الجزء 29

الرؤية لم تعد واضحة ، العالم يتلاشي رويدا من حولها ، اخر ما سجله بصرها تلك المروحية التي دوي صوتها عاليا و اثارتها لجنون العشب حتي جعلته يتخبط ببعضه البعض ، تثير جنون الرياح لترتطم باجسادهم جميعا ، علمت ان كابوسها بدأ لتوه ، و قبل ان تسقط علي الارض و تسبح في عالم الظلمات .. التقفتها ذراعان قويان .. استسلمت اخيرا للظلام الذي اجتاحها ..

ليحملها هو بين ذراعيه ويفتح له الكابتن باب المقعد الخلفي للطائرة ..
و يأمره بالابتعاد ليتولي هو قيادة الطائرة بنفسه..

لم يكن قيادتها بالامر الصعب عليه ، حرك بعض الازرار في سقف الطائرة فوقه ثم ضغط علي بعض الازرار الاخري امامه و ما هي الا دقائق و كانت الطائرة ترتفع رويدا رويدا عن الارض لتحلق عاليا ..

كان يرقبها "زين" بأعين ثاقبة وهي تختفي في سواد الليل تبرق بوميض متقطع في السماء حتي اختفت تماما..
نظر الي "حلا" الغارقة في انهيارها و تحسرها علي شقيقتها ، وجد نفسه يجذبها اليه يحتضنها بذراعيه ، لم يتقصد ان يتعدي حدوده معها ابدا و لكنه اراد احتواء ضعفها..

استندت هي بدورها علي صدره تزرف عيناها بدموع كشلال لا منبع و لا مصب له.. لا تدري ماذا تفعل؟ و لا علي من تحزن... علي المصيبة التي حلت برأس ابيها؟! أم علي شقيقتها التي اختطفت منذ لحظات ...و لا تدري الي اين اخذها ذلك المجنون ؟!

أرهقها التفكير و الانهيار الذي تعرضت له و انهك وعيها لتغيب عن الوعي بين ذراعي "زين" الذي حملها علي الفور وانطلق الي الحجر الصحي في القرية والتي كانت قريبة من الشقة التي استاجرها هو و "أدم" .
سيدة العشق بقلمي ايمان احمد يوسف ...........
شعور غريب بالراحة يلفها و يتعمق بدفء في سائر انحاء جسدها ، شعور يشبه النعيم ان صح القول ، يشبه الطوفان او الحرير لا بل يشبه ريش النعام ، جسدها محاط ب النعومة ، مستلقية بترف و استكانة لا متناهية ، تحسست بأناملها المكان التي فيه بابتسامة كسولة تزين ثغرها ، شعرت بانها في سريرها وانها عادت الي فيلا والدها وانها عادت الي ماقبل يوم الاحتفال بعيد ميلادها ، ذلك اليوم الذي بدأ بعده كابوسها..

ولكن خاب توقعها عندما لطمت الذكري راسها لتفتح عيناها علي اتساعهما برعب ، انتفضت بحدة من مكانها تحدق في المكان حولها ، وجدت نفسها في جناح كبير احد جدرانه الاربعة مصنوع من الزجاج بالكامل يتوسطه باب زجاجي يؤدي الي شرفة انيقة تطل علي واجهة بحرية ساحرة ، بقية الجدران مطلية باللون الرمادي..

سقطت عيناها علي المرآة امامها لتري انعكاس صورتها وهي تتوسط فراش ملكي فخم نظرت بهلع الي نفسها ، تنهدت باطمئنان عندما و جدت ثيابها كما هي ..

فجأة دار مقبض الباب ليعلن عن فتح احدهم له..
نظرت بتمعن و هي تجذب الغطاء عليها كدرع للحماية .. ليظهر خاطفها اللعين.. من تسبب لها في هذا الهلع بأكمله..

دلف الي الغرفة و هو ينظر اليها باستمتاع ، سخر من قبضتها المستميتة علي الغطاء الذي تغطي به نفسها قائلا: مش حرام انك تمنعي نفسك عن جوزك .. يا دكتوره ؟
ازدردت ريقها بتوتر و كلماته تتردد داخل اذنها ليضع يده في جيب بنطاله و يستطرد حديثه بتهكم : انتي معتقدة ان الغطا اللي انت مسكه فيه اوي دا هيمنعني اني اقرب لك او اخد حقي الشرعي منك؟

شخصت عيناها من تصريحه لها بنواياه التي كانت تخشاها ..
اقترب منها ليزيد من توترها ثم جلس علي طرف الفراش بجانبها لتقل بتلعثم و صوت محشرج : ا.. اح.. احنا .. اتفقنا .. انه يكون علي الورق بس.
دنا منه ليهمس في أذنها قائلا: لا، ما انا غيرت رأي.. اصل عجبتني الحكاية و قررت اني اكمل نص ديني علي ايدك و اتمم الجواز يا حبيبتي.
سارت قشعريرة في اطرافها و هو يهمس هكذا اليها ، زادت عندما انهي حديثه بتلك الكلمة التي لا يحق له الكذب في نطقها .. نظرت الي عينيه عن كسب من تقاربهما تأسرها عينيه الرمادية.. لم يعد يفصل بينهما سوي بضع انشات فقط.. لقد تخطي خط النار واصبح يجوب في عالمها الان .. كاد يخطف منها قبلته الأول ليحرق الانجذاب الذي يشعر به اتجاهها و يؤكد لنفسها انه مجرد شعور عابر ليس له معني , يشعر به اي رجل عندما يري فتاة جميلة امامه ..

قاطعهم صوت طرق علي الباب .. جعل "أدم" ينتفض واقفا مبتعدا عنها و يتنحنح مجليا صوته قبل ان يقول بالانجليزية : من؟

-أنا ماري سيدي.

- ادخلِ ماري.

فتح الباب لتدلف امرأة بابتسامة واسعة علي ثغرها ، تحمل الكثير من الملامح الاجنبية الشقراء يظهر عليها الوقار و النظام .. ترتدي ثياب مرتبة .. تدل علي نظامها و تناسقها في حياتها العملية ..

- الفطور جاهز سيد "أدم".

-حسنا سيدة ماري .. سوف نحضر حالا .. اريدك ان تأمري بنقل اغراضي من الغرفة الصغيرة الي الجناح هنا .. و تجهز الحديقة الخلفية لحفل الليل .. والاشراف علي جميع التجهيزات

أومأت له باحترام : حسنا سيدي .. مبارك زواجكما مرة اخري.

-شكرا لك .. بامكانك الرحيل الان.

خرجت رئيسة الخدم .. لتنتفض " الينا" من مكانها صارخة فيه : انا فين ؟ انت جبتني فين؟

لم يعيرها "أدم" اهتمامه بل تجاهلها والتقط منشفته ودلف الي المرحاض الملحق بالغرفة ، لتثور "الينا" من فعلته و تقوم باعتراض طريقه و تقف امام الباب تحول بيه وين دلوفه للداخل..

زفر "أدم" أنفاسه بضجر ثم قال : عاوزه ايه؟

-عاوزه اعرف انا فين ؟

صك أسنانه بغيظ من ثورتها وصوتها العالي ثم قال محاولا كظم غيظه : أنت في جحيمي ..

صدمها رده لدرجة ارخت جميع اطرافها رعبا من رده .. وكادت تسقط لولا ذراعه الذي حاوط به خصرها ليهمس لها : مش عاوزك تكوني تعبانه عشان سهرة بالليل .. اللي هتعرفي فيها حياتنا الجاية هتمشي ازاي .. يا حبيبتي.

انفاسها اضحت متثاقله و دقات قلبها ثقيلة .. كأن قلبها أضحي مرتكزا لجبل شاهق من الهموم.. غامت عن الدنيا مرة اخري..

.......

عودة مرة اخري الي الصعيد..

كان يجلس في غرفته يفكر في أحداث اليوم الماضي لا يصدق أن " ساري" قد سافر و تركه وحيدا لا يصدق ان قلبه احتمل الابتعاد عنه ..

شغله التفكير لدرجة أنه لم يشعر بتلك التي دلفت اليه و تقف عند البابا تتأمله .. اقتربت منه علي مهل قائلة : أنا خابره انك مش مصدج اني لساتني عايشه ( أنا عارفه انك مش مصدق اني لسه عايشه).

التفت اليها ليجدها تقف أمامه خافضة بصرها تفرك في يدها بتوتر .. أثر أن يستمع لها حتي تنهي كلامها .. دقيقة من الصمت عمت المكان لتستطرد هي بعدها الحديث قائلة : و خابرة أن الچوازة دي مچياش علي هواك واصل ( و عارف ان الجوازة دي مش جايا علي هواك ابدا)..

ملأت رئتيها بكمية كافية من الهواء لتقوي علي قول ما أجبرها علي الاقدام اليه .. وأجبرها علي القبول بتلك الزيجة ..

رفعت رأسها و هي تتذكر قذارته معها لتمدها بالقوة أمامه ثم قالت: حجك انك تطلجني بس هتبجي ملزم تدفع لي خمسه مليون مؤخر صداجي ( حقك تطلقني بس هتبقي ملزوم تدفع لي خمسه مليون مؤحر صداقي)

اقتطب وجهه باندهاش ممزوج بسخرية من القدر .. ثم نهض مقتربا منها مستمتعا بالنظر اليها قائلا : و مين قالك اني عاوز اطلقك .. بالعكس انا عاوز رجع ايام زمان تاني.

اشمئزت من حديثه المقزز معها .. انها حقا تريد اذلاله لا شئ اخر..

كادت تبصق علي وجهه لولا هاتفه الذي جعله يتركها ويهرع اليه ليصله الخبر الصادم .. لا محالة .. اخذ يتحدث بلهجة غريبة عنها علمت انها لهجة تلك البلد التي سافر اليها.. كانت مازالت تتابع اخباره .. تنتظر اليوم الذي يكون فيه القدر عادلا و يعطيها فرصة للانتقام منه..

دقائق واصبح وجهه يتصبب عرقا.. و يصيح غضبا لذلك الذي يحادثه ..

لم تشفق علي حالته بل ابتسمت بسخرية وتركته داعية ان تصعقه لعنة المصائب الدائمة.

.............

في الليل كانت "حلا" تجلس في بهو بيت العمدة تحتضن " تقي" التي تبكي علي صدرها ..

- انا مش قادرة اصدق اللي بيحصلنا دا يا حلا .. مش قادره.

- ولا انا..

- ياريت لو بابا كان معانا.

- ياريت.

" أنا مقدرش اشوف بناتي ضعاف كدا "

انتفضت "تقي" مبتعدة عن " حلا" التي شخصت عيناها غير مصدقة ما سمعته .. نظرت الي مصدر الصوت لتصدم عندما وجدت أباها يقف أمامهم.. و شهقت قائلة بفرح ممزوج بآسي : بابا.

.............................


إعدادات القراءة


لون الخلفية