعالي ورايا.
إنحنت الخادمة لسيدها في تهذيب ، بينما إستأذن "عاصم" من صديقه قائلا بإقتضاب:
-خليك زي ما انت .. شوية و راجعلك.
و تواري عن ناظريه إلي خارج حجرة الطعام ، فزفر "زين" ممتعضا من تصرفات صديقه التي تعدت حدود اللباقة ...


أحست "هانيا" بنشاط و إنتعاش في كل أنحاء جسدها بعد أن فرغت من حمامها الساخن ..
عادت إلي الغرفة و وقفت أمام المرآة .. راحت تدرس تقاطيع وجهها الملائكي في رضا ..
فقد عادت الدماء تصبغ وجنتيها من جديد و ساد التورد بشرتها الناصعة النضرة ..
همت بنزع المنشفة العريضة التي لفتها حول جسدها .. إلا أنها تسمرت بمكانها عندما سمعت وقع خطوات قوية تعرفها جيدا تقترب من الغرفة ..
ظل جسدها مشدودا ساكنا .. إلي أن أنتفضت عندما سمعت صوت الطرقات القوية علي الباب ..
إحتلها إحساس بالتوتر و الخوف ، فركضت صوب الخزانة مسرعة و نزعت المنشفة عنها ، ثم تناولت من أحد الرفوف مئزرا وردي اللون و وضعته حول جسدها ..
بينما إستمر الطارق يلح بإصرار إضطرها إلي التوجه نحو الباب بخطي مرتبكة ..
و بعد أن هدأت ثورتها و إستعادت شيئا من رباطة جأشها ، فتحت الباب علي زاوية صغيرة و أطلت برأسها من خلال الفتحة ..
و كان تخمينها في محله .. إذ كان "عاصم" يقف أمام الغرفة و بنيته الضخمة الفارعة تملأ أطار الباب ، و قد بدا وجهه الصارم يحمل شيئا من التصميم و اللين في آن .. :


-عايز مني ايه ؟؟
قالتها "هانيا" بعنف مستهجنة و هي تقذفه بنظرة نارية ..
إبتسم "عاصم" دون أن ينزعج البتة من نظراتها أو لهجتها اللاذعة ..
و بإصرار صارم ، أمسك بمقبض الباب و دفعه ببطء حتي إنفتح علي مصراعيه .. تراجعت "هانيا" فيما دلف "عاصم" متقدما الخادمة الشابة التي سارت في أعقابه حاملة بين يديها صينية الإفطار التي جاءت بها منذ قليل و التي تتكون من بعض الخبز المحمص إلي جانب البيض المقلي مع الفطر ثم الزبدة و العسل و طبعا كأسا من العصير الطازج ..
أصرف "عاصم" الفتاة بعد أن وضعت الطعام فوف طاولة صغيرة توسطت الغرفة ، بينما هتفت "هانيا" و الغضب المستعر يعمق لون عينيها و يوسعهما:
-انت عايز مني ايه تاني يا حيوان انت ؟ جاي تكمل عليا ؟ مش هاديك الفرصة .. لو قربت مني هخزألك عنيك دول.
أطربته محاولتها التهديدية الهزيلة ، فضحك متلذذا بشراستها ، ثم قال و هو يحني رأسه ببادرة متفهمة أمام موقفها العدائي:
-ماتخافيش .. انا مش هضيقك و لا هقرب منك .. علي الاقل دلوقتي .. ممكن اصبر لحد ما نتجوز.
شمخت برأسها قائلة و هي تتعمد تثليج صوتها بأقصي درجة من الإحتقار:
-انت بتحلم .. مستحيل اسمحلك تقرب مني او تحط ايدك المقرفة دي عليا.
إبتلع "عاصم" الإهانة و كأنها لم تكن و ضبط أعصابه بجهد بالغ حتي لا يرتكب خطأ يندم عليه فيما بعد ..
و ليخمد جذوة غضبه ، أخذ ينقل بصره متأملا وجنتيها الورديتين ، و شعرها العسلي الغزير الذي تجعدت أطرافه بتأثير الحمام ، و تهدلت خصلاته فوق كتفيها و حول عنقها ، فبدا في إنسجام آسر مع البشرة البيضاء الصافية و العينين الزرقاوين المتألقتين ..
لاحظت "هانيا" رجفة في ركن فم "عاصم" و هو ينظر إليها بطريقة جعلت ضغطها الدموع يرتفع ..
تشنجت في وقفتها و قالت و هي تجر الكلمات من بين أسنانها المطبقة بغضب:
-اخرج من الاوضة حالا .. مش طايقة ابصلك اكتر من كده.


إنقلب صبره غضبا ، فإندفع نحوها كالسهم و إمتدت يداه لتطوقاها ، ثم قال بصوت لم تخدعها رقته:
-خدي بالك يا جميلتي .. ممكن تكوني شايفة مسألة استفزازي حاجة مسلية بالنسبالك او محاولة تنفيس عن كرهك ليا .. لكن انا بحذرك .. لو استمريتي في كده كتير العواقب مش هترضيكي ابدا .. انا مش من حجر !
كان رد فعلها تلقائيا .. إذ نفضت شعرها الذهبي بعصبية للوراء كما تفعل عادة في اللحظات الحرجة و صاحت به:
-ابعد عني ! ربنا ياخدك بقي او ياخدني عشان اخلص منك.
إقترب منها أكثر و هو يتحداها بطريقة مسلية كسولة ، ثم قال:
-عارفة يا هانيا .. انتي مش هتحبيني الا بعد ما اتجوزك و اخليكي ام لولادي.
أولاد لـ"عاصم الصباغ" ؟ و منها ؟؟!!
جف حلقها و تقلصت معدتها كالكماشة .. نظرت إليه ملتهبة العينين و الوجنتين و قالت:
-انا احبك ! .. لأ و كمان متخيل انك هتوصل معايا لنقطة الخلفة و الولاد ؟ انت اكيد اتجننت !
ثم أضافت بلهجة قاطعة قاسية:
-هقولهالك تاني .. انا بكرهك .. عمري ما كرهت حد في حياتي اد ما بكرهك ، انت عدوي و عمر ما شعوري ده هيتبدل ابدا .. انت حابسني هنا في بيتك انا مش قاعدة بإرادتي.
تمتم "عاصم" بهدوء و قد بدا منشغل الخواطر و هو يعبث بشعرها و كأنه غير شاعر بما يفعله:
-و انا مصمم عليكي .. و قريب اوي هتشوفي بعينك كلامي و هو بيتحول لحقيقة لما تلاقي نفسك بقيتي حرمي المصون.
لم تستطع "هانيا" منع رجفة الخوف التي إعترتها ، لكنها زمجرت بخشونة:
-اهون عليا اموت نفسي قبل اليوم ده.
رفع رأسه بحدة و هتف بصرامة:
-حتي ده مش هسمحلك بيه .. مش هسيبك ، انتي ليا.
ثم جمد بلا حراك ، فتجمدت بدورها بفعل صوته النافذ القوي إلي أن سمعته يقول بلطف هذه المرة و قد تبينت في نبرته شيئا من التوسل:
-هانيا .. فكري في الموضوع كويس .. انا مش عايز اتجوزك غصب عنك .. عايزك توافقي و انتي راضية ، و في المقابل انا مستعد انفذلك كل طلباتك ، لو عايزاني ارجعلك اللي خدته من ابوكي قبل ما يموت اعتبريه حصل رغم ان ده حق ابويا و انا مارجعتوش بالساهل ، بس لو عايزة كده هنفذلك رغبتك و كفاية عليا اللي حصل لابوكي .. ده في حد ذاته انتقام لابويا ريحيه في تربته.
بحديثه عن والدها بتلك الطريقة أشعل فيها نيران الحقد و الغضب ، و من خلال غضبها المتآجج ، سمعت نفسها تجيب بهستريا و شراسة:
-ده انا اللي هنتقم لابويا منك .. و الله هقتلك ، مش هسيبك تتهني باللي خدته اصلا.
و قاومته بعنف بالغ إضطره إلي إفلاتها ، بينما شتت الغضب تفكيرها و أرجف جسدها المنكمش ..
لم يعلق "عاصم" علي كلماتها ، بل وقف للحظات يراقبها ساكنا .. ثم أطرق برأسه و قال بفتور:
-اعملي حسابك هنتغدا سوا انهاردة .. هعرفك علي اخويا و علي شخص تاني قريب مني اوي و بعتبره اخويا التاني .. يا ريت ماتنسيش .. الغدا بيتقدم الساعة 4 .. يعني بعد ساعتين من دلوقتي.


و تركها و رحل .. فيما إضطرت "هانيا" التي أصبحت داخل الغرفة وحدها إلي الجلوس لأن قدميها ما عادتا تحملانها ..
فتهاوت علي أقرب مقعد و هي تفكر .. أنه لم يستسلم بعد ، و لذلك عليها مغادرة قصره هذا بأسرع ما يمكن ..
فلو طالت مدة بقائها هنا ، فإنه بلا شك سينفذ مخططاته بطريقة أو بأخري ..
إنتفضت "هانيا" فجأة حين رن بأذنها صدي كلماته .. إذ قال لها منذ قليل أنه يود أن يعرفها علي شقيقه و علي شخص أخر مقرب منه !
لابد أنه "زين" الذي قابلته مسبقا و عرض عليها مساعدته في الفرار من هنا ..
إنها فرصتها الأخيرة .. و سواء ساءت أم أبت فهي مضطرة إلي أن تلجأ إليه ..
هذا أخر سلاح متاح لها ، و عليها أن تستخدمه بمهارة و حذر ...

في تمام الثانية ظهرا ..
كان "رشدي" يصطحب "توفيق" معه إلي نقطة الشرطة لعمل إبلاغ .. فالأمر أصبح لا يمكن السكوت عليه ..
توجها معا إلي مكتب الضابط ، و بدأ "رشدي" الكلام:
-مساء الخير .. عايزين نبلغ عن حالة اختطاف.
تطلع إليه الضابط الجالس فوق مكتبه رافعا حاجبيه في إستخفاف و قال:
-يا فتاح يا عليم .. اختطاف مرة واحدة ! .. و مين بقي اللي اتخطف ؟؟
عند ذلك .. رد "توفيق" عن "رشدي":
-بنت اخويا حضرتك .. بنت اخويا اللي اتخطفت.
أومأ رأسه مهمهما ، ثم سأله:
-و اتخطفت من امتي و ازاي ؟؟
أجابه "توفيق" شارحا:
-هي مختفية من اسبوعين تقريبا ، كانت نازلة الصبح لجامعتها و مارجعتش من يومها.
-و جامعتها دي فين ؟؟
-علي طريق 6 اكتوبر.
هز الضابط رأسه ، ثم زم شفتيه و قال:
-بص يا استاذ من الاخر المنطقة دي مش تبع القسم بتاعنا.
إستوضحه "توفيق" مقطبا:
-يعني ايه ؟؟


-يعني تروح تبلغ في قسم مصر الجديدة و هما يدوروا بقي.
توجه "توفيق" هو و "رشدي" إلي قسم ( مصر الجديدة) و دلفا إلي مكتب الضابط المسؤول .. :
-مساء الخير .. عايزين نبلغ عن حالة اختطاف.
قالها "رشدي" مرة أخري ، بينما إنتفض الضابط و هو يقول متبرما:
-يادي الليلة السودة .. اختطاف ايه بس يا عم انت .. هو يوم باين من اوله !
ثم سأله متأففا:
-طب انجز و قول اللي عندك يلا.
لم يتكلم "توفيق" بل مضي "رشدي" يشرح له ما سبق و قاله "توفيق" للضابط الأول و أضاف علي ذلك:
-بس يافندم .. لكن احنا عارفين مين اللي خطفها.
بعصبية باغته الضابط:
-يعني عارف و ساكت ؟ طب ما تقول !
أجابه "رشدي" علي الفور:
-واحد اسمه عاصم الصباغ.
تغضن جبين الضابط بعبسة حائرة و هو يردد:
-عاصم الصباغ ! انا سمعت الاسم ده قبل كده .. متهيألي قريته في الجرايد.
عند ذلك .. نطق "توفيق" فقال بصبر نافذ:
-عاصم الصباغ رجل اعمال بيشتغل في التصدير و الاستيراد و مؤخرا بقي بيشتغل في المقاولات كمان.
همهم الضابط متداركا ، ثم عاد يقول مستنكرا:
-يعني حضارتكوا جايين و عايزين تفهموني ان واحد زي ده هيخطف بنتكوا ! ليه ان شاء الله ؟ تبقي بنت مين يعني ؟ و لا هو لي عندها ايه ؟؟
في تلك اللحظة .. إنفلت صبر "توفيق" فصاح به بإنفعال:
-احنا جايين نقدم بلاغ بوقعة حصلت و من واجب سيادتك انك تاخد اجراءاتك مش تقعد علي مكتبك و تحكي معانا في كلام فاضي مايخصكش اصلا.
توهجت عينا الضابط بغضب ، فهب واقفا و هو يهدر بصوته الخشن:
-انت اتجننت يا راجل انت ؟ بتعلي صوتك عليا ؟ ده انا اوديك ورا الشمس.
كاد "توفيق" يرد ثانية ، فقبض "رشدي" علي ذراعه و ضغط عليه و هو يرمقه بنظرة محذرة ، ثم إلتفت إلي الضابط و قال بلطف:
-احنا مانقصدش يا باشا .. احنا بس قلقانين علي بنتنا ، يعني سيادتك حط نفسك مكانا.
عاد الضابط يجلس مجددا و هو يقول بمزيج من الحدة و الوقاحة:
-و الله احنا مش فاتحين القسم جميعة لحقوق الانسان .. و انا ماقدرش اخد العساكر و اتهجم علي بيت راجل مهم زي ده و احتمال يطلع بلاغكوا فشنك و اخش انا في سين و جيم ، مسؤليتي تبدأ لو في شهود علي الوقعة ، عندكوا شهود ؟؟
تبادل "رشدي" النظرات مع "توفيق" ثم تطلع إلي الضابط و هز رأسه نفيا ، ثم سأله:
-طب و العمل يافندم ؟؟
أجابه الأخير بفظاظة:
-روح بقي لشرطة المديرية ، لشرطة المباحث ، حرس الحدود اشتكي في همسة عتاب .. المهم تبعد بالبلوة دي عننا ، يلا بقي بالسلامة انت و هو.
غادرا قسم الشرطة في خيية و قلة حيلة ..
ظلا صامتين حتي قطعا منتصف الطريق .. عندها وقف "توفيق" فجأة و صاح وسط المارة بغضب جم:
-اديني سمعت كلامك اهو يا رشدي و روحت بلغت .. حصل ايه بقي ؟ الدنيا اتقلبت ؟ البت رجعت ؟؟
هدئه "رشدي" بنبرة إشفاق زادته حنقا:
-اهدا .. اهدا يا توفيق ليها حـ ..
قاطعه "توفيق" صائحا بإنفعال جذب إنتباه الناس من حولهم:
-ماتقوليش ليها حل .. زهقت من الكلمة دي .. حاسس اني عامل زي الولايا .. خلاص كده ؟ استعوض ربنا في البت يعني ؟؟
أمسك "رشدي" بيده و هتف بصرامة:
-قلتلك اهدا يا توفيق .. خلاص .. الليلة دي الموضوع هيتحسم .. بنت اخوك هترجعلك الليلة دي !

***************************

أدار "مروان" مفتاحه في قفل باب الشقة التي وعد "حنة" بالإنتقال إليها ، ثم وقف علي العتبة و أضاء الأنوار و دعاها للدخول أولا بوجه باسم ..
لبت "حنة" دعوته و خطت إلي الداخل ببطء .. جابت ببصرها أرجاء الشقة ..
كانت أنيقة ، فسيحة و مترفة ، الديكور عاجي مصمم علي الطراز الفرنسي ، و الجدران مطلية بألوان زاهية مريحة للبصر .. أما الشرفة فكانت بعرض الحائط المقابل للباب ، و عندما إتجه "مروان" نحوها و أزاح الستائر المخملية البيضاء عن الزجاج المطل علي المناظر الخلابة ..
غمر ضوء النهار الشقة بنوره القوي الذي طغي علي أضاءة المصابيح ذاتها ..
عاد "مروان" إلي "حنة" ثم قال و هو يبتسم لها إبتسامته ةالجذابة:
-ها يا حبيبتي ! ايه رأيك في بيتنا الجديد ؟؟
منحته إبتسامة رقيقة ، و أومأت رأسها بإستحسان قائلة:
-حلوة اوي.
طوقها بذراعيه و هو يقول مصرحا:
-علي فكرة ده كان بيتنا القديم .. قبل ما ناخد الفيلا كنا عايشين هنا انا و ماما و بابا و رضوي.
عبست "حنة" و هي تتساءل بريبة:
-طيب هو حد منهم ممكن يجي هنا ؟؟
-لا ماتقلقيش ، محدش بيجي هنا خالص تقريبا محدش بقي فاكر الشقة اصلا.
تنهدت "حنة" براحة ، فإبتسم "مروان" و هو يقول بهدوء:
-انا هسيبك دلوقتي و هروح اعمل مشوار مهم لزوم المفاحأة اللي كنت قلتلك عليها.
و تابع و هو يتلفت حوله:
-البيت نضيف زي ما انتي شايفة البواب و مراته قاموا بالواجب و زيادة و نضفوه حلو.
ثم دنا منها و طبع قبلة علي وجنتها قبل أن يقول بلطف:
-مش هتأخر عليكي.
إبتسمت له بنعومة و قالت:
-خلي بالك من نفسك !

كانت تجلس بحجرتها البسيطة شاردة الذهن ، و قد بدا الضيق واضحا علي ملامحها تمام الوضوح ..
بينما تسللت إبنتها علي رؤوس أصابعها و دلفت إليها .. و علي حين غرة إنقضت عليها بخفة صائحة:
-سرحان في ايه يا قوووت ؟؟
-بسم الله الرحمن الرحيم !
هتفت "قوت القلوب" بجزع ، ثم عبست بحدة و هي توبخ إبنتها قائلة:
-يا بنتي حرام عليكي ، في مرة هتموتيني بعمايلك دي !
إبتسمت "هنا" ببساطة ، و أراحت رأسها علي كتف أمها بعفوية مرحة قائلة:
-بعد الشر عليك يا جميل .. انشالله انا.
ثم رفعت وجهها و نظرت إليها متسائلة بجدية:
-قوليلي بقي يا ماما ! مالك ؟ ايه اللي مضايقك و مخليكي قاعدة لوحدك في اوضتك ؟؟
تنهدت "قوت القلوب" و صمتت قليلا ، ثم قالت بآسي:
-انهاردة اتصلت بالاستاذ توفيق علام عشان اطمن علي هانيا.
و هنا تأففت "هنا" بضيق و هي تسألها:
-و قالك ايه ؟؟
بنبرة مفعمة بالحزن أجابت:
-يا قلبي البت في محنة .. محدش عارف ينجدها ، منه لله ، منه لله اللي مش راضي يحلها و يسيبها في حالها.
و فرت الدموع الصادقة من عينيها ، بينما تساءلت "هنا" بإهتمام:
-هو مين ده ؟؟
مسحت "قوت القلوب" دموعها بظهر يدها ، و نظرت إليها للحظات صامتة .. ثم قصت عليها الأمر بإيجاز .. :
-يا نهار اسود ! هو في كده ؟؟!
هتفت "هنا" مشدوهة ، فردت أمها بمرارة:
-الظلم و الافترا يعملوا اكتر من كده .. بس هانيا مالهاش ذنب ، حرام البت ماعملتش حاجة عشان يحصلها كده !!
قطبت "هنا" في تأثر من حديث أمها و راحت تفتش معها عن حل .. حتي قالت بشيء من التردد:
-طيب .. ممكن اياد يساعدنا في الموضوع ده ! خلينا ناخد رأيه.

عند دقات الرابعة مساءً ..
كان غروب الشمس الذهبي قد صبغ الأفق بلون الكريم و العنبر الداكن ..
بينما كانت "هانيا" قد إنتهت من إرتداء فستانا من الموسلين الأزرق الناعم المغطي بالأورغانزا البيضاء ، كان يتوافق تماما مع زرقة عينيها ، كما بدت فيه و كأنها عائمة في غيمة ..
وقفت أمام المرآة تنظر إلي نفسها .. لقد تركت شعرها الأشقر ينسدل بحرية علي كتفيها ، و قد وضعت حمرة فاقعة ، بالإضافة أنها إرتدت طقم المجوهرات الذي أهداه "عاصم" إليها ..
فإذا أرادت أن تستعيد حريتها المنشودة .. إذن فعليها أن تخدعه و توهمه بأنها خضعت لإرادته و تقبلت الأمر الواقع ، و تلك هي الخطوة الأولي للوصول إلي مآربها ..
أمسكت بمقبض الباب ، و هي تشعر بتسارع وجيب قلبها و بتثلج أطرافها ، فأخذت نفسا عميقا و أدارته ..
غادرت غرفتها ، و هبطت الدرج و هي تسمع حفيف فستانها فوق جلدها الناعم ..
إجتازت البهو ، و منه قطعت الردهة الطويلة المؤدية لحجرة الطعام حتي وصلت ..
كان هناك علي المائدة ثلاثة رجال .. و هي تعرف جيدا إثنان منهم ، أما الثالث فقد بدا فتيا إلي حدٍ ما ..
لكنه كان يحمل الكثير من ملامح "عاصم" غير أنها تبينت بأنه أقصر منه بإنشات قليلة عندما وقف بدوره مثل "عاصم" و "زين" ..
إغتصبت "هانيا" إبتسامة رقيقة هادئة أذهلت "عاصم" الذي بدا كامل الأناقة في قميصه الحريري الأسود و السروال الذي كان كان بنفس لون القميص ..
أقبلت "هانيا" عليهم بخطي واثقة متناغمة .. و كان "شهاب" ينظر إليها مبتسما بإعجاب ، فهي حقا جميلة كما أخبره شقيقه بل أنها تستحق وصف أبلغ لشدة حسنها ، مما جعل "شهاب" يفكر مذهولا .. كيف لفتاة مثلها أن توافق علي الإرتباط بشقيقه ذا الندبة التي محت جاذبيته نوعا ما .. :
-مساء الخير.


ألقت "هانيا" تحية المساء برقة ، فردوا لها الرجالالثلاثة تحيتها بلطف ، بينما إقترب منها "عاصم" و علي فمه إبتسامة هادئة ماكرة ، و مد لها يده ..
منحته إبتسامة رقيقة واثقة و أمسكت اليد التي مدها إليها ، فقادها إلي مقعد مجاور لمقعده و هو يهمس بصوت أجش:
-شايفك لبستي هديتي يا اسيرتي الجميلة !
و لمس بإصبعه الحجر الأزرق المتدلي من أذنها و أرسله بتأرجح و هو يتابع بنعومة ساخرة:
-باين عليكي بتفكري في خطة جهنمية عشان تخلصي مني ! .. صح ؟؟
فوجئت "هانيا" بحدة ذكاؤه ، إذ أنه بطريقة ما كان يقرأ ما يدور بخلدها ..
عليها إذن أن تضلله و إلا تبخرت آمالها سدي .. قررت أن تغير الخطة ، فربما نجحت !
إشتبك نظرها بنظره الحاد ، فهمست قائلة:



إعدادات القراءة


لون الخلفية