الجزء 33


أظلمت الدنيا من حولها و شُلَّ تفكيرها في لحظة و ضحاها .. أيعقل أن يكون عقله قد مات ؟؟ .. و هي تعيش الأن علي الأجهزة .. ظلت تعتصر عيناها بيديها وهي تنظر حولها يمينا ويسارا عل ما حولها يتلاشى و تعود الي حياتها السابقة .. لكن هيهات فذلك هو واقعها المؤلم الذي اصبح واقعا تعيشه ويجب عليها ان تتكيف معه ..

الدنيا دنيئة .. لا تترك فرح يحل حتي تتبعه بحزن ينغص الحياة .. تجعلك تمقتها .. تدفعك أحيانا للانتحار..

ارتخت عضلات قدماها لتقع علي الأرض كجبل ضُرِب بهزة أرضية أطاحت به ارضا الي فتات صغير..

اما هو فكان يكتم انفاسه في حوض الاستحمام والماء يغطيه كليا فقط عيناه مفتوحتان تعرض له أبشع صورة لأمه ..
تحجر قلبه زيادة .. مر عليه أربع دقائق و رئتيه أوشكت ع الانخراط في نوبة صياح مفزعة لتطالبه بالهواء..
دخل في الدقيقة الخامسة و عقله مازال ينغص عليه ، يذكره بأسوء ما مر في طفولته .. لتقرصه جروح ظهره القديمة و تقظه من حالة اللاوعي تلك ، لينتفض جسده من الماء و يتحول تنفسها من انفه الي فمه ليتنفس كمية اكبر من الاكسجين..
بعد تفكير و صراع ضاري بين ضميره وانتقامه ، انتصار الانتقام و اغتيل الضمير..
خرج من الباب المؤدي لغرفة الثياب كي لي يخرج امامها نصف عاريا .. ارتدي ثيابه ثم هندم شعره و نثر بعضا من عطره .. و خرج ليجدها نائمة علي الارض ضامة ساقيها لصدرها كالأطفال ..
لا يعلم أين رحلت عنه قوته ..؟

فقد وجد نفسه يقترب منها ليحملها بين ذراعيه و يمددها علي الفراش.. و يتمدد بجوارها متأملا وجهها و كأنه يحاول ان يطبع صورتها في عقله فلا أحد يدري ماذا سيحل بهم غدا..؟
...............

بينما في القاهرة ..

فقد عاد "عدي" الي منزله في القاهرة بعد ان تهرب "مهران" من الافصاح له عن اي شيء يخص "الينا" ولم يتمكن من التواصل بأي من شقيقاتها بسبب تقاليد الصعيد التي ترفض ان تتحدث الفتاة فيها مع الرجال .. وجد انه لا داعي من بقاءه وان عودته اصلح ليتمم اجراءات استقراره في البلاد ثم يبدأ في ملاحقة حبيبته الضائعة..

في حين أن الحزن قد خيم علي احدي غرف قصر أدم الشرقاوي..
كانت تجلس في غرفتها علي كرسيها المتحرك تراقب زخات المطر و هي تنساب في الخارج كانت دائما تسعد بأول قطرات مطر تنزل من السماء في الشتاء ، و لكنها تشعر الان ان شيء ما قد انطفأ داخلها.. فلم تعد سعادتها تلك موجودة..
شعرت بيد تحط علي كتفها بحنان لم تتكبد عناء النظر بل علمت انها عمتها من اتت لرؤيتها..
سالتها بنبرة حزينة: أدم هيرجع امتي؟
اجابتها وهي تمسح علي شعرها بحنان: هيرجع بعد يومين؟
لم تسمع منها اي تعليق لذا اردفت : بيقول ان انتي وحشاه اوي .. و كان عاوز يكلمك بس انتي كنتي نايمه.
نظرت لها نظرة حزنا ثم ادارت كرسها لتسير به ناحية الفراش دون ان تنطق بحرف ..
علمت "بدور" حينها انها عادت مرة اخري الي وحدتها و اكتئابها..
همت لتغلق الشرفة و لكنها اعترضت قائلا: من فضلك سبيها مفتوحة.
_بس كدا هيجي لك برد.
_ مفيش مرض اصعب من المرض اللي انا فيه.
اثر ردها في "بدور" و فطر قلبها ..جعلها تقترب منها لتغمرها بين ذراعيها و لكنها داهمتها بقولها القاسي : أنا عاوزه انام.. واعتقد اني مبقتش لسه صغيرة و اني كبيره كفاية عشان انام لوحدي ، اتفضلي حضرتك و اقفلي الباب وراكي.
لم تجد "بدور" ما تقوله غير انها غادرت و قبل ان توصد الباب خلفها قالت: تصبحي علي خير يا دانه.
انتظرت قليلا و لكنها لم تتلقي منها ردا .. فزاد الحزن اشتعالا في قلبها .. و ما كان منها الا ان اغلقت الباب و رحلت الي غرفتها .. لتمسك هاتفها و تتصل علي "ادم" ..
الذي انتفض من نومه ليمسك بهاتفه و يكتم صوته قبل ان يوقظ تلك النائمة علي ذراعه..
فتحه لينتابه القلق عندما وجد عمته هي من تهاتفه، حاول سحب ذراعه بخفة كي لا تشعر" الينا" به..
ما ان حرره حتي فتح بابا الشرفة الزجاجي وخرج ليرد عليها..
_ في ايه يا عمتي.
ردت عليها بصوت مختنق بالدموع : انزل مصر حالا يا ادم.
رد عليها بزعر و دون تردد: دانه جري لها حاجه؟
_ دانه بتروح مننا تاني.
اضطربت أنفاسه قلقا وخوفا عليها ، مما جعله يرد باندفاع قائلا: انا هنزل مصر حالا.. خلي بالك منها لحد ما اوصل.
قال ذلك ثم اغلق الخط علي الفور و اتصل بهم ليعدوا له مروحيته و طيار ليقودها غيره .. ثم دلف الي غرفة الثياب في هدوء و قام بتجهيز حقيبة صغيرة له و لـ" الينا" وضع لها فيها العقد الذي احضره لها ولم يريها اياه..
ثم ذهب ليوقظها بكل هدوء و هو يزفر انفاسه المضطربة بخشونة و دون ان يمد يده اليها هتف مناديا عليها: الينا .. الينا .. ال...
لم يكد ينادي الثالثة حتي وجد عيناها المتورمة من كثرة البكاء تفتح ابوابها رويدا .. مجاهدة ضوء الغرفة الساطع....
و ما هي الا دقيقة حتي انتفضت من مضجعها حين لمحته يدنو منها بتلك الطريقة ..
سحبت الغطاء علي جسدها بتلقائية لتستر نفسها عنه رغم انه لم يكن يظهر منها سوي ذراعيها المكشوفين..
ابتعد عنها نافرا من الشعور المزعج الذي ينتابه كلما افتعلت تلك الحركات .. و دون ان يلتفت هتف قائلا: معاكي نص ساعه تجهزي نفسك و تحصليني علي المكتب تحت بسرعة عشان طيارتنا بعد ساعتين من دلوقتي.
انتظر ردها دقيقة حتي عقبت قائلة بانكسار: طيارة اي؟
اجاب باختصار شديد و هو يسير ناحية الباب: الطيارة الي جابتنا من مصر هترجعنا تاني.
وميض من سعادة اصاب حلاك قلبها التعيس.. لترفع رأسها بلهفة تسأله عن السبب و لكنها لم تجده في الغرفة معها ، فقد رحل..
نهضت بسرعة البرق تجهز نفسها و تذهب اليه..
وقفت امام باب مكتبه مترددة في الدخول اليه لا تعلم ما الامر الذي يريدها فيه ..
اما هو فاستأخر مجيئها مما جعله يسير لخارج المكتب ليرها اين هي؟ ..
انتفضت عندما رأته يفتح الباب و يقف امامها بأعين مغتاظة.. علمت انه قد انزعج من تأخرها.. فقالت لتطفئ نار عينيه: اسفه علي التاخير.
اندهش من اعتذارها فهي قلما تعتذر منه ، و لكنه لم يعقب بل جذبها برفق للداخل ثم اغلق الباب خلفه لتجلس هي علي المقعد القابع امام مكتبه و يجلس هو علي الاخر المقابل له ثم وضع قدم فوق اخري وقال بصرامة : اول ما هنوصل القاهرة السواق هياخدك علي الصعيد هتروحي تقعدي مع باباكي واخواتك اسبوع ..كوضع مؤقت مش هيطول كتير.. شوفي حجه كويسه ليهم..
سالته باستغراب: انت عرفت ان بابا خرج منين؟
نهض من مكانه ليوليها ظهره و يقول باقتضاب: مفيش حاجه بتحصل من ورا ضهري غير أما يكون ليا خبر بيها ..
صمت قليلا ثم نظر اليها بطرف عينه و اردف باقتضاب و حدة: حتي مكالمتك باخواتك و باباكي عارف بيها.
اتسعت حدقتاها في ذهول من هول صدمتها لا يعقل ان يكون قد علم من رئيسة الخدم فهي تخشي عليه الغضب..
قاطعها عندما امرها قائلا بتهديد: دقيقتين و الاقيكي قاعده جنبي في العربية و بتربطي حزام الامان .. دقيقة زيادة هسافر لوحدي و اسيبك محبوسه هنا.
لم يكد ينتهي من تهديده حتي قفزت تخرج قبله الي السيارة ليبتسم ابتسامة صغيرة سرعان ما توارت خلف تجهمه القاتم...
.....
في تلكم الاثناء في المستشفي التابعة لقرية الصعيد..

كانت تجلس بعيدا قليلا عن تلك الشقراء تراقبها بأعين متقدة تود لو تفترسها بيداها.. لا يعلم علاما تزوجها..؟

أما الاخري فكانت تقف مع الطبيب المشرف للحالة تتجادل معه في حالة زوجها السابق..

-انت تقصد انه ممكن يصاب بالشلل و يفقد قدرته عن الكلام من تاني ؟

-للاسف دا الاحتمال اللي وصلنا له بعد ما عرفنا ان في بعض الاعصاب حصلها تلف..

- احنا لازم نكون مستعدين لاي احتمالات ..

-اكيد احنا منتظرين انه يفوق من الغيبوبة عشان ندي التشخيص النهائي و نقوم باللازم و حضرتك عارفه دا كويس.

- ايوا طبعا ، شكرا لك.

- العفو يا دكتورة اسمحي لي اكمل متابعتي.

أومأت له .. لتظل تبحث عن الشيء الذي سيجعله يستفق من غيبوبته تلك ..

عندما وصلت لحل سارت من أمام تلك التي ترمقها بحقد و غل الي حيث الشخص الوحيد القادر علي مساعدته.. و لكنها وجدت من يقبض علي ذراعها بقوية ليوقفها : علي فين يا سنيوره؟؟

نظرت بنفور وضيق الي تلك التي تقبض علي ذراعها وقالت بانجليزيتها : اتركِ ذراعي ايتها المرأة؟ ماذا تريدين مني؟

- امممم ، الي باين لي اكده ان لسانك معوج و عاوز حد يعدله .. وانا ناويت اعدله لك.

جذبتها بقوة خلفها مبتعدة عن غرفة العناية و تلك المسكينة لا تعلم الي اين تسوقها تلك المجنونة وماذا تريد منها فهي لم تفهم ما تفوهت به منذ لحظات...

...............


إعدادات القراءة


لون الخلفية