الجزء 30

قضي ساعات يتأملها في صمت ، مشاعر متضاربة ترمي به هنا و هناك ..
لا يعلم كيف طاوعه لسانه في تهديدها؟! و كيف سيقتص منها ثأره ، لم تكن من شيمه ابدا ان يهين إمرأة .. قد يكون قاسيا في عمله و مرحا في بيته و لكن لم يكن بالنذل ابدا ، شعور مقزز انتابه عندما تذكر طريقته في الحديث معها .. تجعدت قسمات وجهه بضجر وهو يذكر كيف احضرها الي هنا؟؟
هو الان لا يفرق عن والده في شيء ، ضاق صدره عندما خالجه فكرة انه اضحي نسخة من اكثر انسان يكرهه .. في هذا العالم...
نظر لها وهي ممددة علي الفراش بأعين يملأها الحزن و الاسف ، ليجد يده تقترب منها لا اراديا لتمسح علي شعرها الغجري الذي يتموج كأمواج بحر حالك السواد علي الوسادة اسفل رأسها ، خرج صوته حزينا : هو السبب في اني اعمل فيكي كدا .. انا اسف.. سامحيني يا الينا .. سامحيني .. انا مش زيه .. انا عمري ما هكون زيه.

في الاخير و كما يقال ان نيران الانتقام تحرق كل المشاعر الجميلة لدي الانسان و تتركه خاويا اجوفا من كل احساس جميل او شعور جيد ..
يموت الضمير و يتركه مع شعور بوجوب انه لا يَرحِم من لا يُرحَم .
وهذا بالفعل ما حدث..
فاذا به يبعد يده عنها عندما وسوست اليه شياطينه بانه ضعيف سيترك حق والدته لمجرد انه متمسكا ببعض المبادئ السخيفة .. عادت اليه روح الانتقام الضارية .. لتبرق عيناه علي الفور ببريق الشر ..
نهض مبتعدا عنها هاربا من سحرها الذي يجذبه نحوها ويشعره بالندم من ما فعله بها و قبل ان يدير مقبض الباب نظر بطرف عينيه اليها نظرة اخيرة ثم همس لنفسه قائلا: مش مهم مين هيتظلم ، دا هيكون جزء بسيط من دين ابوكي ولازم انتي تسديه .
سيدة العشق بقلم ايمان احمد يوسف....

في بيت عائلة الشرقاوي في قرية الصعيد..

كان يجلس في بهو المنزل ثانيا ظهره ، مرتكزا بكوع ذراعه الأيمن علي رجله مستندا برأسه علي يده اليمني يفكر في تلك المصيبة التي حلت علي رأسه.

كان يجلس معه أيضا "سالم" ابن عمه و العمدة" عبد الرحيم" صامتين و كأن علي رؤوسهم الطير .. قطع ذلك الصمت صوت العمدة وهو يقول : ازاي حُرمه تعمل فيك اكده يا فخر؟

رفع رأسه اخيراً لتظهر عيناه الذابلة و وجه المجهد المثقل بالهموم التي تظهر جلية للعلن ثم تنهد بإرهاق قائلا : مش هي اللي رفعت القضية عليا .

جعد " سالم" ما بين حاجبيه و هو يسأله بإقتضاب : وهاا مين عاد يا فخر، اللي عاوز يهبش مالك وحالك ؟

استند بيده علي ظهر الاريكة التي يجلس عليها لينهض بظهر محني كأن جبال من الهموم قد جُبلت فوقه لتثني استقامته ، ثم سار بأقدام متثاقلة كمن أصابه الهرم فجأة ، و قبل أن يتخطاهم نظر اليهم بأعين ذاوة وقال بهدوء : ساري ابني .

" واااااه" نطقاها في نفس واحد مستنكرين فعلت ذلك الصبي ، و قبل ان ينطق أحدهم بحرف واحد كان هو يكمل طريقه نحو الدرج ليستند بيده اليسرى علي اطاره مقاوما تلك الوخزات التي تجتاح قلبه الكهل ..

وضع يده اليمني موضع قلبه يتأوه بهمس .. كامتا آلامه بداخله .. و لكن قدماه أعلنت الاستسلام باكرا و فتحت أبوابها للضعف ليجتاحها و ينل منها بلا هوادة..

ثوان وكان يهبط بضع درجات السلم التي صعدها متدحرجا .. محدثا جلبة جذبت انتباه جميع من في البيت ليهرعوا اليه علي الفور ..

صاح العمدة في الغفير ليفتح له باب المقعد الخلفي للسيارة ليضعوا فيه "فخر" بعد أن حملوه لينطلقوا به بسرعة الي الحجر الصحي في القرية.. و رافقتهم زوجته التي لم تكن تتوقع انها ستعيش لتراه مهزوما ضعيفا هكذا و الذي ادهشها هو قلقها اللا ارادي عليه..

وصلوا الي المشفى الصغيرة ليقوموا علي الفور بعمل اللازم له ولكن لم تكن الامكانيات كافيه فتم نقله علي الفور في سيارة اسعاف الي اقرب مشفي خاص في المدينة المجاورة للقرية لينقل في الحال الي العناية المركزة .. بعد تعرضه لذبحة صدرية نجي منها بأعجوبة لا يصدقها الاطباء .. ولكن حالته لا زالت غير مستقرة..

.................

بينما في تلك الأثناء في بيت العمدة الذي استضاف فيه "مهران" وبناته..

كان يجلس في غرفته يجادل " حلا" التي تلح عليه في النوم والاسترخاء قليلا و لا تريد أن تجيبه عن أي سؤال يسأله عن "الينا" التي لاحظ اختفاءها..

نفض الغطاء بعيدا عنه بانزعاج من إلحاحها .. متضايق من طريقتها المريبة للشك في انها تخفي شئ كبير عنه .. ثم قال بانزعاج : أختك الكبيرة فين يا حلا ؟

ارتعبت من ضجره الذي يبشر ببدايات عاصفة غضب لا موعد لانتهائها .. فاقتربت منه قائلة بخوف حاولت ان تظهر له بأنها تخاف علي صحته وليس من شيء اخر : بابا انت لسه تعبان ارجوك ارتاح دلوقتي بس .. و اوعدك انك أول ما هتصحي هتكون "الينا" هنا.

وعد متردد منها بأنها سترجعها وبعد ساعات قليلة ستكون عنده .. لا تعلم كيف ستفي بوعدها ولكن هذا ما اسعفها به عقلها المتهور لتجعله يثق في حديثها ويرتاح قليلا من عناء الليالي الماضية..

رضخ اخيرا لإلحاحه و تمدد مرة اخري علي الفراش ليستسلم لسلطان النوم ويغط في نوم عميق .. كان بحاجة اليه حقاً..

دثرته و هي تجاهد في تجليد دموعها لتبني منها سطح من جليد يخفي اسفله أبحر عبراتها .. ثم خرجت من الغرفة موصدة الباب خلفها لتستند بظهرها علي الحائط المجاور معيدة رأسها للخلف ليسطع الضوء في مقلتيها و يذوب جليد عبراته وتهطل كالشلال علي وجنتيها .. معتقلة شهقاتها داخل زنزانة ضلوعها..

-ست حلا .. ست حلا.

انزلت رأسها لتجدها "أمال" احدي العاملات في البيت .. نظرت لها بأعين غارقة في الدموع .. جعلت تلك الفتاة الصغيرة تسألها بلهفة : انتي زينة يا ست حلا ، أشيع لـ ست تقي تاچي تشوفك؟؟

وضعت يدها علي كتفها تربط عليها رافضة : لا يا أمال .. أنا كويسه دلوقتي .. أنتي كنتي جايه عاوزه ايه؟؟

-وااااه كنت هنسي.. في واحد عاوز يقابلك اسمه زين العادلي .

-هو فين؟

-دخلته الصالون لحد ما اچي اناديلك.

كفكفت دموعها بيدها قائلة : طيب ضايفيه حاجه لو سمحتي يا أمال لحد ما أغسل وشي وانزله.

-حاضر يا ستي.

هبطت "أمال" لتضايف "زين" في حين غسلت "حلا" وجهها ببعض الماء ثم جففته بالمنشفة و عدلت من حجاب رأسها ثم نزلت اليه ليهب واقفا عندما رأيها قادمة نحوه..

-اتفضل استريح يا حضرت الرائد .. كويس ان حضرتك جيت .

-خير؟ في حاجه؟

- انا عارفه ان أدم صاحبك .. و يهمك مصلحته.. فيا حضرتك تساعدني ارجع اختي الليلة دي يا هقدم بلاغ ضد صاحبك وهحبسه وهجيبه حتي لو كان فين .. و ساعتها هو اللي هيتحبس بين اربع حيطان.

انزعج "زين" من أسلوبها في الحديث ، كان بإمكانها طلب المساعدة منه بطريقة افضل من ذلك.. حقا ما زالت صغيرة هوجاء..

زفر بعض انفاسه المضجرة من اسلوبه الوبيل و أراد ان يلقنها درسا فقال : حاسس من نبرة صوتك انك بتهدديني يا دكتورة .. خليني اقولك انا بقي علي عواقب اللي انتي بتفكري فيه دا .. اولا أدم في القانون مش مختطف لان اخت حضرتك اللي انتي بتقولي خاطفها دي تبقي مراته شرعا وقانونا.. و دي مسائل عائلية القانون مبيدخلش فيها ابدا.. كل اللي هيحصل انك هضري نفسك بايدك و هيعتبر دا بلاغ كاذب وممكن تتحبسي لك يومين في السجن.. ثانيا انا جاي عشان اساعدك من غير ما تهدديني .. بس عقلك الصغير ده يا دكتوره محتاج يكبر شويه ..

نهض عن مقعده ثم أردف بجدية : عشان كدا انا مش هساعدك .. و دوري علي اختك براحتك و أنا متأكد انك مش هتعرفي توصليلها من غير مساعدتي .. دي مجرد قرصة ودن صغيرة عشان تعرفي تتكلمي كويس مع الناس يا دكتوره.. سلام

تركها في ذهولها وصدمتها و سار ناحية الباب و قبل ان يغادر نظر اليها من فوق كتفه وهي تحدق فيه من الخلف ثم قال : اااه وابقي اسألي محمود مدير اعمال والدك عن الشخص اللي دفع لوالدك الكفالة وخرجه .. يمكن يطلع أنا.

شخصت عيناها من هول ما قاله اخيرا .. لا تصدق أيعقل أن يكون هو ..؟؟ تركها ورحل لتذهب هي مسرعة الي غرفتها و تتأكد من ما قاله .. ليؤكد مدير أعمال والدها علي حديث "زين" ..

شعرت في تلك اللحظة بأن عقلها حقا صغير .. وانها فتاة طائشة .. و احست بقيمة "الينا " في حياتها .. فهي كانت مستشارتها الأولي و الأخيرة..

اتصلت به علي الفور لتعتذر ولكنه لم يجب علي اتصالها متعمدا .. فحسمت أمرها و ذهبت الي " تقي" تخبرها انها ستذهب لتطلب منه المساعدة..

............................

في استراليا..

كانت مشاعر الندم تتصارع مع مشاعر انه علي حق وانه كان الشيء الوحيد الذي سوف يردعه و يمنع أذاه عن الجميع ..

جلست جواره والدتها تربط علي ظهره قائلة : ما بك عزيزي لما كل هذا الحزن؟

- لا أدري أمي ، لم أكن أرد أن تصل الأمور الي ما هي عليه الان .. و أن أقحمك في الاحتكاك بوالدي مرة اخري.

مسحت بيدها علي لحيته النامية بحنان لتقل : لا يهم .. ما يهمني انك قد عدت الي الان .. والدك يستحق ذلك .. فهو لم يصدقني عندما اخبرته اني لم أخنه .. عقله المريض صور له اني اخنه مع أعز اصدقائه ، خسرني وخسر صديقه بتسلطه وهواجسه المريضة .

نظر لها بأعين متسائلة : أمي ، أنتي حقا لم تخوني أبي صحيح؟؟

ابتسمت له ابتسامه عذباء ثم قالت : اقسم لك اني لم أخنه يوما ولا يمكن أن أخنه فلا رجل سواه استطاع ان يملك قلبي و روحي.

ابتسم "ساري" ثم عقب علي حديثها الاخير بخبث : أما زلتِ تحبينه أمي؟

تنهدت ببطيء ثم قالت : لم يتمكن قلبي من ان يلفظه خارجه .. حتي بعد ما فعله بي..

-حقا؟؟

- امممم .. انه بلاء الحب يا صغيري عندما يحل بك لا ينفك يرحل عنك أبدا.

عانقها "ساري" بحب قائلا : أحبك أمي.

بادلته بود وابتسامة واسعة مرتسمة علي ثغرها : و أنا أيضا عزيزي.

..............................

عودة مرة أخري الي القاهرة .. خصيصا في قصر أدم الشرقاوي..

كانت تجلس في غرفتها تتحدث بصياح اليه : انت اكيد اتجننت يا أدم .. تتجوزها ..و من غير ما تقولي .. و كمان خدتها و سافرت الجزيرة ..

-انا مش متجوزها حبا فيها .. انا عرفت ان مهران بيه ابوها هو اللي بعت رساله لأمي و قالها انه مش هيتجوزها بعد ما تسيب جوزها وهي معاها عيال .. ( ابتلع غصة مريرة مرار العلقم و هو يردف مصرحا عن موجز ما قرأه في ذلك الجواب اللعين الذي كان سببا في كل تلك الجلبة) وعرض عليها انها لو كانت هتموت عليه ممكن ... ممكن تقضي معاه ليلة من غير ما جوزها يعرف.

شهقت "بدور" عندما سمعت حديث "أدم" المخجل هذا ..وكأنها لم تكن تعلم شيئا عنه حقا..

-طيب يا أدم .. ارجع القصر .. دانه تعبانه ومحتجالك جنبها.

- هرجع بعد بكره يا عمتي بس لما اخلص تاري..

-أدم انت الل....

لم تكمل فقد انقطع الاتصال بينهما ليجد " أدم" أن بطارية هاتفه قد فرغ شحنها .. صعد الي الغرفة ليضعه علي الشاحن .. ليجدها مازالت مستلقية ..وضعه و خرج علي الفور قبل ان يحرقها بنار انتقامه..

....................

بينما في الصعيد..

وصلت الي الشقة التي يسكن فيها .. ثم استجمعت شجاعتها ودقت الباب ليفتح لها .. و تطلب منه التحدث قليلا ..

أومأ لها لتقل دون اي مقدمات : أنا اسفه جدا.

كان وجهها ذابلا كوردة أصابها الكحت .. تمني لو بامكانه ان يرويها بشهد عشقه الخفي لها ولكنه لا يستطيع .. حاول ضبط اعصابه ثم قال : مش هقدر اقولك اتفضلي ادخلي لانه مينفعش ..اعتذارك مقبول .. و قبل ما تسأليني أو تشكريني عن اللي عملته مع مهران باشا .. انا مش هبرر لك اي حاجه دلوقتي.. و لان وقفتنا مع بعض غلط .. أنا هساعدك تكلمي اختك بس بكره الصبح ..

-بس بابا...

قاطعها قائلا : لازم يعرف باللي حصل .. و متقلقيش اختك في امان مع أدم .. انا واثق فيه.. مستحيل يؤذيها... اطمني وطمني والدك وانا هاجي بكره بنفسي تكلموها.

- شكرا .

-مفيش داعي للشكر .. اتفضلي دلوقتي قبل ما حد يشوفنا مع بعض ..

نزلت من عنده عائدة علي الفور الي البيت برفقة الغفير الذي طلبت منه ان يوصلها بالسيارة الي بيته و يعيدها مرة اخري ..

...................

في الصباح..

بعد تمعن وتفكير استهلك عقله طيلت الليل .. قرر أن يوثق زواجهما مقابل أن تنجب له طفلا ثم ترحل بعدها عن حياته نهائيا .. وتتنازل عن جميع حقوقها فيه ..

رأي أن ذلك أمثل عقاب لوالدها .. أن يري ابنته تتمزق من الحرمان علي وليدها و أن يكوي قلبه بنار حفيده الذي لن يتمكن من حمله بين ذراعيه وتدلله..

قاطع تفكيره دلوف رئيسة الخدم قائلة : سيد أدم لقد أرسل لك السيد فرانسو تلك العلبة بالأمس..

التقطها منها ثم شكرها قائلا : شكرا لك .. اطلبي منهم ان يعدوا افطارا مميزا ويرسلوا به الي جناحي ..

عقبت علي أمره قائلة : عجبا سيد "أدم" انت تنزعج دائما عندما نحضر لك الافطار الي غرفتك .

ابتسم لها قائلا : تتحدثين عن أدم الأعزب سيدة ماري.. أنا الأن متزوج واريد كسر القواعد مع زوجتي الغالية..

ابتسمت بدورها قائلة : حسنا سيدي سأخبرهم علي الفور..

ذهبت هي ليفتح هو تلك العلبة المغلفة بقماش لامع ناعم يطغوا عليه اللون الاسود وفخامته المعهودة، ليظهر ذلك العقد الماسي المتلألأ الساحر.. ارتسم علي ثغره ابتسامة راضية عن تصميمه الأخاذ..



ثم أغلق العلبة مرة اخري .. و انطلق ليطمئن علي زوجته و يجهز لما هو أتٍ ..

..............................................................


إعدادات القراءة


لون الخلفية