ربما تخطر ببال كل منا في وقت من الأوقات العديد من الأفكار السوداء، مثل أن نتخيل أننا نُعتقل وندان بتهمة لا علاقة لنا بها. رغم أن مثل هذا الأمر من المستبعد أن يقع في أيامنا هذه، إلا أنه حدث بالفعل في الماضي.
لقد استحدثت محكمة التمييز في بريطانيا عام 1907م. قبل ذلك التاريخ، كان من المتعذر على المحكوم بجرم ما أن يستأنف الحكم أو يتظلم. بالرغم من أن المصلحين كانوا ينادون بضرورة إيجاد محاكم استئناف، إلا أن الفضل في إيجاد تلك المحاكم يرجع إلى الشخص قليل الحظ الذي يدعى أدولف بيك.
ولد أدولف بيك في النرويج عام 1841م، وعاش حياة طبيعية متنقلًا ما بين أمريكا الجنوبية وإنجلترا.
وذات يوم عام 1895م، بينما كان أدولف بيك يسير في شارع فيكتوريا بلندن، استوقفته سيدة ألمانية تدعى إتيلي ميسونيير، وطلبت منه أن يعيد إليها مجوهراتها. تعجب أدولف بيك من كلامها، وحاول إفهامها أنها تتحدث إلى الشخص الخطأ، لكنها لم تقتنع وأصرت على مطلبها. اضطر أدولف بيك للاستعانة بأقرب رجل شرطة، حيث أخبره أن السيدة الغريبة تضايقه. لكن إتيلي اتهمته أمام رجل الشرطة بأنه احتال عليها وسرق مجوهراتها. ذهب الجميع إلى قسم الشرطة، حيث بدأت حكاية أدولف بيك المأساوية.
قالت إتيلي ميسونيير إنها التقت قبل مدة في نفس الشارع برجل جذاب حياها وحادثها. دعته إلى منزلها، حيث أخبرها أنه قريب اللورد البارز سالزبوري، الذي أصبح فيما بعد رئيسًا للوزراء. دعاها إلى مرافقته في رحلة بحرية على متن يخته، وكتب لها شيكًا لشراء ما تحتاجه استعدادًا لتلك الرحلة. بخدعة بارعة، جعلها تسلمه بعض مجوهراتها قبل أن ينصرف. اكتشفت فيما بعد أنه كان محتالًا، وأن الشيك بدون رصيد. وأخيرًا، قالت المعلمة إنها عثرت على ذلك المحتال، وهو أدولف بيك.
تصادف أن عدة نساء قد تقدمن بشكاوى مماثلة. تم إحضارهن للتعرف على المحتال الذي خدعهن. أوقفوا أدولف بيك بين مجموعة من المشبوهين، وعرضوه على تلك النساء. تعرفن جميعًا على أدولف بيك، وأشار الجميع إليه بأصابع الاتهام. شهد اثنان من رجال الشرطة بأنهما ألقيا القبض على هذا الشخص نفسه في تهمة مماثلة عام 1877م.
حُوكم أدولف بيك باسم جون سميث، وسجن لمدة خمس سنوات. بالرغم من أن أدولف بيك أثبت أنه كان يعيش في أمريكا الجنوبية خلال الفترة من عام 1873م إلى عام 1884م، إلا أن القاضي حكم عليه في 5 مارس عام 1896م بالسجن لمدة سبع سنوات.
أمضى أدولف بيك في السجن خمس سنوات قبل أن يطلق سراحه بكفالة عام 1901م. بعد ثلاث سنوات، تلقت الشرطة سلسلة جديدة من شكاوى الاحتيال على سيدات وسرقة مجوهراتهن. تم القبض على أدولف بيك مجددًا، وأحيل إلى المحاكمة بعد أن تعرفت النساء عليه ووجهن اتهاماتهن إليه.
جرت المحاكمة في يونيو عام 1904م، ووجد المحلفون أدولف بيك مذنبًا. لكن هذه المرة كان القاضي حكيمًا، فأجل إصدار الحكم بإدانة أدولف بيك.
بعد أيام قليلة، وقع المحتال الحقيقي في قبضة رجال الشرطة، واعترف بكل شيء. اعترف أيضًا بأنه سجن عام 1877م باسم جون سميث، واسمه الحقيقي ويليام توماس. كان توماس يشبه أدولف بيك في الطول والشارب وشكل الرأس وتسريحة الشعر. رغم ذلك، كان هناك اختلافات بينهما، فكيف شهد الجميع على أنهما الشخص نفسه؟
منذ ذلك اليوم، أصبح يُنظر إلى شهادة الشهود باعتبارها دليلاً غير حاسم، وربما تكون عرضة للخطأ والتضليل. قويت حجة المنادين بإصلاح القضاء واستحداث محاكم التمييز.
شعر الجميع أن أدولف بيك مكث في السجن ظلمًا وافتراءً. شعر المحلفون والقاضي بالخجل وبفداحة الغلطة الفظيعة التي ارتكبت بحق رجل بريء. تم منح أدولف بيك 5 آلاف جنيه استرليني تعويضًا عن السنوات الخمس التي قضاها في السجن.
توفي بيك بعد خمس سنوات، غير أن قضيته لم تمت. أصبحت من العلامات الفارقة في تاريخ القضاء، وأسهمت في تحسين النظام القضائي البريطاني.