كان من المقرر عقد مؤتمر قمة في شهر مايو عام 1960م بين الرئيس الأميركي دوايت إيزنهاور ورئيس وزراء الاتحاد السوفياتي نيكيتا خروتشيف في العاصمة الفرنسية باريس. كان هدف المؤتمر تخفيف حدة التوتر بين الدولتين الكبيرتين في حربها الباردة التي كانت تهدد بشبح حرب نووية. كان العالم بأسره يتطلع إلى نجاح المؤتمر، غير أنه لم يعقد بتاتاً. كان السبب في عدم عقد المؤتمر إعلان السوفيات عن إسقاط طائرة تجسس من نوع U-2 فوق الأراضي الروسية.
حاول الأميركيون تمويه الأمر والتنصل من الحادث، فأعلن المسؤولون الرسميون أنه ليس لديهم علم بمهمة أميركية كالتي أعلن عنها الاتحاد السوفياتي. ثم قالت واشنطن إن الطائرة مخصصة لرصد حالة الطقس والأبحاث المناخية، وقد اخترقت الحدود السوفياتية بدون قصد بتأثير الرياح وسوء الأحوال الجوية. لكن خروتشيف كان يملك معلومات خطيرة لم يعلن عنها بعد، تدين أميركا بالكذب.
قال خروتشيف إن الطائرة كانت مزودة بكاميرات للتصوير من ارتفاعات شاهقة، وقد التقطت صوراً للمنشآت السوفياتية، كما أن الطيار غاري باورز البالغ من العمر 31 عاماً أسير لديهم. اضطر الرئيس إيزنهاور إلى الاعتراف صراحة بالحقيقة، وظهر نائبه نكسون على شاشة التلفزيون وأعلن أن مهمة الطيار التجسسية كانت ضمن سياسات الولايات المتحدة الأميركية وسوف تستمر.
استغل خروتشيف الظرف وطالب الرئيس إيزنهاور إذا كان يريد عقد المؤتمر بالاعتذار علناً عن الحادث أمام العالم، وبمعاقبة مستشاريه، والتعهد بعدم تكرار الحادث. كانت الشروط مهينة للرئيس الأميركي، فلم يستجب لها، وهكذا انهار لقاء القمة.
كان الحادث نصراً أخلاقياً لخروتشيف وسبب الكثير من الإحراج للرئيس الأميركي إيزنهاور. توج خروتشيف نصره بمحاكمة علنية للطيار الجاسوس غاري باورز، بدأت في موسكو في 17 أغسطس عام 1960م أمام حشد كبير من شبكات التلفاز ورجال الإعلام. رغم أن المحاكمة تمت في روسيا، وفر السوفيات ترجمة فورية لوقائع الجلسات باللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية، ليحكم العالم على عظمة العدالة السوفياتية.
قال باورز إنه من ولاية كنتاكي، من عائلة فقيرة، تطوع للعمل في سلاح الجو عام 1950م. بعد عامين، قابله رجال المخابرات واتفقوا معه على طلعات للتجسس فوق حدود الاتحاد السوفياتي، وأطلقوا عليه اسم "بالمر"، ودربوه في نيفادا على طائرة U-2 لمدة شهرين ونصف الشهر. كانت تلك الطائرة آخر ما توصل إليه الأميركيون في عالم الطيران، إذ كان باستطاعتها الطيران على ارتفاع 68 ألف قدم، وهو ارتفاع لم يكن العالم يحلم ببلوغه من قبل. ظن الأميركيون أن لا أحد يستطيع إسقاط طائرة من ذلك العلو.
طار باورز فوق الحدود التركية – السوفياتية مع فريق مكون من 6 طيارين آخرين منذ عام 1956م وحتى عام 1960م. يوم إسقاط طائرته في 1 مايو عام 1960م، كان مكلفًا بالطيران من بيشاور في باكستان إلى بودو في النروج عبر أراضي الاتحاد السوفياتي. كان من المفترض أن يشغل أجهزته وكاميرات التصوير في طائرته فوق مواقع محددة على الخريطة. كانت تلك أول مرة يخترق فيها الحدود الروسية.
انطلق باورز بطائرته في تمام الساعة الخامسة صباحًا، وبعد نصف ساعة كان يعبر الحدود السوفياتية، كان يطير على ارتفاع 68 ألف قدم. بعد أربع ساعات على إقلاع طائرته، كان فوق سفيردلوفسك حيث تم إسقاط طائرته. يقول باورز: "سمعت صوت انفجار خلفي، التفت فشاهدت كتلة من الضوء البرتقالي ورائي. كان أمامي 70 ثانية لأدمر الطائرة وأقذف بنفسي خارجها." ما هي إلا لحظات وكان باورز يلامس بخوذته الهواء الشديد البرودة، هبط باورز وسط مجموعة من القرويين الروس المدهوشين. تم بعد ذلك التقاط أفلام، وكاميرات، وأجهزة إرسال وتسجيل، علاوة على جهاز لتفجير الطائرة لم يتمكن باورز من تشغيله، وذلك بين حطام الطائرة وبقاياها.
كان باورز موفقًا في إجاباته أثناء المحاكمة. إليكم عينة من تلك الإجابات:
المدعي العام: وجدت في طائرتك أجهزة تصوير. ما هي المعلومات المعطاة لك بخصوص ذلك؟ باورز: لم أتلق أي تعليمات خاصة. كل ما كان عليّ فعله هو أن أضغط بعض الأزرار فوق أماكن معينة. المدعي العام: لأية أغراض كنت ستضغط تلك الأزرار؟ باورز: لقد تم إرشادي إلى كيفية ضغط الأزرار فوق مواقع محددة على الخريطة، ولم أكن أعرف لأي غرض. المدعي العام: ولكن، لعلك تعرف الغرض؟ باورز: أستطيع أن أخمن الغرض، ولكن إذا توخيت الدقة، فإني أقول لا أعرف. المدعي العام: كان يمكن أن تضغط زراً بكل بساطة إذن، لإسقاط قنبلة ذرية؟ باورز: يمكن، ولكن هذا النوع من الطائرات غير مخصص لحمل وإسقاط قنابل كهذه.
كان المدعي العام في هذه القضية، رومان رودنكو، الذي شارك في محاكمات نورمبرغ. وصف باورز في نهاية المحاكمة بأنه جاسوس غير عادي، فهو مجرم تم تدريبه بدقة. كان يمكن أن يسقط قنبلة ذرية فوق الاتحاد السوفياتي بكل برودة أعصاب. كان يحمل مسدسًا لاغتيال المواطنين السوفيات، ويحمل دبوسًا مسمومًا للانتحار. ومع ذلك، فلم يطلب له الإعدام، وإنما حكمًا بالسجن لمدة 15 سنة على سبيل الإنذار.
أما الدفاع عن باورز فقد تولاه المحامي ميخائيل غرينيف، الذي لم يكن يدافع عن باورز بقدر ما كان يحول التهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية وسياساتها العدوانية. قال إن باورز مجرد مخلب في مؤامرة واشنطن الخسيسة، وأن الذين يجب محاكمتهم هم المسؤولون العسكريون الأميركيون وألن دالاس رئيس وكالة الاستخبارات المركزية CIA. كما أشار إلى البطالة المتفشية في أميركا، ثم طلب الرحمة لموكله لتقديم الدليل على إنسانية العدالة السوفياتية.
حكم على غاري باورز بالسجن لمدة عشر سنوات. لم يقض منها في الاتحاد السوفياتي إلا سنتين، حيث تم الإفراج عنه مقابل إفراج الولايات المتحدة عن الجاسوس السوفياتي المهم، رودلف آبل.
شغلت حادثة سقوط طائرة التجسس U-2 العالم فترة ليست بالقصيرة وكشفت أمورًا كثيرة. أظهرت أن رئيس الولايات المتحدة الأميركية قد يكذب، وأن التجسس ليس رذيلة روسية فقط، بل يمارسها الغرب أيضًا. كان يعتقد أن الروس لا يملكون صواريخ بإمكانها إسقاط طائرة من ارتفاع 68 ألف قدم، ولكن تبين لهم خطأ ذلك. أهم من ذلك كله اكتشاف الأميركيين والغربيين أن زعمائهم يقولون شيئًا ويفعلون شيئًا آخر. الحرب الباردة لم تكن بين قوى الخير وقوى الشر، ومنذ ذلك اليوم سادت العالم واقعية جديدة في الشؤون الدولية. تمثلت في إجابة الناطق الصحفي باسم البيت الأبيض، جيمس هاغرتي، عندما سئل أمام عدسات التلفزيون: "ما الدروس التي استفادتها الولايات المتحدة الأميركية من حادثة إسقاط الطائرة U-2؟" فأجاب يومها: "أن تتجنب القبض عليك!!"