الجزء 26

داخل كل منا نقيضين احدهما ضياء والاخر دجي..

يحفظ في الجانب المنير الذكريات المبهجة التي كلما استعادها عقلنا دفعتنا للابتسام بلا سبب , اما الجانب المظلم فيحفظ فيه المآسي و الأحزان التي كلما استعادها عقلنا دفعته الي الانهيار ، الي ارسال رسائل تدمير ذاتية للجسد لينهك و يستجب الفؤاد لرسالة العقل ويبدأ في طرح اسلحته ارضا والانسحاب من معركة البقاء ..

ذلك تماما ما شعرت به "دانه" حينما فتحت عيناها في الثلث الاخير من الليل لتجد نفسها مكبلة بذراع عمتها "بدور" التي لطالما اعتنت بها وبأخيها ورفضت الزواج لأجلهما.. ظلت تحملق امامها كالصنم لم تغمض لها جفن كأنها لم تعد تعي لاحد ابدا من حولها حتي انها لم تستجب لصياح عمتها التي فزعت حينما استيقظت علي حين غفوة لتري عيناها جاحظة في سقف الغرفة وجسدها متصلب لا يستجب لـ نخزاتها المتوالية..

صرخت في الخدم ليتصلوا بالطبيب وفي غضون ساعة كان قد حضر وأعطاها جرعة زائدة من المهدئ لترتخي عضلات جسدها المتشنجة و تسدل عيناها أهدابها ..

دثرتها "بدور" واغلقت الستائر حتي لا يقلقها ضوء الشمس عندما تشرق بعد قليل علي الغرفة ثم غادرت لتوصل الطبيب وتسأله عن حقيقة ما يحدث لها فأجابها بأسف قائلا : هي اتعرضت لضغط شديد و الصدمة المرة دي كبيره ولازم تتعرض علي دكتور نفسي لان ده ممكن يأثر علي الحبل الشوكي زياده وممكن ..

نظر ارضا يبحث عن كلمات يقولها في ذلك الموقف الحرج فهو طبيب العائلة ويعلم جيدا ما قد يحدث لـ " بدور" عندما تعلم بخطر يحدق بأحد من بني اخيها .. فأثر الصمت ولكنه لم يعلم أن صمته هذا اشعل فتيل الفزع داخلها فقالت بأعين قد تندت بلمعان عبرات موشكة علي الانسياب : كمل يا دكتور توفيق لو سمحت .

استطرد قائلا بحزن وأسي باديين علي قسمات وجهه الحزين : ممكن الشلل يبقي كلي و تفضل طريحة السرير مش كرسي متحرك.

وضعت يدها علي فمها تكتم شهقتها و مستندة بيدها الأخري علي اطار الدرج بعد ان شعرت بان قدماها لم تعد تحملانها و اغمضت عيناها بقوة من هول صدمتها لتنساب دموعها علي وجنتيها ، اشفق الطبيب علي حالتها فاسندها قائلا بقلق : بدور هانم انتي كويسه ؟؟

وضع حقيبته ارضا ليتمكن من الامساك بها بعد أن علم بأنها علي وشك ان تفقد وعيها بسبب شحوب وجهه وانخفاض ضغطها الذي علم به حينما امسك بالعرق النابض في معصمها الايسر .. لم يخيب حدسه فبعد دقيقة كانت تسقط علي درجة السلم ولولا وجوده بجوارها وامساكه بها لكانت سقطت عن الدرج واصيبت لا قدر الله نادي بأعلي صوته علي الخدم ليساعدوه في نقلها لغرفتها .. ثم علق لها محلولا مغذيا و حقنها بابرة مهدئة ايضا ..

.............................

في تلكم الاثناء في قرية أسيوط خصيصا في بيت العمدة "عبد الرحيم"..

كان يجلس جوارها بائسا أسفا علي تلك الحالة التي وصلت اليها .. التقط يدها الصغيرة براحته ليبسطها علي كفه متأملا تلك الايدي التي كانت في الصبا بالكاد تقبض علي سبابته لصغرها.. كان يعشق براءتها التي دفعته للهروب من العمل كثيرا لأجل البقاء معها واللهو برفقتها .. حارب الجميع لحمايتها من الأذى من ان لا تختفي تلك البراءة يوما ولكنه لم ينتبه الي اهم عدوا كان لابد ان يحميها منه وهو ماضيه .. كان لابد من تصفيته قديما قبل ان يدفع ثمنه الابناء ..انسابت دموعه رغما عنه ليلثم يدها بحب متذكرا ذلك الوعد الذي قطعه بحمايتهن مهما كلفه الأمر.

استند بجبهته علي يدها مرددا بضعف ممزوج بشراسة : محدش عاد هيقرب منك طول ما انا عايش.

ظل علي حالته حتي خطفه سلطان النوم ليغفو بجوارها ..

سيدة العشق/ايمان احمد يوسف.

بينما في بيت عائلة الشرقاوي..

فكان يجوب الأرض ذهابا وايابا لا يعلم اين ذهب ذلك الفتي و اين اختفي .. يعلم جيدا انه لم يعد صغيرا ولكنه مازال لا يعرف شيئا عن الطرقات و عادات القرية يخشي ان يتعرض له احد..

قاطع تفكيره دخول " سالم" الذي ما ان رأيه حتي قال متلهفا : هاا .. لقيته يا سالم.

اشار اليه ليصبر حتي يلتقط انفاسه اللاهثة فقد كان يبحث مع الشباب عن "ساري" لكي يطمئن "فخر" و يرضي بان يبقي في البيت خاصة بعد المصيبة التي حلت بهم..

احضر له كوب الماء الموضوع علي الطاولة الصغيرة و ازال عنه الطبق الصغير الذي يغطيه ثم ناوله اياه ليلتقطه منه و يرتشفه دفعة واحده وهو ينظر بقلق لذلك الذي يقف كالطير فوق رأسه .. استجمع رابطة جأشه ثم قال : لقيناه.

بادره بلهفة سائلا : فين؟

- مع أخوه.

عقد "فخر" ما بين حاجبيه مدهوشا : مع أدم !!

أومأ "سالم " له مؤكدا ليستطرد قائلا بتوجس : بيعمل معاه ايه ؟ و ياتري قاله ايه عني ؟ اكيد سمم افكار ساري و هيكرهه فيا و ياخده و يبعده عني ..

هذي بذلك كمن طار عقله واضحي علي حافة الجنون .. كاد يخرج ولكن استوقفه "سالم" سائلا : انت رايح فين دلوكيت (دلوقتي)..؟؟؟

وضع يده علي المقبض ليفتح الباب قائلا : رايح اجيب ابني .

- اصبر عااد يا " فخر" انت خايف عليه من اخوه ؟! . ديه اخوه من لحمه ودمه مجدرش (ميقدرش) يؤذيه.

اقترب منه يقبض علي ذراعه قائلا: تعال اجعد (اقعد) يا رجل ... ولادك رجاله بشنبات و متعلمين و تفكيرهم غيرنا عاد .. و يستحيل يؤذوا بعض واصل .. تعال .

تنهد كأن كلمات " سالم" كانت بمثابة مهدئ له ، جعلته يعود الي رشده و ينتظر مجيئه و يسأله بنفسه..

.............................

بينما في احدي العمارات السكنية التي كانت علي مقربة من قصور العائلتين الثائرتين كان يجلس "أدم" و "زين" و معهم " ساري" في احدي شققها التي قام "أدم" باستأجرها ليقضي فيها مدة مكوثه في القرية ..

اخذ "زين" يتقلب علي السرير متأففا من تصلبه اسفله ومن أزيز احتكاك مفصلات السرير نفسها كلما تحرك فـ قد كان من التراث القديم .. انتفض صائحا : لاا كدا كتير انا مش هعرف انام كدا.

قهقه " ساري علي هيئته و قال : لا بأس زين لقد عانيت مثلك في البداية ولكنك ستعتاد الامر لاحقا.

صرخ المتأفف منه قائلا : لا .. لا .. لا .. لا .. لا اريد ان اعتاد .. اريد العودة لشقتي الجميلة والي سرير المريح والي ..

لم يكمل فقد تذكر هاتفه و التقطه علي الفور يفتحه ليجده مغلقا بسبب انخفاض شحن بطاريته .. كاد يبكي وهو ينظر الي هاتف "أدم" الذي تركه وذهب ليغتسل ، ليجده مغلقا ايضا.. فقال متذمرا : كداااا كتير جدا.

سأله "ساري" عن سبب تذمره فأخبره انه لم حضر شاحنا وان هواتفهم مغلقه .. طمأنة بامتلاكه للشاحن واستأذن ليحضره و يعود لهم في الصباح بعد ان ينالا قسطا من الراحة .. ودعه كلا من "أدم" و "زين " ثم ارتمي كلا منهم علي سريره منصاعان لسلطان النوم ..

................

مر الصباح هاديئا علي الجميع بسبب تأخر الجميع في النوم الذي فزعوا منه علي صوت سيارة شرطة تدوي في شوارع البلدة بأكملها..

كانت تلك السيارة وجهتها الي بيت العمدة الذي استقبلهم باندهاش قائلا : اهلا اهلا حسام باشا.

صافحه الضابط قائلا : اهلا بيك يا عمدة .

-خير يا باشا ؟ شايفتك عندينا ( عندنا) ؟

رد أسفا : والله مش خير ابدا يا عمدة.

استغرب رده فسأله قائلا : في ايه يا باشا ؟

-أنا معايا أمر بالقبض علي " مهران" بيه .

جحظت عيني " عبد الرحيم " واستفسر عن السبب قائلا : ليه عااد يا باشا؟

-بسبب قضية انفجار الطيارة يا عمدة .. طلع انه متورط في القضية .

نفي "عبد الرحيم " غير مصدقا : لا مستحيل .

-أنا عبد المأمور يا عمدة .. ولازم "مهران " بيه يجي معانا دلوقتي .

ضرب " عبد الرحيم" كفه بالاخر قائلا بقلة حيلة : لله الأمر من جبل(قبل) ومن بعد..

نصف ساعة وكان العويل والصراخ والدموع تملأ ارجاء البيت و " مهران" يسير شامخا رغم الانكسار الذي يملأ دواخله بجوار العساكر الي سيارة الشرطه .. كل ذلك يحدث وهي في ملكوت اخر .. لا تدري بشيء

كانت "حلا" تجلس علي الاريكة الموضوعة في غرفة " الينا " تحتضن "تقي" التي انضوت في نوبة بكاء هستيري دفعة " حلا" لارتداء قناع الصلابة و تصلب العبرات في محجرها كي لا تضعف.. حتي تضحي سندا لها و لشقيقتها الكبري..

رفعت وجهه الملطخ بأنهر دموعها وقالت من وسط شهقاتها : ه..ه.. با. ب.. بابا .. مش.. هيخرج .. منها.؟

أومأت لها بالنفي تمسح دموعها بيدها مطمئنة اياها: لا متقوليش كدا بابا معملش حاجه عشان يحبسوا اصلا.

"بابا اتحبس ؟؟"

تسلل اليهم صوتها الضعيف لينظرنا اليها بأعين زائغة وجلة من رد فعلها لما سمعته منهم الان .. يعلمن انها لن تستحمل الصدمة ابدا..

.............................

&الجزء 2&

في ظلام الليل الحالك .. كانت قد أخذت وقتها الكافي في التفكير و عزمت علي تنفيذ ما خططت له لذا نهضت عن فراشها و راحت ترتدي عباءتها السوداء ، مخفية شعرها الغجري أسفل حجابها ، حامدة ربها بأن " حلا" و "تقي" ذهبتا الي غرفهن ليرتحن من الانهاك الذي تعرضن له بسبب تلك المصيبة التي حلت بيهم..

نزلت الدرج علي مهل وهي تخبئ نصف وجهها بطرف وشاحها .. تتلفت حولها خشية أن يراها أحد و يكون سبيلا في عرقلتها عما تنوي فعله..

تخطت الرواق بسلام دون ان يراها أحد و عندما أوشكت علي مغادرة البيت استوقفها صوته الحاد قائلا بحزم : رايحه علي فين يا ضاكتوره (دكتوره) من غير ما تقولي لحد واصل.؟؟

لم تهتز شعرة فيها و لم تلتفت له بل قالت بهدوء : رايحه مشوار يا عمدة .. ساعة زمن وراجعه.

لم تمهله فرصة للموافقة أو الرفض و أكملت طريقها وقبل ان تنزل الدرجات القليلة العريضة التي أمام القصر للخارج رأت الغفر يعترضون طريقها .. وقبل أن تثور عليهم جاءها صوته قائلا : ابوكي وصاني عليكي قبل ما ياخدوه .. يعني انتي و اخواتك أمانه عيندي (عندي) اهنه.

شعرت باليأس يتملكها .. و الاحباط يحطم جنباتها بأمواجه العاتية .. سارت بثقل ناحية الأريكة الخشبية الموجودة في بهو القصر الخارجي .. وأخذت تردد بهمس: ليه؟ عملت كدا.؟ ليه؟

انضم اليها العمدة ليجلس بجوارها مستندا بيديه علي عصاه قائلا : عشانه خايف عليك يا بنتي .. انتي مش كد (أد) فخر.

انسابت دموعها قهرا وهي تقول بضعف : أنا مقدرش أسيبه محبوس و أنا في ايدي الحل اني أخرجه.

شرد في الهاوية أمامه يفكر ثم قال :ديه مش الحل الوحيد يا بنتي.

-ا..ا.از..ازاي؟

نظر لها قائلا: امسحي دموعك الأول .

راحت يداها بتلقائية تمسح دموعها و أذناها متلهفة لسماع ما سيقوله.. ولكنه ارتكز علي عصاه لينهض مناديا علي الغفير ليأتيه مهرولا: نعم يا عمدة.

- خليهم يحضروا العربية بسرعة.

ركض الغفير قائلا : حاضر يا جناب العمدة .

سار يدبدب بعصاه في كل خطوة يخطوها و عيناها مازالت تراقبه .. حتي التفت لها قائلا : تعال معايا و هجولك (هقولك) علي كل حاجه في الطريق.

سارت خلفه علي أمل حقا أن يساعدها.. جلس هو بجوار السائق .. بينما جلست هي في الخلف .. لا تعلم الي أين يقودها قدرها..؟

............

بينما في قصر أدم الشرقاوي..

كانت الممرضة تهاتف الطبيب و نظرها مصوب نحوها ، عيناها تراقب يداها التي تقبض علي شراشف الفراش ، تكاد مخالبها تمزقه ، تعتصر عيناها بقوة و جسدها ينتفض رغم تصلبه...

اخيرا أتاها رده فقالت بتوتر: أيوه يا دكتور أنسه دانه في حاله صعبه جدا و جسمها متشنج و ادتها حقنة مهدئ بس لسه متشنجه.

انتفض منتصبا عن كرسيه صائحا فيها : حاولي تصحيها بسرعه بأي شكل و متديلهاش مهدئ تاني وانا جاي حالا.

اغلق في وجها لتبدأ هي جاهدة في عمل المستحيل لإفاقتها بمساعدة الخدم ولكن دون فائدة.

وصل الطبيب و دون مقدمات صعد الدرج بسرعة والقلق باديا عليه .. ذلك في الوقت نفسه الذي استيقظت فيه" بدور" من النوم مستندة بيداها علي الباب مجاهدة باقيا ذلك المهدئ الذي اضحي تأثيره يتلاشي عنها .

لمحت الطبيب يدلف مسرعا الي غرفة "دانه" فهمست باسمه مندهشة : دكتور توفيق !!!

وضعت يدها علي رأسها عندما أعادها عقلها الي ذكري مرض " دانه " و ما اخبرها به الطبيب في احتمال تعرضها لشلل كلي ..

الأن عاد اليها وعيها بالكمال و راحت تسير في الرواق مستندة علي درابزينه ليعينها علي السير .. وصلت الي الغرفة لتري الممرضة تندفع نحوها حينما صاح فيها الطبيب لتأخذ "بدور" الي غرفتها لتسترح ..

-سبيني أنا هفضل معاها .. ابعد عني بقولك أحسنلك.

صاح الطبيب وهو ينعش " دانه" قائلا : سيبي بدور هانم يا أسماء خلاص.

دلفت "بدور" لتري "دانة " في حالة لا يرث لها حقا .. من هول الوقعة ارتمت علي الكرسي بضعف تنظر للطبيب "توفيق" نظرات رجاء ان يفعل ما بوسعه لأجلها ان كان يحبها فلينقذ ابنة اخيها .

قرأ ما باحت به عيناها اليه فاخذ يواصل عمله حتي فتحت "دانه" عيناها فجأة تمأق الهواء بقوة كميت عاد للحياة عنوة ..

فاضت عيني "بدور" و هي تندفع نحوها تأخذها بين ذراعيها حامدة ربها علي تفضله عليها..

ابتسم الطبيب .. ثم لملم حقيبته و اعطي أوامره للممرضة ثم انطلق و الشك يساوره حول نظرتها اليه .. تري أتعلم بما يورق روحه؟.. سينتظر حتي تتحسن الأمور في القصر ثم يفاتحها في الأمر.

..........................................

في صباح اليوم التالي ..

في بيت عائلة الشرقاوي

كان يجلس يجوب الارض ذهابا وايابا .. ينهشه التفكير لا يعلم لما لم تأتيه تلك الفتاة حتي الأن ..

قاطع خلوته بنفسه ولوج "سالم" اليه قائلا : بنت مهران تحت عاوزه تقابلك يا فخر.

ابتسامة شيطانية ارتسمت علي ثغره لتمحو ضجره من فرط الانتظار : والله و وقعت يا مهران.

لم يسمعه "سالم" جيدا فقال: بتقول حاجه يا فخر.؟

-بقول خير بنت مهران جيه لي ليه؟؟

أجابه قائلا : ماعرفش عاد .. اجولها(اقولها) انك مش فاضي.

أشار له قائلا : لا اسبقني أنت وانا هحصلك.

-ماشي.

بالفعل نزل "سالم" الي "الينا" يضايفها في بيته .. حتي يأتي ابن عمه المتغطرس ..

كانت تجلس متوترة تفرك أصابع يدها المتعرقة معا من فرط توترها .. تأخر كثيرا في النزول اليها مما دفعها لسؤال "سالم " القابع معها في الغرفة محرجا من تصرفات ابن عمه المخجلة : هو فخر بيه مشغول ؟؟

-والله يا بنتي انا شيعت له ياجي .. زمانته نازل.

أومأت له بتفهم ..عاقدة العزم علي الرحيل ان لم يحضر خلال خمس دقائق

بعد قليل نظرت في ساعتها فوجدت المهلة التي حددته له اوشكت علي النفاذ.. فنهضت قائلة : شكل فخر بيه مشغول جدا .. هبقي اجيله في وقت تاني ان شاء الله.

لم يدري ماذا يقل لها .. انقذه دخول "فخر" بعنجهيته الزائفة ليتوسط احدي الارائك الموجودة في الغرفة واضعا قدم فوق اخري بتعالي قائلا : مستعجله علي ايه يا دكتوره انت لسه مقولتيش سبب زيارتك الكريمة لينا ايه ؟

ابتلعت غصة مريرة وقفت في حلقها من نبرته الساخرة منها ثم قالت : انا جاي اكمل اتفاقك مع بابا.

قهقه بقوة جعلت "سالم" يعجب منه ثم قال : مهران بيه لغي الاتفاق من زمان يا عروسه.

زفرت انفاسها براحة قبل ان تفلت منها زمام الامور و تثور في وجهه وقالت : وانا جايه اعيد الاتفاق تاني .. و موافقه اتجوزك ... و تخرج بابا من الحبس.

فكر قليلا ثم قال : مهران بيه ممكن يخرج بكره في حال كتبنا الكتاب النهارده.

انتفض قلبها وجلا من شرطه و قالت بتلعثم : الن. النهار.. النهارده؟!

أومأ لها مغمغما : ايوه.. القرار في ايدك انـ......

-أنا موافقه.

لوي فمه بابتسامة ساخرة .. وقال : يبقي اتفقنا يا.. دكتوره.

نهض واضعا يده في جيب بنطاله قائلا : بعد المغرب هنكون عند العمدة عشان نكتب الكتاب و الصبح مهران باشا هيكون برا الحبس.

القي بكلماته القاسية عليها ثم ادار ظهره لها قائلا بابتسامة صفراء : يلا يا عروسه عشان تلحقي تجهزي نفسك لكتب الكتاب..

غادر تاركا اياها نيران اهانته تأكل معشب كبريائها .. تردد داخلها " الشاطر اللي يضحك في الأخر" كانت عبارته تلك بمثابة مهدئ لأعصابها المحترقة بسعير كلماته اللاذع.

أوصلها "سالم" الي الخارج و كلمات الاسي تتسارع داخله .. بداخله رغبة كبيرة في مأزرتها و لو حتي بالكلمات ولكنه أمتنع فهو في الطرف الذي يلقي بألسنة اللهب عليها ليحرقها و يغرق عائلتها في الجحيم..

........................

كان الوضع في قصر الشرقاوي هادئ .. عندما وجدت "بدور " هواتف "أدم" و "زين" مغلقة اتصلت علي الفور بـ " سالم الذي أخبرها بما ينوي أخاها فعله و أخبرها بلقائه بـ "أدم" وما حدث بينهما ..

و أخبرته أن ترسل مرسالا لـ "أدم" يخبره ان يعود فورا الي القاهرة بسبب مرض "دانه"...

بالفعل أرسل "سالم" احدهم .. ولكنه لم يصل اليهم اذ غادروا قبل ان يأتي بساعة ولا أحد يعلم الي أين ذهب هو ورفيقه.

....................

انقضي النهار ثقيلا عليهم .. الجميع يترقب الليل وهو يسدل بظلامه لتنار الزينة أمام بيت العمدة ويعاد العرس المشؤم مرة أخري ويدوي الطلق الناري في الارجاء ليصل الي مسامع الجميع..

كان هو قد عاد الي الشقة المستأجرة يرتدي بذلته التي ذهب ليشتريها من المدينة المجاورة للقرية صباحا ..

يطلق صفيرا مستمتعا بتمشيطه لشعره أمام المرآة مما دفع "زين" الي الصراخ فيه قائلا : يا بني دوشتني وراك من الصبح و كل ما أسألك ناوي علي ايه؟. تقولي هتعرف بالليل .. و اهو بالليل جه أهو .. قولي بقي انت هتعمل ايه؟

وضع الفراشة من يده وذهب ناحية النافذة قائلا: طالما هيموت عليها و وصل بيه انه يحبس مهران بيه عشان يلوي دراعها ويوصل لها .. يبقي واجب عليا أدخل و احلها.

كان الغل باديا في عباراته .. رأه "زين " يدس احدي يديه في جيب بنطاله والاخري يزيح بها الستارعن النافذة ليحدق في ذلك البيت المزين الذي ستقام فيه طقوس العرس..

اوجس "زين" خيفة من نبرته المنتقمة وسأله قائلا : انت ناوي علي ايه؟

أفلت الستار من يده لينساب تدريجيا يغطي النافذة مرة اخري ، ثم نظر له باعين تشتعل بسعير الانتقام : ناوي أخرج مهران بيه من السجن... و أخد عروستي و أسافر و أرجع علي القاهرة الفجر.

فغر " زين" فاهه مستفهما عن اي عروس يتحدث: عروستك؟! انت اتجوزت امتي؟!

ابتسم "أدم " قائلا : دكتوره حلا بنت مهران بيه .. ناويت الغي مسألة التار دي وأتجوزها هي.

هل بأذنه عطب ما؟ .. مؤكد ما سمعه خطأ .. بدأ يختنق .. و قلبه يستعر .. و عقله يأبي التصديق .. لما هي دون عن باقي اخوتها .. مازال القدر يسئ اليه .. مازال يلعب به وبمشاعره ..

جلس علي الكرسي خلفه قائلا بتلعثم و هو ينظر الي الارض كي لا يري "أدم " تغيره المفاجئ : تقصد إلينا ؟

عدل من ربطة عنقه ثم قال : لا اختها اللي قابلتني امبارح و اتفقنا مع بعض علي كدا... يلا بينا لاننا اتأخرنا جدا و نكمل باقي كلامنا في الطريق.

نهض بأقدام متثاقلة لا يصدق أنه سيذهب الأن ليشهد علي زواج حبيبته من صديقه .. يبدو الامر كمزحة بائخة يمزحها القدر معه .. لقد اكتفي .. لن يضيعها من يده حتي لو كلفه الامر ان يدفع ثروته كلها لينقذ أبيها و ثمنا لأن تكون هي له في النهاية.


إعدادات القراءة


لون الخلفية